اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح منظومة رشف الشمول في أصول الفقه لابن بدران [1] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح منظومة رشف الشمول في أصول الفقه لابن بدران [1] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين يا رب العالمين.
قال الشيخ العلامة عبد القادر بن بدران الدومي الحنبلي رحمه الله تعالى: [ بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي قد نظماشمل الفروع بالأصول كرما
وعم بالفضل من العهد الذيلدر مكنون الكتاب يحتذي ].
هذه الرسالة هي منظومة مختصرة كما هو ظاهر، وموضوعها في علم أصول الفقه، وهي مختصرة كما في عنوان هذه الرسالة، والمؤلف هو من أئمة الحنابلة الفقهاء الأصوليين الذين اعتنوا بالرأي، ولهم عناية بالدليل، وظهرت عنايتهم في الفقه، وهو من أئمة فقهاء الحنابلة المتأخرين.
والمنظوم عند الفقهاء من الحنابلة في أصول الفقه قليل جداً، ولكن المصنفات في الأصول كمتون مختصرة وكذلك مطولة ليست بالقليلة في المذهب، وهذه الرسالة سماها المصنف "رشف الشمول" وهذا إشارة إلى اختصارها، والرشف: هو شرب الماء القليل، ومعلوم أن الإنسان إما أن يشرب ماء كثيراً أو يشرب ماء قليلاً، وأشار بهذا إلى أن هذه المسائل هي مسائل مختصرات، والشمول: هو الماء الذي أصابه هواء الشمال فأصبح بارداً، ويرشف: يعني يُشرب على يسر من غير مشقة، وقيل أن المراد بالشمول: هو الخمر، ويبعد أن المصنف رحمه الله قصد ذلك، وقد نص على هذا المعنى أبو عبيد القاسم بن سلام وغيره.
وابتدأ المصنف رحمه الله هذه الرسالة بقوله: (بسم الله الرحمن الرحيم) هذه الطريقة اقتداء بكلام الله، وكذلك بمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكاتباته، وقد جاء في الصحيحين وغيرهما: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم ) وهذا أيضاً هو منهج أصحابه عليهم رضوان الله تعالى في المكاتبات، والابتداء بالبسملة قد جاء فيه الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في قوله: ( كل أمر لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أجذم ) وهذا الحديث معلول، ولا يصح موصولاً، والصواب فيه الإرسال كما صوب ذلك غير واحد من الأئمة، كـالدارقطني وغيره، وقد رواه الخطيب البغدادي وغيره مرسلاً وموصولاً، ورواه أيضاً الدارقطني .
وإنما وقع الخلاف عند العلماء في مسألة ابتداء الأشعار ببسم الله الرحمن الرحيم، فمنهم من حكى الإجماع في هذا على المنع، ولعلهم أرادوا بالأشعار؛ الأشعار التي يكون فيها المجون والوصف الفاحش ونحو ذلك، ولا يريدون بذلك المنظومات العلمية أو الكلام الموزون.
فالعلماء رحمهم الله لم يميلوا إلى ما يسمى بالمنظومات إلا متأخراً، ولذلك كانت الأشعار في الزمن الأول هي في المديح، وكذلك الرثاء والغزل، وهذا الذي يطغى عليها، فتكلموا على هذه المسائل، وقد نص على ذلك غير واحد من العلماء، كـعامر بن شراحيل الشعبي كما رواه الخطيب البغدادي في كتابه الجامع عن مجالد عن عامر بن شراحيل الشعبي قال: أجمعوا على أنه لا يبتدئ الشعر ببسم الله الرحمن الرحيم.
وكذلك أيضاً جاء عن سعيد بن جبير أنه قال: مضت السنة ألا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، وجاء عن سعيد بن جبير ما يخالف ذلك، والذي استقر عليه العمل هو البداءة ببسم الله الرحمن الرحيم في كل منظوم ومنثور حسن المعنى، وأما ما كان من غير ذي البال، كالمعاني السيئة وغير ذلك، سواء كان منظوماً أو كان منثوراً، فإنه لا يبتدئ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم؛ لأنه يجل أن يبتدئ الإنسان في مثل هذه المعاني ببسم الله الرحمن الرحيم، فإنه لا مجال للاستعانة بها على الباطل، ولا على الخطأ.
ثم شرع المصنف رحمه الله في هذه المنظومة بقوله:
(الحمد لله الذي قد نظماشمل الفروع بالأصول كرما)
حمد الله سبحانه وتعالى على نعمه وفضله أمر عليه هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فالله جل وعلا أمر عباده بالحمد، وهو متضمن لشكر المنعم على إنعامه، والحمد: هو ذكر صفات المحمود على وجه الحب له، فالذي يذكر المحمود بتعديد صفاته، وكذلك مناقبه ومآثره، فإن ذلك العمل يسمى حمداً، وهنا يحمد الله جل وعلا على أن يسر له ذلك العلم، وأن الله سبحانه وتعالى قد أقره في كتابه وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى الانتظام في قوله: (قد نظما) أن الله جل وعلا قد أحكم هذا العلم وبينه وفصله، وجعل له أصولاً في كتابه وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي بحاجة فقط للتقصي والتتبع، وكذلك أيضاً للعمل والاعتبار، وهذا يلزم منه حمده سبحانه وتعالى.
وثمة فرق بين الحمد والشكر من جهة العموم والخصوص، وقيل: إنهما بمعنى واحد، والذي يظهر -والله أعلم- أن بين الحمد والشكر عموماً وخصوصاً من وجه، وذلك أن الإنسان يحمد غيره على أفعاله اللازمة والمتعدية، وأما الشكر فإن الإنسان يشكر على أفعاله المتعدية، هذا من جهة ما يقع عليه الحمد أو الشكر، فالإنسان يبعد أن يقول: أشكرك على أنك حليم، ونحو ذلك، وهذا لا يقع، وأما بالنسبة للشكر فإنه يكون على الأمر الذي يصدر من الإنسان كإكرامه بإعانته لفلان، وإحسانه إليه، ودفع الضر عنه، فهذا مما يشكر عليه الإنسان، أما الأمور اللازمة في الإنسان غير المتعدية فإن الإنسان يُحمد عليها ولا يُشكر عليها.
وكذلك أيضاً بين الحمد والشكر تباين من جهة صدوره من الحامد والشاكر؛ ولهذا يقول الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثةيدي ولساني والضمير المحجبا
يقول: (قد نظما شمل الفروع بالأصول كرما) الشريعة إنما هي فروع وأصول، وثمة شيء بين هذه الفروع والأصول، وهي الأدلة والعلل، وهي الرابطة بين الفروع والأصول؛ لأنه لا يمكن أن يلتحق الفرع بالأصل إلا لعلة تلحق الفرع بأصله، وهذه العلة لا بد أن تبنى على دليل بين ظاهر، سواء من كلام الله أو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان ذلك أيضاً من الأدلة العقلية.
يقول: (وعم بالفضل من العهد الذيلدر مكنون الكتاب يحتذي)، الله سبحانه وتعالى قد جعل هذا العلم عمدة لقاصد الفقه ومريده، وطالب العلم لا يمكن أن يتحقق فيه العلم على وجه يستوي فيه وينضج إلا بأن يأخذ ما بينه الله سبحانه وتعالى في كتابه، من بيان تلك القواعد العامة والأصول الكلية التي يأخذ منها الإنسان الأدلة الفرعية التفصيلية، وهذا مرده إلى الشريعة.
وينبغي أن نعلم أن علم الأصول وما يسمى بأصول الفقه من جهة الأصل مادته في الكتاب والسنة، وليس هو من الاستنباط العقلي المحض الذي يأخذه الإنسان بمجرد الإدراك من غير معلوم سابق، فإن هذا من الأمور المحالة، وإنما مرده بسبر الفروع حتى تتحقق الأصول، وهذا أمر معلوم، ومعلوم أن الفروع تبنى على الأصول، والأصول إنما هي قواعد للفروع، فإذا عرف الإنسان مجموع الفروع عرف الأصل، وإذا عرف الإنسان الأصل عرف الفروع التي تبنى عليه.
والإنسان في معرفته للأصول له طريقان:
الطريقة الأولى: أن يتعلم مجموع الفروع حتى توصله إلى الأصول.
الطريقة الثانية: أن يتعلم الأصول ابتداء حتى توصل الإنسان إلى تلك الفروع.
وذلك كحال الإنسان الذي يعرف الطريق الذي يؤديه مثلاً من المدينة إلى مكة هذا هو الأصل، وثمة فروع تتفرع من هذا الطريق تؤدي إلى أجزاء وشعب بين مكة والمدينة، وهذه فروع متشعبة، فالإنسان إذا أخذ بهذا الأصل لا بد أن يأتي على هذه الفروع حتى يتمكن، وإذا أراد أن يأتي إلى الأصل عن طريق الفروع فإنه يأتي إلى هذه الفروع واحداً واحداً حتى يعلم أين تلتقي، وكلها تؤدي إلى معنى واحد، وقد اختلف العلماء في أيهما أولى، أن يتعلم الإنسان الفروع التي تؤديه إلى معرفة الأصول، أو أن يعلم الأصول قبل معرفة الفروع.
