اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير آيات الأحكام [6] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
تقدم معنا آية لم نتكلم عليها وفيها شيء من الاستنباط يدل على معنى فقهي، وهي قول الله جل وعلا: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100].
هذه الآية تجاوزناها وفيها معنى لو تأملناه نجده دقيقاً, وهو: ما يتعلق بالعهد والميثاق إذا كان بين جماعتين أو عقده المسلمون مع جماعة من الكفار, ونقض هذا العهد طائفة أو فريق منهم ولم ينقضه الجميع؛ فإنه يعتبر لاغياً بجميعه، وهذا ظاهر في قول الله جل وعلا في ذكره لحال أهل الكتاب حيث قال: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100]، يعني: لم ينبذوه جميعاً وإنما نبذه فريق منهم, فأخذ الله جل وعلا اليهود كلهم بسبب هذا النقض الذي وقع فيه فريق منهم، والله سبحانه وتعالى ذكر في هذه الآية عادة أهل الكتاب, وذلك بنقضهم للعهود, وخاصة اليهود, فإنهم معروفون بنقض العهود والمواثيق، ولهذا بين الله جل وعلا أخذه الميثاق عليهم في مواضع عديدة، ومن ذلك الإقرار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157]، فبين الله سبحانه وتعالى حال محمد في كتابهم على أمور متعددة، منها: حال التشريع الذي يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم, والرسالة التي يأتي بها, ومن ذلك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وكذلك التشريعات بإحلال الطيبات وتحريم الخبائث، ومعنى: يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157] أي: أن الله جل وعلا جعل شريعة محمد رحمة وليست عقاباً بخلاف شريعة أهل الكتاب، ففيها الرحمة وفيها العقاب لهم, ولهذا امتازت هذه الشريعة عن شريعة بني إسرائيل أن الله عز وجل لا يحرم على المسلمين شيئاً عقوبة لهم كما يحرم على اليهود والنصارى شيئاً عقوبة لهم، حين حرم الله عز وجل عليهم الشحوم وبعض الأنعام ونحو ذلك، فهذه من الطيبات التي حرمها الله عز وجل عليهم عقوبة لهم, ولكن بين الله سبحانه وتعالى أن محمد صلى الله عليه وسلم يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث, فليس في شريعته عقوبة لأحد، وهذا مما بين الله عز وجل لأهل الكتاب حال رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك ببيان شريعته.
وكذلك أنه يرفع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم مما كان عليهم من التكاليف والتشديدات السابقة التي كانت بسبب ذنوبهم، مما فرضه الله عز وجل عليهم عقوبة وزجراً وتأديباً، وكذلك مما بينه الله عز وجل لهم صفات النبي عليه الصلاة والسلام في ذاته، ومن ذلك اسمه فإن عيسى عليه السلام بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم بنبي يأتي بعده, اسمه أحمد, وهذا من العلامات الظاهرة البينة، فإذا اقترنت معرفة الشريعة باسم المشرع فإن هذا من الدلالات الظاهرة على معرفته.
وهذا النقض الذي ذكره الله عز وجل أول من نقضه هو مالك بن الضيف كما رواه ابن جرير الطبري في كتابه التفسير من حديث عكرمة أو سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس أن مالكاً وكان من اليهود ذُهب إليه وأُخبر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأن الله عز وجل أخذ على بني إسرائيل وعلى اليهود خاصة العهد والميثاق أن يؤمنوا بمحمد إذا بعث فيهم, فقالوا: ما أخذ الله عز وجل علينا عهداً أن نؤمن لنبي, فنقض مالك هذا الميثاق, فجعل الله عز وجل النقض لليهود, واستحقوا اللعنة على سبيل العموم، ولهذا قال الله جل وعلا: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا [البقرة:100]، أي: عاهدوا الله سبحانه وتعالى, نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100], أي: الذي نقضه هو واحد وتبعه ربما أفراد, فجعل الله عز وجل النقض على سبيل العموم.
وهذا فيه إشارة إلى شدة عناد بني إسرائيل وخاصة اليهود، فإن اليهود نقضة للعهود, ويلبسون الحق بالباطل ويشتركون مع النصارى في إخفاء نبوة محمد صلى الله عليه وسلم على التغليب, ويجمعهم في ذلك الكبر, ولهذا لما ناداهم الله عز وجل في آيات سبقت في قول الله جل وعلا: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:40]، قال الله بعد ذلك بآية وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]، وما يكتمونه من الحق هو رسالة محمد صلى الله عليه وسلم, كما جاء عند ابن جرير و ابن أبي حاتم من حديث مجاهد بن جبر , قال: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]، تكتمون نبوة محمد وأنتم تعلمون, أي: تقرون بها، وجاء تفسير ذلك عن جماعة كـعكرمة و سعيد بن جبير و قتادة وغيرهم من المفسرين, أي: أنهم ممن يكتمون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا الأمر فيه جملة من المسائل:
منها: أنه لا حرج على المسلمين جماعة وأفراداً وقادة أن يتعاهدوا مع أي فئة حتى لو عرفت بنقض العهود إذا كان في هذا العهد أمان للمسلمين, وذلك للمصلحة العامة لا لمصلحة الأفراد، فإذا كان كذلك فإن هذا من الأمور الجائزة.
فالله سبحانه وتعالى قد أخذ الميثاق على بني إسرائيل وهو يعلم حالهم جل وعلا, وكذلك يعلم ما نقضوه من العهود لأنبيائهم عليهم الصلاة والسلام, فالله عز وجل قد جعل عيسى وهو السابق لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم, فإنه جاء بعد موسى, فكان موسى يأخذ العهد على من كان بعده بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم, ثم نقضوا نبوة موسى ونقضوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي عيسى ولم يؤمنوا بشيء من ذلك، فلما جاء عيسى فبشرهم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم, وأخذ الله عز وجل عليهم عهداً بعد نقضهم ذلك، ولهذا نقول: إذا أراد المسلمون أن يأخذوا عهداً وميثاقاً على جماعة عرفت بنقض العهود أنه لا حرج عليهم في ذلك.
كذلك لا حرج على الإنسان أن يتعاقد مع غيره ممن عرف بالتدليس والخداع والخيانة ونحو ذلك أن يبتاع منه شيئاً, ولكن في هذا يجب عليه أن يحتاط, وأن يشدد في الشروط كما شدد الله عز وجل على بني إسرائيل حتى يحمي أمره فلا يفرط في هذا وهذا, إذا كان هناك مصلحة له, ولهذا الله عز وجل أخذ الميثاق على بني إسرائيل وشدد عليهم ذلك لأمور متعددة، ومن هذه الأمور التي تدل على أن العهد والعقد إذا كان مع أمة طاغية معروفة بالخداع والتدليس وكتمان الحق جائز إذا كان لصالح المسلمين وصالح العامة، كما أخذه الله على بني إسرائيل، دليل ذلك: أن أهل الكتاب -وهذا من أسباب أخذ العهد على بني إسرائيل- وخاصة اليهود مع كونهم من الظلمة ومن المعروفين بنقض العهد قبل ذلك.
