اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , إنما يخشى الله من عباده العلماء للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فكما هو معلوم في عنوان هذه المحاضرة: (إنما يخشى الله من عباده العلماء), فهذه الآية وما تتضمنه من أحكام تحتاج إلى مقدمة في حقيقة ذلك العلم، وكذلك في حقيقة ما حث الله جل وعلا على تعلمه والتبصر فيه، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد حث على التعلم وطلب العلم، وقد جاء في ذلك آيات كثيرة، وأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترة، وفضل العلم وأهميته بالقدر المعلوم الذي لا يخفى، والفطرة دالة عليه، وإنما يحتاج الإنسان إلى إبراز ذلك في الواقع؛ وذلك أن الإنسان مهما كان موصوفاً بالجهل فإنه يسعى إلى تحصيل العلم وتحقيقه، وإذا كان من الجهال ادعى العلم ولو زوراً، وهذا من مناقب العلم وفضله أنه يدعيه من ليس من أهله، وكذلك ضده؛ فإن الجهل يتبرأ منه الإنسان؛ لأنه يعلم أنه إذا وصف بالجهل فإنه حينئذٍ قد وصف بشيء مذموم، وألحقت به معرة، فيتبرأ من ذلك قدر إمكانه، سواء بلباس الزور أي: أن يدعي العلم وليس من أهله، أو أن يطلب العلم؛ لكي يتحقق فيه بخلاف ما ذم وسب به.
إن العلم محمود أياً كان؛ وذلك أن العلم الذي يوصل الإنسان إلى سعادته في دينه ودنياه من أعظم ما يحمد عليه الإنسان؛ وذلك أنه لا يمكن أن تتحقق السعادة للإنسان في دينه إلا بشيء من علوم الدنيا، ولا يمكن أن يجتمع للإنسان سعادة الدنيا وسعادة الآخرة إلا بمعرفة العلم الشرعي، والعلم الشرعي هو ما أخبر الله سبحانه وتعالى به، ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو الوحي، وما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم من إرث؛ ولهذا روى البخاري معلقاً، وقد جاء عند الإمام مسلم مسنداً قال عليه الصلاة والسلام: ( العلماء ورثة الأنبياء، لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر )؛ ولهذا يقول العلماء: إن ما جاء من إطلاق في كلام الله وفي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكر للعلم فإن المراد به هو الوحي، وهو كلام الله جل وعلا، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الأصل فيه لا ينصرف إلى غيره إلا لقرينة متأكدة تصرفه عن هذا الأصل، وجل ما جاء من ذكر العلم في كلام الله وفي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هو منصرف لذلك الإرث.
ولهذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العلماء على وصف الحقيقة والإطلاق هم الذين ورثوا الوحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ًولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر.
وإذا أردنا أن نقف على شيء من إطلاقات النصوص في فضل العلم وبيان عاقبة صاحبه، وما يحل به من وصف المحامد التي ألحقها به الشارع، فإن المراد بذلك هو التمكن من علم الشريعة والوحي؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في مسلم من حديث أبي هريرة : ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ).
والمراد بالعلم الذي يسلكه الإنسان هو: السبيل الذي يسلكه السالك حال مقصده لشيء من المرادات التي يريدها حال قيامه بها، سواء كان ذلك السلوك من السلوك البدني، أو كان من السلوك المعنوي، فإن الله جل وعلا يسهل له به طريقاً إلى الجنة، وكأنه جعل ذلك العلم طريقاً يسلكه الإنسان كحال السائرين الذين يسلكون السبل حتى تصل بهم إلى سعادة الدنيا، فكانت سعادة الآخرة حينئذٍ هي سلوك طريق العلم، ونهايتها وغايتها تقف عند الجنة، وتحقيق ذلك أنه لا يمكن لإنسان من البشر يريد أن يعبد لله جل وعلا بعبادة على الحقيقة والموافقة إلا بطلب العلم الشرعي؛ ولهذا كان العلماء على الحقيقة مع الصديقين والنبيين والشهداء من جهة المنزلة، وذلك أنه لا يمكن أن يعمل الإنسان عملاً من أعمال الفضائل، ولا أن يصل إلى مرتبة من المراتب إلا بواسطة هذا العلم الشرعي، وهذا معلوم من جهة النظر، ومتحقق من جهة العمل أيضاً بعمل الناس؛ ولهذا جاءت الأدلة متظافرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحث على العلم، وأنه من جهة التحقيق هو أصل السعادة وسبيل النجاة والكفاية من الشر؛ ولهذا امتدح الله سبحانه وتعالى العلماء والعارفين، والهداة المهتدين الذين يسلكون طريق محمد صلى الله عليه وسلم.
ولا يحق لأحد أن يدعو إلى طريق ما لم يكن بصيراً بهذا الطريق؛ ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أتم الله جل وعلا له الدين أمره جل وعلا بأن يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، فكانت هذه الدعوة إلى الله على بصيرة، يعني: على بينة ومعرفة، فلا يدعو الإنسان على جهل.
هذا الأمر ينبغي أن يفهم أنه مقصد من مقاصد التشريع في تحقيق هذا العلم؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيح من حديث أبي هريرة : ( من دل على هدى فله أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة )، وهذه الدلالة لا بد أن تتحقق للتمييز بين الحق والباطل؛ فإن الإنسان لا يمكن أن يدعو إلى هدى إلا وقد عرف الهدى قبل الدعوة إليه، ولا يمكن أن يعرف طريق الشر ويحذر منه إلا وقد تحققت فيه معرفة ذلك الشر قبل الدعوة من التحذير إليه، فلما كان كذلك كانت الخطورة حينئذٍ في مقام العلماء، وتمييزهم عن الجهال.