والذي يظهر والله أعلم أن الشريعة جاءت ببيان الفروع ابتداء أكثر من بيان الأصول، فجاءت بالأحكام التفصيلية، ثم جاءت بالأحكام العامة الأصولية، والأحكام الفرعية اقترنت ببعض الأحكام الأصولية، وهذا لا ينفي وجود القواعد الأصولية في الشريعة ابتداء، ولكن الأكثر أن الشريعة جاءت بطرح الفروع أكثر من طرح الأصول، ثم بعد ذلك لما اكتملت الأجزاء والصور وضعت قواعد عليها، وهي شبيهة بالمظلات التي يضعها الإنسان ويجمع تحتها مجموعة من الفروع، كما يجمع الإنسان مجموعة مثلاً من الزروع في أحواض ونحو ذلك يجمعها، فهذا لنبتة كذا، وهذا لنبتة كذا، وهذا لنبتة كذا، بعد أن زرعها واحدة واحدة أطلق بعد ذلك عليها الأسماء، هذا حوض كذا، وهذا حوض كذا، ونحو ذلك، ومن العلماء من يميل إلى معرفة الأصول ابتداء قبل أن يبتدئ بالفروع، يعني: أنه يسمي هذا الأمر أنه لباب كذا، ثم ينشئ لديه فروعاً، قالوا: لأن الشريعة قد اكتملت لدينا أصولاً وفروعاً، والمشرع إنما جاء ابتداء ببعض الفروع وبعض الأصول، وجاءت الفروع طاغية على الأصول من جهة البيان؛ لأن الأصول لا يمكن أن تفهم إلا بمعرفة أجزائها، لهذا نجد أن الأصوليين حينما يتكلمون على قاعدة معينة يكثرون من ضرب المثال فيها؛ حتى يثبت صحة هذا الأصل من عدمه؛ لأن الأصل لا يمكن أن يصح إلا بمعرفة مجموع أجزائه وفروعه، وإلا لا يعتبر أصل؛ لأن الأصل هو الذي يبنى عليه غيره، وهذا الغير الذي يبنى على ذلك الأصل لا بد أن يعرف عدده، فإذا كان كثيراً كانت هذه القاعدة كلية، وإذا لم يكن كثير وإنما أصبح قليلاً فإنها تكون من القواعد الفرعية، ويأتي الكلام عليها بإذن الله تعالى.
والذي يظهر لي -والله أعلم- أن الأدق والأتم والأكمل: أن يتعلم الإنسان الفروع ثم يعرف بعد ذلك الأصول، وهذه الطريقة شاقة، ولكنها تمكن الإنسان من معرفة الدين بدقة، وذلك بمعرفة المسائل الاستثنائية التي لا تدخل في القاعدة، وكذلك معرفة المسائل بأدلتها حتى لا يخلط الإنسان بمعرفة أدلة المسائل؛ لأن الإنسان إذا وضع قاعدة عامة كقاعدة مثلاً: المشقة تجلب التيسير، أو مثلاً: لا ضرر ولا ضرار، ونحو ذلك، هذه قاعدة صحيحة، ولكن لا ينبغي أن يصيرها الإنسان إلى قاعدة كلية ولديه نص من الكتاب والسنة بين في المسألة بذاتها، فإذا عرف القواعد وما عرف المسائل بذاتها استدل على الأحكام الشرعية بقواعد عامة فضعف لديه الدليل، فربما حاججه غيره بدليل يخالف الدليل الصحيح في المسألة، فضعفت تلك القاعدة بدليل في ذات المسألة بعينها، لهذا أدق المسائل أن يعرف الإنسان الفروع قبل الأصول، أي: أن يعرف الفروع ثم يجمع هذه الفروع ويلحقها بذلك الأصل، كما نزلت على طريقة التشريع، ولهذا كان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى أدق الناس في الفقه والفهم؛ لأنهم عرفوا الفروع فتمكنوا منها، عرفوا الفرع، وعرفوا الدليل، وعرفوا أيضاً أنواع الفروع وأشباهها، ثم عرفوا بعد ذلك الأصل، فسلموا من جهة الاستدلال واستدلوا بالدليل قبل غيره.
معلوم أن أقوى الأدلة الكتاب، ثم السنة، ثم الإجماع، ثم القياس، ليس لأحد أن يستدل بالقياس مع ظهور الدليل من كلام الله عز وجل، أو يستدل بقاعدة ولو كانت متفقاً عليها مع ظهور الدليل المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة.
أما الطريقة الثانية وهي: معرفة الأصول ثم معرفة الفروع المتفرعة عنها، وهي أسهل على الإنسان من جهة التلقي والأخذ، ولكن يظهر ضعف معرفة الإنسان في التطبيق؛ لأن موضوع علم أصول الفقه هو في معرفة الأدلة، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وكذلك أيضاً القواعد الأخرى في مسألة المصالح والاستحسان وغير ذلك، فهذه أدلة يتكلم عليها العلماء، هل هذه الأدلة صحيحة أم ليست بصحيحة؟ يأخذونها واحداً واحداً، ثم يفرعون عليها، ثم يأتون إلى الكتاب، ثم يقسمونه إلى أقسام، من بيان المحكم والمتشابه، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ وغير ذلك، وهذه فروع هذا الدليل، ولكن لا يسهبون بذكر الفروع، يعطون هذه القواعد، ثم يبدأ الإنسان بتتبعها في الفروع.
وغالباً الإنسان إذا ابتدأ علماً بعينه فإن همته في الابتداء تكون أقوى من الانتهاء، فإذا أخذ الإنسان الأصول ابتداء أصبح من المتمكنين فيها، وأما من جهة التطبيق فيصبح ضعيفاً، وهذا ملموس عند كثير من المتكلمين والأصوليين تجدهم من أهل الضعف في الفقه ومعرفة الأدلة، ولكن من جهة الأصول والتقعيد هم من أهل الحذق والنظر، ولهذا يستفتى الأصولي في كثير من المسائل الفقهية فيحجم عن الكلام فيها؛ خشية أن يكون فيها دليل يخالف تلك القاعدة ويتوجس؛ لكثرة ما رأى من مخالفة الأدلة لبعض القواعد، ومعلوم أنه لا يوجد قاعدة شرعية أو كونية إلا ولها شيء مخالف يند عنها.
إذاً: قاعدة الاطراد على الدوام في الأحكام الشرعية غير موجودة، وإنما ثمة قواعد أغلبية، كذلك أيضاً في المسائل الكونية لا يوجد نهار سرمداً، ولا ليل سرمداً، ولا مطر سرمداً، ولا شمس ولا حر ولا برد سرمداً، وإنما الله عز وجل يقلب؛ لهذا لا يستطيع الإنسان أن يجعل هذا، ولكن يختلف الأمد والكثرة والقلة، فتجد في بلد الصيف يمتد أكثر من غيره، والشتاء يقل، فيكون مثلاً لشهرين أو ثلاثة، والصيف ما هو أكثر من ذلك، وفي بلد يختلف عن الآخر، ثم تدور، ومنها ما يكون متباعداً فينقلب الشتاء في بلد فيكون أكثر من الصيف بعد قرون مديدة، ويتقلب الناس في دائرة الكون، وتجد كذلك أيضاً حتى ما جعل الله عز وجل له قاعدة ثابتة كذلك، وهي قاعدة كونية، ومعلوم أن القواعد الكونية هي أظهر ثباتاً من القواعد الشرعية؛ لأن القواعد الشرعية ترتبط بأفعال المكلفين، ومخالفة القاعدة أرأف بالعباد وأرحم، وأما بالنسبة للقواعد الكونية ثباتها أرحم بالعباد وأثبت، وهذا في مسألة ظهور الشمس والقمر، فدوران الأفلاك وما يتعلق بالأهلة ونحو ذلك، ثباتها أصلح للناس كمسألة الأهلة من جهة ظهورها وانصرامها، وكذلك طلوع الشمس ودقة المواقيت، فدقة المواقيت منذ أن جعل الله عز وجل الشمس ظاهرة على الأرض فالناس يعرفون ذلك بالحساب إلى قيام الساعة، ولكن لا بد أن يضطرب ذلك عند خروج الشمس من مغربها.
