اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح كتاب الصيام من منار السبيل [7] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح كتاب الصيام من منار السبيل [7] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا يا رب العالمين!
قال الشيخ العلامة إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان رحمه الله تعالى: [ (وصوم عشر ذي الحجة) لحديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر )، رواه البخاري ، وعن حفصة رضي الله عنها قالت: ( أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين قبل الغداة )، رواه أحمد و النسائي ].
صيام أيام العشر تحديداً لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما الأظهر في ذلك خلافه، كما جاء في حديث عائشة عليها رضوان الله.
وعلى كل فإن أيام العشر أيام فاضلة ولا خلاف في ذلك، وقد ذكر غير واحد من العلماء أن الأيام العشر هي أفضل من أيام رمضان، وأن ليالي رمضان هي أفضل من سائر الليالي، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فضل العمل الصالح في الأيام العشر على غيرهن.
وهذا بالنسبة لمضاعفة العمل الصالح، ولكن نستطيع من جهة تفاضل الأيام أن نقول: إن العمل الصالح في عشر ذي الحجة في نهاره أفضل من غيره إلا الصوم، فالصوم في نهار رمضان أفضل من غيره؛ وذلك لأن الصوم إنما هو فرض وركن، والفرض والركن أفضل من غيره.
وليس لنا أن نطلق أن العمل بجميع أنواعه أفضل عند الله سبحانه وتعالى حتى الصيام من رمضان؛ وذلك لأنه ركن، ومقتضى التفضيل المطلق في هذا أنه يدخل فيه الصيام، أما توجيه ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا في قوله: ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله )، فهذا ظاهره إطلاق العمل الصالح.
نقول: إن النصوص الشرعية تطلق, والمراد بذلك التغليب، وذلك أن الأعمال الصالحة من النوافل، والصدقة، والعمرة، وما يكون من صلة الأرحام، وقراءة القرآن، وذكر الله، والدعاء وغير ذلك من الأعمال الصالحة، فالنصوص تعلق بالأغلب، ولو قيل بذلك لقيل بأن صيام النافلة أفضل من الفريضة، وهذا يخالف الأصول.
والحديث الوارد في فضل عشر ذي الحجة كاف في فضل الصيام فيها، وعدم ثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعني العدم، ولا يعني عدم فضل الصيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ربما يترك الشيء الفاضل لمقصد مفضول، أو ربما يترك الشيء الفاضل إلى فاضل آخر، ولا يعني أن الفاضل دون ذلك في المرتبة، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى المقاصد كما ينظر إلى الأعمال.
والفضل الذي تركه النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك هو صيام عشر ذي الحجة على القول بأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يصم في ذلك مطلقاً؛ لأنه لا يريد أن يكلف على الأمة وأن يشق عليها، فهو ذكر العمل الصالح بعمومه.
ومن وجوه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أراد أن يفعل جميع أعمال الخير والبر في عشر ذي الحجة لما أطاق قدراً لكثرتها وتنوعها، فأعمال البر فيها جهاد، وفيها عمرة، وفيها صدقة، وفيها صلة رحم، وفيها صيام، فاجتماعها في مثل هذه العشر من الأمور المحالة، لقلة هذه الأيام وضعف قدرة الإنسان التي آتاه الله عز وجل إياها أينما كان.
ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتفى بالتفضيل وأمسك عن تعيين عمل بعينه, لبيان مجموع فضل الأعمال في هذه الأيام، وحتى لا يستمسك بعمل واحد ويستغنى به عن غيره من سائر الأعمال، وهذه من السياسة الشرعية التي تظهر في عمل النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً.
ولهذا نجد أن النبي عليه الصلاة والسلام في كثير من الأعمال يخفي عمله حتى لا يلتزم، لاختلاف حاجة الناس ومقاصدهم، وكذلك الكلفة عليهم، فالنبي عليه الصلاة والسلام يدعو في سجوده ويطيل، ويرفع يديه ويطيل, ومع ذلك لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام في أكثر ما يفعله نص ينص بدعائه في سجوده إلا أشياء يسيرة جداً من دعائه صلى الله عليه وسلم لا يوازي الزمن الذي دعا فيه.
فالنبي عليه الصلاة والسلام: دعا على الصفا والمروة طويلاً ثلاثاً, ولم يثبت من دعائه حرفاً, وإنما ثبت عنه الذكر من الحمد والتهليل والتكبير، وهذا الإخفاء مع تكراره من النبي عليه الصلاة والسلام إنما هو لاختلاف حاجة الناس من جهة السؤال، فهذا يسأل الله الشفاء، وهذا يسأل الغناء من الفقر، وهذا يسأل كشف كرب وبلاء وغير ذلك من أنواع حاجات الناس، ولو جاء الدعاء في ذلك مخصوصاً لكان التزام الناس فيه ظاهر لمحبة الاقتداء.
وكذلك في طواف النبي عليه الصلاة والسلام عند البيت لم يثبت أنه ذكر دعاء معيناً إلا ما جاء بين الركنين من قوله: ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة )، وما جاء من التكبير عند الحجر.
وكذلك في دعاء النبي عليه الصلاة والسلام عند الجمار ودعائه في عرفة، حيث كان يدعو النبي عليه الصلاة والسلام دعاء طويلاً في عرفة حتى سقط رداؤه عنه، وكان يدعو واقفاً، وكان يدعو على الراحلة.
وهذه الأدعية ما جاءت ولا ثبتت عن النبي عليه الصلاة والسلام وذلك لاختلاف حاجة الناس، وحتى لا تكلف الأمة بما لا تطيق، ولهذا يؤتى بتفضيل العمل عاماً ليؤخذ الإنسان بما هو أيسر له، فلا يتعرض الإنسان لقنوط، ولو أن النبي فعل الصيام فقط وكان الإنسان عاجزاً عن الصيام لظن أنه حرم فضل العشر، ولو فعل الصلاة مجردة بأن قام عليه الصلاة والسلام لياليها كلها وأطال في ذلك لوجد الإنسان الذي يعجز عن قيام الليل أن الفضل فاته وأصابه شيء من القنوط.
وفي مسألة الصدقة فمن الناس من هو غني ومن الناس من هو فقير، فإذا النبي عليه الصلاة والسلام تصدق وأكثر من الصدقة في العشر، وظهر هذا الفعل منه لكان فيه مشقة على الفقراء الذين لا يجدون من الأموال، أو ربما تكلفوا فأجحفوا في حق أنفسهم وفي حق أهليهم، لذا جاء الفضل في ذلك عاماً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله: ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله ) ، فالعمل الصالح داخل في عمومه ويدخل في ذلك الصيام.
كيف يتفاضل العمل في أيام العشر؟ نقول: يتفاضل في أيام العشر كتفاضله في غير العشر، فالصلاة أفضل من الصيام، والزكاة أفضل من الصيام، والصيام أفضل من العمرة، وغير ذلك بحسب ترتيب فضائل الأعمال الواردة في الشريعة.