الذين يرفعهم الله سبحانه وتعالى بالعلم على الحقيقة هم العلماء الذين تحقق فيهم الوصف، بخلاف الجهال الذين تحقق فيهم الجهالة، ورفعهم حينئذٍ العامة وسواد الناس، وصدروهم وجعلوهم من علية القوم، فيَضلون ويُضلون، ومعلوم أن الجهل إذا انزاح من الإنسان لا بد أن يحل محله العلم، وإذا انزاح العلم حل محله الجهل، وإذا انزاح العالم حل محله الجاهل، وإذا انزاح الجاهل حل محله العالم، وهذه سنة مطردة في كل حال، وفي كل زمن؛ ولهذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو قال عليه الصلاة والسلام: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ).
وهنا وقفات مهمة مع هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من جليل الأخبار وعظيمها، وكذلك من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، بقوله: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً )، هذا القابض هو الله، فيه دلالة على أن المبقي والرافع هو الله بالنسبة لمن تحقق فيه وصف العلم.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام هنا: ( حتى إذا لم يبق عالماً )، فالمبقي هو الله، ( اتخذ الناس رءوساً جهالاً )، الذين اتخذوا الجهال هم الناس، وهم الذين صدروهم، فبقاؤهم ببقاء هؤلاء الناس الذين يرفعونهم على أكتافهم، فإذا زال هؤلاء العوام الذين صدروا هؤلاء الجهال زالوا بزوالهم، ولم يبق لهم حينئذٍ أثر، وبه يعلم أن ولاية العالم لا يمكن أن يسقطها أحد، وأما ولاية الجاهل فهي التي يسقطها الناس؛ لأنهم من جهة الأصل هم الذين رفعوها بلا ولاية العالم بعلمه وبقائه بإظهار الحق وبيانه للناس، والتحذير من الشر على أي حال وعلى أي صورة كانت، كذلك أيضاً إذا علم هذا علم أن رفعة الله جل وعلا للعالم وبيان منزلته له في هذه الدنيا لا يمكن أن تزول إلا بزوال ذلك السبب، وزوال ذلك السبب بالأسباب الشرعية التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذا صار الإنسان عالماً بعلم الله جل وعلا، إلا أنه لم يكن من العاملين بهذا العلم، فحينئذٍ يحق عليه الوصف أنه كحال علماء بني إسرائيل الذين حملوا العلم ولم يعملوا به، فاستحقوا المقت والعذاب من الله سبحانه وتعالى.
والإنسان الآخر هو من تحقق فيه وصف العلم، لكنه نكس على عقبيه، فدعا إلى خلافه، فالأول قد تعلم العلم، ولكنه لم يعمل بذاته، والثاني تعلم العلم ودعا إلى غيره، فكان على بصيرة من جهة التحقيق بهذا العلم، فكتمه ودعا الناس إلى غيره، ففيه شبه أيضاً ببني إسرائيل، وهذا لا شك أنه أشد خطراً، فذاك ضرره لازم على نفسه وخيره متعد إلى غيره، والثاني ضرره على نفسه ومتعد إلى غيره، وهو أشد تلبيساً على العامة من الأول، وذلك أن الأول قد اتبع شهوات النفس، وأما الثاني فإنه اتبع شهوات الغير وباع دينه بدنيا غيره، وهو أشد ضلالاً وانحرافاً.
لهذا ينبغي للعالم إذا أراد أن يسلك طريق العلم، وأن يكون على بصيرة بأمر الله جل وعلا وأن يكون مخلصاً في قوله وفعله، وأن يبتدأ تحصيل العلم لله سبحانه وتعالى؛ فإن أعظم ما يضل فيه الإنسان في هذا الباب أن يطلب العلم لغير الله، فإذا طلب العلم لغير الله فإنه يبلغه حينئذٍ لغير الله، فإذا بلغه لغير الله دعا الناس في حال عدم وجود معرفة لديه في مسألة أو نازلة دعاهم إلى شيء من غير التشريع يظنه ويزعمه تشريعاً، فدعا الناس حينئذٍ إلى البدعة؛ ولهذا اقترنت البدعة بالجهالة مع ادعاء العلم، وذلك أن البدعة تنسب إلى الشريعة بخلاف المعصية؛ فإن الإنسان يفعلها مع إقراره بمخالفة الشريعة، فهو يفعلها ويستغفر ويتوب، ويتوب الله جل وعلا عليه إن علم صدقه، بخلاف المبتدع الذي يفعل البدعة وينسبها زوراً للشريعة، فإن قلده الناس على ذلك كان الأمر متناسخاً، والإثم والوزر على ظهره باقياً؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما جاء في حديث عبد الله بن عباس و أبي هريرة و أبي موسى ، قال-: ( إن الله لا يقبل من صاحب بدعة توبة )، سئل الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى كما في بعض مسائله عن قوله عليه الصلاة والسلام: ( لا يتقبل الله من صاحب بدعة توبة )، قال: لا يوفق إلى التوبة؛ وذلك أن الإنسان إذا فعل بدعة من البدع ودعا الناس إليها فرجوعه عنها من الصعوبة بمكان، وذلك أن الناس قد قلدوه على هذه البدعة وهذا العمل الذي يزعم أنه من الوحي، فإذا استمر الناس على هذا العمل، فيقع في نفسه، ويشرب في قلبه حب الأتباع، فإذا أشرب في قلبه ذلك علم أنه إن نكس على ذلك خسر أولئك الأتباع باتباعهم على تلك الضلالة بخلاف الذي يدعو إلى جهالة، فإنه لا يكابر وسيتوب، فإن تاب تاب الله جل وعلا عليه ورجوعه أقرب من رجوع صاحب البدعة، والناس حينئذٍ يتبعونه ويعلمون أن اتباعهم على هوى لا على علم، وكذلك أصحاب الغواية من أصحاب المعاصي والفسوق إذا تاب صاحب المعصية والفسق في الغالب أن الناس يتأثرون به ممن يقتدى بقوله وفعله، بخلاف صاحب البدعة فإنه يكون ملازماً لها، فإن فتح الله جل وعلا على قلبه ورجع قلما يتبعه من أصحابه من سلك طريقه بجهالة، وذلك أنهم يذمونه لو عرف الحق ثم رجع عنه، وهذا معلوم مشاهد عند طرائق أهل البدع ورءوسهم الذين يدعون إلى الضلال بزعم أنه من العلم والوحي.