إذاً: لا يوجد قاعدة مطردة، ولكن من جهة الاتساع والقلة، لهذا تجد أن هذه المخالفات لهذه القواعد في الأدلة الشرعية والأدلة الكونية يعرفها من دخل في الفروع قبل أن يصل الأصول، وهم أهل التمكن والحذق، لكن الذين يدخلون في أبواب الأصول قبل الفروع تقل عنايتهم بالدليل، بخلاف الذي أخذ بالفروع؛ لأن الذي عرف الفرع ليس لديه قاعدة يعتمد عليها، وليس لديه شيء يتكئ عليه، بل أقرب شيء يتكئ عليه هو الدليل، فيتمسك بالدليل، وأما الذي يبتدئ من الأصول فإنه أخذ الأصل على أنه دليل، ثم أخذ يدخل على جميع الفروع من هذا الباب، فضعف الأخذ بالدليل عند الذي يبتدئ بالأصول أظهر من ضعف الإنسان الذي يبتدئ بالفروع، وهذه يختلف بحسب طريقة التلقي؛ لهذا الصحابة عليهم رضوان الله تعالى أخذوا المسائل الفرعية من النبي عليه الصلاة والسلام كل مسألة بدليلها حتى تألفت جملة المسائل، فألحقوا ذلك بالقواعد العامة التي يأتي الكلام على شيء منها بإذن الله تعالى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
[ وفي بحار العلم من سفن النجارام الأمان في الدوام والتجا
فسار في نور التجلي معلنانحو الكتاب بالأمان والمنى
جل الذي قد حير العقولافلم تجد لسيرها سبيلا ].
الله سبحانه وتعالى قد أحكم كتابه كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ[هود:1] وقد جعل سبحانه هذا الإحكام منضبطاً للبشر، وجعل له استثناء لا يلغي تلك القاعدة، وإنما يلغي نزول الحكم على أعيان من الناس رحمة ورأفة؛ ولهذا يرفع التكليف عن أحد من العباد ولا يرفع عن العامة، فالاستثناء يقع على الأفراد ولا يقع على الجميع، وهذا دليل على الإحكام، وهو ورود الاستثناء على أفراد لا الاستثناء الذي يبطل القاعدة الكلية؛ ولهذا جعل الله سبحانه وتعالى هذا العلم علماً محكماً في كتابه سبحانه وتعالى.
والكتاب إذا أطلق يراد به القرآن والسنة، وهذا ظاهر في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد : ( أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً على هذا، فزنى بامرأته، فقيل لي: على ابنك جلد مائة وتغريب عام، قال: ففديت ابني بمائة من الغنم ووليدة، فقال: اقض بيننا يا رسول الله! بكتاب الله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لأقضين بينكما بكتاب الله، أما الغنم والوليدة فرد عليك، وعلى ابنك جلد وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها )، فهذا النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لأقضين بينكما بكتاب الله )، فقضى بكتاب الله بناء على طلب ذلك الرجل، والقضاء لا يمكن أن يخرج عن هذا، وإنما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين أن الحكم لا يخرج عن كتاب الله، فقضى بشيء من الأحكام مما ليس في القرآن، ولكن بسنته عليه الصلاة والسلام وهو التغريب ورد الغنم والوليدة.
والله سبحانه وتعالى قد جعل هذا العلم ونظام الشريعة محيراً للعقول؛ لأنه لا يمكن أن يجد الإنسان نظاماً مكتملاً كمثل هذا النظام؛ ولهذا حير الله عز وجل الألباب والعقول أن تجد مثله من جهة التركيب، وتركيب الوحي هي ألفاظه، لهذا جعل الله عز وجل القرآن معجزاً في ذاته، فأعجز الله عز وجل بألفاظه كفار قريش، وأعجز بمعانيه وبلاغته أيضاً أفصح العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، وأعجز الله جل وعلا أيضاً بأحكامه المعارضين المعاندين إلى قيام الساعة أن يجدوا لذلك مثيلاً.
لهذا إن وقع قصور في شيء ظاهر من بعض الأحكام الشرعية، فليعلم أن القصور إنما هو في الناظر والعقل الذي يتأمل النص، وليس في النص بذاته؛ ولهذا كثير من العلل التي تحجب الإنسان عن رؤية الشمس، أو تحجبه عن رؤية الهلال أو النجوم، فيخلط بين هذا وهذا، حتى ربما بعض العارفين يحول بينه وبين الحق حاجب في الأمور المادية، فيحول بينه وبين رؤية الشمس غيم وقتر، ونحو ذلك، وهذا العلة فيه وليست في النجم، وليست في الكواكب، وإنما هي ظاهرة بينة، لكن قد يحول بينها وبين الإنسان شيء من العوارض التي تطرأ على الإنسان.
وأشار المصنف رحمه الله إلى تحيير العقول، والعقول المراد بها: الألباب والأفهام التي يتأمل بها الإنسان، وفيها معاقل ومعاقد الإدراك، فالإنسان إذا تحير في فهم هذا المنظوم ينبغي أن يعلم ضعفه، فكلما عرف الإنسان نظم الشريعة وقوتها وإحكامها أدرك ضعفه، والإنسان في عقله إنما هو يدرك ما يراه خارجاً عنه، ولا يمكن أن يولج شيئاً من المعاني في عقله منفرداً، وإنما ينظر ويحمل جملة من الأقيسة، فيخرج بجملة من النتائج، فيحتار الإنسان في هذه المعاني المنظومة، فإذا أدرك ذلك وجب عليه أن يكل العلم إلى عالمه، وكذلك أيضاً إذا عرف الإنسان مثل هذا الإحكام ومثل هذه السعة ينبغي عليه أن يسأل الله المزيد، فما من شيء أمر الله جل وعلا نبيه عليه الصلاة والسلام أن يسأله زيادة فيه مثل العلم، قال الله عز وجل: رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا[طه:114]، فهذا دليل على فضله، ودليل سعته وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85] .
فينبغي للإنسان إذا عرف هذه السعة وهذا الإحكام أن يعلم أولاً: ضعفه، ثانياً: أن يسأل المزيد، ثالثاً: أن ينسب ما لديه من معلوم لله سبحانه وتعالى، وهذا ما يغفل عنه كثير من المتعلمين، وهو أنهم إذا اكتسبوا شيئاً من المادة من أمر الدنيا ورزقها نسبوه إلى الله وشكروا المنعم عليه، وهذا يظهر عند كثير من الصالحين، ولكن نسبة المعلومات لله هذا مما يضعف عند كثير من المتعلمين، بل عند كثير من الصالحين، فينبغي أن يحمد الله على أي علم أوتيه حتى يزاد في الحق والخير الذي آتاه الله جل وعلا إياه لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ[إبراهيم:7]، وإذا لم ينسب الإنسان ذلك العلم لله جل وعلا فإن الله سبحانه وتعالى يحرمه ذلك، يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيح: ( إن الله ليرضى عن العبد بالشربة يشربها فيحمد الله، وبالأكلة يأكلها فيحمد الله ) إذا كانت شربة، فكيف بالمعنى الذي يظهر للإنسان، فينبغي أن يحمد الله على كل معنى فتح الله عز وجل به عليه، فإن هذا إشارة إلى المزيد، ويظهر كفر الخالق سبحانه وتعالى من عباده في أبواب العلوم حيث إن الإنسان ينسب العلم كثيراً إلى نفسه، وكذلك أيضاً ينبغي أن يُعلم أن نسبة خلق المعلومات إلى الإنسان كنسبة خلق المادة للإنسان، فإذا قيل: أنا خلقت هذا، أو خلقت هذه المادة، فإن هذا مشابه لقول الإنسان: أنا أوجدت هذا الشيء، وأنا أول من فعله، وهذا من المعاني الخطيرة، فينبغي أن تنسب المعلومات لله، فالله عز وجل هو الذي خلق كل شيء، حتى ما كان في أذهان الإنسان من مدركات ومعلومات.
قال رحمه الله:
[ ففوضتْ أمورها للنقلفزال غين القلب ذا بالصقل ]
يقول: (ففوضت أمورها للنقل) كلما تحير الإنسان انقاد لكل داعي، المتحير يتحير بكثرة المعلومات المتضادة، أو بوجود الجهل المستحكم، هذان الأمران هما اللذان يجعلان الإنسان يتحير.
الأمر الأول: كثرة المعلومات المتضادة، وهذه المعلومات المتضادة التي يتعلمها الإنسان، تجتمع في ذهنه، فيطرأ لديه الشك والريب، فتجعل الإنسان متحيراً، فينقاد لأي داعي.
الأمر الثاني: الجهل المستحكم، وهو عدم العلم بالشيء.
فإذا تحير الإنسان بهذه المعلومات على أي هذين السببين انقاد لأي داعي، فكيف إذا تحير بإحكام نظام تام لا يجد فيه ثغرة، فإنه إذا دعي من غير معرفة علة لذلك المنظم أجاب من غير سؤال، فمن أمرك بأمر أن تأتي به ورأيت صوابه مائة مرة لن تعصيه فيما زاد عن المائة؛ لأنك تعلم أن هذا من حضك لا من حض غيرك، ولهذا قال: (ففوضت أمورها للنقل) بعد ذلك التحير الذي لمسته من نظام الشريعة وإحكامها.
قال: (فزال غين القلب ذا بالصقل) غين القلب هو: القتر والغين والران والحجاب الذي يقع على القلب؛ ولهذا العرب تسمي الغيم غين، فيقال: غين وغيم وقتر، والقلب تأتيه سحابة وغمامة كما قال عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى، وجاء مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما رواه ابن مندة وغيره في قول عائشة عليها رضوان الله تعالى في الرجل يكون لديه العلم ثم ينساه فيذكره، وإذ يذكره فينساه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ذلك القلب تكون عليه مثل السحابة، فإن زالت تذكر، وإن أتته نسي ) ولهذا للقلب سحابة كما للسماء سحابة، فيزول ذلك الغين بالصقل، وهذا الصقل كما أنه حسي كذلك أيضاً معنوي بمعرفة المعاني، فإنها تزيل ما على القلب من غين، وكذلك غيم وقتر.
