اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير آيات الأحكام [7] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144], هذه الآية هي التي سنتكلم عليها بإذن الله عز وجل في أول هذا المجلس.
هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما كان يتوجه إلى المسجد الأقصى, وفي نفسه أن يتوجه إلى المسجد الحرام, وتوجهه عليه الصلاة والسلام إلى المسجد الأقصى امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى, وكانت يهود تتوجه حينئذ إلى المسجد الأقصى, فيعجبون من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يخالفهم ثم يتوجه إلى قبلتهم, وهذا ما حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على محبة التوجه إلى المسجد الحرام, ثم أجاب الله عز وجل تضرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجهه إلى القبلة التي يرضاها, وليس في هذا الحديث دلالةً على أن النبي صلى الله عليه وسلم يكره ضدها, وإنما كان ثمة فاضل ومفضول في نفسه, والنبي صلى الله عليه وسلم امتثل أمر الله عز وجل في الأول والآخر, في الأول في توجهه عليه الصلاة والسلام إلى المسجد الأقصى, وفي الثاني في توجهه عليه الصلاة والسلام إلى المسجد الحرام.
وتقلب وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم في السماء وهو المعنى الذي نتكلم فيه, وهو أن النظر إلى السماء عبادة, وخاصة عند الدعاء, وهذا من العبادات التي يغفل عنها كثير من الناس, والنظر في ذاته للمتدبر والمتأمل من العبادات, ولهذا أمر الله عز وجل بالتفكر في خلق السموات والأرض, وأمر الله عز وجل بالنظر والتأمل والتدبر في حال الإنسان وخلقه, وهذا يورث الإنسان قوة في الإيمان وزيادة فيه, وكذلك يزيده ضعفاً بالتعلق بالمخلوقين, فإن الإنسان إذا علم قدرة القوي يضعف عنده غيره, وهذا نعلمه في حال المقارنة, فإن الإنسان إذا قارن بين اثنين فإنه يقوى عنده من ظهرت فيه أسباب القوة وعلاماتها, ويضعف عنده من كان دونه, فيتعلق بالأقوى دون الأدنى, وإذا علق قلبه وبصره بالأدنى عظم في نفسه وإن كان غيره أولى منه من جهة القوة؛ لأن البصر عبادة, ولهذا يتعلق البصر بالشيء إذا أدام النظر فيه, وكذلك القلب إذا أدام التفكر والتأمل في شيء تعلق به, وهذا معلوم فإن كثيراً من المعبودات التي عبدها الناس من دون الله عز وجل إنما عبدوها؛ لأنهم علقوا قلوبهم بتلك المعبودات, فالذي عبد الشجر والحجر قد جعل قلبه وعقله يتفكر في هذا المخلوق, ثم جعل يتوهم من تصرفاته وتدبيره في نفسه حتى عظم, فعبد شجراً ووثناً من دون الله سبحانه وتعالى, ولهذا لما كانت العبادات منشؤها القلب ومنفذها السمع والبصر، والبصر أقوى في ذلك؛ لأن الإنسان ليس على الدوام سامعاً, ولكنه على الأكثر يبقى مبصراً, فالإنسان ولو صمت من يسمعه أو صمت هو ولم يتكلم فهو مبصر, ينظر في أحوال الكون ويتدبر ولو لم يكن عنده أحد يسمعه قولاً, ولهذا كان البصر من جهة التأثير على الإنسان عظيماً؛ فشدد الله عز وجل في أمره.
وفي قول الله جل وعلا: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144], تقلب وجه النبي صلى الله عليه وسلم في السماء جاء عن غير واحد من المفسرين أن المراد بذلك: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء.
روى ابن جرير الطبري في كتابه التفسير من حديث ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع أنه قال في قول الله جل وعلا: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144], قال: نظره إلى السماء, وهذا فيه إشارة إلى أنه يستحب للإنسان أن ينظر عند دعائه إلى السماء, والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من النظر إلى السماء ولو بغير دعاء, وذلك لما ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري قال: ( صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، فقلنا: ننتظر حتى نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء, قال: فجاء إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما زلتم مكانكم؟ قال: قلنا: نعم, قال: فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء وكان كثيراً ما ينظر إليها, فقال: النجوم أمنة للسماء, فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد, وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون, وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ), والشاهد من ذلك: قول أبي موسى: ( وكان كثيراً ما ينظر إلى السماء ), فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى السماء وذلك لعلة لقوة الإيمان, وطلب الاستعانة من الله سبحانه وتعالى, ولهذا نستطيع أن نقول: إن النظر هو سجود العين؛ كما تسجد الجبهة على الأرض, وذلك أن النظر هو العبودية التي يتعبد بها الإنسان, وليس كل نظر يكون عبادة، فإذا أطلق الإنسان نظره عبد غير الله, كحال الإنسان الذي يضع وجهه على الأرض لغير عبادة؛ كأن ينظر لشيء, أو ينحني راكعاً يبحث عن مفقود ونحو ذلك, هذه هيئتها كهيئة سجود أو ركوع أو نحو ذلك؛ فهذا لا يسمى سجوداً إلا إذا اقترن بشيء من التعبد.
وكذلك فإن النظر إلى المخلوقات تعظيماً وانبهاراً هو قبس من العبودية, ولهذا قال الله جل وعلا لنبيه عليه الصلاة والسلام: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ [الحجر:88], والمد في ذلك هو: المبالغة بإطلاق النظر؛ لأن الإنسان كلما مد بصره تعلق قلبه بالممدود إليه, ولهذا حذر الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام من إطلاق البصر, فقد روى أبو نعيم في كتابه الحلية, وكذلك ابن أبي شيبة في المصنف من حديث هشام بن عروة قال: كان أبي إذا أعجبه شيء من الدنيا قرأ قول الله جل وعلا: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ [الحجر:88], والإنسان إذا أعجبه شيء من الدنيا فعلق قلبه به تفكيراً وأطلق بصره فيه نظراً؛ فإنه يقيد قلبه, فيتوجه قلبه إلى ذلك المنظور أو ذلك المتفكر فيه, حتى يعبده من دون الله؛ وسبب ذلك هو إطلاق البصر وتفكر القلب, ولما كان سبب تعلق القلب وميل الإنسان إليه هو البصر -كما أن الإنسان أيضاً إذا خضعت جوارحه لمعبود مال القلب إلى تعظيمه- ضبط الله عز وجل أمر السمع والبصر, وضبط الله عز وجل أمر الجوارح ألا تكون إلا لله, ولهذا قال الله جل وعلا: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18], جاء تفسير ذلك عن غير واحد من السلف أن المراد بالمساجد: هي الأعضاء السبعة التي يسجد عليها الإنسان فهي لله, فينبغي للإنسان ألا يضعها على صفة التعبد إلا لله.