ولهذا يتكلم العلماء على أهمية النية وأنها من عظيم الأمور في عمل الإنسان وعلى الأخص في مسألة العلم وطلبه؛ فإن الإنسان إذا تحقق فيه وصف الإخلاص لله سبحانه وتعالى في القول والعمل، وفقه الله جل وعلا وأعانه، وكان من أهل الثبات، بخلاف الذي فيه أصل الإخلاص، لكن يرد عليه شيء من النواقض كالرياء والسمعة وغير ذلك فإنه ينقص عن هذا؛ لأن من كانت حاله كذلك يقل عند الإخلاص في عبادة السر وعمله؛ فإن الإنسان إذا كان يطلب العلم لغير الله، أو يتعبد بالعبادة لغير الله؛ فإنه في باطن أمره لا يطلب العلم في خفايا الأمر وفي سره، وكذلك المتعبد لله جل وعلا في العلن لا يتعبد في السر، وهذه حال المنافقين؛ ولهذا قد جعل الصحابة عليهم رضوان الله تعالى عبادة السر هي الفارقة بين المؤمن والمنافق، كما روى ابن عساكر في كتابه تاريخ دمشق وغيره، قالوا: من حديث عمران أن رجلاً جاء إلى حذيفة بن اليمان وسأله عن النفاق فقال: أتصلي إذا خلوت؟ وتستغفر إذا أذنبت؟ قال: نعم. قال: اذهب فما جعلك الله منافقاً، وفي هذا إشارة إلى أن الإنسان إذا تعبد لله سبحانه وتعالى بعبادة سر، فإن الله سبحانه وتعالى أعطاه براءة من النفاق؛ لأن الإنسان إذا تجرد لله جل وعلا بعبادة الخفاء كان دافعاً له بالإكثار من عبادة الظاهر، وكذلك من المؤكدات على صدق وإخلاص ظاهر الإنسان، وإذا علم ذلك في سائر العبادة علم هذا في أشرفها، وأشرف العبادات على الإطلاق هو العلم بالله سبحانه وتعالى وبمعرفة أحكام الله جل وعلا؛ وذلك أن الإنسان لا يمكن أن تتحقق فيه عبادة فاضلة أو مفضولة إلا عن طريق العلم، فلا يمكن أن يوحد إلا بالعلم، ولا يمكن أن يقيم أركان الإسلام إلا بالعلم فيها.
لهذا كان العلماء أعظم الناس منزلة عند الله سبحانه وتعالى، وأولهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم، لما كان كذلك عليه الصلاة والسلام أعلم الناس وهو مبلغ الوحي عن الله جل وعلا بواسطة جبريل.
وكان من بعده هم أتباعه عليهم رضوان الله تعالى من الصحابة والتابعين، وأئمة الإسلام ممن أخذ العلم عنه كانوا تبعاً له، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من علم الله العلم البشري المطلق الكامل، ومن جاء بعده من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أقرب إلى الكمال والنقص فيهم بحسب قربهم وبعدهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، من تقدم في الإسلام ومن تأخر.
وكذلك طول المكث والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهود مجالسه، ومنزلتهم في ذلك بحسب منزلتهم من القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كان كذلك علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من علم يتعلمه أصحابه وأتباعه ويعملون به إلا كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك أجر، وكذلك المبلغون ممن يأتون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغوا حكماً لمن جاء بعدهم إلا كان الأجر لمن بلغ، أحصاه الله جل وعلا ونسيه الناس.
ولهذا كثير من الناس يعمل كثيراً من العبادات كأركان الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام، وإذا سئل من علمك ذلك لا يستحضر أحداً بعينه علمه تلك العبادة، ولكن الله جل وعلا يعلم مفاصل الأمور ودقائقها: الصلاة قد تعلمها من فلان، والزكاة قد تعلمها من فلان، وتأكدها وبينها من فلان، فتلك الأجور تأتي بحسب المبلغين والعارفين الذين بلغوا ذلك العلم، فتناسخ ذلك العمل وذلك العلم في الناس، وكانت الأجور بحسب قدر المبلغين؛ ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم الأجر العظيم والمزية الكبرى على جميع من جاء بعدهم، وهذا من أعظم الفضائل والخصائص التي خصهم الله جل وعلا بها، وقد اختارهم من صحبة نبيه، وجعلهم جل وعلا هم المبلغين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن العلم هو أفضل العبادات على الإطلاق، وهذا بإجماع العلماء فرضه أفضل الفروض، وواجبه أفضل الواجبات، وسنته ومستحبه أفضل المستحبات على الإطلاق، وقد حكى الإجماع على ذلك جماعة من السلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مروي عن عبد الله بن عمر ، و عبد الله بن عمرو و عبد الله بن عباس و أبي ذر و أبي الدرداء ، وروي عن جماعة من التابعين، وهو قول الإمام مالك و الشافعي و أحمد و أبي حنيفة ، وغيرهم من أئمة الإسلام، ومن نظر إلى نفسه في الحث على العلم وبيان فضله وبيان طرق السالكين له وجد ذلك ظاهراً بيناً، بل إن الإنسان إذا استفرغ وسعه بتحصيل العلم، ولو كان من العلم المفضول إذا كان حفظ ذلك العلم مما تحفظ به تلك المسألة، ولا حافظ لها إلا ذلك الشخص كانت في حقه أولى من الفرائض ومتأكدات النوازل؛ ولهذا كان جملة من العلماء ربما تساهلوا ببعض النوافل، وتركوها لأجل تحقيق العلم، وقد جاء عن الإمام مالك عليه رحمة الله تعالى -كما رواه الخطيب البغدادي في كتابه الجامع، وكذلك رواه ابن عساكر- أن الإمام مالك عليه رحمة الله تعالى كان جالساً في حلقة من مسجده فجاء أحد من أصحابه فوضع الألواح ثم ذهب يصلي، قال له الإمام مالك عليه رحمة الله: ما الذي ذهبت إليه بأفضل مما قمت منه، يعني بذلك طلب العلم؛ ولهذا يقول أبو زرعة عليه رحمة الله تعالى: آثرت مجالس الإمام أحمد عليه رحمة الله على النوافل، يعني: ما يفعله من الحرص على العلم أفضل من أداء النوافل في حال ورودها.