أول هذه الأمور: أن بني إسرائيل معروفون بأنهم أهل كتاب, بخلاف الوثنيين وغيرهم, والله عز وجل قد بعث موسى وعيسى إلى قومهم خاصة, وهم آخر الأمم عهداً بخبر السماء, بخلاف غيرهم من الصابئة وغيرهم, الذين كانوا أصحاب كتاب قديم, فإن التدليس والتبديل طرأ عليهم قديماً فبدلت الشريعة ولم يبق فيها من الصحيح إلا أقل مما بقي من رسالة بني إسرائيل من اليهود والنصارى, فهم ينظرون ويتيمنون باليهود, ولهذا كان من كان في المدينة من أهلها هم الأوس والخزرج, ومن كان في المدنية من أهل الكتاب اليهود, ولا يوجد في المدينة نصارى, وإنما يوجد فيها بنو النضير وبنو قريظة، وبنو النضير وبنو قريظة تنافروا قبل الإسلام، فأصبح بنو قريظة حلفاء للأوس وبنو النضير حلفاء للخزرج, فتحالفوا فيما بينهم, وكل منهم يتيمن بالآخر، تيمن الأوس ببني قريظة، وتيمن الخزرج ببني النضير؛ لأنهم أصحاب كتاب.
إذاً: الوثنيون -وهم ما كان عليه الأوس والخزرج- هؤلاء ينظرون إلى أهل الكتاب هل يتبعون محمداً أم لا؟ ولهذا شدد الله عليهم؛ لأن عدم إيمانهم بمحمد فتنة لغيرهم، ولهذا اهتم الله عز وجل بأخذ الميثاق على بني إسرائيل تشديداً عليهم، وفي هذا من الأمور أنه ينبغي للإنسان أن يشدد الأمر ويوثقه على من يقتدى به؛ خشية أن يزل فيزل معه الناس, ولهذا الله عز وجل أخذ الميثاق على اليهود أكثر من أن يأخذه على النصارى؛ لأنهم أكثر الناس نقضاً للعهود، وكذلك أكثر الناس تحريفاً لكلام الله سبحانه وتعالى بالمعنى، وتحريف المعنى أعظم وقعاً من تحريف اللفظ كما تقدمت الإشارة إليه, ولهذا شدد الله عز وجل عليهم في ذلك؛ لأن في عدم إيمانهم بمحمد فتنة لغيرهم, ولهذا دخل أفواج النصارى فتبعهم في ذلك خلق كثير من المشركين من الوثنيين وغيرهم؛ لأنهم كانوا يتيمنون بهم في هذا, ويكفي في هذا أن الأوس والخزرج كانوا في الجاهلية إذا ولدت المرأة منهم بطناً يضعونه مسترضعاً عند نساء اليهود؛ تيمناً بما هم عليه، وهذا فيه من التأكيد على من يقتدى به في الأمر أن يلتفت إليه, وكذلك أن يوعظ وأن يذكر وأن يخوف بالله عز وجل؛ لأن الناس يقتدون به, وينبغي أيضاً أن توضح له البينات أكثر من غيره كما وضح الله عز وجل ذلك لبني إسرائيل, فكان عند بني إسرائيل من أخبار محمد صلى الله عليه وسلم ما لا يوجد عند قوم محمد عليه الصلاة والسلام من كفار قريش من العلم أو القرائن ونحو ذلك مما يعلمونه من أمره، وإنما يعلم من أمره من لديه شيء من بقايا الكتاب من النصارى كـورقة بن نوفل ونحو ذلك, ولديهم شيء من هذا النور مما يخبرون به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أماراته، ولهذا تجد اليهود والنصارى لديهم علم بحال محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من قوم محمد عليه الصلاة والسلام, فكانت الفتنة في عدم إيمانهم أعظم من الفتنة في عدم إيمان قوم محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بأمر من التشريع, وأمر التشريع مرده إلى قرائن التشريع لا قرائن القبيلة والنسب والطبائع ونحو ذلك, فيرجع فيها إلى كفار قريش، ولما نقض فريق من اليهود العهد الذي أخذه الله عز وجل عليهم، جعل الله عز وجل اللعنة عليهم؛ وذلك لقرائن كما في قوله سبحانه وتعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100]، فبين الله سبحانه وتعالى مع أن الناقضة فريق منهم بين أن أكثرهم تبع لذلك لسكوتهم عن ذلك الناقض, وهذا فيه إشارة إلى مسألة فقهية؛ وهي: أن المسلمين يجوز لهم أن يعاهدوا وأن يعاقدوا غيرهم ولو عرفوا بالنقض شريطة أن تكون الشروط صحيحة في ذلك؛ وإذا نقض فريق من أولئك المعاهدين والمعاقدين ولو قلوا أن ذلك الشرط باطل؛ لأدلة منها:
أولها: هذه الآية حيث أن الله عز وجل جعل أولئك الفريق الذين نقضوا العهد حاملاً على كفر أكثرهم ممن بلغه ذلك النقض وسكت على ذلك.
الأمر الثاني: أن الجماعة إذا تعاهدوا مع المسلمين على أمر من الأمور أو صلح من أنواع الصلح الذي في صالح المسلمين ثم نقضه جماعة قليلة منهم فقالوا: لا نقر بذلك العهد الذي وقعناه فيما سبق ولو قلوا, فيقال: إن هذا العقد لاغ بتمامه؛ لأن معرفة المسلمين من نقض ولم ينقض فيه مشقة, وربما يتخذه الأعداء حيلة, فكل من فعل مكيدة بالمسلمين أو تجسس عليهم أو آذى ولياً من أولياء المسلمين أو أعان عدواً للمسلمين على المسلمين قالوا: إن ذلك ليس ممن وافق على العهد وإنما من غيرهم, فتبدأ الضراء على المسلمين شيئاً فشيئاً حتى يهزم المسلمون، ولهذا نقول: إن الفئة القليلة إذا نقضت العهد من جماعة كثيرة قد أخذ عليها العهد فإنها ناقضة للعهد كله.
الأمر الثالث: أن هؤلاء من جملة المتعاقدين من الطرف الآخر, فإذا نقضوا ذلك العهد والميثاق كمن نقضه أو لم يوقعه أو يبايع عليه عند إنشائه, وهذا نظير العقود في أمور المعاملات، إذا تعاقد جماعة على شيء ثم جعلوا ذلك الشرط على الخيار, فيكون مثلاً خمسة لهم بستان أو أرض أو ماشية لهم فيها شرك وباعوها على واحد أو على جماعة وكان الأمر بينهم على الخيار لمدة شهر, فرفض واحد منهم أن يبيع بعد ذلك, فإنه حينئذ يقال: إن البيع لاغ ولو وافق البقية حتى ينفصل البقية عن ذلك الشخص أو ينفصل ذلك الشخص عنهم بماله, ثم بعد ذلك يقال بصحة إنشاء عقد جديد.
يستثنى من هذا أن الجماعة إذا عاهدت المسلمين والذين نقضوا انفصلوا عنهم أو الذين لم ينقضوا انفصلوا عن الذين نقضوا فإن هذا من الأمور الجائزة.