ولهذا نقول: إن الأصل في تفاضل الأعمال في الأزمنة والأمكنة بحسب تفاضلها من جهة الأصل في الشريعة، وما كان فاضلاً من الأعمال في خارج العشر فهو فاضل وأفضل من غيره مما كان دونه في غير العشر، وهكذا بحسب مراتب الأعمال.
ومن وجوه معرفة الفاضل من الأعمال: أن ما كان له جنس واجب فهو أفضل مما لا جنس له واجب، وهذا يختلف عيناً، ويختلف أيضاً كثرة وقلة.
فالصلاة فيها جنس واجب وهي الفريضة، والصلاة عدداً ووفرة وكثرة أكثر من الصيام وفرة وعدداً وكثرة، فكانت أفضل مما يأتي بعدها من الصيام والزكاة والعمرة والحج وغيرها.
وهناك من الأعمال الصالحة التي يفعلها الإنسان ما لا يوجد من جنسه واجب، مثل السواك، أو التطيب، أو إماطة الأذى عن الطريق، أو بذل السلام على قول وغيرها، فهذه الأعمال في ذاتها فاضلة لكن لا جنس منها واجب.
ولهذا نقول: إنها تأتي في المرتبة الثانية في ذلك، وهذا ينظر فيه بحسب أحكام الشريعة من جهة الواجبات، وكلما كان الواجب آكد فإن أنواعه أفضل من غيرها وهكذا، فالله عز وجل يفضل العلماء على غيرهم بتتبعهم للعمل الصالح؛ لأنهم يعرفون أن هذا أعظم من غيره، فيقدمونه على غيره لأنه يأتي بحسنات أعظم من غيره. وإذا جهل الإنسان تفاضل العبادات عمل الأدنى وغفل عن الأعلى، أو عمل المفضول وترك الفاضل مع أنه يؤتيه كلفة ومشقة بأجر دون ذلك.
وبعض الناس لجهله وإغراقه بتتبع العمل الصالح لعاطفته يفعل المباح ويدع الواجب، وربما فعل المستحب والمتأكد وترك ما كان مفروضاً عليه، وهذا من تلبيس إبليس، فإنه يشبع رغبة الإنسان بالعمل الصالح والتقرب من الله بشيء أدنى ويدع المتأكد عليه حتى يطفئ جذوة الإيمان والاندفاع والإقبال على الله.
وأما حديث حفصة في صيام النبي عليه الصلاة والسلام لعشر ذي الحجة, فهذا لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث جاءت عدة أحاديث في صيامه عليه الصلاة والسلام ولا يثبت منها شيء.
قال رحمه الله: [ (وآكدها يوم عرفة وهو كفارة سنتين) لحديث أبي قتادة رضي الله عنه مرفوعاً: ( صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة، وصوم عاشوراء يكفر سنة ماضية )، رواه الجماعة إلا البخاري و الترمذي ، ويليه في الآكدية يوم التروية ].
وهذا في صيام يوم عرفة وهو أفضل الأيام كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم السنن في أن عرفة أفضل الأيام، وكذلك الدعاء في عرفة هو أفضل الدعاء.
ويظهر فضل العمل بعظم أثره على الإنسان، فمن آثاره: أن الله عز وجل يكفر بتلك العبادة السيئات، وأقواها تكفيراً أعلاها منزلة وفضلاً على الإنسان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر تكفير الأعمال الصالحة للسيئات كما في الحديث: ( الصلوات الخمس كفارة لما بينهن، والعمرة إلى العمرة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) .
فإذا كان العمل الصالح أشد تكفيراً للسيئات التي يأتيها الإنسان فإنه أعظم عند الله سبحانه وتعالى أجراً؛ لأن الحسنة العظيمة تكفر السيئة العظيمة.
هنا قاعدة في مسألة التكفير عند قوله صلى الله عليه وسلم: ( صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة )، فإنه قد يأتي على العام الواحد أكثر من مكفر، ولكن ما هي العلة والحكمة في أن الله عز وجل يكفر للإنسان بصيام عرفة عامين السنة الماضية والسنة الباقية؟ ثم يصوم الإنسان يوم عرفة الماضي فيكفر الله عز وجل له السنة الماضية والسنة الباقية، فيكون مر على السنة الواحدة تكفيران، كذلك عاشوراء يكفر الله عز وجل به السنة فيأتي في ذلك ثلاث تكفيرات لعام واحد.
والعلة في ذلك أن من العمل الصالح ما لا يقوى على تكفير بعض السيئات لعظمها، فثمة موبقات وثمة مهلكات وثمة كبائر، فالذنوب على مراتب، الشرك بالله سبحانه وتعالى وهذا أعظم الذنوب عند الله سبحانه وتعالى، ويكفي في عظمته أن الله عز وجل لا يغفر لصاحبه إلا أن يتوب، وذلك بأنواعه الشرك الأكبر والشرك الأصغر، والعلماء يجعلون الشرك الأصغر في منزلة بين الكبائر والكفر.
ثم يأتي بعد ذلك الموبقات وهي أحد أنواع الكبائر، وهي ما جاءت في حديث أبي هريرة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اجتنبوا السبع الموبقات )، ثم بعد ذلك يأتي الذنوب والكبائر وهي دون الموبقات، إذاً فالكبائر على نوعين: موبقات، وما دونها، فالموبقات هي المهلكات وذلك لشدة خطرها ووصول عاقبتها على الإنسان، وثمة كبائر دون ذلك مرتبة.
والكبائر تعرف عند العلماء بجملة من القرائن والأوصاف: من هذه القرائن ما جعل الله عز وجل على فاعلها حداً في الدنيا مثل: السرقة، والزنا، والقذف، وشرب الخمر، وغير ذلك، فهذه من الكبائر؛ لأن الله عز وجل جعل عليها حداً.
أو توعد صاحبها بالعذاب يوم القيامة بالنص، فإن هذا قرينة على كونها من الكبائر.
أو وصف صاحبها بأنه ملعون، أو لعن الله من فعل كذا وكذا، كالنمام، والمغتاب، والنامصة والمتنمصة، والواشمة والمستوشمة، وغير ذلك مما وصف الله سبحانه وتعالى أو نبيه عليه الصلاة والسلام به بعض الأفعال.
ويدخل في هذا الباب الإسبال للخيلاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار ) .
إذاً فثمة موبقات مهلكات تكون من الإنسان لا يقوى عليها بعض العمل الصالح؛ لأن ثمة مدافعة ومقاومة بين العمل الصالح والعمل السيئ، أيها يكفر الأخرى؟ فالأعظم والأقوى يكفر تلك.
أما بالنسبة للعمل الصالح في تكفيره للسيئات فهذا ظاهر في قول الله جل وعلا: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114]، أي: أن الله سبحانه وتعالى يغفر لعبده من السيئات بمقدار الحسنات التي يأتيها، فربما سنة واحدة يؤديها الإنسان لا تأتي على كبيرة، فإذا جاء بسنة أخرى وثالثة ورابعة تعاظم مع بعضها فأتت على الكبيرة، وإلا فالأصل أنه لا يأتي على الكبيرة من الكبائر إلا ما كان من العمل الصالح من الفرائض العظيمة، ومن العمل الصالح من النوافل ما يعظمه الله سبحانه وتعالى تعظيماً حتى يأتي على السيئات.