كذلك أيضاً في أمر المخلوقات: ينبغي للإنسان ألا يطلق بصره تعظيماً وانبهاراً إلا تفكراً في أمر الله, أما أن يطلق بصره لغير هذه العلة فإن الأمر في ذلك سعة, ولهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ [الحجر:88], ولم يقل: لا تنظر؛ لأن النظر شيء ومد البصر شيء, والمراد بالمد هو: الإطلاق على سبيل الاستمرار والمداومة, بخلاف النظرة التي ينظرها الإنسان؛ لأن النهي عن النظر ينافي الحكمة من خلق البصر أصلاً؛ لأن البصر ما خلق إلا لينظر, ولكن الله عز وجل نهى عن مد البصر؛ لأن مد البصر هو المداومة عليه حتى يتعلق قلب الإنسان بذلك الشيء فيميل إليه ويعبده من دون الله, ولهذا الذي ينظر إلى المادة ويديم النظر إليها منبهراً معظماً لها فإنه يميل إليها, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح: ( تعس عبد الدرهم, تعس عبد الدينار, تعس عبد الخميصة, تعس عبد الخميلة ), وهذا ما علق نفسه بالدينار والدرهم إلا بإدامة نظر وتفكر وحساب وعد فيها, ثم عبدها من دون الله عز وجل, ولهذا نقول: إن نظر العين هو سجود كسجود الجسد لله سبحانه وتعالى, ينبغي ألا يكون بالمد إلا على سبيل التفكر والتأمل, وما عدا ذلك يكون نظراً على سبيل العلم والإحاطة, بحيث إن الإنسان يعرف الجهات، ويعرف أحوال الناس ونحو ذلك, أما الإطلاق فيكون على سبيل التدبر والتأمل تعظيماً لله سبحانه وتعالى.
وفي إطلاق نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء, أراد بذلك أن يظهر الضعف والانكسار والتعلق بالله عز وجل, وطلب العون من الله جل وعلا.
كذلك أيضاً ثمة علة وهي: أن الإنسان إذا كان ينتظر غائباً فإنه يخرج يرقب طريقاً, فإن العرب من عادتها إذا كانت ترقب حاجاً أو معتمراً أو مسافراً وقفوا على الجبال, أو على الهضاب يرقبون الناس, والإنسان في حال دعائه كأنه يرقب الخير متى يأتيه, وهذا فيه إحسان ظن بالله عز وجل, ولهذا ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدعو ينظر إلى السماء قبل دعائه ), أي: كأن الله عز وجل علم ما في نفسه فأراد أن يجيبه قبل أن يسأل, والدليل على ذلك ما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث المقداد عليه رضوان الله قال: ( رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره إلى السماء فقلت: الآن يدعو علي, فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بدعائه المعروف ).
كذلك أيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم دلت أدلة أنه كان يرفع بصره إلى السماء من غير حاجة بل بمجرد ذكر الله عز وجل عقب الوضوء كما جاء في حديث عقبة في الترمذي ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الوضوء رفع بصره إلى السماء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ), الحديث, وفيه كلام, كذلك أيضاً ما جاء في السنن من حديث عامر الشعبي عن أم سلمة قالت: ( ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من داري يوماً إلا ونظر إلى السماء فقال: اللهم إني أعوذ بك أن أَضل أو أُضل ), الحديث, وفي هذا إشارة إلى أن الإنسان ينبغي إذا أراد أن يدعو أن يتوجه بنظره إلى السماء.
وهنا سؤال ربما يخطر في بال الإنسان ويقول: هل من السنة والعبادة أني أدعو الله عز وجل وأنا أنظر إلى السماء ولو لم أشاهدها كأن كان بيني وبينها سقف؟ نقول: يشرع هذا, والدليل على هذا ما جاء في حديث عائشة في احتضار رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: ( نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى السقف وقال: في الرفيق الأعلى, في الرفيق الأعلى ), وفي هذا جملة من المعاني الكثيرة التي يأتي الإشارة إليها.
كذلك من المعاني في مسألة إطلاق البصر في النظر إلى السماء أن ينظر الإنسان إلى السماء عند قراءة القرآن التي تشير إلى شيء من التدبر والتأمل؛ كما جاء هذا في حديث عبد الله بن عباس حينما بات عند خالته ميمونة قال: ( فقعد النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء ), والنبي صلى الله عليه وسلم كان في حجرة عائشة وحجرة عائشة مسقوفة, وإن كان لها باحة, إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الحجرة المسقوفة, قال: ( ثم تلى قول الله جل وعلا: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] ), وهذا فيه إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان في حالة التأمل والتدبر وقراءة الآيات في هذا المعنى أن ينظر إلى السماء, وهذا من السنن والعبادات المهجورة.
ولهذا نقول: ينبغي للإنسان إذا شرع في دعاء أو موعظة أو تذكير ألا يخلي البصر من إطلاق إلى السماء, والدليل على مسألة الموعظة أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال لأصحابه: ( النجوم أمنة للسماء نظر إلى السماء ), وهذا نوع من الوعظ والتذكير.
كذلك أيضاً في حديث علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من نفس منفوسة إلا وهي مكتوبة من أهل النار أو من أهل الجنة, قال: ثم أوفى ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء ), وهذا فيه إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان عند دعائه وتذكيره وغيره أيضاً على الإطلاق أن ينظر إلى السماء تعظيماً لله وانكساراً بين يديه, وعند الدعاء تأملاً بسرعة الإجابة من الله جل وعلا, وهذا ظاهر في هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم قلب وجهه في السماء, أي: أدام النظر فيها إلى جهات متعددة, فنظر يمنة ونظر يسرة, كأنه يترقب إجابة الله سبحانه وتعالى تأتيه قبل دعائه.