ودليل ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام أجلى بني النضير لما قدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة قبل أن يجلي عليه الصلاة والسلام بني قريظة, وأبقى بنو قريظة مع كونهم حلفاء لبني النضير من وجه على أمرهم ولم يخرجوا مع بني النضير, فمن كان من بني قريظة مما يخالف الذين أجلاهم النبي عليه الصلاة والسلام انفكوا عنهم وبقوا في المدينة فأقرهم النبي عليه الصلاة والسلام على ما بقوا عليه, فكان ذلك إقراراً لهم، وأن عدم التزام بني النضير بالعهد والميثاق الذي أخذه النبي عليه الصلاة والسلام على اليهود جميعاً ما جعله ناقضاً لعهد يهود كلهم لانفصال بني النضير عن بني قريظة، فلما خان بنو قريظة النبي صلى الله عليه وسلم قتل النبي عليه الصلاة والسلام رجالهم وسبى نسائهم وأخذ أموالهم غنيمة للمسلمين، إلا أن بعض بني قريظة آووا إلى المسلمين ولم يكونوا مع من خان، فأمنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك, وهل هو عهد بين المسلمين وغيرهم من الكفار على سبيل العموم؟ نقول: هو على سبيل العموم، فالحلفاء فيما بينهم عهدهم واحد ولو تعاهدت فئة دون أخرى, فإذا كان ثمة دولتان أو فئتان متحالفتان فيما بينهما, وهذا التحالف يعني أن كل عداء لطائفة هو عداء للأخرى, وكل عقد مع طائفة تلتزم به الأخرى فتعاقد المسلمون مع فئة واحدة من الاثنتين, ثم نقض العهد فئة أخرى لم يعقد معها المسلمون فإن النقض ينتقل إلى المعاهدة، ويكون حكم ما يكون عليه أولئك من أخذ أموالهم وسبي نسائهم وقتل رجالهم على السواء؛ لأنهم حلفاء لهم على حد سواء، والتزموا فيما بينهم فكان دمهم واحد, ويؤيد هذا ما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث ابن المهلب عن عمران بن حصين أنه قال: ( كانت بنو ثقيف حلفاء لبني عقيل فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم منهم رجلاً وأخذ ناقته وتسمى العضباء فحبس, فقال: يا رسول الله بم أخذتني؟ فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أخذناك بجريرة قومك ), مع إنهم حلفاء ولم يكونوا منهم أصلاً, وسبب ذلك أنه أسر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين, ففدى النبي عليه الصلاة والسلام ذلك الرجل بهاذين الرجلين، ولهذا نقول: إن التحالف في ذلك إذا كان ثمة دول متحالفة وأن التزام دولة يلزم دولة أخرى أو فئة والتزام جماعة تلتزم به الأخرى فتعاهد أحد المسلمين مع جماعة واحدة ولم يتعاهدوا مع البقية فإنه شامل لهم, فإذا خانت واحدة من الحلفاء ذلك الأصل فإن النقض يجري على العموم, وهذا ظاهر في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل الكتاب، وفي هذه الآية حمل الله عز وجل اليهود جميعاً النقض مع أن الذي بدأ بالنقض واحد.
ومن القرائن والأدلة في هذا أن الله سبحانه وتعالى جعل الذي يسمع الباطل وسكت كالمبطل في نفسه، فالله عز وجل جعل من الذين هادوا سماعون للكذب أكالون للسحت، والذي يسمع الكذب يسب ولم يتكلم؛ لأنه سمع الكذب في وقت يلزمه أن يوافق أو يخالف, فسكت فدل على الموافقة، فدل على أنهم إن سمعوا الكذب وهم ملزمون بالموافقة أو المخالفة أنه يجب عليهم أن يتكلموا وإلا فهم مذمومون، وهذا محل مؤاخذة اليهود, أنهم سكتوا عن ذلك الناقض لذلك العهد والميثاق، فجعلهم الله عز وجل على حد سواء، وفي هذا أيضاً حديث عمران بن حصين : أن النافر من الجماعة المناقضة الخارج منهم وولاؤه لهم ولو لم يكن في بلدهم أن حكمه وحكمهم على حد سواء، ولهذا جاء في حديث عمران بن حصين عليه رضوان الله تعالى في الرجل الذي أسر أنه لم يكن في جماعتهم ولا في أرضهم وإنما جاء عابراً, فلما رؤي في طريق أُخذ، فأخذه النبي عليه الصلاة والسلام بجريرة قومه ولم يرتكب هو جريرة بنفسه، هذا في حال المؤمنين مع المشركين.
وأما بالنسبة للعهود التي يأخذها المسلمون فيما بينهم فإنه لا يؤاخذ أحد بجريرة قومه، فإذا تحالف جماعة أو عائلة أو قبيلة أو نحو ذلك فلا يؤاخذ فرد منهم لم يرتكب فعلاً بفعل قبيلته؛ لأن هذا ليس في أمر المسلمين، وقد روى الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث أبي النضر عن رجل من بني تميم ( أن أباه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, اكتب لي كتاباً ألا يؤاخذني أحد بجريرة قومي, فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هذا لك ولكل مسلم )، وهذا فيه دليه على أن المسلمين قد حقن الإسلام ودماءهم, وأن الوزر يلحق الأفراد لا الجماعات، وأن إلحاق أمر الجماعات في دائرة الإسلام من أمر الجاهلية الذي ألغاه الإسلام في أمر المسلمين وأبقاه الله عز وجل في أمر المشركين.
الآية الثانية: قول الله جل وعلا: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124]، الله عز وجل ابتلى إبراهيم بكلمات, وهذا الابتلاء المراد به الاختبار من الله عز وجل لنبيه, وفي هذا دلالة وإشارة وقد تقدم معنا أننا نتكلم عن الآية من جهة المعنى العام, ثم نبين الدلالة الفقهية والحكم الفقهي في ذلك, فابتلى الله عز وجل إبراهيم, والأنبياء يبتلون, بل هم أشد الناس بلاء, وإبراهيم هو إمام الحنيفية السمحاء عليه الصلاة والسلام, وقد ابتلاه الله عز وجل بشيء من السنن الشرعية والسنن الكونية، فمن السنن الشرعية: ما أنزله الله عز وجل من أحكام خاصة فيه وعامة يشترك فيها معه غيره, ومن الأمور الكونية ما جعل الله عز وجل له من أمور الابتلاء والتقدير عليه وعلى أزواجه من بلاء من تنقل وارتحال ونحو ذلك, فإن هذا من البلاء الذي يجده الإنسان قدراً في أمره, فابتلاه الله عز وجل بجملة من أنواع البلاء، والله سبحانه وتعالى حينما خص إبراهيم بالبلاء فيه إشارة أنه ينبغي لوريث الأنبياء أن يعلم أنه كذلك.
وفي قول الله جل وعلا: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124]، هذه الكلمات التي ابتلى الله عز وجل بها إبراهيم اختلف في المراد بمعناها، فقيل المراد بذلك هي: التشريعات التي أمر الله عز وجل إبراهيم الخليل الإتيان بها، وهذا جاء عن عبد الله بن عباس كما رواه عبد الرزاق في كتابه التفسير, و ابن جرير الطبري من حديث معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن عبد الله بن عباس أنه قال في قول الله جل وعلا: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124]، قال: ابتلاه الله عز وجل بعشر: خمسة في الرأس, وخمسة في باقي الجسد، ابتلاه الله عز وجل بقص الشارب, وفرق الرأس, والمضمضة, والسواك، وابتلاه الله عز وجل بحلق العانة, ونتف الإبط, وقص الأظفار, والاستنجاء, والاستجمار، وهذا مما ابتلى الله عز وجل به إبراهيم بجملة من الأوامر, ومعنى البلاء: الاختبار على شيء من التكاليف الشرعية.