والمتقرر عند أهل السنة بالاتفاق أن الحسنات تكفر السيئات، أما عكس ذلك هل السيئة تمحو الحسنة وتكفرها؟ فقد اختلف أهل السنة في هذا على قولين:
ذهب جمهور أهل السنة إلى أن السيئة لا تمحو الحسنة، وقالوا: هذا مقتضى رحمة الله عز وجل ولطفه، ومقتضى إن رحمة الله عز وجل سبقت غضبه، ثم أن ظواهر الأدلة من الكتاب والسنة على ذكر تكفير الحسنات للسيئات.
القول الثاني: قول لبعض أهل السنة وهو قول المعتزلة أنه يكون ثمة تكفير، وأن السيئة تمحو الحسنة، وهذا هو الصواب، وهو الذي تعضده الأدلة.
وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد ذكر في كتابه شيئاً من العمل الصالح الذي تمحوه السيئة كرفع الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2].
وبعض العلماء يحمل ذلك على الكفر، أي: أن الإنسان إذا رفع صوته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معظم أو كان مستهزئاً به فإن ذلك من موجبات الكفر، ولكن نقول: إن هذه الآية إنما نزلت في خيار الصحابة عليهم رضوان الله تعالى تحذيراً لهم.
وفي قول الله سبحانه وتعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264]، فالصدقة التي يفعلها الإنسان ويمتن بها فيقول: أنا أعطيت فلاناً كذا أو أعطيتك في يوم كذا أو أراد إرجاعها أو نحو ذلك فهذا مما يبطلها، فالمن سيئة يفعلها الإنسان.
ويعضد ذلك ما جاء عن عائشة عليها رضوان الله تعالى أنها قالت لأم زيد بن أرقم لما تبايع بالعينة وهي نوع من أنواع الربا قالت: أخبريه أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله إلا أن يتوب؛ وذلك لأن الربا من الموبقات المهلكات، والجهاد هو من الطاعات والحسنات العظيمة، فهذه لعظمها وشدة مقامها في أبواب الذنوب والكبائر يأتي على ذلك العمل.
وهذا يأتي كثيراً في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من فعل كذا فلا صلاة له، من فعل كذا فلا حج له، وكذلك يظهر هذا في بعض الأعمال ولو كانت يسيرة فربما تبطل العمل العظيم، كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( من سد الطريق فلا جهاد له )، وذلك لما نزل النبي عليه الصلاة والسلام وتزاحم الناس حتى سدوا الطرق في غزوة من الغزوات.
وفي هذا نقول: إن الحسنة تمحو السيئة، وكذلك السيئة تمحو الحسنة، ولكن الأصل أن الحسنات أقوى من السيئات من جهة التكفير، وهذا هو سبب منة الله سبحانه وتعالى على عباده بأن جعل المكفرات تتعدد على زمن واحد فتأتي على عمل واحد، فيأتي للعام الواحد ثلاث مكفرات: إذا صام الإنسان في عرفة فإنه يكفر ذلك العام والعام الباقي، ويكفر الله عز وجل بعاشوراء عاماً ماضياً، ويكفر الله سبحانه وتعالى أيضاً بعرفة التالية ذلك العام، فيأتي حينئذ العام والتكفير فيه مكرراً، وربما كان في العام الواحد ثلاث مكفرات في صيام يومين، فكيف إذا انضاف إلى ذلك ما هو من المكفرات الأخرى من رمضان إلى رمضان، والمكفرات الأسبوعية كالجمعة، أو الوقتية كالصلوات الخمس، أو الحولية كالحج، أو ما كان متباعداً غير منضبط بزمن كالعمرة وغير ذلك، فهذا أيضاً فضل من الله سبحانه وتعالى يأتي على سيئات الإنسان.
قال رحمه الله: [ويليه في الآكدية يوم التروية وهو ثامن ذي الحجة لحديث: ( صوم يوم التروية كفارة سنة )، الحديث رواه أبو الشيخ بن الثواب ، و ابن النجار عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً ].
صيام اليوم الثامن ويوم عرفة داخل في صيام العشر، أما تخصيصه بصيام فلا يثبت في ذلك شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه داخل في أبواب أفضلية عشر ذي الحجة، والعمل الصالح على ما تقدم في الخبر أحب إلى الله سبحانه وتعالى من العمل في غيره.
وبعض العلماء ذكر في ذلك قاعدة وهي: أن العمل الصالح إذا كان قريباً من متأكد أو كان قريباً من واجب فإنه يتأكد، كسنن الرواتب فإن آكد النوافل تكون قبل الفرائض، ولكن نقول: هذا جاء به نص وتشريع، وما لم يكن فيه نص فالأصل فيه أنه يبقى على حاله, فيبقى صيام عشر ذي الحجة على فضلها مما دل عليه الدليل.
وصيام عشر ذي الحجة هي من الأيام المطلقة، ولا حرج على الإنسان أن يجعل قضاء رمضان أو ما كان عليه من الصيام الواجب مما أوجبه الله عليه من صيام الكفارات، أو ما كان على الإنسان من نذور صوم، أو كان يصوم عن ميت مات عن صيام فأراد أن يصوم عنه على خلاف في هذه المسألة، ربما يأتي الكلام عليها، فنقول حينئذ: إن ذلك لا حرج فيه، فيجزئه عن صيام الواجب صيامه في هذه العشر، فيؤتى بإذن الله سبحانه وتعالى الفضلين.
وهذا فضل من الله عز وجل ومنة، وتقدم عن عمر بن الخطاب أنه كان يؤخر قضاء رمضان إلى عشر ذي الحجة وذلك لفضلها، وتأخير عمر بن الخطاب لقضاء رمضان إلى عشر ذي الحجة يؤخذ منه معنى: إما أنه كان يصوم ستاً من شوال ويؤخر القضاء فيحتج به على هذا الاحتمال لقول من قال بمشروعية الصيام قبل قضاء رمضان، وفيه معنى آخر على قول وهو: أن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى لم يكونوا يعتادون صيام ست من شوال.
وعلى هذا كان يصوم ويؤخر ما كان عليه من الفرض، أو كان لا يصوم النافلة وكان يؤخر القضاء فيما بعد ذلك، وكلا الأمرين محتمل، وربما ما جاء عن ابن عمر يؤيد ما جاء عن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه ما أدركهم يفعلون ذلك.
وأما بالنسبة لصيام يوم عرفة للحاج فهل يصوم الحاج صيام عرفة أم لا؟ نقول: لم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوم عرفة في حجه، ولا حث النبي صلى الله عليه وسلم أحداً من أصحابه على صيامه في الحج.