وهل النظر إلى السماء من غير دعاء من العبادة أيضاً؟ نقول: النظر إلى السماء من غير دعاء أيضاً من العبادة, أن يضمر الإنسان في قلبه حاجة ثم ينظر إلى السماء ويرجو من الله الإجابة فهذا من السنن أيضاً, والأفضل في ذلك أن يقرنها بدعاء ولو مرة, ولو أدام النظر قبلها وبعدها, و النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهاه الله جل وعلا عن مد بصره إلى غيره خشية تعلق القلب, فإن قلب الإنسان ضعيف إذا لم يثبته الله جل وعلا.
وثمة حكم وعلل كثيرة جداً في مسألة إطلاق البصر إلى السماء, من هذه الحكم: هو بيان عظمة الله سبحانه وتعالى, ولهذا كثيراً ما يستدل الله عز وجل على قدرته على الخلق بخلق السماوات والأرض, ومن أعظم المخلوقات السماوات والأرض, ولهذا في سائر القرآن نجد أن الله عز جل يقدم السماوات على الأرض إلا في مواضع يسيرة, موضعين أو نحوها فيقدم الله عز وجل الأرض على السماوات, ولكن في غير باب التفكر, وأما ما كان من أمور التفكر فكلها يقدم الله عز وجل فيها السماوات على الأرض؛ لأن السماء أعظم خلقاً من الأرض, كذلك أيضاً أن السماء أيسر في أمر المشاهدة من الأرض, فإن الإنسان لا يرى إلا مد بصره بالنسبة للأرض, ولو كانت الأرض مبسوطة لكن لا يرى إلا محيطه الذي حوله, بخلاف السماء؛ يرى الفجاج والأبراج ونحو ذلك, فإنه يرى فيها من الآيات والعبر ما لا يراه في الأرض, ولهذا قدم الله عز وجل في حال الاعتبار في مسألة إطلاق البصر السماوات على الأرض, فالناظر إلى السماوات يزداد إيمانه, وتظهر عليه علامات التوكل على الله عز وجل إذا أدام النظر والتوكل على الله جل وعلا.
وكذلك أيضاً فيه إظهار أسماء الله عز وجل وصفاته, فإن أسماء الله عز وجل وصفاته تظهر بظهور آثارها, , فإن الله عز وجل هو المدبر, الخالق, الرازق, المقدر, فإذا نظر الإنسان إلى جريان هذه الأفلاك وما فيها, ولطف الله عز وجل بالبشر وبهذه المخلوقات ألا تضطرب عن مسيرها, مع أنها خلقها الله عز وجل منذ ملايين السنين, خلق الله عز وجل هذه الأفلاك وهذه الأجرام وتسير في السماء ثم يلطف الله عز وجل بعباده أن لا يختل هذا النظام, وألا ينزل الله عز وجل الشهب إلا على من عصاه, وفي هذا بيان لقدرة الله سبحانه وتعالى, وكذلك أيضاً دقته وتدبيره وقدرته على عباده جل وعلا.
كذلك المعنى الثالث من فوائد النظر إلى السماء: أن الإنسان كلما أطلق نظره إلى السماء ظهرت له عظمة الله جل وعلا فاستصغر غيره من أهل الأرض؛ من الملوك, والسلاطين, والطواغيت, وكذلك أيضاً من الأوهام من الأصنام والأوثان, وما يتعلق به الإنسان من الخرافات وغيرها من الأبراج والجن فهؤلاء يضعفون عنده إذا أطلق بصره وتأمل حقيقة هذا الكون وخلق السماوات والأرض, وهذه الكواكب المترامية الأطراف, متباعدة الأماكن, منتظمة السير, التي تسير وتسبح في هذا الكون يدرك أن هؤلاء ممن يعظمون أنفسهم في الأرض وفي غير الأرض ما هم إلا ضعفاء عند الله سبحانه وتعالى, فإذا كان هؤلاء عند الله عز وجل كلهم على حال واحد, ولهذا الله سبحانه وتعالى يبين للإنسان في حال المقارنة؛ لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ [غافر:57], أكبر من خلق البشر, أكبر من خلق الجن, أكبر من خلق الشجر والدواب وغيرها, لهذا الإنسان إذا أدرك حقيقة خلق السماوات والأرض أدرك ضعف غيرها, وهذا يزيد الإنسان اعتماداً على الله, وعدم الخشية من الخلق فيما يريده الله سبحانه وتعالى, وكذلك في امتثال أمر الله عز وجل وإقامة شرائعه ونحو ذلك.
كذلك أيضاً المعنى الرابع: أن يغرس الإنسان في نفسه الخوف من الله عز وجل, فإذا ظهرت قوة الخالق للإنسان وتجلت فإنه يخافه, يخاف البطش ويخاف العقاب, ويرجو من الله سبحانه وتعالى دفع البلاء, ويتوكل عليه إذا احتاج شيء فلا يرفعه إلا الله سبحانه وتعالى, فإن الإنسان يتوكل على الله عز وجل إذا استحضر في قلبه أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يرفع ذلك البلاء عنه, وإذا عظم المخلوق في قلب الإنسان فإنه يعتمد عليه, وبقدر ما يعمر قلب الإنسان بعظمة شيء يتوجه إليه عند الحاجة ولو كان وهماً, وكلما يعظم البلاء لدى الإنسان يتجرد الإنسان من المخلوق الذي لا يحسن صرف ذلك البلاء, ويكون البلاء للإنسان كحال الهرم, كلما يعظم البلاء لدى الإنسان يقل اعتماد الإنسان على المخلوقين, وإذا احتاج الإنسان مما يقدر عليه المخلوقين توجه إلى المخلوقين وانصرف عن الله؛ لأن قدرة المخلوق على الشيء الحقير تجعل الإنسان يتعلق به دوماً؛ لأن الإنسان يتعلق بالمبصر أكثر من تعلقه بالغيبي, لأن أمر الله غيبي, فيتعلق بما بيد الإنسان ولا يدرك الإنسان أنه في يد الله عز وجل يهبه من يشاء, ولكن الإنسان يتعلق بأمر المخلوق فيتوجه إليه, ولهذا المشركون إذا ركبوا في الفلك فاضطربت بهم دعوا الله مخلصين له الدين؛ لأن أمثال هذه الأحوال أحوال نادرة, فيعلمون أنه لا يقدر عليها إلا الله عز وجل. ومثل هذا البلاء ينزله الله عز وجل بالناس حتى يظهر الله عز وجل قدرته عليهم, وألا مجيب لهم ولا كاشف للضر إلا الله سبحانه وتعالى, ولهذا يقول الله جل وعلا: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس:106], والمراد بالظلم هنا هو الإشراك مع الله عز وجل؛ كما في قول الله سبحانه وتعالى: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].