وهذا فيه إشارة إلى أن الإنسان إذا أراد أن يحمل غيره أمراً مهماً أنه ينبغي له أن يختبره وأن يبتليه، ومعنى الاختبار والابتلاء: أن يقوم بامتحانه حتى يصبر, بنوع من التكاليف والتجربة حتى ينظر حاله, وهذا من الأمور المعروفة فطرة, ومن الأمور المعروفة شرعاً، فإن الله عز وجل ما ترك نبياً من أنبيائه إلا ابتلاه بشيء من البلاء قبل بعثته وبعد بعثته؛ حتى يكون من أهل الجلادة والصبر، فكل تكليف يريد الإنسان أن يكلف به غيره ينبغي أن يبتليه قبل التكليف, ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم في سورة النساء: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، يعني: ينبغي لكم أن تختبروهم لا أن تعطوهم جزافاً، فهذا نوع من التكليف, فقم باختباره والنظر فيه, ومعنى الاختبار أعطه شيئاً من التكليف, إذا كان من ماله لديك ألف فأعطه خمسة أو ستة أو سبعة ونحو بذلك ثم انظر بماذا يتصرف بها, ثم تدرج في أمره حتى يكتمل التكليف لديه، وهذا ما أمر الله عز وجل به إبراهيم وابتلاه به في ابتداء أمره، فابتلاه بأشياء لازمة في ذاتها حتى يتعود على الصبر, ومعلوم أن أعظم المشاق هي في أول الطريق، فإذا اعتاد الإنسان عليها ثبت على ذلك؛ كحال الإنسان يبتلى بشيء من الأمور القدرية من الحر والبرد، فأشده أوله عليه, ثم بعد ذلك يتصبر ولو استمر ذلك دهراً طويلاً.
كذلك أيضاً ما يقع في الإنسان من شدة ممن يسكن البراري والبوادي، أول الشدة عليه ابتداؤها, ولهذا الله عز وجل يجعل الشدة على أنبيائه ابتداءً قبل أن يباشروا الأمر الأهم في ذلك.
وهذا فيه إشارة إلى أن من مهمات الولاية أن يقوم الإنسان بتولية من يختبره, لا أن يوليه جزافاً، بل يقوم باختباره وابتلائه على تولي شئون الناس، كابتلائه في أمر الأمانة, واختباره في شيء منها, وهذا فيه جواز امتحان الناس واختبارهم, وذلك لقصد المصالح العامة لا الخاصة للإنسان، قد يقول الإنسان: أريد أن أختبر فلاناً لصالح نفسي، تقول: هذا صالح خاص، لا يجوز لك أن تمتحن فلاناً, وأما إذا أردت أن تمتحن فلاناً تريد أن توليه للفتيا, أو للقضاء أو نحو ذلك فتقوم باختباره وسؤاله في أحوال الناس, وكذلك أيضاً في استغضابه, وهل يغضب أو نحو ذلك, ماذا يفعل في الشدة ونحو هذا, فهذا من الأمور المشروعة, وهي من هدي الله عز وجل مع أنبيائه.
وقيل: إن المراد بذلك الابتلاء أو بهذه الكلمات التي ابتلى الله عز وجل بها إبراهيم هي ثلاثون سنة، جاء ذلك عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى, كما رواه ابن جرير الطبري و ابن أبي حاتم , ورواه أيضاً ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث داود بن أبي هند عن عكرمة عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى قال: ابتلاه الله عز وجل بثلاثين: عشر في الأحزاب, وعشر في براءة, وعشر في المؤمنين وسأل سائل، وأما العشر التي في الأحزاب: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ [الأحزاب:35] وأما التي في براءة: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ [التوبة:112] وأما التي في المؤمنين وسأل سائل: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المؤمنون:9]، فهذه الصفات التي أمر الله عز وجل إبراهيم وقومه بالإتيان بها.
وهذه التشريعات هي مما ابتلى الله عز وجل بها إبراهيم.
وقيل إن مما ابتلى الله عز وجل به إبراهيم شريعة المناسك، فهو أول من شرع الله عز وجل له شريعة النسك، جاء هذا عن عبد الله بن عباس أيضاً وجاء عن غيره, فجاء عن عبد الله بن عباس من حديث سعيد عن قتادة عن عبد الله بن عباس أنه قال: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124]، قال: ابتلاه الله عز وجل بالمناسك, والمراد بذلك مناسك الحج، وسيأتي الكلام عليها بإذن الله عز وجل في آيات الحج، وهذا الابتلاء في قوله سبحانه وتعالى: فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124]، أي: لما أتم ذلك البلاء أتمهن إبراهيم وفاءً لله سبحانه وتعالى, ولهذا امتدح الله عز وجل إبراهيم فقال: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37]، وفى بهذا البلاء الذي اختبره الله عز وجل به.
ولهذا نقول: إنه ينبغي للإنسان بحسب مهمة الأمر الذي يوليه إذا كان والياً، حاكماً؛ أن يقوم بالاختبار ولو كان على أمد بعيد بحسب أمر الولاية حتى يثبت خاصة في أمور القدوة، كلما كان الإنسان رأساً اقتدى الناس به وتأثر الناس به، وهذا من الأمور والسنن الكونية؛ أن الرأس في الناس أكثر بلاءً، كما أن الرأس في الجسد هو أكثر الجسد إصابة، فيفتن ويبتلى ويجرح ويستهدف ونحو ذلك, كذلك أيضاً الرأس في الأقوام فإنه تقع عليه الضراء ويستهدف ويوقع في نفسه, فينبغي له أن يحترز أكثر من غيره, وأن يصبر أيضاً أكثر من غيره, وأن يعلم أن البلاء ينزل به أكثر من غيره، فلو نزل ألا يستثقل ذلك, ولهذا لا يمكن أن ينهزم الجسد إلا بهزيمة الرأس, ولا يمكن أن ينكس الجسد إلا بعد أن ينكس الرأس, ولا يعرف لجسد نكس إلا وقد سبقه الرأس، ولهذا ينبغي للرأس أن يثبت.
كذلك أيضاً في مسائل الرسالة والتبليغ والدعوة ونحو ذلك أن يكون من أهل الثبات والاختبار، وكذلك أيضاً أن لا يتولى شيئاً من ذلك إلا وقد تدرج في أمر العلم, تدرج في أمر الرسالة, وتدرج أيضاً في أنواع التصبر على البلاء ونحو ذلك؛ حتى لا يفاجأ, فيسقط, وأعظم بلية للمسلمين وفتنة للمسلمين أن يتقدم الرءوس بالابتلاء فإذا جاءهم الابتلاء وهم رءوس سقطوا فسقط الجسد معهم, وهذا أمر مشاهد فما تحدث فتنة من الفتن في زمن من الأزمنة ويكون الناس رءوساً بلا ابتلاء إلا وسقطت تلك الرءوس، وتبعهم الأقوام وفتنوا بهم، ولهذا الله عز وجل ما يدع نبياً رأساً في قوم إلا وقد ابتلاه قبل أن يكون رأساً.
وذلك لأسباب منها: الانقياد والاتباع.
ومنها أيضاً: عدم افتتان الناس، ومنها: أن الإنسان في ذاته فيما ينظر إليه هو قدوة لغيره, فإذا نزل به البلاء نزل بأتباعه, إذا نزل به الخير نزل بأتباعه, وإذا كان من أهل التصبر كان من أهل القدوة والاتباع في ذلك.
كذلك أيضاً فإن التدرج في أمر الناس مطلب، وألا يكون الإنسان قاعاً ثم يصبح رأساً، فإذا كان قاعاً ثم أصبح رأساً لم يتدرج في أمر البلاء بداهة, ولهذا من السياسة الشرعية ألا يطلب الوضيع ليكون رفيعاً؛ لأنه ما مر ببلاء، فكيف يقود الأمة شخص وضيع فإذا نزل بلاء بالأمة ما تعود على التصبر, بل ينبغي للإنسان أن يتدرج ولو طلبه غيره أن يكون رأساً في أمة ولم يتدرج فلا يضحي بالأمة لأجل هواه، بل ينبغي له أن يكون من أهل التدرج حتى يصل إلى مراد الله سبحانه وتعالى.