وأما بالنسبة للفضل الوارد في أن صيام يوم عرفة يكفر السنتين: السنة الماضية، والسنة الباقية، فهل في هذا عموم يشمل حتى الحاج أم لا؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: من العلماء من قال بمشروعية الصيام حتى في الحج، استدلوا بعموم الدليل ولا استثناء في ذلك، وأما أن النبي عليه الصلاة والسلام في ظاهر أمره لم يصم لا يدل ذلك على عدم المشروعية، فربما ترك ذلك للمشقة.
ومنهم من يقول: إن عدم الذكر لا يدل على العدم، ولكن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم بعرفة، وقد ذهب إلى القول بالعموم عائشة عليها رضوان الله، فقد ثبت عنها في الصحيح من حديث القاسم بن محمد عن عائشة بنت أبي بكر أنها صامت يوم عرفة في حجها.
القول الثاني: قالوا بعدم مشروعية صيام يوم عرفة للحاج، واستدلوا بأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يصمه فخصص فعل النبي صلى الله عليه وسلم قوله.
والذي يظهر لي والله أعلم أن الصيام في يوم عرفة للحاج على حالين:
الحالة الأولى: إذا كان الإنسان في يوم عرفة نشيطاً قوياً لا يضره الصيام عن القيام بعمل عرفة من الذكر والاجتهاد بالدعاء فإن السنة في ذلك أن يصوم.
والحالة الثانية: إذا غلب على ظنه أنه يضعف بالصيام، فلا يؤدي المشروع له في عرفة من الدعاء، والذكر، والابتهال، والتضرع لله سبحانه وتعالى، فالسنة له أن لا يصوم، لماذا قلنا بهذا التقسيم؟ لأن الإنسان بين أجرين: أولاً: النص في ذلك عام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل صيام يوم عرفة ولا يخصص ذلك إلا بمخصص بين، وأما ترك النبي عليه الصلاة والسلام للعمل فهو إما ترك للعمل تخصيصاً، أو تركه رأفة وشفقة؛ لأنه لو صام لصام الناس معه، والناس يأتون على رواحلهم وفي شمس حارة وفي فلاة، والماء معهم قليل، ويأتون من كل فج عميق، وفيهم الكبير، وفيهم الصغير، وفيهم العاجز، وفيهم المريض، وفيهم الضعيف، ومنهم من هو الخادم، ومنهم من يسوق الإبل وغير ذلك، ففيهم ناس على مراتبهم، فلو شرع النبي عليه الصلاة والسلام الصيام لهلك كثير من الناس.
فالناس يغشى عليهم وهم في طعام وشراب في مثل هذه المواضع، فكيف لو شرع لهم الصيام، فالنبي عليه الصلاة والسلام شرع ذلك دفعاً لما يعرض لكثير من الناس من مفسدة في هذا.
وإنما قلنا بالتقسيم بين هذين الأمرين؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل فضل الحج -والحج عرفة- تكفيراً لما مضى من الذنوب كلها، وصيام يوم عرفة تكفيراً لعامين، ففي حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه )، يعني: ما بين الولادة وما بين الحج كله مكفر إذا تقبل الله سبحانه وتعالى من عبده حجه، إذاً فقوله: (ولم يرفث ولم يفسق) خرج من الذنوب كلها، هذا تكفير لعام أو لعامين أو للعمر كله؟ هو تكفير للعمر كله. ويوم عرفة إنما هو تكفير لعامين: تكفير للسنة الباقية، وللسنة الماضية، أي: للسنة الماضية من جهة الصيام.
إذاً: أيهما أولى بالرعاية وأن يأتي الإنسان فيه بالعمل الصالح بأكمله؟ هو أن يأتي الإنسان بالوقوف بعرفة تاماً كما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من التضرع نشيطاً، وإذا كان الصيام يعطل العمل في يوم عرفة بسبب التغافل أو النوم، وعدم إدراك شيء من يوم عرفة لا من ذكر، ولا من دعاء، ولا من صلاة، أو غير ذلك من الأعمال الصالحة التي يؤديها الإنسان.
فحينئذ نقول له: إن عدم الصيام في ذلك أفضل ليحفظ الإنسان ما هو أعظم من ذلك، وإذا قدر أن يجمع بين الأمرين بلا مشقة فنقول حينئذ: نحفظ له كحكم خاص الجمع بين الأمرين: بين التكفير للعمر كله، وتكفير العامين.
وأما اجتماع المكفرات على زمن واحد فقد دل على ذلك الدليل، وهذا هو الأظهر وهو الذي فيما يبدو فعلته عائشة عليها رضوان الله تعالى كما جاء في الصحيح في صيام يوم عرفة في عرفة، فصامت يوم عرفة كما جاء في حديث القاسم بن محمد ، وأفطرت لما دفع الرجال، فنظرت فلما كانوا بعيدين عنها نزعت خمارها من على وجهها ثم أفطرت عليها رضوان الله تعالى.
فنأخذ من ذلك مشروعية الصيام لمن كان قادراً، ومن شق عليه فالحفاظ على أعمال عرفة بعرفة أولى من صيامهم.
قال رحمه الله: [ (وكره إفراد رجب) بالصوم لما روى أحمد عن خرشة بن الحر قال: رأيت عمر يضرب أكف المترجبين حتى يضعوها في الطعام ويقول: كلوا فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية، وبإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا رأى الناس وما يعدونه لرجب كرهه وقال: صوموا منه وأفطروا ].
وأما بالنسبة لرجب فلم يثبت في فضله عمل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا دعاء، ولا ذكر معين، والأحاديث الواردة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منكرة.
وقد نص غير واحد من الأئمة على أنه لا يثبت في فضل رجب حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, جاء ذلك عن جماعة من الأئمة كالإمام النووي ، و ابن تيمية ، و ابن رجب وغيرهم من الأئمة.
فرجب كانت تعظمه الجاهلية وورد أن فيه أحادث عظيمة، ولهذا يقولون: عش رجباً ترى عجباً، ولم يكن في ذلك شيء من الأحداث من جهة الثبوت، ولم يثبت فيه عمل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مناسبة فاضلة دل الدليل عليها بالقطع، ومن ذلك الإسراء والمعراج، يقولون: إن الإسراء والمعراج كان في آخره في السابع والعشرين، وقيل قبيل ذلك أو بعده، ولم يثبت في هذا شيء. نعم جاء في ذلك حديث مرسل من حديث القاسم بن محمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مرسل ضعيف.
وعلى كل نقول: إنه لم يثبت في فضل رجب حديث، وقد صنف غير واحد من الأئمة في هذا كــــأبي إسماعيل الهروي صنف في الأحاديث الواردة في فضل رجب وبين ضعفها، وأنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل رجب حديث، ولا في ليلة معينة ولا في جميعه.
وأما بالنسبة لصيامه فإنه لما كان من موروث الجاهلية تعظيم رجب بقي لديهم استحباب العمل الصالح فيه والبحث عن شيء منه، فربما كانوا يصومون ذلك، ولهذا كان ينهى عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى عن الصيام فيه حتى لا يشابه الرجبية الذين يعظمون رجب بعمل صالح من غير دليل بين فيه.