قال رحمه الله:
[ من سنة الهادي الأمين المصطفىخير الأنام نور أهل الاصطفا ]
سنة النبي عليه الصلاة والسلام هي طريقته ومنهجه عليه الصلاة والسلام، ويعرفها الفقهاء بأنها: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلقية أو خُلقية، وهذا من جهة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا قلنا بذات المعنى فينبغي أن نقول بصحة هذا التعريف، وأما إذا قلنا من جهة العمل وهذا هو الظاهر، فنقول: إن هذا التعريف ليس بذاك التام، وذلك أنه في قولنا: أو صفة خَلقية، الخَلقية لا يقتدى بها؛ لأنه يلزم من السنة الاستنان بها، والاقتداء بها، فسنة النبي عليه الصلاة والسلام الخَلقية التي خلقه الله عز وجل عليها، من طول، وكذلك عرض، وكذلك بياض البشرة، وطريقة المشي، ونحو ذلك، لا يستطيع الإنسان أن يقتدي بها، والأصل في السنة أن الإنسان يتسنن بها، فلهذا نقول: إن الأولى في هذا التعريف أن يقال: إنه ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خُلقية، فذكر الخَلقية فيه نظر، وأما ما يستدركه البعض من قولهم أن ثمة أشياء خَلقية هي من سنة النبي عليه الصلاة والسلام مثل: إعفاء اللحى، فنقول: إن هذا من الأفعال؛ لأن الأفعال إما مبادرة أو ترك، وأبواب التروك لاحقة في الأفعال، وإعفاء اللحى من أبواب التروك.
يقول: (الهادي الأمين المصطفى) ذكر الهادي والأمين، فالهادي إشارة إلى المعرفة والعلم التام من الله سبحانه وتعالى، وهذا مرادف لقول الله سبحانه وتعالى: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ[القصص:26] القوي هو: العالم والقادر، وأما الأمين فهو: صاحب الصدق الذي لا يكذب، فقد يكون الإنسان عالماً ولكنه يكذب، وقد يكون الإنسان صادقاً ولكنه ليس بعالم، ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع فيه الخيران، وهو أنه هادي في ذاته، فتحقق فيه العلم الذي يجب معه الاتباع وهو الوحي، فالله سبحانه وتعالى أمر بأن نجعل رسوله عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة، كما قال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ[الأحزاب:21]، وقال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ[الأنعام:90].
و(الأمين) الذي يؤدي الرسالة كما اؤتمن، و(المصطفى) المشرف على غيره كما في قوله عليه الصلاة والسلام: ( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ) (خير الأنام نور أهل الاصطفاء) يعني: أنه عليه الصلاة والسلام سيد المصطفين من الأنبياء، وكذلك الأولياء والصالحين والشهداء، وفيه إشارة أيضاً لأهمية الاتباع.
قال رحمه الله تعالى:
[ صلى عليه الله من غير عدددوماً ولا حد يحيط بالأمد ]
يقول: (صلى عليه من غير عدد) الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم هي: الدعاء له عليه الصلاة والسلام بالمنزلة العالية، (من غير عدد دوماً ولا حد يحيط بالأمد) ذكر العدد عند الدعاء، فهل يعطي الإنسان ذلك العدد مما ألحقه به، أم يعطي ذلك تعظيماً؟ نقول: يعطي ذلك تعظيماً، ولا يعطيه ذلك العدد، بمعنى: أن الإنسان إذا قال: سبحان الله وبحمده عدد الشجر، وعدد المطر، وغير ذلك، فهذا لا يعطيه عدد الشجر ولا عدد الحجر تسبيحات، وإنما يعطيه تعظيماً لذلك اللفظ، وإلا لقال الإنسان بعد الصلاة: سبحان الله والله أكبر ثلاثة وثلاثين وانتهى الأمر، والدليل على ذلك حديث جويرية وحديث ابن عباس في مسلم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لها لما خرج إلى صلاة الفجر، وعاد بعدما ارتفعت الشمس: ( ما زلت في مكانك الذي تركتك فيه؟ قالت: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: أما إني قلت أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت ) ما قال: عدت ( لو وزنت فيما قلت لوزنته، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، وزنة عرشه، ورضا نفسه، ومداد كلماته ) هذا فيه إشارة إلى أن هذا يعطي الإنسان تعظيماً لا يعطيه ذلك العدد، وهذا مراد المصنف رحمه الله. قال: (من غير عدد) يعني: من جهة الاستحقاق، وإنما أراد بذلك تعظيم الأجر، ولهذا لا حرج على الإنسان بل يستحب له أن يقول: سبحان الله عدد الشجر، وعدد قطر المطر، وعدد الكواكب، والأفلاك، ثم يلتزم أيضاً ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: (دوماً ولا حد يحيط بالأمد) لدينا أمد، ولدينا أبد، الأبد: الذي لا نهاية له، والأمد: هو المحدود بحد معين، منها ما هو مقدر، ومنها ما لا يقدر، والأبد الأصل أنه لا يحد إلا بقرينة.
قال رحمه الله تعالى:
[ كذا على الأصحاب والآل ومننالوا بحسن القصد إتحاف المنن ]
حمد الله سبحانه وتعالى والصلاة عليه عليه الصلاة والسلام في ابتداء الرسائل والمصنفات من الأمور المستحبة، وذكرنا أن هذا على قسمين: القسم الأول: أن يبتدئ الإنسان بخطاب، ولا يكون هذا من جملة المصنفات، كرسالة إلى أناس وقوم ونحو ذلك، فهذا يبتدئ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، كرسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وغيره.
القسم الثاني: إذا قصد الإنسان تأليفاً عاماً إلى غير معين، فهذا يحمد الله عز وجل ويبسمل معه، كحال الخطب، فإنها تتوجه إلى غير معين، الحاضر والغائب؛ ولهذا عمد المصنف إلى الحمد والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر أن الصلاة أيضاً شاملة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (على الأصحاب والآل)، أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام هم: الذين شهدوه عليه الصلاة والسلام، وأعانوه ولو بالمشاهدة له عليه الصلاة والسلام، والمكاثرة لأتباعه، وماتوا على ذلك، والصلاة على المعين جائزة على سبيل الاعتراض لا على سبيل الدوام، فالنبي عليه الصلاة والسلام صلى على بعض الأعيان، فقال: ( اللهم صل على آل أبي أوفى )، فلا حرج على الإنسان أن يقول: اللهم صل على فلان، وآل فلان، ونحو ذلك، لا حرج عليه، وإذا كانوا على التبع فذلك جائز، لكل أحد يستحق المعنى وهو من أهل الإسلام، فيقول الرجل: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وعلى أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فكل تابع تنزل عليه هذه الصلاة.
وآل النبي عليه الصلاة والسلام اختلف في معناه، فالآل هم المرجع، يقال: آل فلان إلى كذا، أي: رجع إليه، ويؤول الأمر، أي: يرجع إليه، وآل النبي عليه الصلاة والسلام الذين يرجعون إليه، سواء يرجعون إليه من صلبه عليه الصلاة والسلام، أو آله الذين يرجعون إليه من جهة نسبه، وقيل: إنهم آل علي بن أبي طالب، وآل جعفر، وآل العباس، وآل ربيعة بن الحارث، وقيل: إنهم من تحرم عليهم الصدقة.
قال: (ومن نالوا بحسن القصد إتحاف المنن)، وهنا أشار إلى الباطن وأهميته، وأنه ينبغي للإنسان أن يكون من أهل إخلاص النية؛ لأن الله عز وجل لا يقبل من أحد عمل إلا بحسن القصد؛ لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث عمر: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، وقال الله جل وعلا: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[البينة:5]، ويدخل في الآل أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، وذلك لقوله سبحانه وتعالى لما خاطب أمهات المؤمنين: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ[الأحزاب:33]، ثم قال جل وعلا: لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ[الأحزاب:33]، فجعلهن من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أمرهن عليهن رضوان الله تعالى بالقرار في البيوت.
قال رحمه الله تعالى: [ وبعد: فالأصول قول المجتهد ].
يقول: (وبعد) بعد هي فصل الخطاب، واختلف في أول من ابتدأ بها على عدة أقوال، وكلها لا دليل بين عليها، وإنما هي من الأقوال المرسلة، ولكن الأشهر في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله: ( أما بعد ) لا: وبعد، وكلها جائزة.
[ وبعد: فالأصول قول المجتهدوحجة النحرير والحبر المجد ].