وكذلك في قول الله جل وعلا: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، المراد بذلك: هي الإمامة في أمر الدين والدنيا, وفي قول الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124]، أراد إبراهيم أن يجعل الإمامة في ذريته, وفي هذا عبرة عظيمة جداً أن الإنسان يتشوف للخير لمن بعده من ذريته, وهذا من الأمور الفطرية التي تكون في الإنسان, ولا ضرر ولا غضاضة على الإنسان فيها, بل هذا من الأمور المحمودة أن يحب الإنسان أن يكون الخير في عقبه؛ فيكون الخير لازماً له وذلك بدعوتهم له, ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن الرجل ليرفع بالجنة درجة, فيقول: يا رب! أنى لي هذا؟ فيقال: بدعاء ابنك لك ), وأما المتعدي لغيره وذلك أن الخير المتسلسل واحد عن واحد أوثق من جهة القبول من الشخص الذي يأتي من غير سلالة نبوة أو من غير سلالة علم ونحو ذلك, فإن الناس يتشوفون إلى عقد منتظم من أمر العلم ونحو ذلك, ولهذا سأل إبراهيم ذلك لهذين الأمرين, ولكن لله عز وجل حكمة بالغة حينما سأل إبراهيم ربه جل وعلا قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، إشارة إلى أنه ليس في ذريتك صلاح وإمامة تامة؛ لأن فيهم ظالمين, وإذا كان هذا في ذرية إبراهيم فذرية غيره من باب أولى.
كذلك أيضاً في هذا الحديث إشارة إلى عدم جواز تولية الظالم ابتداء كما جاء ذلك عند ابن جرير الطبري من حديث ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر في قول الله جل وعلا: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، قال: ظالم من ذرية إبراهيم لا تجوز توليته؛ فكيف من ذرية غيره؟ قال مجاهد في قول الله جل وعلا: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، لا يجعل الظالم إماماً, يعني: لا يجوز أن يولى الظالم ابتداء إمامة المسلمين, ولكن يجوز إذا كان في توليته وهو ظالم مسلم دفعاً لظالم أشد منه ولا خيار إلا بينهما، فإن هذا من دفع المفسدة.
كذلك أيضاً من الوجوه الانقياد للظالم في الخير الطاغي المستبد الذي يتولى على المسلمين وهو ظالم قهراً بالقوة والسيف فإنه يطاع بالمعروف وينقاد له بذلك ولا يطاع في معصية الله وإنما يبقى تحت مظلته بالمعروف؛ لأن في مخالفة ذلك مفاسد عظيمة، هذا ما أقام في المسلمين الصلاة.
وكذلك أيضاً في قول الله عز وجل لما سأله إبراهيم قال: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، في إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يدعو لذريته بالخير، ولهذا إبراهيم دعا الله عز وجل أن يجنبه وذريته عبادة الأصنام، وهذا من الاهتمام بأمر الذرية أن يكثر الإنسان من الدعاء؛ لأن هذا الخير مرده له فإذا أجاب الله عز وجل دعاءه بصلاح ذريته ففيه إشارة إلى أن الخير الذي يأتي إلى ذريته بإجابة الله لذلك الدعاء له أثر عليه وهذا بسبب دعائه, ويرجى للإنسان إذا دعا لأحد بصلاح فاهتدى ذلك الشخص أن ذلك الخير يأتي عليه، لأنه سبب فيه بهدايته وإجابة الله عز وجل له الدعاء, والمراد بعهد الله سبحانه وتعالى أمره والخلافة في الأرض، خلافة الأنبياء، إرث النبوة، والقيام بأمر المسلمين، الحكم بأمر الله سبحانه وتعالى، الولاية في لسمع والطاعة ونحو ذلك لا يكون عادلاً.
وفي قول الله جل وعلا: بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124]، تقدم الكلام أن هذا جاء على عدة معان، قيل: إن المراد بذلك المناسك، وقيل: إن المراد بذلك هي ثلاثين سنة كما تقدم الكلام عليه، وقيل: إن المراد بذلك هو ما جاء عن عبد الله بن عباس أن الله عز وجل ابتلاه بخمس في الرأس وخمس في الجسد.
وهذه قيل: إن المراد بها سنن الفطرة، في قول الله جل وعلا: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]، فالفطرة في هذه الآية: الظاهر من كلام المفسرين كما جاء عن عكرمة و سعيد و قتادة وغيرهم أن المراد بذلك جملة من المعاني، لكن جامعها شريعة الإسلام من الاستسلام والانقياد لله سبحانه وتعالى، وقيل: إن هذا الموضع في هذه الآية يخرج عن الموضع في حديث أبي هريرة كما جاء في الصحيحين في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )، يقول ابن عبد البر رحمه الله: حمل الفطرة في هذا الحديث على الفطرة في تلك الآية محال، فلا يكون المراد بهذا ذلك المعنى، والفطرة من جهة الأصل هي الابتداء، كقوله: (فاطر السموات والأرض) أي: منشئهما سبحانه وتعالى، يقول عبد الله بن عباس كما روى ابن جرير الطبري من حديث سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس أنه قال: كنت لا أدري ما: فاطر السموات والأرض, حتى اختصم إلي أعرابيان في بئر, فقال أحدهما: أنا فطرتها, وقال الآخر: أنا فطرتها, يعني: ابتدأتها فكل منهم يقول: أنا الذي بدأت بها.
إذاً فالمراد بفطر الشيء ابتداؤه، والفاطر هو المبتدئ بالإنشاء الذي لم يسبقه إليها سابق، والفطرة: هو ما أنشأ الله عز وجل عليه الإنسان من خلقة، وأن هذا مما فطر الله عز وجل عليه الإنسان، ففطر الله سبحانه وتعالى الإنسان على هيئة معينة يحرم عليه أن يغير تلك الهيئة إلا ما خرج عن الأصل الذي امتن الله به على عباده في قول الله جل وعلا: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، فخلق الله عز وجل الإنسان على أحسن تقويم, فإذا لحقته عاهة فلا حرج عليه أن يزيلها, مما يطرأ على الإنسان من الأمراض أو الأورام أو الأعضاء الزائدة، كالأصابع الزائدة، أو الأظفار الزائدة أو الشعر الذي في غير موضعه أو الشعر الزائد عن قدر خلقة الناس أن يتقلل منه، فإن هذا من الأمور التي ترجع الإنسان إلى أصله.
وأن الله عز وجل أراد بشيء يخرج عن أصل خلقة الله سبحانه وتعالى حكمة عظيمة في ذلك منها: أن يرى الناس أن الله عز وجل كما أنه قادر على أن يخلق الإنسان على أحسن التكوين قادر أيضاً على التبديل والتغيير سبحانه وتعالى، وكذلك أيضاً أن يعلموا نعمة الله عز وجل عليهم, وحكم عظيمة يعلم الإنسان بعضها ويجهل أكثرها.