مع أنه ينبغي لطالب العلم أن يكون من المكثرين من العبادة والصلاة والاستغفار، وأن يكون له بذلك مزية وخصيصة عن غيره من عامة الناس؛ ولهذا كان العلماء عليهم رحمة الله تعالى لا يفرقون في أداء العبادة بين الحل والترحال، وهذا من حرصهم عليها.
وقد ذكر ابن أبي يعلى في كتابه طبقات الحنابلة عن الإمام أحمد عليه رحمة الله أنه كان في ليلة مسافراً ومعه أحد أصحابه، فلما قام الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى في ليلة من الليالي يصلي فوضع ماءه عند صاحبه، فلما قام لصلاة الفجر وجده لم يمسه، فقال: لم لم تمس الماء؟ قال: إني مسافر، فقال: سافر مسروق وما نام إلا ساجداً يعني: من كثرة عبادته.
وإذا نظرنا إلى حال الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى في مثل هذا الموضع، وكذلك حال الأئمة في مواضع أخرى، نجد أنهم يفرقون بين المسائل المتزاحمة في مسائل تحصيل العلم وتحقيقه إذا كان لا يتحصل الإنسان تحقيق العلم إلا بمزاحمة عبادة أخرى فإنها تقدم العبادة على غيرها؛ ولهذا قد ذكر عن الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى كما ذكر ابن الجوزي وغيره، وكذلك البيهقي أن الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى سافر من العراق إلى صنعاء يريد طلب العلم عند عبد الرزاق ، فلما قدم إليه طرق بابه فخرج.. وكان الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى شاباً فتياً في أول فتوته، فخرج بقال فقال: لا تزعج الشيخ يا فلان! قال: فابتعد الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى عن الباب حتى خرج عبد الرزاق من بيته، فقال: ابتدره الإمام أحمد عليه رحمة الله فسلم عليه فقال: يا شيخ! إني قدمت من العراق أريد أن أكتب عنك، قال: من أنت؟ فقال: أنا أحمد بن حنبل ، قال: فاعتنقني فقال: آلله أنت أحمد بن حنبل ؟ قال: نعم، قال: ثم أخذ يحدثني حتى اشتبكت النجوم، فكان الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى إذا تذكر عبد الرزاق بكى، وذلك أنه قد عُرف باسمه عنده وهو شاب فتي في أول عمره، أي: أن بلغ خبره عبد الرزاق وهو في صنعاء فارتحل إليه فوجد اسمه عنده عليهم رحمة الله.
على طالب العلم أن يتحقق فيه الإخلاص لله سبحانه وتعالى، فإذا حرم الإنسان في ابتداء الأمر الإخلاص في الغالب أنه يحرم التوفيق والثبات، وإذا ازداد من العلم ازداد معه عدم الإخلاص حتى ينحرف الإنسان في أبواب العلم وفي أبواب البلاغ؛ ولهذا من أعظم ما يضل الأمة في سبيلها وهدايتها: أن يتعلم العلم غير المخلصين لله جل وعلا فيبلغ العلم بأهوائهم، وبأهواء الناس فيكونون حينئذٍ أرباب جمهور، وأرباب عامة لا يريدون إغضاب الناس فيفتونهم بحسب أهوائهم، وبحسب ما يريدونهم؛ لهذا يضل الناس ويضلون، أما العالم الحق الذي يتعلم العلم لله سبحانه وتعالى، فإذا تعلم العلم لله سبحانه وتعالى كان عند البلاغ مستحضراً رضا الله جل وعلا؛ لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن عمرو السابق قال: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء )، يعني: الله جل وعلا كما أنه صدر العالم بالعلم فهو الذي يقبضه، أما الجاهل: ( حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ).