وكذلك من المعاني في مسألة إطلاق البصر: إظهار ضعف الإنسان وانكساره بين يدي الله سبحانه وتعالى, فإن الإنسان إذا أطلق بصره إلى السماء أظهر ضعفه بتعظيم غيره, فإن الإنسان يطلق البصر إلى المحبوب والمعظم, بخلاف المكروه, فإن المكروه يصرف الإنسان بصره عنه, فالإنسان إذا كره منظراً صرف بصره, فربما نظر إليه بنظرة واحدة ثم أعرض عنه, بخلاف الأمر المحمود والمحبوب والمعظم, والذي يذهل الإنسان فإن الإنسان يطلق البصر فيه دوماً, ولهذا إذا أطلق الإنسان بصره إلى السماء أطلق بصره إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله عز وجل يظهر قوته للإنسان بذلك فيظهر ضعف الإنسان ببيان عظمة الله سبحانه وتعالى عنده.
وفي قول الله جل وعلا: فِي السَّمَاءِ [البقرة:144], وذلك المراد بالسماء هي ما علا الإنسان, ولهذا كل ما علاك سماك, فينظر الإنسان في السماء, في النجوم والأفلاك والكواكب باعتبار أنها من آيات الله سبحانه وتعالى.
أما النظر في السماء في الصلاة.
فأمر الصلاة مستثنى, وهو منهي عنه؛ كما جاء في الصحيحين أن رسو الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء ), وهذا دليل على التحريم, والمراد هنا في خارج الصلاة.
في قوله: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144], والمراد بـ(نُوَلِّيَنَّكَ), يعني: نوجهنك إلى قبلة ترضاها, وفي قوله جل وعلا: (تَرْضَاهَا), ليس معنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرضى القبلة الأولى وهي المسجد الأقصى, ولكن لدى النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه فاضل ومفضول, ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبح بذلك؛ لأنه لا يليق بعبد أن يتلفظ بفضل شيء يراه وهو يرى أن الله عز وجل فضل غيره له, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الله عز وجل أن يتوجه إلى المسجد الحرام ويضمر رضاه في ذلك في نفسه, فالرضا محله النفس والقلب, والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكتفي بالدعاء, والدعاء قد يقول قائل: إنه يتضمن إظهار الرضا, نقول: الدعاء في ذاته عبادة, فهو يتوسل إلى الله عز وجل بعبادة يحبها فإن أجابه الله عز وجل وإلا بقي على ما هو عليه.
وفي هذه الآية أيضاً في قول الله عز وجل: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144], أنه ينبغي للمؤمن أن يعلم أن النفس قد تحب شيئاً ولكن الله عز وجل أراد لها شيئاً آخر, وامتثال أمر الله سبحانه وتعالى ينبغي ألا يخالفه الإنسان ويصيره على ما يهوى, ولهذا يجب عليه أن يمتثل أمر الله عز وجل ولو كانت نفسه تميل إلى غيره, فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب تعجيل القبلة والله عز وجل أخره، وتأخيره في ذلك أن الله راض بهذا التأخير, و النبي صلى الله عليه وسلم بشر, وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل رغبته القلبية في توجهه إلى المسجد الحرام قبل ذلك أحب إليه من التوجه إلى المسجد الأقصى, فدعا الله عز وجل راغباً بتحقيق تلك المحبة وذلك الرضا, ولهذا نقول: قد يوجد في بعض الخُلَّص والكُمَّل من العباد, ويوجد أيضاً في بعض العباد من سائر الناس من يميل إلى بعض الأشياء التي تخالف أمر الله سبحانه وتعالى, وهذا لا حرج عليه في ذلك, ولكن ليحذر من التلفظ بهذا؛ لأن اللفظ بذلك هو مخالفة لأمر الله, ومضاهاة له جل وعلا, ولهذا خواطر النفس التي تطرأ على الإنسان من ميل الإنسان إلى الشهوات, وإلى ترك الواجبات؛ لاعتبار أن فيها كلفة على الإنسان, ولكن لا يجوز له أن يقول: لو لم يفرض الله عز وجل علينا الصلاة لكان خيراً, أو لو لم يفرض الله عز وجل علينا الحج لكان أريح لنا ونحو ذلك، هذا لا ينبغي أن يكون من مؤمن, وإن وجد في القلب الإنسان, ووجوده في قلب الإنسان هذا مما لا يؤاخذ الله عز وجل عليه الإنسان, ولهذا وجود أمثال هذه الأمور لا تعني نفاقاً في العبد ما لم يتكلم, فإذا تكلم فإنه يتدرج في دائرة النفاق بقدر زيادته بالتلفظ ومعارضة أمر الله عز وجل قولاً وعملاً, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بإضمار مطلوبه في عبادة؛ وهو دعاء لله عز وجل أن يوجهه إلى المسجد الحرام, ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم حياء من الله يكتفي بالنظر إلى السماء وتقليب بصره من غير دعاء, وذلك أن الله عز وجل وجهه إلى المسجد الأقصى فبقي عليه الصلاة والسلام على ذلك, وكان يطلق بصره إلى السماء, والله عز وجل يعلم ما في قلبه, فلم يتلفظ, وهذا معنى محتمل.
وفي قول الله عز وجل: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144], ابتدئ الله عز وجل بتوجيه وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام, ووجه الخطاب إليه منفرداً, وذلك إكراماً وتعظيماً له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المتسبب بالتوجيه إلى هذه القبلة, والله عز وجل أجاب دعاءه إكراماً له, والشخص إذا وجه إليه الخطاب بنفسه ثم جاء اللفظ عاماً لغيره دليل على إكرامه وتفضيله على غيره, ولهذا الأصل في الألفاظ التي تتوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنها تتوجه إلى غيره, فأدخل الله عز وجل غيره معه دفعاً للبس الذي ربما يطرأ على بعض الناس أن القبلة هي للنبي عليه الصلاة والسلام, فقال الله عز وجل: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ [البقرة:144], يعني: جميعاً, فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144], دليل على أن القبلة هي لسائر الناس, وإن كان يفهم ذلك من توجيه الخطاب إلى النبي عليه الصلاة والسلام, وهذا ظاهر في قول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في مسلم من حديث أبي هريرة قال: ( إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ), أي: أن المؤمنين يدخلون في خطاب الأنبياء بداهة, ولكن الشريعة لم تأت للصدر الأول, الفصحاء, البلغاء, وإنما أيضاً جاءت لمن في قلبه مرض أن تدفع الشبهات التي ربما تطرأ بعد قرناً أو قرنين أو في آخر القرون, فجاءت الشريعة مثبتة مبينة لسائر الأحكام, فربما لو جاء الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام لجاءت أقوال بأن الإنسان مخير، وأن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم؛ كخصائصه في قيام الليل, وجملة من خصائصه التي خصه الله عز وجل من النكاح وتعدد النساء زيادة عن أربع ونحو ذلك مما يقوله بعض أهل الأهواء, ولكن الله عز وجل حسم هذا الأمر بقوله: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144].