وهذه الفطرة التي ابتلى الله عز وجل بها إبراهيم جملة منها: المضمضة, والسواك، والاستنشاق، وفرق الرأس، وقص الشارب, فهذه في الرأس, وهذا فيه جملة من المسائل:
فمسألة السواك؛ هل هو من سنن الفطرة أم لا؟ لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام حديث أن السواك من سنن الفطرة, ولكن جاء في هديه عن النبي عليه الصلاة والسلام جملة من الأحوال التي كان يستن بها, وحث النبي عليه الصلاة والسلام عليه في آيات كثيرة, أما أن نقول: إنه من سنن الفطرة فإن هذا يفتقر إلى دليل، أما السنة الشرعية فهو ثابت، ولكن قد يقال: إنه من سنن من الفطرة باللازم, أي: أن الإنسان إذا تغيرت رائحة فمه تغير عن فطرته التي فطره الله عليها فيرجع الإنسان أمره بالسواك على ما كان عليه، ومن هذه السنن: فرق الرأس.
والمراد بفرق الرأس هو: فصل الشعر وجعله على جهتين, ألا يكون له ناصية، وهذه سنة لـإبراهيم الخليل، ولا أعلم شيئاً عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يأمر أصحابه بفرق الرأس, وإنما كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل شيئاً من هذا, كما جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى, أن أهل الكتاب كانوا يفرقون, وأهل الشرك كانوا يسدلون, فكان النبي عليه الصلاة والسلام يفرق ثم ترك الفرق, ثم فرق عليه الصلاة والسلام، هذا من فعل النبي عليه الصلاة والسلام.
وروي في ذلك جملة من الآثار أيضاً، ولهذا كره بعض السلف أن يكون للرجل ناصية، وأن يسترسل شعره على جبهته, وأن هذا يخالف الفرق, وهذا يؤخذ منه ما هو أعم من ذلك أنه ينبغي للإنسان العناية بشعره, وأن هذا من أمر الفطرة.
والمراد بأمر الفطرة أن الإنسان ينبغي له أن يهتم بشعره كما أوجده الله، نظيفاً, حسناً, بلا رائحة تفسده من عرق ونحو ذلك, فيبقى على ما هو عليه.
ولهذا جاء عند أبي داود في كتابه السنن من حديث داود عن حميد بن عبد الرحمن قال: ( حدثني رجل صحب النبي عليه الصلاة والسلام كما صحبه أبو هريرة أربع سنين أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الرجل أن يغتسل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل يغترفا جميعاً، وأن يمتشط الرجل إلا غباً )، يعني: لا يستديم ذلك حتى يكون حاله كحال المرأة، ولكن يوماً بعد يوم, أو وقتاً بعد وقت، فيرجع الأمر إلى حاله وفطرته, ولا حرج على الإنسان أن يبقى على فرق وهو الأولى, وإذا كان على غيره فلا حرج في ذلك.
وأما بالنسبة لقص الشارب فهو من سنن الفطرة.
واختلف العلماء في حكمه من جهة أصل الأخذ في ذلك، فذهب جماهير العلماء وهو قول العامة, وحكي هذا إجماعاً: أنه سنة وليس بواجب، نص على هذا النووي رحمه الله وغيره.
وبعض الفقهاء ذهب إلى وجوبه, وهو رواية في المذهب، وذهب إليه ابن حزم الأندلسي رحمه الله، وهو من السنن المتأكدة، ومن سنن الفطرة، ويخرج من ذلك ما كان مبالغاً مما يؤذي الإنسان ويفسد عليه جسده، أو مطعمه ومشربه, فإن هذا أمر خارج عن ذلك, فإن هذا مما يأمر به الإنسان أمراً، أما أصل الأخذ والصفة في ذلك فإن هذا على السنية على قول عامة العلماء، وأما صفة الأخذ عند من قال بذلك فهذا مما اختلف فيه العلماء، فمن العلماء من قال بحلقه كاملاً، وهذا جاء عن جماعة من الفقهاء فروي عن الإمام أحمد رحمه الله أنه كان يحفه حفاً شديداً، وجاء هذا عن جماعة من الفقهاء من الشافعية ذهب إليها الربيع بن سليمان المرادي وكذلك ذهب إليه المزني ، وأما الإمام الشافعي رحمه الله فلا أعلم أن له نصاً في ذلك صريح من جهة المقدار في أمر الأخذ.
وأما الإمام مالك رحمه الله فإنه كان ينهى عن حلق الشارب, وإنما كان يحث على أخذ من طرف الشفة بحيث لا يتدلى الشارب، أما ما عدا ذلك مما علا فإنه لا حرج عليه أن يأخذه كما يريد.
أما السبالات وهو المتصلان بين الشارب واللحية فهل هما من اللحية أو من الشارب؟ للعلماء في هذا ثلاثة أقوال: منهم من قال: إنه من الشارب, ومنهم من قال: إنه من اللحية, ويظهر أنهما ليسا من الشارب ولا من اللحية فلا حرج على الإنسان أن يأخذها أو يبقيها كما شاء, وهذا من الأمور الجائزة.
ولم يأت في أثر عبد الله بن عباس ذكر اللحية من سنن الفطرة, ويأتي الكلام عليها بإذن الله عز وجل في قول الله سبحانه وتعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الحج:29]، يأتي في هذه الآية حكم اللحية والأخذ منها في أمر المناسك, ثم نتفرع في ذلك لأنا لا نريد أن نتكلم في مسائل في غير موضعها أو لم يتكلم عليها العلماء في هذا الموضع حتى لا يتكرر معنا ذلك، وكذلك أيضاً أن نتكلم عن الأحكام في أنسب المواضع لها, وإن كانت من سنن الفطرة ومن الأمور التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله عز وجل.
كذلك المضمضة والاستنشاق من سنن الفطرة، لأنها تخرج الأذى الذي غير الفطرة عن أمرها؛ كحال السواك, وهذا من القرائن التي تجعل السواك من أمر الفطرة، والسواك ليس المراد به عود الأراك، وإن كان بعض الناس يظن أن السواك هو عود الأراك, وليس كذلك، بل المراد بذلك هو كل ما يشاص به الفم, سواء كان من المعجون, أو كان من الأراك أو كان من غيره، فالسواك يطلق على ما يشاص به الفم, وأصبح علماً على الأراك؛ لأنه هو الموجود وغلب في استعمال الناس وإلا فيستعمل كل شيء, ولهذا نقول: إن من يستعمل فرشاة الأسنان أو ما في حكمها قد استعمل السواك، إلا أنه ينبغي للإنسان أن يستعمل السواك العادي وأن يلازمه؛ لأنه في مواضع لا يتيسر له إلا هو عند الصلاة, وفي المواضئ, وفي ذهابه ومجيئه, ونحو ذلك فإنه يتعذر عليه إلا استعماله حتى يأتي بالسنن، ولهذا نقول: إن استعماله ومثله في حكمه من الأمور من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن السنة غالباً لا تتحقق إلا بذلك، وتكلم العلماء على أمر السواك في مصنفات متعددة وثمة مصنف لـأبي شامة رسالة سماها السواك وما أشبه ذاك، تكلم على أحكام السواك, وذكر سنن كثيرة جداً، ومن المصنفين في هذا من طول السواك وعرضه ومدة قصه واستعماله, والسواك الرطب واليابس ونحو ذلك, وهذا كثير منها ليس له أصل.
وقد ذكر الشوكاني رحمه الله أن الفقهاء أكثروا من أحكام السواك وأحجامه واستعماله وصفاته ونحو ذلك وجلها ليس لها أصل، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أحوال في استعمال السواك، منها: عند الصلاة, وعند الوضوء, وعند دخول المنزل, وكذلك عند تغير رائحة الفم, وعند النوم, وعند الاستيقاظ من النوم, وعند قراءة القرآن, وعند الحديث مع الناس، فإن هذا من الأمور المستحسنة أن الإنسان يطيب فمه بالسواك.