العالم بالله سبحانه وتعالى العارف بأحكامه هو الذي يراقب الله جل وعلا لا يلتفت إلى رضا أحد من الناس، لا رضا عامة، ولا رضا خاصة، يرضي الله جل وعلا ويلتمس رضاه، ولو كان بسخط الناس؛ لأن إقامة شريعة الله سبحانه وتعالى في ابتداء الأمر يواجهها سخط من الناس؛ ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غير بلاغ الله جل وعلا ولا بدل، ولكنه تدرج ببلاغ الوحي بحسب المصالح، فنزل عليه القرآن منجماً عليه الصلاة والسلام، فبلغه كما أنزل عليه الصلاة والسلام، ولم يتوان، فأرجئت أحكام ولم تبدل، فلما جاء وقتها أظهرت، ودعا إلى الله سبحانه وتعالى كما جاء، وكذلك دعا إلى ذلك أصحابه عليهم رضوان الله تعالى، وذادوا عن حياض الدين حق ذود، واتبعوا سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم حق اتباع؛ ولهذا كان العلماء الذين تحقق فيهم وصف العلم على الحقيقة هم أخشى الناس لله جل وعلا، وحقيقة هذه الخشية إذا عرفنا قيمة العلماء من جهة الأصل أنهم هم الذين عرفوا وحي الله سبحانه وتعالى، وأن العلم هو معرفة الكتاب والسنة، والتبصر على نهج محمد صلى الله عليه وسلم، وعدم الحيد عنه يمنة ويسرة، برغبة فلان، وتشوف فلان، ورضا فلان، ومحمدة فلان، والتمس الإنسان رضا الله جل وعلا حينئذٍ يوفقه الله سبحانه وتعالى لمرضاته، ويجعل له القبول في الأرض، وإن غضب من غضب من البشر؛ لأن من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عليه وأرضى عليه الناس، وهذا معلوم مشاهد.
ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يأطر الناس على الحق، وأن يتدرج فيهم كما تدرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، وأن يكون لديه من الحكمة كما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون ربانياً: يعلم صغار العلم قبل كباره، والمراد بالصغار هو ما لا تنفر منه طباع الناس، فتبديل الشريعة شيء والتدرج شيء آخر، فينبغي أن يفرق بينهما.
كثير من الناس ينظر إلى تدرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر البلاغ فيظن أن هذا أصل في كتم الحق حال وجوده وقيامه في الناس، أو حال التبديل فيبدل الحرام إلى حلال، ويبدل الحلال إلى حرام، ويظن أن هذا من أبواب التدرج، التدرج في حال الناس أن تبلغ الأمر إذا علمت أن من المصلحة بلاغه، وإذا سئلت وجب عليك أن تبلغه للناس؛ ولهذا قد روى الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث قتادة عن نصر بن عاصم أن رجلاً منهم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يبايعه، فاشترط ألا يصلي إلا الصلاتين، وهذا في عام الوفود بعد تمام الشرائع، وكمال أركان الإسلام، فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يصلي إلا صلاتين، ومراده من هذا، أي: أن الصلوات خمس، ويجب أن تؤمن بها، ولكن من جهة العمل اعمل بأداء صلاتين، وأن بقاءك على هذا الإيمان مع أداء صلاة خير من بقائك على الوثنية والكفر، وهذا ضرب من ضروب التدرج والحكمة.
وكذلك ينبغي أن يعلم أن العالم بالله جل وعلا الذي يملك العلم والدليل لا يخوله ذلك لأن يسقط النصوص الشرعية على الأحوال النازلة ما لم يكن عارفاً بأحوال من نزلت فيه تلك النوازل، فربما ملك الدليل، ولم يملك معرفة الحال؛ ولهذا قد ذكر القاضي ابن أبي يعلى في كتاب الطبقات أن رجلاً جاء إلى الإمام أحمد عليه رحمة الله، فقال: إن أبي أمرني أن أطلق زوجتي، فقال له: لا تطلق، فقال الرجل: إن عمر قد أمر ابنه عبد الله أن يطلق زوجته فطلقها، فقال الإمام أحمد : حتى يكون أبوك كـعمر بن الخطاب ، وحتى تكون كـعبد الله بن عمر .
والمراد من ذلك أن هذا السائل جاء إلى الإمام أحمد عليه رحمة الله، وهو يحمل دليلاً معه، ولكنه لا يحمل آلة التطبيق، فسأل الإمام أحمد عليه رحمة الله عن ذلك، فقال الإمام أحمد : لا تطلق، فاحتج معه بالدليل، والعلة في ذلك أن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى حينما أمر ابنه أن يطلق ربما شاهد منها شيئاً لا يحب معه إظهار شيء من عيوبها له، فأراد ورود الستر مع الطلاق فاستحق ذلك، هذا أمر، ثم إن دوافع أولياء الأزواج من الآباء أو الأجداد ونحو ذلك ربما كان في نفوسهم حظ من حظوظ الدنيا، فإذا لم تحترمه زوجة ابنه، أو لم تقدم له طعاماً، أو تخدمه ربما وقع في نفسه عليها وحث ابنه على طلاقها، فكان حظ النفس مقدماً على حظ الابن، وحق الله جل وعلا، وأما عمر بن الخطاب فليس في قلبه شيء من ذلك، ولا يمكن أن يقدم هذا؛ ولهذا إذا تجرد الإنسان من معرفة المآل ومعرفة الحال وملك النص، ولم يملك حال النظر في حال الإنزال ربما وقع فيما يخالف مقصود التشريع؛ ولهذا ربما يوجد من مقاصد التشريع ومآلات الأحكام ما يقضي على بعض النصوص، وهذا في نوادر الأحوال لا في أغلبها، وإلا فالأغلب أن الحال إلى خير هو الأصل.
فينبغي للناس أن يمتثلوا نصوص الشريعة؛ ولهذا جاءت النصوص بالاتباع والاقتداء وبلاغ النص والأمر بالعبادة، والتبليغ بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير نظر إلى المقاصد؛ وذلك أن الأصل في الشريعة أن ما دل الله جل وعلا عليه في كتابه العظيم، ودل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من معانٍ وأحكام شرعية وعبادات أنه خير للأمة، وما نهى الله جل وعلا ورسوله عنه فإن في هذا النهي خيراً للأمة، وفي ذلك الترك خير، وفي الفعل شر للأمة في حالها وفي مآلها.