في قوله جل وعلا: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144], المراد بذلك نحوه, جاء هذا التفسير عن عبد الله بن عباس كما رواه ابن جرير الطبري من حديث علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس.
وجاء أيضاً عن مجاهد بن جبر كما رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر أنه قال نحوه.
وجاء أيضاً عن بعضهم تلقاء, يعني: تلقاء المسجد الحرام, والنحو والتلقاء والناحية والجهة بمعنى واحد, وإنما جاء هذا الأمر في قوله: ( شَطْرَهُ ), و( وِجْهَةٌ ), جاء هذا اللفظ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالمدينة, فكان الأمر إلى النحو, يعني: إلى الناحية, بخلاف ما إذا كان الإنسان عند الكعبة فيجب عليه أن يصوب باتفاق العلماء ولا خلاف عندهم في ذلك. والخطاب هنا يتوجه إلى المأموم والإمام والمنفرد, قائماً وقاعداً وعلى جنب, ويستثنى من ذلك صلاة النافلة في السفر, إذا كان الإنسان مسافراً فإنه لا حرج عليه أن يصلي إلى غير القبلة على الدابة, ولكن هل يجوز للمسافر أن يصلي إلى غير القبلة إذا كان على غير الراحلة، الجواب: ليس للإنسان أن يصلي إلى غير القبلة إلا إذا كان على الراحلة في السفر, وأما إذا كان على غير راحلة ولو كان يصلي النافلة فيجب عليه أن يصلي تجاه القبلة؛ لدخوله في العموم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترخص في الصلاة إلى غير القبلة إلا حينما كان على الدابة؛ كما جاء عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله في الحديث الصحيح, قال: ( كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مسافراً من مكة إلى المدينة, و النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته يومئ إيماء جهة المدينة ), يعني: يصلي عليه الصلاة والسلام, والمراد بهذا هو التيسير على الإنسان في أمر النافلة, والتشديد في أمر الفريضة فإنه ليس للإنسان أن يصلي إلا إليها.
وهنا مسألة في قول الله عز وجل: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144], هذا خطاب للمؤمنين فرادى وجماعات, فرادى للمأموم والمنفرد, وجماعات للمأموم والمنفرد, وهذا فيه إشارة إلى أن المأموم يجب عليه أن يتوجه إلى المسجد الحرام إذا كان خلف الإمام, أن يصلي إليه تصويباً, ولكن تقدم الكلام على أن الإنسان إذا كان يصلي خلف الإمام وكان ناحية المسجد وهو بعيد عنه وخرج عن طرفه شيئاً يسيراً, ولكن ما زالت الكعبة على وجهته, نقول: يعفى عن ذلك ما لم يخرج الإنسان عن وجه الكعبة إذا كان مأموماً, هذا في أمر المأموم, وذلك أن الصحابة عليهم رضوان الله, كانوا كذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حيث كانوا يصلون خطاً مستقيماً من جهة الباب, من جهة الحجر إلى نهاية الحجر, ثم بعد ذلك يصفون صفاً آخر, ثم بعد ذلك كانت الصفوف مستديرة بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم, قبيل المائة من الهجرة, بعد زمن الخلفاء الراشدين, وربما في أواخر زمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأول من وضع الصفوف مستديرة هو خالد بن عبد الله القسري , وهذه الاستدارة إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يتوجه, وذلك لما كثر الناس وشق عليهم أن يصفوا صفوفاً طويلة متباعدة, وبقي أمر الناس على هذا, وهذا فيه إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان ألا يخرج عن جهة الكعبة ولو كان مأموماً.
وفي قوله جل وعلا: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:144], هذا فيه إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يحب التوجه إلى المسجد الحرام دفعاً لاستغراب يهود, أو فرحهم بتوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى, خشية أن يكون ذلك سبباً لبقائهم على دينهم, أو اغترار غيرهم من الجهلة أو المنافقين بما هم عليه, ومعلوم أن من كان بالمدينة من أهل الكتاب لم يكن فيها إلا يهودا, وليس فيها نصارى, فكان اليهود يفرحون بتوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى فرحاً مقروناً باستغراب وعجب, أي: كيف يخالفنا ويخطئ ديننا ثم يتوجه إلى قبلتنا, فهل أخذها منا أم جاء بوحي جديد؟ فلماذا يخالفنا في سائر دينه ويوافقنا في عمود دينه, وهو أمر الصلاة؟ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يتوجه إلى المسجد الحرام, وهذه المحبة غيرة على دين الله عز وجل, وكذلك أيضاً فيه إشارة إلى كراهية ما عليه اليهود بالموافقة, ولهذا نقول: إن الإنسان إذا كان يوافق اليهود ولو على الأرض عليه أن يبين المخالفة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ما لم يترك الحق الذي أمر به, وإن وجد عليه لزاماً أن يوافقهم ولو في الحق وجب عليه أن يكره ذلك قلباً, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله عز وجل أمره بالتوجه إلى المسجد الأقصى أحب النبي صلى الله عليه وسلم غيره أكثر منه, وهو التوجه إلى المسجد الحرام مع بقائه ومحبته أمر الله سبحانه وتعالى, ولكن فضل المسجد الحرام على غيره, وذلك دفعاً لشبهة يهود.
وفي هذا أيضاً إشارة إلى مكر يهود القديم بالتعلق بالمسائل الشرعية والدينية, والتشبث ببعض المسائل التي جاءت في دين الإسلام ومقارنتها بما هم عليه, وإثارتها بما لديهم أن النبي صلى الله عليه وسلم تأثر بما لديهم, وهذا أيضاً يظهر حتى عند النصارى, وخاصة عند المتأخرين من طائفة البروتستانت الذين يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما تأثر ببعض النصارى الذين لقيهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ كـبحيرا الراهب ونحو ذلك فأخذ شيئاً من تلك الوحدانية, ومعلوم أن البروتستانت ينفون التثليث, وهذا نوع من التدليس الذي انطلى على جملة من طوائف النصارى.