وأما مسألة المضمضة والاستنشاق فهل المضمضة والاستنشاق سنة في ذاتها ولو لم يكن ذلك مرتبطاً بوضوء؟ فنقول: إنها من سنن الفطرة، فـ ( النبي عليه الصلاة والسلام كان يتمضمض ويستنشق من غير وضوء )، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام أمر الإنسان إذا استيقظ من نومه أن يغسل كفيه، وهذا خارج الوضوء, وكذلك أن يستنثر ثلاثاً, وهذا أمر خارج عن الوضوء, فلهذا نقول: إن المضمضة والاستنشاق أمر خارج عن الوضوء، وهو سنة في ذاته، وأما غيره من الأحكام فهل نقول: من السنة أن يغسل الإنسان قدميه إلى الكعبين؟ أو يمسح الإنسان رأسه تعبداً من غير وضوء؟
نقول: لا, هذا ليس من السنة، لك أن تتنظف, وأن تزيل غباراً على الرأس, أو تغسل قدماً وتزيل تراباً هذا من الهدي العام ومما يحبذ، أما التعبد فيه قصداً فإن هذا في المضمضة والاستنشاق, وهي من سنن الفطرة التي أمر الله عز وجل بها الخليل إبراهيم , وكذلك ابتلاه بها فأتمهن الله عز وجل عليه فوفى إبراهيم بذلك وأداها كما أمره الله سبحانه وتعالى.
ومن سنن الفطرة: قص الأظفار, وحلق العانة, ونتف الإبط, وكذلك الختان, وغسل البراجم، أما غسل البراجم وهي المراد بذلك مصافط التي تكون في الإنسان سواءً كانت في اليدين ويغلب عليه الإطلاق في هذا, كذلك أيضاً مصافط اليدين في الأصابع المثاني في ثلاثة مواضع: في أول الأصبع وأوسطه وكذلك من عند الإبهام, كذلك أيضاً في باقي جسم الإنسان يسمى براجم؛ كبعض مصافظ الجلد التي تكون في الركبتين أو بعض القدمين, فإن هذه غسلها من السنة، جاء في ذلك حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من حديث مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب عن عبد الله بن الزبير عن عائشة عليها رضوان الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الفطرة عشر )، وهذا الحديث مما وقع فيه اختلاف بين رفعه ووقفه على طلق , فاختلف فيه على وجهين: رفعه مصعب في روايته عن طلق بن حبيب عن عبد الله بن الزبير عن عائشة ، وخالفه بذلك غيره, فقد رواه النسائي في كتابه السنن من حديث أبي بشر جعفر بن إياس , وكذلك سليمان التيمي ، كما رواه النسائي من حديث معتمر بن سليمان عن سليمان التيمي كلاهما سليمان التيمي و جعفر يرويانه عن طلق بن حبيب من قوله، فجعلوه من قوله لا من قول عبد الله بن الزبير ولا من قول عائشة قبل أن يكون من قول النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا هو الأقرب للصواب، وقد مال إلى صحة ذلك الإمام أحمد رحمه الله، أنه ليس مرفوعاً, وكذلك النسائي و الدارقطني وغيرهم, وصنيع الإمام مسلم يميل إلى صحة المرفوع, وهذا من الخلاف السائغ عند العلماء في أبواب العلل, إلا أن النفس تميل إلى عدم صحة ذلك مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام, ومعاني هذا الحديث جاءت عن النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث متعددة, فقد جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة في قوله: ( الفطرة عشر )، وجاء من حديث عمار بن ياسر و علي بن أبي طالب و أبي هريرة و عبد الله بن عباس وغيرهم وفي كثير منها علل، وقد تكلمنا على ذلك في شرح حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى في مجالس متعددة في: ( الفطرة عشر ).
في هذه السنن وهي ما يتعلق بقص الأظفار وكذلك حلق العانة ونتف الإبط والختان والاستنجاء بالماء من جهة أحكامها تتباين, أما حلق العانة ونتف الإبط فحكى ابن العربي الإجماع على وجوبها وفي ذلك نظر, ولكن نقول: قال بعض العلماء بوجوبه، أما أن نقول: إن ذلك إجماع ففيه نظر, فذهب جماعة من العلماء إلى أن هذا من السنة والهدي، ولا نستطيع أن نقول لإنسان أنه يجب عليه نتف الإبط وحلق العانة إذا كان ذلك لا يؤذيه اتساخه، وممن يتعاهد نفسه بالنظافة.
وذهب بعض العلماء إلى القول بالسنية، وهو قول جماعة من الأئمة.
وأما بالنسبة لقص الأظفار فهو من السنن، وبعض العلماء من قال بالوجوب وذهب إلى هذا جماعة من الأئمة, ولكن نقول: إنه من السنة إلا إذا كان يتسخ ولا يستطيع مقاومته فيجب عليه, ويقدر إبقاؤه بأربعين, كما جاء في الصحيح: ( وقت لنا في قص الأظفار ألا تترك أكثر من أربعين يوماً )، وهذا هل في اليدين والرجلين على حد سواء؟ نقول: اليدين آكد؛ لأنها مواضع الأكل ومباشرة الناس, وأما القدمين فتدخل في الحكم؛ لاشتراكها في مواضع الوضوء؛ لأنها مما يغسل ويتأكد ذلك، وحكمهما من جهة التوقيت سواء.
وأما ما يتعلق بأمر الختان فذهب جماعة من العلماء إلى وجوبه, وممن ذهب إلى هذا الإمام مالك و الشافعي والإمام أحمد و سفيان الثوري وغيرهم إلى أن الختان واجب للرجال, وأنه مكرمة وسنة للنساء.
وذهب أبو حنيفة إلى سنيته للرجال والنساء.
والظاهر الوجوب، وشدد الإمام مالك رحمه الله فقال: إن غير المختون لا تصح إمامته ولا تقبل شهادته، وقد جاء في ذلك عن عبد الله بن عباس خبر مرفوع وموقف, والصواب في ذلك الوقف أن الأقلف -يعني: غير المختون- لا تصح ذبيحته, وهذا يدل على تأكده وتشديد السلف في ذلك.
وأما بالنسبة للاستنجاء والاستجمار فقد جاء في حديث عبد الله بن عباس أنه مما ابتلى الله به إبراهيم, نقول: والاستجمار: هو استعمال الحجارة، تسمى جمرة, ولهذا سمى رمي الجمرات؛ لأنها حصى.
أما الاستنجاء بالماء -ويتجوز الفقهاء باستعمال العبارتين بعضهما عن بعض- فهو واجب؛ لأنه إزالة نجاسة، إذا كانت في غير موضع النجاسة، فموضع النجاسة من باب أولى, وهذا من الهدي الذي ينبغي للإنسان أن يهتم وأن يعتني به.
لكن لدينا مسائل في هذا من هذه المسائل: أيهما أولى استعمال الماء أو استعمال الحجارة؟
لا يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه استنجى بالماء، ولا أعلم في ذلك خبراً صحيحاً صريحاً أنه استنجى بالماء، وإنما الثابت عنه أنه كان يستجمر عليه الصلاة والسلام, وبعض الفقهاء يستدل ببعض الأحاديث أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحمل معه إداوة من ماء وعنزة، والاداوة هل هي للاستنجاء أو للوضوء؟ النبي عليه الصلاة والسلام كان يتوضأ إذا خرج من الخلاء.
ولهذا كره بعض السلف استعمال الماء كما كرهه حذيفة بن اليمان وغيره؛ وسبب الكراهة في ذلك أن أيديهم تباشر موضع النجاسة, فكرهوا ذلك الأمر ولم يكن مشتهراً مستفيضاً عندهم.