يقول: (فالأصول قول المجتهد) ذكر بعد هذه المقدمة أنه سيشرع الآن في تفصيل المقصود، وفصل الخطاب يعني: ينفصل خطابي السابق عن اللاحق بمعانٍ جديدة؛ ولهذا لا حرج على الإنسان أن يأتي بـ(وبعد) بعدة مرات إذا فصل المعاني، وجعلها منفكة، فيقول: وبعد، ثم يأتي بكلام ثم يقول: وبعد، ولا حرج عليه، أو يقول: ثم بعد، أو ثم أما بعد، لا حرج على الإنسان أن يأتي بها، وهنا ذكر (وبعد) بعد أن ذكر حكمة الإسلام في إحكامه الأدلة، وكذلك أيضاً رجوع الإنسان إليها، والبداءة بالبسملة، والتيمن بها، والحمد والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (وبعد) أي شرع في المقصود.
قال: (فالأصول قول المجتهد) الأصول المراد بها: أصول الفقه، وهي مركبة من لفظين، أصول وفقه، والأصول أي هي: الأسس، وهي ما يبنى عليها غيرها، وأما الفقه فالمراد به: الفهم؛ ولهذا قال قوم شعيب لـشعيب: مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ[هود:91] يعني: لا نفهم، والمراد بالفقه هو: فهم الشيء، وغالب الفقه والفهم يلحق بالشيء النظري الذي يلزم منه نظر، وأما الضروري فإنه لا يسمى فقهاً؛ لأنه لا يحتاج إلى تفقه، وهذا في الغالب؛ ولهذا قال جل وعلا في كتابه العظيم: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ[الأنبياء:79] والمراد بذلك: أن الإنسان لا يفهما بداهة حتى يتسلسل بشيء من المدارك فيصل إلى معرفة ذلك المعلوم، وعلم الأصول هو: معرفة الأدلة والأحكام العملية المكتسبة بأدلتها التفصيلية.
يقول: (قول المجتهد) أولاً: الأصول موضوعها هو معرفة الأدلة، وليس معرفة الأحكام التفصيلية بذاتها، إذاً: فعلم أصول الفقه هو وسيلة وليس غاية، فهو من الوسائل التي يصل بها الإنسان إلى معرفة الأحكام الشرعية، فهذه الأدلة هي التي يعتني بها أهل الأصول، سواء من الكتاب بأقسامه؛ فهم يقسمون الكتاب إلى أقسام كما تقدم الإشارة إليه، بالناسخ ومنسوخه، والمحكم والمتشابه، والمطلق والمقيد، والعام والخاص من الكتاب، وغير ذلك، وكذلك أيضاً سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتكلمون أيضاً على أسباب النزول، إذاً: مداره على الأدلة.
وبالنسبة للناظر أو المنتفع من هذا العلم فهما اثنان: المجتهد والمقلد، وذلك أن الإنسان لا يمكن أن يكون من أهل الاستعمال للأصول حتى يكون مجتهداً، سواء مجتهداً كلياً أو مجتهداً جزئياً، كلياً في علوم الشريعة مطلقاً، وجزئياً في مسألة من المسائل بعينها أو في باب من الأبواب.
وينبغي أن يعلم أن الشريعة مترابطة، والإنسان لا يمكن أن يعرف الأدلة العامة الكلية، ومدى شمولها وعمومها إلا بمعرفة أبواب الشريعة بأجزائها، على سبيل المثال: المشقة تجلب التيسير، ثمة أبواب كثيرة جداً من أحكام الشريعة منها ما يدخل فيها ومنها ما لا يدخل فيها، وكذلك أيضاً في الضرر يزال، وكذلك أيضاً في قاعدة المفاسد والمصالح، ودرئها، وكذلك أيضاً قاعدة اليقين لا يزول بالشك، وغير ذلك من القواعد، هذه القواعد لا يمكن للإنسان أن يعرفها من جهة الشمول إلا وقد عرف الأجزاء بالتفصيل، وعرف المستثنى منها.
والثاني: المقلد وهو ينتفع بها؛ لأنه يتوجه إليه الخطاب، فيبين له الدليل، ويبين له الحكم الشرعي، وأن هذه المسألة ودليلها هذه القاعدة أو هذا الحكم الشرعي.
ولهذا نقول: إذا كان قلنا إن المنتفع من ذلك هو المجتهد، والمقلد فإننا نقول: لا بد من معرفة المجتهد والمقلد، والفرق بينهما.
أولاً: قيل: إن التقليد مأخوذ من القلادة التي يتقلدها الإنسان، وكأنه قُلِّد شيئاً فانساق معه، وقيل: إن المراد بذلك أن الإنسان قلد نفسه شيئاً أعطي إياه، لم يقم بعمله، كحال المرأة أو الرجل الذي يتقلد قلادة لم يقم بصناعتها، وهذا هو الغالب، فيقلد هذا الأمر كحال تقليده الدليل فيقال: خذ هذه الحلية وتحلى بها، وهو لا يعلم صناعتها وماهيتها ونحوها، فهذا فيه إشارة إلى ضعف جانب المقلد، وفضل المجتهد عليه في الشريعة في ذاته، وهذا ليس على الإطلاق، فقد يكون المقلد أفضل عند الله عز وجل من المجتهد؛ وذلك أن المجتهد المقصر عن العمل بما آل إليه اجتهاده أسوأ حالاً من المقلد؛ لأن المقلد إنما عمل بما علم، فحفظه الله عز وجل على هذا أو بهذا القدر.
ثانياً: المجتهد، والمراد به هو بذل الجهد والوسع، واستفراغه بمعرفة الدليل، واستنباطه الحكم الشرعي منه بمعرفة العلة الذي يستنبط منها الإنسان الحكم، وإذا عرف الفعل عرف الموجب له والمحيط بهذا الفعل من حكم وعلل ونحو ذلك، فيلحقها بأدلتها التفصيلية من الشريعة.
ويقول: (وحجة النحرير والحبر المجد) أشار إلى معاني المجتهد، وكأنه عرفه بأنه هو النحرير والحبر المجد، أي أن علم الأصول هو الحجة التي يعتمد عليها المجتهد، ونقول: إن الأدلة إما أن تكون أصولية، وإما أن تكون فرعية، فالأدلة الأصولية هي: أن يفهم الإنسان أن مرد هذا الأمر إلى هذه القاعدة سواء من الكتاب، أو من السنة، أو أيضاً من الإجماع، أو من القياس، ولدينا أدلة تفصيلية بذاتها في قضية بعينها، تستطيع أن تستدل بهذه الأدلة الفرعية التفصيلية، وتستطيع أن ترجع ذلك إلى القاعدة الكلية الأقوى، وذلك كحال الإنسان إذا أراد أن يستدل بحكم شرعي مثلاً بقتل القاتل، فإنه يستدل بالقواعد العامة كدرء المفاسد، أو المسلمون تتكافأ دماؤهم، لكن من جهة الدليل الخاص يستدل بقتل القاتل العمد من الكتاب ومن السنة، فالدليل التفصيلي هو أقوى من الدليل العام، وهذا يؤكد ما تقدم الإشارة إليه من أن ترقي الإنسان في معرفة الفروع بأدلتها حتى يصل إلى معرفة الأصول أقوى.
وينبغي للإنسان أن يعلم أن أخذه لعلم الأصول ينبغي أن يكون أخذاً يسيراً إذا ابتدأ بطريقة معرفة الفروع قبل معرفة الأصول، وذلك أيضاً يؤيده الأمر الفطري في الإنسان، فالإنسان كلما ابتدأ بعلم من العلوم فإنه ينشط في ابتدائه، ونشاطه في الفروع أولى من نشاطه بالأصول؛ لأنه إذا أخذ الأصول وتوسع فيها ضعف في أخذ الفرع، وإذا توسع في الفروع سهل عليه مجرد وضع الأصول؛ لأنه قد سبق تعلمه لهذه الفروع، وهذا من توفيق الله عز وجل للإنسان.
قال رحمه الله تعالى:
[ وهو المنادى في الزمان الأولدون الفروع عند ذي القدر العلي ]
الشريعة إنما هي فروع وأصول، ونستطيع أن نقول: إن فقه الشريعة على ثلاثة أنواع: أصول، وفروع، ومسائل فالأصول هي: القواعد، والمسائل هي: المسألة العينية بذاتها، كما نقول: الإشارة بالسبابة في الصلاة، أو الترجيع خلف المؤذن، ونحو ذلك، ولدينا قاعدة في الصلاة وهي دون الأصل، وهي ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) هذه قاعدة، ولكن هناك ما هو أولى من ذلك وهو اتباع النبي عليه الصلاة والسلام، وهي قاعدة عامة لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ[الأحزاب:21]،ففي أبواب الصلاة والزكاة والصيام والحج يكون الاقتداء بفعله، وهذا شريعة، وثمة رابط بينها وهي الأدلة، فهي الرابطة بين المسائل والفروع والأصول، وهي تتباين من جهة قوتها وضعفها، وكذلك أيضاً من جهة دقتها، أي عموماً وخصوصاً في المسألة المنظورة.