وهذا ينبغي التسليم به، وبالنوادر في قضايا الأعيان ربما تفاوتت وانعكست هاتان المسألتان.
فينبغي للعالم أن يكون مالكاً للدليل، ومع ملكه للدليل أن يكون عالماً بتغير الأحوال، وكذلك المآل فيما تئول إليه أحوال الناس؛ ولهذا كان معاذ أعلم الصحابة بالحلال والحرام، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( أعلمكم بالحلال والحرام معاذ )، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد بيّن ذلك بأمره لـمعاذ أن يذهب إلى اليمن، وحينما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً مع كونه من أعلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكفه تحقق العلم فيه أن يدعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبلاغ من غير معرفة الحال، فقد روى البخاري و مسلم من حديث عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب )، وبيّن له حال المخاطبين أي: أنهم يختلفون عن حال الوثنية في مكة، أومن قومك؛ فإن هؤلاء الذين سترسل إليهم أهل كتاب، فلتكن دعوتك إليهم تختلف عن دعوتك عما شهدته من بلاغ الناس.
ولهذا ينبغي أن يختلف الخطاب بين الناس من حال إلى حال، فيختلف حال أهل الكتاب عن غيرهم من الكفار، ويختلف حال الخلص من أهل الإيمان عن حال أهل النفاق؛ ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم تنوع خطابه للأمة كلها بصيغ متعددة ممن كان معه من المقربين من خاصته من الصديقين وخلص أصحابه، وقدماء أصحابه من السابقين والمهاجرين عمن كان بعد ذلك ممن دخل في الإسلام، وكذلك عمن كان معه من المنافقين ممن تدثر بدثار ولبوس الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمع وفرة الصحابة عليهم رضوان الله تعالى وكثرتهم كان منهم جملة من الدسائس من المنافقين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص لأصحابه بمناكحتهم والتعامل معهم، مع علم رسول الله صلى الله عليه وسلم للنفاق الذي يقعون فيه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل مع المؤمنين والمسلمين وكذلك مع الكفار المحاربين وأهل الذمة والمؤلفة قلوبهم، وكذلك أيضاً مع المحاربين والمنافقين الذين لهم نفاق أكبر ونفاق أصغر يختلف خطابهم بعضهم مع بعض.
فكم من الناس من تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم اتقاء فحشه، وكم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من خصهم بخصيصة مع أن غيرهم خير منهم، وهذا دليل على سبر الحال، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد خص حذيفة بأنه أمين سره، وأبلغه بأسماء المنافقين بأعيانهم مع أن هناك من الصحابة من هو أقوى إيماناً منه، وأقرب منزلة كـأبي بكر و عمر و عثمان و علي بن أبي طالب ، فكان يعرف المنافقين بأعيانهم؛ ولهذا قد روى الإمام مسلم في كتابه الصحيح من حديث عمار بن ياسر أن حذيفة بن اليمان عليه رضوان الله تعالى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( في أصحابي اثنا عشر منافقاً ثمانية منهم لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، فكان عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى ينظر إلى حذيفة بن اليمان فإذا مات أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى عليه حذيفة صلى عليه عمر، وإذا لم يصل عليه حذيفة لم يصل عليه )، فكان العلم يقتضي ورود السياسة لدى العالم، ألا يتعامل مع قضايا الأمة بالبساطة، أو بالسذاجة، بل يكون صاحب يقظة ومعرفة، فلا يقدم صاحب الديانة والعبادة والفضل في كل حال؛ فقد يكون من هو قاصر عنه في بعض الأبواب مقدماً عليه في أبواب أخرى يقتضي تخصيصه بشيء من المخصصات؛ لأن صالح الأمة في ذلك، ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أصحابه عليهم رضوان الله تعالى بتعريفهم مراتبهم ومنازلهم من جهة مواهبهم وإقبالهم على تخصصات أكثر من غيرها.
كذلك ينبغي للعالم أيضاً أن ينأى بنفسه عن حظوظ الدنيا ومتعها، لماذا؟ حتى يسلم له القلب، فإن سلم له القلب لم يتعلق ولم يتشوف إلى شيء من حظوظ الدنيا ومتعها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم في غالب تعامله بالبيع والشراء لم يكن يتعامل مع أصحابه عليهم رضوان الله تعالى لماذا؟ لأنه يخشى أن يضعوا له من سعر تلك السلع ما يكون لحظ دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله قدوة؛ ولهذا قد روى البخاري من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مات ودرعه مرهونة عند يهودي )، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لديه من التجار من أصحابه عليهم رضوان الله تعالى كـعبد الرحمن بن عوف و عثمان بن عفان ، وكذلك علي بن أبي طالب وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يفدون النبي عليه الصلاة والسلام بأنفسهم ومالهم.