ولهذا ابن عمر عليه رضوان الله تعالى يقول: صوموا منه وأفطروا، يعني: إذا أراد الإنسان أن يصوم منه فالسنة أن يصوم وأن يفطر منه حتى يبين أنه لا مزية له عن غيره.
وهنا من السياسة الشرعية أن الإنسان إذا كان في بيئة أو في زمن يعظم الناس فيه العمل في زمان أو في مكان بغير دليل، فلا حرج عليه أن لا يؤدي العبادة فيه؛ لأن حفظ دين الناس من الابتداع والإحداث أولى من أن يحفظ الإنسان عبادة كان يؤديها، كحال الإنسان الذي اعتاد مثلاً على صلاة الضحى ولا يدعها أبداً فناسب وقت صلاة الضحى وجوده في موضع تعظمه الناس من جهة الصلاة فيه، ولا دليل على تعظيمه، فالسنة له أن يدع الصلاة ولا يؤديها حتى لا يوافق أعمال المبتدعة فيؤيدهم في ذلك أو يكثر سوادهم، ولهذا عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى كان يضرب أكف المترجبين حتى يضعوها في الطعام, لا كراهة لجنس الصيام وإنما حتى لا يلبس على الناس في ذلك دينهم.
قال رحمه الله: [ (والجمعة والسبت في الصوم) لحديث أبي هريرة مرفوعاً: ( لا يصومنَّ أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده )، متفق عليه ].
وأما بالنسبة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة, فذلك أن يوم الجمعة هو عيد الأسبوع فاستحب فيه الفطر إلا من كان يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده، وأما بالنسبة لمن كان يصوم يوماً ويفطر يوماً كصيام داود فما حاله في يوم الجمعة؟ لأنه لابد أن يصوم يوم الجمعة منفرداً، فهو يصوم يوم الجمعة ويفطر اليوم الذي قبله وهو يوم الخميس ويفطر اليوم الذي بعده وهو يوم السبت، ثم يصوم الأحد ثم يصوم الإثنين، فهل هذا استثناء من النبي عليه الصلاة والسلام لحديث صيام داود، أم أن صيام داود هو القاضي أو الناسخ لذلك الحديث؟
نقول: إن صيام داود محكم، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة محكم. وأما بالنسبة لصيام داود إذا أراد الإنسان أن يصوم يوماً وأن يفطر يوماً على سبيل الدوام نقول: يستثنى هذا من النهي عن صيام يوم الجمعة، فيصوم يوماً ويفطر يوماً.
وأما من لم يكن له عادة أن يصوم يوماً ويفطر يوماً فإنه يجب عليه أن يصوم يوماً قبله ويوماً بعده، ويحتمل في ذلك جملة من أسباب النهي عن صيام يوم الجمعة وتخصيصه بالصيام، فمن هذه الأشياء التيسير والرحمة والرأفة بالأمة حتى لا يتكلف الناس ما لا يطيقون.
الأمر الثاني: ربما يكون لدفع الظنة؛ لأن الإنسان إذا صام يوم الجمعة وهو يوم راحة الناس واجتماعهم فالناس يتداعون ربما إلى طعام، فإذا صامه ولم يصم يوماً قبله ولا يوماً بعده ربما كان محل إساءة الظن من الناس أنه لا يريد أن يطعم عندهم ولا أن يأكل عندهم، لكن إذا علموا أنه صام الأمس أو سيصوم بعد ذلك في الغد علموا أنه ما كان يقصد امتناعاً عن طعام فلان أو فلان، لأن الناس يجتمعون في أيام العطل أو أيام الأسبوع.
وكان من عادة المحدثين أن لا يحدثوا يوم الجمعة، كما جاء عن مكحول فيما نقله ابن عساكر في كتابه تاريخ دمشق. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً عن التحلق يوم الجمعة كما جاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده, وجاء ما يخالف ذلك عند الحاكم في كتابه المستدرك موقوفاً على أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى.
وهي من المسائل الاجتهادية، وينبغي أن يفرق بين التحلق قبل الجمعة للتعليم والتدريس وذكر الله، وبين التحلق بعدها، فإذا كان ثمة مدارسة للعلم في مساء الجمعة فيختلف عن صبيحتها، فإن صبيحة الجمعة يكره التحلق والاجتماع وذلك للتهيؤ لصلاة الجمعة والتبكير لها، وليتشوف الناس لكلام الخطيب، وحتى لا يضعف عن إدراك قوله.
وأما بعدها مباشرة فإنه يأخذ ذات الحكم، وأما في المساء فالأظهر أنه لا حرج فيه، وذلك لانتهاء يوم الجمعة، فإن اليوم ينتهي بغروب الشمس، ثم يستأنف يوماً آخر، فإن اليوم يتبع الليلة الماضية، والليلة تتبع اليوم الذي يليها.
قال رحمه الله: [ وحديث: ( لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم )، حسنه الترمذي ، واختار الشيخ تقي الدين أنه لا يكره صوم يوم السبت مفرداً، وأن الحديث شاذ أو منسوخ ].
وهذا الحديث في النهي عن صيام يوم السبت جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنكره الأئمة عليهم رحمة الله، بل عامة الأئمة على إنكاره. أنكره الإمام مالك رحمه الله فقال: حديث كذب، وقال أبو داود : حديث منسوخ، وأنكره الإمام الأوزاعي رحمه الله فقال: ما زلت أكتمه حتى رأيت الناس يحدثون به، وأنكره الإمام أحمد ، و أبو حاتم ، و أبو زرعة ، و النسائي ، وغيرهم من الأئمة كلهم ينكرون هذا الحديث.
وهذا الحديث مع نكارته من جهة الإسناد والكلام عليه يطول فهو أيضاً منكر من جهة المتن، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أذن بصيام يوم الجمعة في أحاديث كثيرة، وأذن بصيام يوم السبت في أحاديث كثيرة من غير الفريضة.
ومن ذلك الحديث السابق عن أبي هريرة قال: ( لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله ويوماً بعده )، صيام يوم قبله ويوم بعده نافلة أو واجب؟ الجواب نافلة وليس بواجب، فكيف يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وهو الذي نهى عن صيام يوم السبت، كذلك صيام النوافل التي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصومها كثيراً ويحث على صيامها، وقطعاً أنها توافق يوم سبت، من صيام يوم وإفطار يوم، كذلك صيام الأيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، لابد أن تأتيها دورة وتوافق يوم السبت، وكذلك أيضاً الأعمال والأشهر التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يحث على صيامها، كصيام شهر الله المحرم، وصيام شعبان كما جاء في حديث عائشة : (كان النبي عليه الصلاة والسلام يصومه كله)، وهذا من صيام النافلة، ولم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام دليل أقوى من هذا.