وأما قوله: (وهو المنادى في الزمان الأول) علم الأصول أصله ولبه منثور في كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه تستنبط تلك القواعد، وعلم الأصول إذا أردنا نشأته من جهة التأليف، فنقول: إنه نشأ في القرن الثاني، وإذا أردنا منشأه من جهة التطبيق والعمل، فهو موجود حال نزول الكتاب والسنة، فجاءت الشريعة بالأصول والفروع، لكنها جاءت بالفروع أكثر، وجاءت بالأصول أقل، ثم لما استقرت الشريعة جاء تقعيد الأصول حتى تصبح كالمظلات تظل تلك المسائل، فيفهم الإنسان المسائل، فيلحق تلك الأجناس المفترقة بتلك الفروع التي تبنى على تلك الأصول فتستظل بها.
وأول من صنف في ذلك هو الإمام الشافعي رحمه الله، فصنف كتابه الرسالة، وإنما سميت رسالة؛ لأنها رسالة لـعبد الرحمن بن مهدي، الذي طلب من الإمام الشافعي أن يصنف له كتاباً في هذا العلم، فصنف له هذه الرسالة، صنفها في أواخر القرن الثاني، وقد توفي الإمام الشافعي رحمه الله عام مائتين وأربعة للهجرة رحمه الله، وصنف بعد ذلك أئمة كثير، وللإمام أحمد رحمه الله رسالة أيضاً في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر القواعد العامة في أبواب الطاعة والامتثال، وثمة أيضاً رسالة في الأصول لـعيسى بن أبان، ثم أصبح كلام الشافعي رحمه الله عمدة للأئمة في القرن الثالث والرابع والخامس، ثم لما جاء القرن الخامس والسادس توسع الأئمة في التصنيف في أبواب الأصول على المذاهب الأربعة، وأصبح للعلماء في ذلك طريقتان مشهورتان: الطريقة الأولى: هي طريقة الجمهور، والطريقة الثانية: هي طريقة الأحناف، وثمة تباين بين هاتين الطريقتين، ويأتي الكلام عليها بإذن الله تعالى.
وكلما كان طالب العلم بصيراً بفقه الكتاب وفقه السنة وفقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أهل البصر بالأصول، ويظهر تقدم معرفة الفروع على الأصول وتميز طالب العلم بهذا الباب أن مدرسة المدينة هي أدق من مدرسة الكوفة؛ لأن مدرسة الكوفة أصولية نظرية أكثر من كونها تفصيلية بمعرفة المسائل بدليلها بعينها؛ لهذا وقعت المخالفة في مدرسة أهل الكوفة أكثر من مدرسة المدينة؛ لأن التأصيل لدى أهل المدينة أكثر ومعرفة الأدلة التفصيلية بأدلتها الشرعية أقل، ومعرفة الأدلة ومعرفة المسائل الشرعية الفرعية بأدلتها التفصيلية عند المدنيين أكثر، ومعرفة الأدلة الفرعية بأدلتها الأصولية أقل لديهم، فأصبحوا في ذلك أدق، فهم يلحقون المسائل الفرعية بالدليل العيني مباشرة من الكتاب والسنة، وأما أهل الكوفة فيلحقون المسألة بالقاعدة العامة، فوقع لديهم كثير من المخالفة لكلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا ظهرت الفتيا في فقهاء المدينة، سواء من الفقهاء السبعة، كـسعيد بن المسيب، وخارجة بن زيد، وعروة، والقاسم، وعبد الرحمن، وسليمان بن يسار وغيرهم، وظهر فقههم مع فقه المكيين، كـعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير، وعكرمة من المدنيين، وغيرهم، وفقه من كان من أهل الكوفة، كـعلقمة، والأسود، وأبي الأحوص، وإبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان، وأبي حنيفة ظهر فقه المدنيين على غيرهم؛ لأن هؤلاء أخذوا المدرسة التفصيلية، ثم بعد ذلك أخذوا بمعرفة القواعد الأصولية، ولهذا نجد أن أهل الحديث لديهم معرفة الأجزاء قبل معرفة الكل، وأهل الرأي لديهم معرفة الكل قبل معرفة الأجزاء، فاضطربوا في كثير من الأجزاء من وجوه لعدة أسباب:
السبب الأول: أن بعض الفروع تضطرب في إلحاقها بقاعدتين أو أصلين، فيضطرب الإنسان هل تلحق بهذه القاعدة أو بهذه القاعدة؟ فيلحقها تارة هنا وتارة هناك، وفيها دليل تفصيلي لو عرفه لحل لديه هذا الإشكال.
السبب الثاني: أن هذه المسألة فيها دليل صريح يستثني إدخالها في هذه القاعدة، وإذا عرف الإنسان القاعدة وجهل الدليل العيني ألحق الفرع بالأصل، وخالف في ذلك لجهله بالدليل؛ ولهذا نقول: إن الطريقة التي يأخذ بها الإنسان الفروع هي طريقة فيها نوع مشقة وكلفة، ويلزم منها القوة بمعرفة الأدلة، والاجتهاد، ومعرفة كل مسألة بدليلها، ثم بعد ذلك يأخذ في الأصول، وهذه فيها من الكلفة والمشقة ولكنها أيسر للإنسان وأسمح.
لهذا الذي يسلك هذه الطريقة عليه أن يأخذ المختصرات التي تعينه، كمثل هذه المنظومة، وكذلك بعض المختصرات في أبواب الأصول، ثم إذا أراد أن يتوسع في ذلك فلا حرج عليه؛ لأنه لو توسع قبل أن يعرف الأدلة التفصيلية للمسائل العينية يقع في شيء من تسلل الوهم إلى ذهنه في إدراج بعض الفروع في تلك القواعد التي لا تدخل تحتها كما تقدم.
وكذلك أيضاً إذا أخذ معرفة الفروع بأدلتها فإنه يعرف مواضع الخلل من إطلاقات بعض الأصوليين، والأصوليون لديهم إطلاقات تخالف الدليل، فيكون من أهل البصر فيها، وهذا لا يلغي نفع الأصول ومعرفتها؛ ولهذا وقع الخطأ عند كثير من الأصوليين في هذا الباب، وظهر ذلك؛ فتجد من أئمة الأصول إمام الحرمين الجويني رحمه الله وهو من الأصوليين النظار، ومن أئمة الفقه، لكن تنظر في دواوين الفقه التي يصنفها، وكذلك دواوين الأصول، فإذا أردت أن تحصي الأدلة التي يذكرها في كتابه لا تجد إلا عدداً محدوداً يستطيع الإنسان أن يحصيه، وهذا نوع من الخلل، وقد تأملت في بعض الكتب لإمام الحرمين الجويني رحمه الله وهي من أوسع مصنفاته في مذهب الشافعية يكاد الإنسان يمر على مجلدة كاملة ولا يلتمس في ذلك إلا أدلة يسيرة من العشرة إلى العشرين، وهذا فيه ما فيه من القصور، والسبب في ذلك هو التلقي والتمكن في أبواب الأصول ابتداء، فإذا جاء الإنسان لمسائل الفروع يأخذها على سبيل العجلة؛ لأنه استقر لديه ذلك من قبل.
وينبغي أن نعلم أن الإنسان إذا أخذ الأصول ربما إذا جاء إلى الفروع يأخذها على سبيل الاستعجال لا على سبيل التروي، كذلك أيضاً من السلبيات في ذلك أنه ربما طوع الأدلة للأصل مع مخالفتها له، والأولى أن يطوع القاعدة للدليل الواضح المحكم البين، كذلك أيضاً يضعف لديهم الاحتجاج بعمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر ظاهر، فيرون أن القاعدة أقوى من ذلك العمل، ولا يفرقون بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم القريبين والبعيدين عنه.
قال رحمه الله تعالى:
[ من ذاقه نال الأماني وازدهىفي روضه يجني ثمار المشتهى ]
يعني: من ذاق هذا العلم وتبصر فيه نال الأماني وازدهى، أي: حصل له المقصود على أيسر سبيل بسهولة تلقي تلك الفروع وإلحاقها بها، ونحن نقول: إن الأصل يتبعه الفرع، والغالب أن الفروع البينة التي تلحق الأصول لا تحتاج إلى فقه دقيق، وإنما الفقه الدقيق هو الفروع التي تخرج عن هذه القواعد، وهذا ما يشق على الإنسان استيعابه بمجرد معرفة القاعدة، فعلى الإنسان أن يكون من أهل العلم والمعرفة والتمكن في ذلك، وهذا ما قصده المصنف هنا أن طالب العلم يروم العلم، وإذا أخذ هذا العلم وتمكن منه فإنه ينال الأماني ويزدهي، والمراد بيزدهي هو: الابتهاج، وأن يكون الإنسان على مظهر حسن.
قال: (في روضه يجني ثمار المشتهى) يعني: أنه أخذ الثمار اليانعة، وقطفها قبل غيرها.