وفي قول الله عز وجل: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة:144], المراد بذلك هم أهل الكتاب, أي: يعلمون أن الله عز وجل إنما خص نبيه بالحق سواء كان إلى المسجد الحرام أو إلى المسجد الأقصى, والله عز وجل يعلم يا محمد بما يعملون معك, وما يقولون لك, وما يحبون ويضمرون في قلوبهم, ولكن الله عز وجل أجل توجيهك إلى القبلة لحكمة بالغة, ولهذا نقول: إن أمور التشريع إذا لم تكن بهذه المسارعة لرغبة محمد صلى الله عليه وسلم -وهو من هو بمقام العبودية- فإنها لن تكون لغيره من باب أولى, ولهذا الذي يريد أن يوجه أمر الله إذا جاءت شريعة, أو أراد إنزال حكم على قوم, أو أحب رفع حكم عن قوم ونحو ذلك؛ نقول: إن الشريعة ليست على الأهواء وإنما هو امتثال أمر الله سبحانه وتعالى.
قال الله جل وعلا: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ [البقرة:158], هذه الآية هي الآية التي سنتكلم عليها بإذن الله عز وجل في هذا المجلس.
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158], الصفا والمروة هم جبلان ظاهران من ناحية طرفي باب الكعبة, وهما من جهة الكعبة الشرقية, والمراد بالصفا هو الحصى الأملس, والمروة هو الجبل الصغير, وكان في الجاهلية قد نصب عليها الجاهليون أصناماً, وقيل: نصبوا عليها صنمين: صنماً على الصفا, وصنماً على المروة, فيطوفون بينهما ويمسحون هذا ثم يمسحون الآخر, فكانت عقيدة راسخة لديهم في ذلك, فلما شرع الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام المناسك: الحج والعمرة؛ شرع تبعاً لذلك السعي بين الصفا والمروة, وكان المسلمون الذين دخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام لاستحضارهم الوثنية التي كانت في ذلك الموضع استثقلوا السعي بين الصفا والمروة, فإن الطواف حول الكعبة أظهر في العبودية إذا زالت الأصنام, فإنهم يعلمون أن العبودية فيها باقية, بخلاف الجبلين, باعتبار أنهما في ناحية منفصلة عن الكعبة, وما كان بين الكعبة وبين الصفا والمروة بيوت لطوائف من قريش, فيرون أن الصفا والمروة منفكة عن الكعبة, ولهذا يستثقلونها ويرون أن ذلك من عمل الجاهلية, فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية فرده كفار قريش عنها جاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في عمرة القضاء, فطاف النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت, وسعى عليه الصلاة والسلام بين الصفا والمروة, فاستثقل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك السعي, فأنزل الله عز وجل على نبيه عليه الصلاة والسلام: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158], إشارة إلى أن هذا الحرج الذي تجدونه في نفوسكم قد رفع بزوال سببه.
وهذه اللغة في القرآن هي من تمام بلاغته, وذلك أن الاستثناء والإباحة بعد الحظر تأتي بصورة الترخيص, وغايته هو رفع الحرج وبقاء الأمر على ما كان قبل حظره, ولهذا الله سبحانه وتعالى حينما رخص للإنسان أن يأكل للميتة قال: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:173], مع أن الإنسان إذا خشي على نفسه الموت يجب عليه أن يأكل, ولكن لما كان ذلك بعد حظر جاء على سبيل الترخيص, ولهذا نقول: حتى في لغة الناس حينما يتكلم الناس على مسألة محظورة ويريدون أن يرخصوا ولو كانت الحالة تقتضي الوجوب فيقولون: لا حرج عليك أن تفعل كذا؛ كحال الإنسان حينما يسأل فيقول: أوشكت على الموت من العطش وعندي خمر, فتقول له: لا حرج عليك, مع أنه يجب عليك أن تحيي نفسك ولو بشرب الخمر, إذا كانت لا تدفع إلا به, فما كان بعد الحظر من الترخيص أو الاستثناء برفع الحرج والإثم كما في هذه الآية, ولهذا قال الله عز وجل: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158], ولهذا الذي يستدل بهذه الآية على أن السعي بين الصفا والمروة إنما هو سنة بهذه الآية هذا فيه نظر, ولهذا تقول عائشة عليها رضوان الله تعالى كما جاء في الصحيح من حديث هشام بن عروة عن أبيه أن عائشة عليها رضوان الله تعالى قالت: ( ليس كما ترى, ولو كان كما تقول لكان فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ), لكان عكس ذلك, أن يرفع الله عز وجل عن الإنسان الحرج لوجود التكليف فيه فرفع الله الحرج, أي أنه وجد حرج نفسي في نفوس الناس فرفعه الله عز وجل بهذه الآية فبقي الحكم على قوله عليه الصلاة والسلام: ( خذوا عني مناسككم ), فيثبت هذا الأمر حينئذ من جهة أخرى بأدلة أخرى مستقلة.
وفي قوله: مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158], الشعيرة: هو الأمر الظاهر والعلم البين, ولهذا يقال: شعار بني فلان كذا, أي: الأمر الذي يظهرونه, ويشار إلى الأعلام, وكذلك المنارات ونحو ذلك تسمى شعاراً, وقيل: إن المراد بذلك هو الإخبار, يقال: أشعر فلان فلاناً أي: أخبره, وجاء هذا التفسير عن مجاهد بن جبر بإسناد صحيح عند ابن جرير , والأشهر في ذلك أن الشعائر: هي العلامات الظاهرة, فكأن السعي بين الصفا والمروة من شعائر الله, أي: من أعلام دينه الظاهرة البينة التي يشهدها الناس على اختلاف أحوالهم.
وفي قول الله جل وعلا: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ [البقرة:158], الحج المراد به: القصد, ويطلق الحج للقاصد لشيء على سبيل التكرار, فإذا قصد الإنسان الشيء مرة واحدة لا يطلق عليه غالباً حاجاً حتى يعتاد هذا الشيء, فيسمى حاجاً, ولكن غلب هذا المعنى الاصطلاحي على عبادة مخصوصة بالحج, وذلك أن الله شرع الحج على سبيل الدوام, فسمى الله عز وجل الإنسان حاجاً على سبيل التجوز ولو لم يكن مديماً الذهاب إليه ولو ذهب إليه مرة؛ لأن ذلك الموضع وهو المسجد الحرام يأتيه الناس على سبيل الدوام.