والقاعدة عند العلماء: أن الحديث إذا عارض ما هو أقوى منه ولو كان حديثاً واحداً فينبغي أن يقدم الأقوى منه إسناداً أو أقوى منه عملاً، فهذا الحديث العمل على خلافه وهو في ذاته منكر يخالف الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا نقول: إن صيام يوم السبت هو كبقية الأيام التي لم يرد فيها فضل، فيصوم السبت أو يصوم الأحد أو يصوم الثلاثاء أو الأربعاء، فهي من جهة أمرها مباحة فيصومها الإنسان ما لم يتقصد يوماً بعينه على سبيل التخصيص تعمداً، فحينئذ يكون ابتداعاً، فتكون منزلة يوم السبت كسائر الأيام إلا إذا صام الإنسان يوم الجمعة فإنه يصوم الذي يليه استحباباً.
قال رحمه الله: [ (وكره صوم يوم الشك) تطوعاً لقول عمار : ( من صام اليوم الذي شك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ) ، رواه أبو داود و الترمذي ].
وصيام يوم الشك محرم إلا لمن كان متحرياً في صوم يوم غيم على ما تقدم الكلام فيه؛ لأنه جاء ذلك عن عمر و ابن عمر ، وعن معاوية ، وعن عائشة ، وعن أبي هريرة ، وعن أبي موسى ، وعن عمرو بن العاص عليهم رضوان الله تعالى، وصيام يوم الغيم هو من المستثنى في يوم الثلاثين، فإذا كان في يوم غيم فنقول حينئذ: إن الإنسان يصومه على ما تقدم الكلام عليه، وأما إذا كانت السماء صحواً فليس له أن يصوم وهو يوم الشك.
وجمهور العلماء يرون أن يوم الثلاثين يوم شك على كل حال، سواء كان صوم يوم غيم أو لم يكن صوم غيم، خلافاً لـــأحمد، واستدلاله في ذلك كما جاء عن الصحابة عن عمر وابنه وغيرهما عليهم رضوان الله في صوم يوم الغيم.
وإنما حرم الله سبحانه وتعالى صيام يوم الشك وذلك تعظيماً للفرض أن لا يختلط بنفل من جنسه، وهذه الحياطة ظاهرة في سائر العبادات إلا ما ندر كالحج فقد دخلت العمرة في الحج إلى قيام الساعة، وذلك دفعاً لما كان عليه أهل الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج.
ولهذا نقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام إنما نهى عن صيام يوم الشك؛ لأنه بوابة دخول رمضان فينبغي أن يميز الفرض، ونهى عن صيام يوم العيد وهو ما بعد رمضان حتى يفصل عن غيره فيصوم الأيام كلها فيتصل رمضان بشوال بذي القعدة فلا يكون حينئذ قيمة حتى نفسية أو استحضار نية للصيام؛ لأنه يصوم حتى لا يعد الأيام ولا يدري ما هي، فجاء هذا الأمر ضبطاً للعمل الصالح حتى لا يختلط به غيره.
ولهذا ميزت الفريضة عن النافلة بالنية، وميزت أيضاً بالعمل الظاهر، كما في الصلاة بالتكبير والتسليم، فإنه يحرم عليه كل شيء قد أباحه الله عز وجل له بتكبيره، ويبقى الإنسان على ما شرع له، ثم إذا سلم فإنه ينقطع حينئذ الإنسان عما حرم عليه، ثم بعد ذلك يصلي النافلة كما شاء، ولو تداخلت الفرائض بالنوافل لكان الإنسان يصلي ما شاء، فيصلي خمساً أو سبعاً أو ثماناً أو تسعاً أو عشراً أو غير ذلك.
وإنما أراد الشارع في ذلك أن يفصلها، ولهذا شرعت الجماعة على صورة معينة، فتصلى الفرائض جماعة والنوافل يصليها الناس فرادى حتى لا تداخل هذه هذه لعظمها، وهذا هو من أسباب منع صوم يوم الشك حتى لا تختلط الفريضة بالنافلة فلا يصبح لرمضان قيمة، ويجهلون زمانه، فإن النهي في ذلك أدعى لضبط العدد ومعرفة الدخول ومعرفة الخروج؛ لأن الأول ما قبله محرم، ولأن الآخر ما بعده محرم فهما محرمان وما بينهما واجب، فهو أدعى للإتباع والاقتداء.
قال المصنف رحمه الله: [ (وهو الثلاثون من شعبان إذا لم يكن غيم أو قتر) عند أصحابنا].
قوله هنا: (عند أصحابنا) أراد أن يبين أن صوم يوم الغيم من مفاريد مذهب الإمام أحمد رحمه الله خلافاً لجمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنفية الذين يرون أن صوم يوم الشك يوم الثلاثين يمنع مطلقاً على أي حال كان، ومستند الإمام أحمد رحمه الله هي الآثار الموجودة الواردة في هذا.
وهذا من المواضع التي وقع فيها خلاف عريض بين الحنابلة وبين الجمهور، وصنف في هذا جماعة من الأئمة انتصاراً للمذهب، كـــأبي الفرج بن الجوزي الذي صنف في هذا رسالة أسماها كشف اللوم والضيم في حكم صوم يوم الغيم، وصنف كذلك ابن عبد الهادي رسالة في هذه المسألة.
قال رحمه الله: [ (ويحرم صوم العيدين) إجماعاً لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً ( نهي عن صوم يومين: يوم الفطر، ويوم الأضحى )، متفق عليه ].
هنا ذكر حرمة صوم يوم عيد الفطر وهو الذي يعقب رمضان، فإذا حرم صوم يوم الشك فإن يوم العيد آكد؛ لأن يوم العيد فيه اجتماع الناس، وفرحهم بانتهاء صيامهم وانتهاء عدة رمضان، فإن مقتضى ذلك هو النهي عن الصيام، وينهى عن صوم يوم العيد يوماً واحداً، وهذا ظاهر عمل السلف.
وعند بعض الفقهاء يكره اليوم الأول والثاني في الفطر، وأما بالنسبة لعيد الأضحى فإن اليوم الأول محرم، والباقية محل خلاف وهي أيام التشريق: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيامها، وسيأتي الكلام عليه.
والعلة في النهي عن صوم يوم النحر أظهر من علة النهي عن الصوم في يوم الفطر؛ لأن يوم النحر هو يوم أكل وشرب ويوم نحر الهدي، فإذا نحروا ولم يأكلوا ما كان ثمة علة لاستحباب وتأكيد النحر، فينحرون شيئاً لا يبكرون بإظهار النعمة بتناوله.
ويوم الفطر يحرم صيامه؛ لأن الصيام لا يظهر النعمة بانتهاء رمضان وإكماله، فالمؤمن يفرح بإتمام العدة لا بانقضاء الفريضة وخلوصه منها، وإنما بأن الله عز وجل يسر له تمام النعمة فيحمد الله سبحانه وتعالى على ذلك، وفيه حفظ الفريضة بابتدائها وانتهائها حتى لا تختلط بغيرها.
قال رحمه الله: [ (وأيام التشريق) لحديث ( وأيامنا أيام أكل وشرب )، رواه مسلم مختصراً ].