قال رحمه الله تعالى:
[ لكن أهل عصرنا قد أضربواعنه فكادوا عن سناه يحجبوا ]
الناس في معرفة الأصول طرفين ووسط:
الطرف الأول: هم الذين يغلون في معرفته، فيؤثر ذلك على معرفتهم في أجزاء الأدلة، وأعيانها، ومعرفة المسائل التفصيلية بأدلتها التفصيلية أيضاً، وهذا هو الغالب على كثير ممن سلك هذا الطريق، وهي طريقة خاطئة، ويؤثر ذلك على كثير من المعاني، سواء في أبواب الفقه أو في غيرها؛ ولهذا نجد أن أكثر المتكلمين في أبواب الأصول لديهم أخطاء كثيرة في أبواب العقائد، والسبب في هذا أن مسائل العقائد تحتاج إلى معرفة تفصيلية لكل مسألة بعينها؛ لأنها لا تقبل القياس، وإنما تثبت كل مسألة بعينها بدليلها، وإجراء القياس عليها فيه ما فيه، ومخالف لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح.
الطرف الثاني: هم الذين جفوا هذا العلم، وهذا نوع تقصير أيضاً، فالإنسان مهما استوعب الأدلة من الكتاب والسنة، وحفظها وألحق المسائل بها ينبغي أن يعرف الأصول؛ لأنه ربما يستجد لديه بعض النوازل التي لا يستطيع الإنسان أن يلحقها بدليل معين، فلا بد لديه من قاعدة، فالقواعد الأصولية تنفع طالب العلم الذي تعلم الفروع بأدلتها في النوازل أكثر من المسائل التي دل الدليل عليها بعينها، ونحن نرى في زماننا كثرة النوازل في العبادات فضلاً عن المعاملات، فمثلاً: الصلوات، نجد من النوازل فيها الصلاة في الطائرة، وكذلك الذي يغمى عليه دهراً طويلاً، وهذا لم يكن معلوماً في الزمن السابق، في الزمن السابق يغمى على الإنسان يوم ويومان، ولا يستطيع الناس أن يطعموه فيموت، ولكن في زماننا يوضع المغذي فيه، ويعيش سنة وسنتين وثلاث سنوات وتبقى الأحكام المترتبة على هذا.
كذلك النوازل في أبواب الطهارة في المياه التي تنقى وتصفى، وهي من مياه المجاري ونحو ذلك، وكذلك أيضاً في الحج من المسائل الكثيرة في المراكب الحديثة، وكذلك أيضاً بعض الألبسة الحديثة، وكذلك أيضاً في الإحرام من محاذاة الميقات في الطائرة وغير ذلك.
وكذلك أيضاً في الصيام نوازل كثيرة جداً تطرأ على الإنسان في المفطرات في الحقن، في التبرع بالدم، وكذلك قطرات العين، قطرات الأذن، وكذلك دهان الإنسان أو تغذيته عن طريق الجلد من ترطيبها، وكذلك الأبخرة التي يستنشقها الإنسان وغير ذلك.
فكثير من النوازل يحتاج الإنسان إلى معرفة أصل لها يلحقها به، وإذا أراد الإنسان أن يعرف مسألة بعينها لا يمكن إلحاقها بذلك الأصل إلا بمعرفة تلك القاعدة، والتفريط في هذا العلم قصور، والتوسط في هذا أن يأخذ الإنسان من أصول الفقه ما يعينه على معرفة النوازل الحادثة، ولا يسد مسد الأدلة الخاصة للمسائل المعينة، فيعرف المسائل المعينة بأدلتها الخاصة، وتغنيه هذه القواعد بمعرفة النوازل، وكذلك أيضاً يكون بذلك من أهل التبصر بمعرفة القواعد بنوعيها.
ومعلوم أن القواعد الأصولية على أقسام، وهذه الأقسام على اعتبارين:
الأول من جهة شمولها وعدم شمولها، ومعلوم أن لدينا قواعد كلية عامة شاملة للشريعة، كقاعدة: اليقين لا يزول بالشك، أو قاعدة المشقة تجلب التيسير، ولدينا قواعد ليست شاملة، وإنما هي لأبواب دون أبواب، وهذا ربما يقع في بعض القواعد ولا يقع في قواعد أخرى بحسب رأي الفقيه.
وباعتبار آخر قواعد قوية وقواعد ضعيفة، وإنما قلنا: قواعد قوية وقواعد ضعيفة؛ لأن الاستثناء إذا طرأ على القاعدة وكثر ضعفت القاعدة، وهذا كما أنه في أصول الفقه كذلك في أصول الحديث وأصول اللغة، وإذا قلنا: إن هذه القاعدة الأصولية لديها استثناء، والاستثناء في القواعد ينبغي أن يكون قليلاً، وكلما قل الاستثناء لهذه القاعدة أصبحت القاعدة قوية، وإذا كان الاستثناء لها كثير بدأت تضعف هذه القاعدة.
قال رحمه الله تعالى:
[ واستعذبوا موارد التقليدفأبعدوا عن مواطن التأييد ]
هنا يظهر من المصنف رحمه الله أنه يشير إلى أن معرفة أصول الفقه هي ضد التقليد، وأن من استعذب التقليد فقد ترك أصول الفقه، ومن أخذ بأصول الفقه فإنه يتخلى أو يتجرد من التقليد، وهذا أراد به التغليب وأن من أخذ أصول الفقه يلزم من ذلك أنه يعرف الأدلة الخاصة والأدلة العامة، وإذا كان على هذا المعنى فالمعنى صحيح، وإذا كان المراد بذلك أن من عرف القاعدة العامة ولم يعرف الدليل المخصوص لمسائل معينة أنه من أهل الاجتهاد وليس من أهل التقليد فهذا ليس بصحيح، فلا بد من معرفة الأدلة الخاصة التي يعرف بها الإنسان الاستثناء، ولا يضطرب عند تنازع قاعدتين لمسألة نازلة؛ ولهذا نقول: إن المجتهد لا يمكن أن يكون مجتهداً إلا وقد عرف أصول الفقه على الطريقة التي تبصره بمعرفة النوازل، ولا يلزم من ذلك معرفة المسائل الشرعية المخصوصة؛ لأن مردها إلى معرفة الدليل بعينه، فإذا عرف الدليل بعينه أغناه ذلك عن إلحاقها بالقاعدة، ولو ألحقها بالقاعدة زيادة على الدليل المخصوص كان من أهل التمكن والتبصر.
والمقلد: هو الذي يتجرد من معرفة الدليل بالكلية، ومعلوم أن الأدلة تتباين عند الفقهاء، منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو عليه عامة العلماء، فيتفق العلماء على أربعة أدلة:
أولها: الكتاب، وهو القرآن الكريم.
الثاني: سنة النبي عليه الصلاة والسلام الصحيحة الثابتة عنه.
الثالث: الإجماع، فإذا صح الإجماع وجب القول به، وأعلى الإجماع وأقواه هو إجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله كما نقله عنه القاضي ابن أبي يعلى في الطبقات: الإجماع إجماع الصحابة، ومن بعدهم تبع لهم، والإجماع هو: أن تجتمع أمة محمد عليه الصلاة والسلام على قول من غير خلاف سابق، ولا عبرة بالخلاف اللاحق، فإذا أجمعت الأمة على قول فقد تحقق الإجماع ووجب المصير إليه.
الرابع: القياس، وهو على أنواع، يقول ببعض أنواعه حتى ابن حزم وهو قياس الأولى، ابن حزم لا يرد جميع أنواع القياس، وإنما يرد قياس المثل والشبه، فضلاً عما دونه، وأما قياس الأولى فيأخذ به رحمه الله، وعامة العلماء يأخذون بالقياس، وثمة قواعد من الأدلة هي محل خلاف من جهة القبول ابتداء وتناولها كقاعدة أو دليل، ومن جهة القوة والضعف، كالمصالح المرسلة، والاستحسان، وقول الصحابي، والعرف، وغير ذلك، فهذه قواعد مختلف فيها، ويأتي الكلام عليه بإذن الله تعالى.
قال رحمه الله تعالى:
[ من أجل ذا أحببت أني أنظمنظماً لطيفاً ليس فيه معجم ]
يقول: (من أجل ذا) إشارة أن مقصوده رحمه الله في التأليف زهد الناس، وهذا ما ينبغي أن يكون العالم عليه فيكون متبصراً بأحوال أهل العصر لا أن يكون مصنفاً أو كاتباً أو قائلاً لزمن لا يعلم حاله؛ ولهذا نقول: إن العالم يتكلم في حاجة أهل زمنه؛ لأن التكليف قد وقع عليه بحسب حالهم، والعالم هو الوريث الصحيح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يلزم منه يقظة بمعرفة أحوال المخاطبين، وموضع التمام لديهم وموضع القصور، وهنا أشار إلى سبب كتابته لهذه المنظومة، وهو أن الناس قد انصرفوا عن علم الأصول، وزهدوا فيه، واستعذبوا التقليد، قال: (من أجل ذا أحببت أني أنظمنظماً لطيفاً ليس فيه معجم)،والإعجام من العجمة، وهو الكلام غير المفهوم؛ ولهذا يقال في الكلام غير المفهوم: استعجم علي هذا المعنى، أي: لم استطع فهمه، وهذا الكلام الأعجمي الذي لا يفهم على أي لغة كان، سواء كان بالسريانية، أو كان بالإنجليزية أو غيرها، فهذا يسمى كلاماً معجماً.