أما الحديث أنهم كانوا يتبعون الحجارة الماء فهذا خبر لا يثبت بذكر الماء فيه, ونقول: إذا كانت يد الإنسان تباشر موضع النجاسة فالحجارة أفضل, وإذا كانت لا تباشر فالماء أفضل وأنقى، إذاً: فالعبرة بالإنقاء وعدم مباشرة اليد.
ومن المسائل أيضاً: أن الاستنجاء هو سنة وهدي في ذاته, ولو لم يكن لاستباحة صلاة ووضوء.
وأمر آخر من المسائل: الاستنجاء والاستجمار هل يجوز تأخيره بعد الوضوء أم لا؟ مثال ذلك لو أن الإنسان ذهب إلى الخلاء وقضى حاجته كأن يكون في بر ونحو ذلك ولم يستنج ثم أراد أن يتوضأ هل نقول: استنج أولاً ثم توضأ أم توضأ ثم استنج؟
هذا محل خلاف بين العلماء على قولين.
والصواب في ذلك الذي يظهر: أنه يجوز للإنسان أن يستنجي بعد وضوئه؛ لأن الناقض هو خروج النجاسة لا وجودها؛ لأن وجود النجاسة على موضع من الجسد مثل وجود النجاسة مثلاً على ساق الإنسان أو على ركبته فتوضأ الإنسان ثم رأى النجاسة على قدمه؛ كدم مسفوح أو بول أو نحو ذلك هل نقول أعد الوضوء؟ اغسل النجاسة ثم أعد الوضوء؟ لا، لأنه لا فرق بين النجاسة التي على المحل بين سائر المواضع؛ لأن الشارع إنما أمر بالاستنجاء لأن غالب موضع النجاسة هو خروج النجاسة، فأمره بالاستنجاء اختصاراً وتيسيراً عليه, وهذا هو المعتاد من عمل الناس، أما لو أن الإنسان أخر استنجاءه وهذا أمر مفضول, وكذلك أيضاً ليس من الإنقاء التام, لكن لو قدر الإنسان أنه قضى حاجته من غير أن يستنجي ثم توضأ وأراد أن يستنجي بعد ذلك نقول: صح أمره ما لم ينتقض وضوءه, وإزالته لتلك النجاسة كإزالة النجاسة من موضع من ركبته أو ساقه ونحو ذلك، ثم يستمر بمبادرته لأمر الصلاة.
الآية الثالثة نأخذها على عجل وفيها معنى يسير جداً في قول الله عز وجل: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127].
في قول الله عز وجل: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [البقرة:127]، رفع إبراهيم القواعد فيه فضل بناء المساجد ورفع القواعد, لكن في هذا المعنى رفع القواعد من البيت، فيه تشييد البناء ورفع المساجد حتى ترى هل يؤخذ من ذلك تشييد المنارات للمساجد أم لا؟ نقول: أولاً ينبغي أن نؤصل مسألة أن المساجد ليس لها شكل معين في الإسلام, لا مربع ولا مستطيل ولا مستدير ولا مساحة معينة أو مسافة معينة فيبني الإنسان ما شاء ( ولو كمفحص قطاة ), فهذا هو من المساجد الذي أمر الله عز وجل بإنشائها وعمارتها بما تقوم به حاجة الناس.
وأما بالنسبة لرفعها وتشييدها أطول من بناء الناس فهذا من المعاني الذي أخذ بها بعض الناس حتى ترى وأخذ بعضهم من هذه الآية بعض المتأخرين معنى رفع المباني, وكذلك أيضاً المنارات حتى ترى, وهذا استدلال ضعيف, ولو كان كذلك فإن أولى من يقتدي بهذا هو النبي عليه الصلاة والسلام.
والعلماء من الصدر الأول من التابعين وكذلك الصحابة يسمون المنارة هو موضع الأذان, ولهذا يرد في بعض المصنفات والكتب كلمة المنارة, ويريدون بها موضع الأذان, ولا يريدون بها هذا العمود الذي يرفع على المساجد، فلم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي بن أبي طالب منارة, ولا يعرف هذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا في زمن الخلفاء الراشدين عليهم رضوان الله تعالى.
جاء في مصنف ابن أبي شيبة من حديث عبد الله بن شقيق قال: إن المؤذن كان في زمن النبي عليه الصلاة والسلام يؤذن على المنارة ثم ينزل، والمراد بذلك هو المكان المرتفع, وليس المراد بذلك هي الأعمدة الموجودة, وكانوا يؤذنون على السطوح, وقد ترجم على هذا جملة من المصنفين كـابن أبي شيبة في كتابه المصنف في أبواب الأذان على المنارة, وترجم له أبو داود أيضاً في كتابه السنن, وجاء أيضاً في صحيح الإمام مسلم من حديث النواس بن سمعان في نزول عيسى قال: عند المنارة شرقي دمشق، والمراد بذلك هو المكان المرتفع وليس المنارات الموجودة حالياً.
من أول من وضع المنارة في الإسلام؟ وهذا مما اختلف في أمره, فقيل: إن أول من وضع ذلك هو زياد بن أبيه في خلافة معاوية ذكر ذلك الدارمي في كتابه الفتوح, وهذا في عام خمسة وأربعين للهجرة, وقيل: إن أول من وضع ذلك هو خليفة بن مخلد وذلك في عام أربع وخمسين للهجرة, وضعه في مصر ثم اشتهر هذا, فإذا كانت المنارة لم تكن معلومة في الصدر الأول فمن باب أولى ما يوضع على المناير من الهلال ونحو ذلك، فالهلال لم يكن معلوماً أيضاً في دول الإسلام المتقدمة وإنما عرف في الدولة السلجوقية وهم أول من وضعوا الهلال على المنارة, ثم تبعهم الناس في ذلك، ودافعهم في ذلك أنهم رأوا النصارى يضعون الصلبان على الكنائس, فجاءت الحمية فوضعوا الهلال على المنارات, ثم أصبحت سنة مطروقة حتى وصلت إلى الحرمين, وأصبحت علماً على المنارات، وسواء وضعت أو تركت فالأمر في ذلك سواء.
وفي قول الله عز وجل: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127].
إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان إذا أنجز عملاً يستحب له أن يدعو الله قبول ذلك العمل سواء كان بناء أو طاعة أو مثلاً عمل صدقة, أو إحسان أو نحو ذلك، أن يسأل الله عز وجل أن يتقبل منه هذا العمل.
وفيه: إظهار امتنان لله عز وجل, وفيه أيضاً: الافتقار لله سبحانه وتعالى.
وفيه: إشارة إلى أن هذا العمل يمكن ألا يتقبل من الإنسان, ولهذا ينبغي للإنسان أن يتضرع لله عز وجل بهذا القبول، فإذا كان هذا من إمام الحنيفية السمحاء إبراهيم وابنه إسماعيل هذا الدعاء ربنا تقبل منا, مع أن الآمر هو الله، والقائم بذلك المأمور هو نبي ومع ذلك يقول: ربنا تقبل منا إنفاذنا لأمرك سبحانك وتعالى, لهذا ينبغي للإنسان أن ينظر إلى حاله في أمور العبادة، فيسأل الله عز وجل القبول لعمله ذلك، وهذا شامل لسائر أنواع الأعمال مما يفعله الإنسان من أمور العبادات والعادات.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والإعانة والسداد.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير آيات الأحكام [6] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
https://audio.islamweb.net