يقول: (أيام التشريق لحديث: ( وأيامنا أيام أكل وشرب )، النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن صوم أيام التشريق ويقول: (إنها أيام أكل وشرب)، وقد اختلف العلماء في صوم أيام التشريق لغير الحاج هل تحرم أو لا تحرم؟ فهل تلحق بيوم النحر أم لا؟
اختلفوا في هذه المسألة على عدة أقوال: قوم قالوا بالتحريم، وقوم قالوا بالكراهة، وعامة العلماء على النهي عن ذلك، وإنما خلافهم في مقدار النهي هل هو للتحريم أو الكراهة؟ وقوم قيدوا النهي هنا بشيء من الاستثناء، فقالوا: ما لم يكن الإنسان متمتعاً ولم يجد الهدي فيستثنى في ذلك للدليل الوارد في هذا ويأتي الكلام عليه.
قال رحمه الله: [ إلا للمتمتع إذا لم يجد الهدي لحديث ابن عمر و عائشة رضي الله عنهما: (لم يرخص في أيام التشريق أن يصم إلا لمن لم يجد الهدي)، رواه البخاري ].
وإنما قال بعض العلماء بأن النهي هنا للكراهة؛ لأن النهي ما ورد في أيام التشريق مغلظاً كيوم العيد، ولو اشتركا في النهي وأيام التشريق ملاصقة ليوم النحر، فذكر الله سبحانه وتعالى أيام التشريق وهي ما يلي يوم النحر، ووصفها بأنها أيام أكل وشرب أي: استمتاع بما ينحر الناس من هدي، فيظهروا نعمة الله سبحانه وتعالى في ذلك.
وهنا في قوله: (إلا للمتمتع إذا لم يجد الهدي)، المتمتع إذا لم يجد الهدي إما أنه لم يكن قادراً عليه أو كان قادراً لكن ليس بمتناوله ما يذبحه، وإما أن يكون عاجزاً فقيراً ليس لديه قيمة الهدي، أو لديه قيمة الهدي ولم يجد من يبيعه هدياً وشق عليه الوقوف، فحينئذ يصوم عشرة أيام: ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
فالثلاثة التي في الحج ما هو زمانها؟ نقول: ثمة زمان فاضل، وثمة زمان مفضول، الزمان الفاضل هو ما قبل عرفة، ولهذا جاء عن عبد الله بن عمر وغيره أنها تكون قبل عرفة أو آخرها يوم عرفة، فيصوم السابع والثامن والتاسع، وإن صامها قبل ذلك وأفرد عرفة بصيام إذا كان حاجاً من غير مشقة فهو أكمل، أو يكون مفطراً ليقوى في ذلك على القيام بشأنه فإن ذلك أفضل، وإذا تعذر عليه الفاضل بأن يصومها في أيام الحج قبل أيام التشريق فإنه يصومها في أيام التشريق.
لماذا؟ لأن هذا زمن انقضاء حجه، وهو سيرجع, والله عز وجل جعل الأيام العشرة ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع، وهو قد تهيأ، إذاً أصبحت العشرة كلها إذا لم يصمها في أيام التشريق ستنتهي ويصوم العشرة كلها إذا رجع إلى أهله، فرخص غير واحد من السلف كــــابن عمر و عائشة وظاهر مذهب الإمام أحمد وجماعة من العلماء على أن هذه الثلاثة تكون في أيام التشريق لمن لم يتمكن من صومها قبل ذلك.
ولماذا لم يوجب العلماء صومها قبل يوم عرفة ورخصوا له مع ورود النهي في أيام التشريق؟ لأن الإنسان قبل يوم عرفة قد يكون قادماً وفي طريق سفر إلى الحج، فما كل أحد يتهيأ له الإقامة قبل يوم عرفة بمكة، فربما حبسه عذر أو قصر في طريقه فكان في مسير، وتكليفه بوجوب الصيام في حال سفره من المشقة التي لا تأتي بها الشريعة، فإذا تعذر عليه الإقامة قبل يوم عرفة بمكة فإنه يصومها بعد ذلك في حال إقامته بمنى، فيصوم هذه الثلاثة ثم السبعة إذا رجع إلى أهله فتلك عشرة كاملة.
قال رحمه الله: [ (ومن دخل في تطوع لم يجب إتمامه) لحديث عائشة رضي الله عنها ( قلت: يا رسول الله أهديت لنا هدية أو جاءنا رزق وقد خبأت لك شيئاً قال: ما هو؟ قلت: حيس، قال: هاتيه، فجئت به فأكل ثم قال: قد كنت أصبحت صائماً )، رواه مسلم ].
اختلف العلماء عليهم رحمة الله في من دخل في تطوع فنواه ليلاً ثم أمسك هل له الخيار بقطعه أم لا؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
ذهب جماعة من السلف إلى أنه يحرم عليه أن يقطع النافلة التي عقدها بالليل، وهذا جاء عن علي بن أبي طالب ، كما رواه أبو إسحاق عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب أنه لا يحل له أن يقطع صوم النافلة إذا بيتها بالليل، وهذا إسناده ضعيف عن علي بن أبي طالب ، وقال به جماعة من الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم.
والقول الثاني: قالوا: إنه لا حرج عليه أن يقطع صوم النافلة، وأما بالنسبة إذا لم يكن في ذلك مشقة أو حاجة إلى طعام فالاستحباب أن يتم كاستحباب الصيام من جهة الأصل، وهذا هو الذي يعضده الدليل وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد ، وذهب جمهور السلف أن صوم النافلة لا يجب عليه أن يتمه، فمن بيت الصيام من الليل للإثنين ثم في نصف النهار أراد أن يطعم لحاجة أو لغير حاجة جاز له ذلك، وذلك لحديث عائشة عليها رضوان الله تعالى، فحديث عائشة دل على معنيين:
المعنى الأول: أن من بيت الصيام من الليل جاز له أن يقطع صيامه في النهار.
المعنى الثاني: أن الإنسان يجوز له أن يعقد نية الصيام النفل من النهار، فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما لم يجد ما يأكل قال: ( إني إذاً صائم )، يعني: سأنوي الصيام في هذا اليوم.
وفي هذا فائدة ثالثة: وهي أن حديث عائشة عليها رضوان الله دل على أن من نوى فعل المفطر أنه لا يفطر حتى ينوي قطع الصيام، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام نوى فعل المفطر وهو الأكل، فهو يريد أن يأكل فلم يجد ما يأكله فدل على أن هذا لا يقطع الصيام، وهذا هو الذي ذهب إليه جمهور العلماء أن نية فعل المفطر تختلف عن نية قطع الصوم، فالذي ينوي قطع الصوم ولو لم يأكل فهو كالذي ينوي قطع الصلاة.
ومن العلماء من يقول: إن عبادة الإنسان لا تنقطع إلا بفعل المبطل، وهذا مذهب الحنفية سواء كان صلاة أو صياماً، ولهذا الإنسان الذي يريد أن يطعم فلم يجد، كأن يريد أن يأكل طعاماً فلم يجد في الإناء شيئاً أو يريد أن يشرب كأساً فلم يجد فيه ماء أو نحو ذلك ثم أتم صيامه، فإن هذا لا حرج عليه مع أنه نوى الفعل وما نوى قطع أصل الصيام.