وقوله: (نظماً لطيفاً) إشارة إلى يسر معانية وتراكيبه وألفاظه، وهذا الكتاب نظمه المصنف رحمه الله بمعرفته بالأصول، وهو من الحذاق النظار في باب معرفة أصول الفقه، وربما استفاد من بعض المصنفات في هذا الباب، سواء في المذهب أو في غيره.
قال رحمه الله تعالى:
[ إذ هذه الأيام تقضي بالمللمن سوء حظ وارتكاب للزلل
لا سيما الوقت لنا قد عاندافي كل أمر من مرادي باعدا ]
الأيام لا تقضي بذاتها، وإنما الذي يقضي هو الله سبحانه وتعالى، ولكن هنا على سبيل التجوز باعتبار أنها سبب جعلها الله عز وجل تدور بالإنسان، ويجوز أن يلحق الإنسان الشيء بالسبب على سبيل التجوز مع بيان الإقرار بأنه سبب؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيح: ( لعن الله من سب أباه، قالوا: يا رسول الله! أيسب الرجل أباه؟ قال: نعم، يسب الرجل أبا الرجل، فيسب الرجل أباه ) يعني: أنه تسبب بسب فلان لأبيه فأصبح كالساب، وهذا ساب.
يقول: (إذ هذه الأيام تقضي بالملل) والمراد بالملل: السآمة من نمط معين يريده الناس، لهذا ينبغي للإنسان ألا يسير مسايرة للناس، وإنما يسير مع الحق، والإنسان إذا حمل بين جوارحه الحق، وساير الناس، فإنه لابد أن يحمله الحق الذي بين جوارحه على الملل من هذا الطريق الذي عليه العامة.
قال:
(إذ هذه الأيام تقضي بالمللمن سوء حظ وارتكاب للزلل)
والحظ قد ذكره الله سبحانه وتعالى، وأقره في كتابه العظيم، فلا حرج على الإنسان أن يقول: فلان حظه عظيم، ونحو ذلك؛ لأن الله عز وجل أعطاه أو منعه من الشر ونحو ذلك، وفي قوله: (من سوء حظ وارتكاب للزلل) إقرار أن الناس انشغلوا بأنفسهم، وانصرفوا عن الحق، وارتكبوا المخالفات وكان حظهم في ذلك خاطئاً أو سيئاً، وفيه أيضاً إقرار المصنف بما يقر به سائر بني آدم من الذنب والزلل، ومخالفة أمر الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (لا سيما الوقت لنا قد عاندافي كل أمر من مرادي باعدا)، وذلك أن الزمن لا يجري على هوى الإنسان، وإنما الله سبحانه وتعالى يصير الليل والنهار، ويقدر الأشياء أحبه الإنسان أو لم يحبه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرص على أشياء لم تتحقق، فقد حرص عليه الصلاة والسلام على دعوة عمه أبي طالب حرصاً ما حرص على أحد مثله، ومع ذلك ما هداه الله عز وجل للإسلام، وأنزل الله عز وجل عليه قوله جل وعلا: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ[القصص:56] أي: أن على الإنسان أن يبذل الوسع، وليس عليه النتائج، ومن الخطأ أن يقيس الإنسان صحة السبيل بصحة نتائجه، فقد يصح طريقك وأنت على الحق، ولكن الله عز وجل لا يعطيك النتيجة، وقد تذهب وتدعو الناس إلى الحق، وتؤلف وتصنف، ولكن لا ينتفع الناس بها، فهذا لا يعني أنك على الباطل، بل إنك على الحق، والله عز وجل قد جعل ممن هم أشرف منك وهم الأنبياء من ليس له أتباع؛ ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( يأتي النبي يوم القيامة ومعه الرجل، ويأتي النبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد ) إذاً: النتيجة من الله سبحانه وتعالى، وعلى الإنسان السبيل، وأعظم ما يجعل الإنسان يحيد عن طريق الحق أنه ينظر إلى النتائج ويبطل بها الأسباب ولو كانت صحيحة، وهذا من الخطأ، فيبحث عن أسباب أخرى، وهذا السبيل انتكاسة كثير من الصالحين والدعاة والعلماء.
قال رحمه الله تعالى:
[ فدونك رشف الشُمول حبذاعلم الأصول المنتقى والمحتذى ]
يقول: (فدونك رشف الشَمول حبذا) الرشف: ما تقدم الكلام عليه وهو شرب الماء القليل، والشَمول المراد به: الماء الذي هبت عليه رياح الشمال فأصبح بارداً، إشارة إلى أنه بارد وطيب، ولكنه أيضاً قليل، يأخذه الإنسان بيسر، وهذا أشار إليه في قوله: (علم الأصول المنتقى والمحتذى) المنتقى يعني: منتقى من مصنفات، ففيه إشارة إلى أن المصنف رحمه الله انتقى هذا الكتاب من كتب أخرى، ويظهر أن منها مصنف إمام الحرمين الجويني، وهو الورقات وغيره، أيضاً قال: (المحتذى) أي: الذي أخذت منه ما ينبغي أن أقدمه لغيره فيحذى، أي: فيهدى، وكذلك أيضاً يقتفى من جهة الأثر، وكذلك أيضاً فإن هذه المسائل التي يوردها قد سلك الاقتداء والاهتداء بها الأئمة على اختلاف الأزمنة، وكأنه أراد هنا أن يذكر من القواعد الأصولية ما هي محل اتفاق.
قال رحمه الله تعالى:
[ ففي الذي ذكرته كفايةفاسمع مقالي يا أخا الدراية ]
في قوله: (ففي الذي ذكرته كفاية) يعني: ما أذكره في هذا الكتاب، وهنا يظهر أن المصنف رحمه الله إنما ذكر مقدمة هذه المنظومة بعد أن ذكر المنظومة، فوضع لها تتويجاً بهذه البداية؛ ولهذا قال: (ففي الذي ذكرته كفاية فاسمع مقالي يا أخا الدراية) وهذا ما تقدم الإشارة إليه وأن الناس في علم أصول الفقه على أنحاء طرفان ووسط، ومنهم من يأخذ الكفاية وزيادة، والأخذ بالزيادة هو على حساب معرفة الأدلة في المسائل الخاصة، ومنهم من يزهد في هذا، والكفاية في ذلك هي ما أشار إليها المصنف بقوله: (ففي الذي ذكرته كفاية) يعني: اكتفاء وغناية، وكذلك أيضاً لسد لحاجة الإنسان.
قال: (فاسمع مقالي يا أخا الدراية) هذا فيه شحن لهمة الإنسان وهو أسلوب قرآني أن يقول للإنسان، إذا أراد أن يتكلم معه: اسمع، يعني: أريد أن أتكلم معك في أمر مهم، قال الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ[الحج:73]، لهذا ينبغي للإنسان إذا أراد أن يخاطب أحداً أن يقول: اسمع، إشارة إلى ألا ينصرف ذهنك لأني أريد أن ادخل في تفصيل مهم ينبغي أن تتأمل، وهذا منهج النبي عليه الصلاة والسلام، وقد جاء في البخاري من حديث أبي زرعة عن جرير بن عبد الله أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( استنصت الناس ) يعني: اذهب إليهم وقل لهم: أن يسكتوا حتى يسمعوا لكلامي الذي أريد أن أتكلم للناس.
وفيه إشارة إلى أنه لا ينبغي للإنسان أن يتحدث عند من لا يسمع، بل ينبغي أن يسمعه وأن يشحذ همته أيضاً، وهذا أسلوب قرآني ونبوي من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: (يا أخا الدراية) إشارة إلى اللطف والرحمة والمودة، وأن الدافع لمثل هذا هو الأخوة الإيمانية، والدراية: هي العلم والمعرفة، والمراد بالدراية هنا هو قاصد العلم، فإن مثل هذا التصنيف لا يصنف لمن هو يزهد فيه ممن هو عالم به، وربما أراد بقوله: (يا أخا الدراية) أي: الأخ الذي في العلم، وقاصد المعرفة، فإني أقصدك بهذا النوع من العلم.
نكتفي بهذا القدر، ونكمل غداً بإذن الله عز وجل، أسأل الله عز وجل لي ولكم التوفيق والإعانة والتسديد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
السؤال: [ما الفرق بين المقلد والمتبع؟]
الجواب: المتبع قد يكون مقلداً، وقد يكون غير مقلد، وقد يكون مجتهداً؛ لأن كل متبع هو مهتدٍ برسول الله صلى الله عليه وسلم، أي موافق للدليل، والمقلد قد يوافق وقد لا يوافق، فالمتبع أشرف من المقلد وأهدى، والمقلد أبعد عنه في أبواب الاتباع، فقد يصيب وقد يخطئ، والمتبع قد يكون مجتهداً، وقد يكون مقلداً، والمقلد لا يكون مجتهداً، وقد يكون متبعاً.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح منظومة رشف الشمول في أصول الفقه لابن بدران [1] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
https://audio.islamweb.net