ومع ذلك نأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه عن أمثال هذه المقايضات حتى لا يكون في ذلك شيء من حظوظ النفس الدقيقة التي ربما ينساق فيها الإنسان إلى حظوظ النفس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم عليه الصلاة والسلام، ولكن أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين أنه كما أنه ورث العلم كذلك ورث تعامل العلماء مع الناس؛ فلهذا ينبغي للعالم أن يعرض عن وجهاء الدنيا، وكذلك عن أموالها، وألا ينغمس فيها، وأن يسوس نفسه ما سلم له الدين، فإذا وجد الإنسان أنه كلما ازداد علماً قرب من الدنيا وحظها فليعلم أنه يبتعد من الله؛ ولهذا يقول سفيان بن عيينة قال: ما ازداد الرجل علماً، فازداد من الدنيا قرباً إلا ازداد من الله بعداً، وذلك أن العالم علمه يبعده عن الدنيا، وعن التعلق فيها، فإذا وجد أنه كلما ازداد مرتبة ازداد تعلقاً بالدنيا، فليعلم أنه قد ابتعد من الله سبحانه وتعالى، ولينظر إلى أمسه ويقارنه بيومه، ولينظر إلى عامه الماضي وليقابله بعامه هذا من جهة تعلق قلبه بالدنيا، فإذا وجد القلب قد تعلق بالدنيا بقدر تقدمه بالعلم فليعلم أن قلبه قد شابته شائبة، ووقع فيه حظ من حظوظ الدنيا، وهذه المعادلة شبه مطردة لا يكاد يسلم منها أحد.
وما ضلت الأمة وانحرفت إلا حينما سلك المتعلم طريق العلم، وسلك طريق التحصيل، فوجد أن الدنيا قد سيقت إليه من أبواب الفتن والامتحان والاختبار، فإذا تشبث بها وأمسك بأهدابها، وتعلق بزمامها، فليعلم أنه قد ضل، وبقدر تعلقه بالدنيا حينئذٍ ينحرف عن طريق الحق.
العالم بحاجة إلى تجرد من الدنيا، لماذا؟ لأنه لا يكاد يحصل حدث من الأحداث، أو نازلة من النوازل يحتاج فيها للعالم بالنصوص الشرعية إلا وجد العالم الدنيا مخالفة للنص، وهذه سياسة متبعة، وإذا لم يكن هناك إخلاص ومراقبة سيقع في الخطر، ويكون علمه وبالاً عليه؛ فأول من يقذف في النار العالم، لماذا؟ لأن العالم إذا تعلم العلم لغير الله كان أول من تسعر به النار يوم القيامة؛ لأنه هو القدوة؛ ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام -كما جاء عند الإمام مسلم من حديث سليمان بن يسار- عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أول من تسعر بهم النار ثلاثة: رجل قرأ القرآن، وتعلمه، وعلمه، فيؤتى به فيعرفه الله نعمته فيعرفها فيقال له: ماذا عملت؟ فيقول: تعلمت القرآن وقرأته، وعلمته لك، فيقال: كذبت. تعلمت القرآن ليقال: قارئ، فيؤمر به إلى النار فيدخلها )، وهذا أول من تسعر به النار.
فإذا كان الإنسان يتعلم العلم ويظن أنه لله ثم يبلغ، ويظن أنه لله، ثم يحاجج الله أنه لله، يدل على أنه قد كابر حتى نفسه، وظن أنه قد اتبع أمر الله سبحانه وتعالى.
سقوط النفس من أعظم ما يصرف عن الحق واتباع الدليل، وبيان الحق للناس، وخاصة في قضايا الأمة العامة.
كما أن العالم ينبغي أن يكون مستحضراً لنصوص الكتاب والسنة، عارفاً بها، وعارفاً وجوه الاستدلال، وعارفاً أيضاً للنوازل التي تنزل بالأمة، وأن يكون بصيراً بالمآل في حال ورود الحكم الشرعي على مثل هذه النازلة، فربما لم تكن هذه من الموافقات، فاحتاجت إلى ما يخالف ذلك الأصل المطرد، فاحتاج إلى أن يفتي بغيره؛ لهذا شرع الله حدوداً، وأمر بإقامتها، وبيّن أن حدوده لا يجوز أن يتعداها أحد، وأن الإنسان لا يمكن أن يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ويجد في نفسه حرجاً مما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يجب عليه في ذلك أن يسلم تسليما.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أحواله يغض الطرف عن بعض المنافقين الخلص الذين بين الله جل وعلا كفرهم وخروجهم من الإسلام كما في قصة المنافقين الذين قدموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك، مع وجود بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادقين الذين عرفوا كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يصلوا إلى فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعواقب الأمور، فأرادوا أن يقتلوا بعض المنافقين الخلص، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد مقصداً أعظم من ذلك، فقال: أتريدون أن يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه، وهذه نظرة بعيدة، أن ينظر الإنسان إلى المآل، وألا ينظر إلى ورود النص.
أقول: إن فهم النص مجردا ًلا يعني للعالم أنه يقوم بإنزاله في كل نازلة مطردة، بل يقال: إنه ينبغي أن يتقي الله، وأن يتجرد من الدنيا، ومن علائقها، حتى لا يشرب قلبه ذلك، فإذا أشرب قلبه ذلك اختلطت لديه الأمور، ولم يكن لديه حينئذٍ الموازنات فخشي فقد المال، أو فقد الجاه، وحظ النفس ونحو ذلك؛ لهذا العالم الرباني الذي كلما ازداد تحصيلاً للعلم الشرعي ازداد قرباً من الله سبحانه وتعالى، ازداد من العبادة، من ذكر الله جل وعلا، والاستغفار، والتهليل، وهذا ظاهر في قول الله جل وعلا: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، أي: أن ورود الخشية على العالم تزداد مع زيادة العلم، فكلما زاد العلم زادت الخشية لله سبحانه وتعالى، وهذه الخشية من لوازمها عدم التعلق بأمر الدنيا من مال وجاه، وهذا أعظم ما يفسد على الإنسان دينه، وأعظم ما يفسد على العالم علمه، ومما يفقده صوابه أن يتعلق بأمر المال وأمر الدنيا؛ ولهذا العالم الذي يتوجه خطابه للناس عامة، وفي بلده أو في قريته ونحو ذلك يحاول قدر إمكانه أن يتجرد من دنيا الناس في مجتمعه، فإن كان في قرية أن يتجرد من دنيا أهل هذه القرية، ويحرص تمام الحرص ألا يتعامل مع هؤلاء بالبيع والشراء حتى لا ينكسر قلبه ويتعامل معهم، أو يتنزل معهم في شيء من أحكام الشريعة، فليعمل معهم لله سبحانه وتعالى، وليأخذ ويتعامل مع الأبعدين الذين لا يجاملونه في دينه، أو ربما لا يعرفونه، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما مات ودرعه مرهونة عند يهودي كما تقدم، وبهذا نعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كانوا يعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه دين من نوع الرهن عند يهودي لبادروا بوفائه، وكذلك بأخذ ذلك أو بإعطاء سد حاجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعامل في حاجته في دنياه بعيداً عن حظ أمر الدنيا، ولو كان من علية الخلق بعد الأنبياء وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
العلم الشرعي له مراتب عديدة ينبغي للإنسان أن يكون متبصراً فيها، وهذه المراتب إذا علمها الإنسان من جهة التحقيق وكذلك من جهة الأمر بالسلوك، وفقه الله سبحانه وتعالى إلى ما تقدم الكلام عليه من جهة الإخلاص.