وكذلك العمرة فإن الإنسان يأتيها مشروعة على سبيل الدوام, في كل يوم يأتي, وكذلك أيضاً فإن الحج في كل عام, وقد تسمى العمرة حجاً كما جاء عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله, قال: ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً عام الحديبية ), ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية لم يكن حاجاً وإنما كان معتمراً, ومراده بذلك أي: قاصداً إلى البيت, فسماه حاجاً باعتبار أنه ذهب إلى المسجد الحرام, ومن ذهب إلى المسجد الحرام فهو حاج وقاصد, حتى ثبت هذا الأمر وهذا الاصطلاح على الحج المعروف, وهو الركن من أركان الإسلام, وأما العمرة فهي الزيارة, وقيل: إن العمرة هي من عمارة المسجد الحرام بأعمال شرعها الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام, فخص معنى الحج بالعبادة المعروفة, وهي الركن الخامس من أركان الإسلام, وأما العمرة فانفصلت بهذا الاسم, والحج والعمرة تعرف بهذا الاسم حتى في الجاهلية.
وفي قوله هنا: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158], تقدم في قوله: فَلا جُنَاحَ [البقرة:158], أن المراد بذلك فلا إثم, والجناح هنا هو الإثم؛ كما جاء تفسير ذلك عن السدي وغيره, فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158], السعي بين الصفا والمروة يسمى طوافاً, وليس معنى الطواف هو الاستدارة كما يفهمه بعض العامة, وإنما المراد بذلك هو الإنسان الذي يأتي إلى الشيء ويغادر منه مرات فهذا طائف, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في السنن, قال: ( إنما هي من الطوافين عليكم ), يعني: الهرة؛ لأنها التي تأتي إليكم وتغادر, يعني: تأتي مرة بعد مرة, وكذلك أيضاً في حديث أنس بن مالك قال: ( طاف النبي صلى الله عليه وسلم على نسائه ), أي: مر عليهن جميعاً, عليهن رضوان الله, وفي هذا إشارة إلى أن بعض الأحاديث التي ترد في السنة بلفظ الطواف أن المراد بها هو السعي بين الصفا والمروة, فيسمى السعي بين الصفا والمروة طوافاً, ويسمى الطواف عند البيت سعياً أيضاً, وغلب استعمال الطواف عند البيت بالطواف, والسعي بين الصفا والمروة بالسعي, ولكن حتى تفهم بعض الألفاظ التي ترد في السنة وكذلك أيضاً في كلام الله عز وجل.
وفي قوله هنا: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158], هل يصح من الإنسان أن يتطوع بين الصفا والمروة سعياً؟ معلوم أن التطوع يكون بالطواف, لا بالسعي, ولكن المراد بهذه الآية: فمن تطوع حجاً أو عمرة, وليس المراد السعي بين الصفا والمروة في حال الوجوب أيضاً بل هو أيضاً في حال التطوع, فيمن تطوع بشيء من المناسك بالحج والعمرة, أي: عليه أن يسعى بين الصفا والمروة, ولهذا نقول: إن السعي بين الصفا والمروة بغير حج وعمرة بدعة, وأما الطواف عند البيت فهو سنة باتفاقهم, ولا يحده في ذلك وقت, على خلاف عندهم في مسألة الأوقات المنهي عنها, وهو قول ضعيف, إلا في مسألة الركعتين خلف المقام, فهو قول قوي, بمعنى: الصلاة خلف المقام بعد الطواف هل تصلى في أوقات النهي أم لا؟ والخلاف في ذلك عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى ومن جاء بعدهم معلوم.
وفي قوله هنا: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158], إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى يعجل بثوابه خاصة لهذين النسكين, يعني: الحج والعمرة, وفضلهما معلوم, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما, والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ), كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة , وكذلك ما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام: ( من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ).
وفي هذه الآية مسألة ويوردها جملة من الفقهاء في مسألة حكم السعي بين الصفا والمروة, وهي المراد في إيرادها هنا, السعي بين الصفا والمروة،
اختلف العلماء في حكمه في الحج والعمرة على ثلاثة أقوال, وهي ثلاث روايات في مذهب الإمام أحمد :
الرواية الأولى: أن السعي بين الصفا والمروة ركن من الأركان, لا يصح الحج والعمرة إلا به, على خلاف عند العلماء في بعض فروع هذه المسألة, في مسألة المتمتع هل يجب عليه أن يسعى سعياً آخر لحجه أم يكفيه السعي الأول؟ وهذه خارجة عن مسألتنا هنا من جهة الحقيقة, باعتبار أن من رأى أنه يكفيه السعي الأول جعل السعي الأول مسقطاً عن الثاني, ولو كان مفرداً لأوجب عليه أن يسعى, وجعله ركناً, وأنه لو لم يسع لم يقبل حينئذ حجه, وهذا القول ذهب إليه الإمام أحمد في رواية, ونص عليه الإمام الشافعي رحمه الله؛ كما أسنده عنه ابن جرير عن الربيع بن سليمان المرادي المصري عن الشافعي رحمه الله, قال: لو أن رجلاً ترك السعي بين الصفا والمروة حتى بلغ أهله وجب عليه أن يرجع إليها ليسعى بينهما, لا يجزئه إلا ذلك, ومال إلى هذا القول ابن جرير الطبري إلى أنه لا يجزئه لا دم ولا كفارة من صيام ونحو ذلك, بل يجب عليه السعي بين الصفا والمروة, وهذا ربما يحمل عليه قول عائشة عليها رضوان الله كما جاء في الصحيح من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: ( ما أتم الله حج من لم يسع بين الصفا والمروة ).
القول الثاني: قالوا بالوجوب, والسعي بين الصفا والمروة قالوا: إذا لم يؤده الإنسان متعمداً أو كان ناسياً فذهب إلى بلده يجزئ عنه الدم, وهذا رواية عن أحمد , وقال به أبو حنيفة و سفيان الثوري , وذهب إليه جماعة من الفقهاء من السلف, ويستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه تأكيد كتأكيده بالطواف, وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أكد الطواف تأكيداً في نصوص كثيرة, ولو كان السعي كالطواف لوجب أن يقترن معه بالدليل، وذهب جماعة من السلف إلى عدم تأكيده وهذا جاء عن عطاء و ابن عباس و أنس بن مالك و أبي بن كعب و عبد الله بن مسعود.