قال رحمه الله: [وكره الخروج منه بلا عذر خروجاً من الخلاف، ولقوله تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33] ].
ولا يختلف العلماء في مسألة أفضلية إتمام الصوم إذا لم يكن في ذلك حاجة، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان محتاجاً لطعام فسأل عنه، ففي مثل هذا الأمر لا حرج فيه، ويبقى الأصل على أمر الإباحة، وأما إذا لم يكن محتاجاً لطعام فالسنة في ذلك أن يتم صيامه الذي قد نوى.
وأما من كان على براءة لا على صيام ولا على غيره فأصبح ولم يطعم، كحال كثير من الناس يصبح من غير وجود نية قلبية لا على الفطر ولا على الإمساك، ثم ينظر في حاله ويتأمل فربما أحب الإمساك أو عدمه، فإن وجد طعاماً أكل وإن لم يجد قال: أريد أن أصوم.
قال رحمه الله: [(وفي فرض يجب) إتمامه ولا يجوز له الخروج بلا خلاف، قاله في الشرح؛ لأنه يتعين بدخوله في ].
قوله: (وفي فرض يجب إتمامه ولا يجوز له الخروج بلا خلاف، قاله في الشرح)، الفرض منه ما هو متعين ومنه ما هو غير متعين، فالمتعين كرمضان، يعني: متعين عيناً في يوم ليلة الواحد من الشهر التاسع من رمضان بأنه يصوم غداً، فهذا متعين باليوم، وأما غير المتعين كالنذور أو الكفارات التي على الإنسان فإنها غير متعينة، أنت تصومها في شوال، تصومها في ذي القعدة، في ذي الحجة، في محرم، في صفر، في غيرها من الأيام افعل ما تشاء، هذا واجب غير معين، كالذي عليه نذر أن يصوم أياماً، أو عليه كفارة أن يصوم ثلاثة أيام أو شهرين متتابعين، أو نحو ذلك، فهذا من جهة الأصل غير متعين.
فمن نواه ليلاً سواء كان متعيناً أو غير متعين فإنه لا يجوز له أن يقطعه؛ لأنه وجب عليه في ذمته، وهذا كما أنه في الصيام كذلك في الصلاة، فالذي يدخل في صلاة الفريضة كصلاة الظهر وصلاة العصر لا يجوز له قطعها، لماذا؟ لأنها فرض، أما النافلة فإذا دخل الإنسان في نافلة فهل يجوز له أن يقطعها أو لا يجوز؟ الجواب يجوز له؛ لأنه جاء في الحديث قال: ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة )، يعني: المكتوبة القائمة وما في حكمها.
هنا مسألة: إذا صلى الإنسان الفريضة كصلاة الظهر، ثم وجد الناس قاموا للصلاة وهو ناوٍ لفريضة وكان مسافراً فدخل المسجد ليؤدي فريضة، فهل له أن يقطعها أم لا؟ نقول: إن السنة في حقه أن يقلبها نافلة؛ لأنه تقدم أن الفريضة تقلب نافلة، والنافلة لا تقلب فريضة، فيقلبها نافلة بأن ينويها نفلاً، ثم يقطعها أو يتمها يسيراً إذا كان لا تفوته تكبيرة الإحرام، وإذا غلب على ظنه فوات التكبيرة فإنه يقلبها نافلة ثم يقطع الصلاة ولا حرج عليه.
قال رحمه الله: [لأنه يتعين بدخوله فيه فصار كالمتعين، والخروج من عهدة الواجب متعين، وإنما دخلت التوسعة في وقته رفقاً فإن بطل فعليه إعادته ].
وذلك أن الله سبحانه وتعالى يوسع على الإنسان في الصيام الواجب غير المتعين في اختيار وقته وتعيينه فيكون التعيين إليه بخلاف ما كان، أي: مما يعينه الله عز وجل، كرمضان عينه الله وليس للإنسان اختيار فيه، وغير المتعين الذي عينه الإنسان باختياره فقد دخل فيه فأخذ حكم ما عينه الله سبحانه وتعالى وهو كرمضان.
فمن قضى رمضان في يوم من الأيام في شوال، أو في ذي القعدة، أو نحو ذلك فنواه من الليل ثم دخل فيه في النهار ليس له أن يقطعه، فقد أخذ حكم رمضان، لماذا؟ لأنه دخل فيه ولو لم يكن متعيناً في الشرع فعينه في نيته فلا يخرج منه، وذلك أن الله عز وجل جعل في تعيينه ابتداء سعة، فإذا دخل فيه فإنه لا يبطله؛ لأنه أخذ حكم المتعين وهو رمضان.
قال رحمه الله: [ (ما لم يقلبه نفلاً) فيثبت له حكم ].
وهذا على ما تقدم، ما لم يقلب الفريضة نفلاً، فإذا قلبها نفلاً جاز له، كحال الإنسان الذي يريد أن يصلي فريضة فائتة عليه كصلاة الظهر، ثم دخل المسجد ووجد الناس ينتظرون صلاة العصر، ثم كبر يصلي الفائتة، ثم أقام الناس لفريضة العصر وهو في فريضة وهم في فريضة، والنص يقول: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا الفريضة)، فهل المراد به عموم الفرائض أم المراد به الفريضة القائمة؟
الغالب في ذلك أن المراد بذلك هي الفريضة القائمة، فهل له أن يقطعها؟ نقول: لا يقطعها لأنها فريضة، وإنما ينويها سنة بقلبه ثم يقطعها ويدخل مع الناس الفريضة.
قوله: (ما لم يقلبها نفلاً)، القلب للنفل إذا أراد الإنسان أن يقطعه في صيام يوم الفريضة أن لا يقطعه تحايلاً للفطر، وإنما يقلبه الإنسان احتساباً، كالذي عليه قضاء من رمضان ثم نوى أن يصوم في يوم عرفة، وصيام عرفة نفل وكان عليه قضاء من رمضان، ثم في أثناء النهار قيل له: إن القضاء لا يجمع مع صيام يوم عرفة النافلة المتعينة، قال: إذاً هذا يوم عرفة أريد أن أجعله عرفة وأجعل قضائي فيما بعد ذلك حتى لا يفوتني الأجر؛ لأن عرفة يفوت والقضاء موسع لا يفوت، فحينئذ قلبه، وإذا قلبه ابتغاء الأجر جاز له أن يفطر، فليس للإنسان أن يدخل في قضاء ثم ينوي النفل تحايلاً ليفطر؛ لأن هذا يبطل الحكم الشرعي وهو تحايل لا يجوز على الأرجح.
وبهذا انتهى كتاب الصيام من كتاب منار السبيل، أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يجعله حجة لنا لا علينا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح كتاب الصيام من منار السبيل [7] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
https://audio.islamweb.net