القول الثالث: أن بعض العلماء من السلف ذهبوا إلى القول بالسنية, وهذا صح عن عبد الله بن عباس , وعطاء , وجاء أيضاً عن غيره من الصحابة, كعبد الله بن مسعود و أنس بن مالك.
روى ابن جرير و ابن أبي شيبة وغيرهم من حديث عبد الملك عن عطاء عن عبد الله بن عباس أنه قال في السعي بين الصفا والمروة, قال: لا جناح عليه ألا يطوف بهما, وكانت له قراءة, وهي أيضاً قراءة عن عبد الله بن مسعود, أنه قال في قول الله عز وجل: (( لا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لا يَطَّوَّفَ بِهِمَا )), ويؤخذ من هذا المعنى أن الحرج رفع في الترك, لا بالفعل, ولو كان بالفعل لكان في مسألتنا في مسألة الترخيص بعد الحظر, والترخيص بعد الحظر يأتي العبارة بالجواز, وهذا أمر معلوم, وهذا جاء أيضاً عن أنس بن مالك كما جاء من طرق متعددة عن عاصم الأحول عن أنس بن مالك أنه سئل عن السعي بين الصفا والمروة قال: السعي بينهما تطوع, وسئل عن الصفا والمروة أيضاً قال: هما تطوع, وإسناده عنه صحيح.
وجاء أيضاً عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى أنه قال: هي سنة, يعني: السعي بين الصفا والمروة, وبعض العلماء حمل ما جاء عن عبد الله بن عباس في قوله: سنة؛ أن عبد الله بن عباس يطلق القول بالسنية كثيراً ويريد بذلك التشريع, ويحمل بعضهم هذا المعنى على معنى هذه الآية, وأنه أراد دفع ما بقي من أمر الجاهلية في أذهان الناس, من كونهم يظنون ما كان من الأمور الباقية من الأصنام ونحو ذلك هو تعظيم لهذين الجبلين, وأن الجبلين من الشعائر, فأراد أن ينفي ذلك وأنها من شريعة الله سبحانه وتعالى, وقالوا: إن الإيراد على السعي والإشكال الذي طرأ عند كثير من الناس هو بسبب زوال الإشكال في أمر الطواف عند البيت, ووجوده عند الصفا دعا وفرة النصوص وأقوال السلف بالقول بمشروعيته, أي: دفع ما علق في أذهان الناس, وهذا رفع للحرج في نفوسهم, وليست لغة حكمية تثبت الحكم من جهة الوجوب أو الاستحباب, قالوا: وقد جاء في ذلك نصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك عن عبد الله بن عباس يظهر فيها الترخيص ويراد بذلك الوجوب, وأما ما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا ), فهذا الحديث لا يصح, وقد أعله غير واحد من الحفاظ, وقد تفرد به عبد الله بن المؤمل , ولا يثبت هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبعض العلماء استدل بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لتأخذوا عني مناسككم ), قالوا: وهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم للناس بأن يأخذوا عنه المناسك, وهذه إشارة إلى الوجوب, ولكن نقول: إن هذا الأمر هو للتشريع وليس لأفعال العباد, وتقدم معنا الإشارة إلى هذا في قوله عليه الصلاة والسلام: ( لتأخذوا عني مناسككم ), وأن المراد بذلك: خذوها مني لا تأخذوها من غيري؛ لوجود بقايا من أمر الجاهلية في الناس لأنهم حدثاء عهد بالشرك, فمنهم من أسلم حديثاً مع النبي صلى الله عليه وسلم, وكان قد حج قبل ذلك على طريقة الجاهلية, وكان العرب يحجون, وكانت قريش تحج, وكانت لا تقف بعرفة, ويقفون بالمشعر الحرام, وبعض العرب غير قريش يقفون في عرفة ثم يخرجون منها, فكان ثمة تبديل, فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد إلغاء ذلك كله وقال: ( لتأخذوا عني مناسككم ).
إذاً: فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام: ( لتأخذوا عني المناسك ), ليس المراد بذلك هو إيجابها جميعاً, وإنما هو حصر للتشريع عليه عليه الصلاة والسلام, لهذا نقول: إن هذا الحديث ليس فيه دلالة, كذلك أيضاً فإن هذا لو قلنا به على الوجوب لوجب أن نقول بوجوب أشياء لا يقول أحد بوجوبها؛ كتقبيل الحجر, والشرب من ماء زمزم, الرمَل, والاضطباع , وإن قال بوجوبه بعض العلماء لكنه خلاف قول الجمهور, وكذلك أيضاً ما جاء من التكبير عند رمي الحصا ونحو ذلك, ونزول النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المواضع, ودعائه على الصفا ثلاثاً, ورفع يديه كما في حديث أبي هريرة , وقوله بين الركنين: ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة ), هذه كلها من المناسك لا نقول بوجوبها, بل لو أردنا أن نسبر أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله في الحج لوجدنا أن الأكثر هو في دائرة السنية لا في دائرة الوجوب, ولهذا نعلم أن المراد بقوله: ( لتأخذوا عني مناسككم ), هو حصر التشريع, ألا يدخل معه غيره عليه الصلاة والسلام.
وأما الاستدلال بقول الله عز جل: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158], فهذا جوابه كما تقدمت الإشارة إليه أن الترخيص إذا جاء بعد حظر فإنه يأتي بصيغة الجواز؛ يعني: مثال ذلك: قطع الإشارة ممنوع, لكن لو سألت مسئولاً تقول: أنا معي شخص يريد أن يهلك, أو معي امرأة تريد أن تضع, يقول: لا مانع أن تذهب؛ لأنه أراد رفع حظر ما أراد إنزال حكم, فمثل هذا الجواب هو رفع للحظر, ولهذا نقول: إن رفع الحظر يأتي بصيغة الترخيص؛ لأنه جاء رافعاً ولم يجئ مبيناً لحكم, مع أن ذهابك إذا معك مريض يخشى عليه واجب, ولو لم تذهب لأخذت المخالفة في عدم قطعك الإشارة, هذا مقتضى العقل, نكتفي بهذا.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير آيات الأحكام [7] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
https://audio.islamweb.net