وليعلم أن الخلط في أبواب مراتب العلم له أثر على الخلط في أبواب النيات، وذلك أن الله جل وعلا حينما جعل المعلومات متباينة من جهة فضلها وكذلك وجوبها على الإنسان كذلك من جهة طلبها وهو لازم لمعرفة ذاته؛ لهذا فإن توحيد الله سبحانه وتعالى ينبغي أن يكون أول ما يعلمه الإنسان؛ لأنه أول ما يبلغ، وأول ما يدخل الإنسان فيه الإسلام؛ لهذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يصلوا أو يزكوا أم حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويصوموا رمضان، ويحجوا البيت إن استطاعوا إليه سبيلاً.
وكذلك أيضاً قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث معاذ بن جبل كما في الصحيحين وغيرهما: ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه )، يعني: أول ما تبلغهم؛ لأنهم متعلمون؛ لأن هؤلاء أرادوا تعلم العلم الشرعي إن رغبوا منك ذلك العلم على سبيل الاتباع، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، (فإن هم أجابوك لذلك) وهذا مما يدل على أن العلم مراتب، ( فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة )، ومن هذا يعلم أنه ينبغي للمتعلم حتى يوفق إلى الإخلاص في النية لله سبحانه وتعالى، أن يأخذ العلم بقدر ما يجب عليه في ذاته، فما كان واجباً على الأعيان، فإنه يقدم على ما كان واجباً على فروض الكفاية، وما كان واجباً على فروض الكفاية من جهة التعليم يقدم على ما كان مستحباً للأمة من فضول المسائل ودقائقها، فإذا كان الإنسان كذلك وفق إلى الإخلاص، أما الإنسان الذي يطيع شهوته باتباع الأمور المفضولة من مسائل العلم، ويدع ما كان واجباً عليه، فإن هذا من أعظم القوادح بالنيات، فبعض الناس يتعلم دقائق العلم، دقائق المسائل سواء من علوم الآلة، ونحو ذلك، ويدع ما يجب عليه من مسائل الاعتقاد، أو يدع ما يجب عليه من مسائل أركان الإسلام، فلا يحسن يصلي، ولا يحسن يصوم، ولا يحسن يزكي، ولا يحسن يحج، وهذا من التقصير.
فإذا كنت طالباً للعلم لله جل وعلا فالواجب في حقك حينئذٍ أولاً أن تتعلم ما وجب عليك عيناً، وألا تتعلم ما يجب على الأمة من فروض الكفاية أو كان من الأمور المستحبة، فإذا كان الإنسان كذلك فقد عرف مراتب العلم وتعلم المسائل الواجبة عليه، فإنه حينئذٍ يكون هذا الفعل من علامات الإخلاص.
لهذا ينبغي للإنسان أن يحرص تمام الحرص على معرفة مراتب العلم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه.
أول ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم من العلم الشرعي هو معرفة توحيد الله سبحانه وتعالى، فكان يبلغ أمته التوحيد، ويقول: ( قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا )، ويأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته وقومه من كفار قريش بتوحيد الله، ولم يبلغهم شيء من ذلك إلا بعمله عليه الصلاة والسلام، مما يدل على أهمية هذا الأمر، وهو مسألة التوحيد الذي زهد فيه -للأسف الشديد- كثير من المسلمين، فالتفتوا إلى بنيات الطريق من مسائل العلم، وأصبحت الأضرحة والفضول والمزارات قد امتلئت بها أقطار العالم الإسلامي، وأصبحت الأمة تنظر إلى الصور، وتنظر إلى قوالب المسلمين، وتنظر إلى الأرقام والأعداد، ولا تنظر إلى حقائق المسلمين، فنسمع كثيراً من يتكلم على أن الأمة الإسلامية هي أمة المليار ونصف ونحو ذلك، وإذا سئل الإنسان من هم الموحدون من هذه الأمة؟ لوجد أن أكثر الأمة يطوفون على القبور والأضرحة، وهذه كارثة ومصيبة كون المسلمين لا يلتفتون إلى مراتب العلم ومراتب البلاغ.
والعالم يخطئ حينما يستنفر إلى شيء من فضول المسائل، ولا يستنفر إلى مسائل الشرك التي تفشت في كثير من بقاع المسلمين.
ونحن -وإن كنا في هذا البلد بمنأى عن الأضرحة والقبور والمزارات- إلا أن بلاد المسلمين تعج به. في مصر أكثر من ثلاثة آلاف ضريح ومزار، يطوف ويعكف عليها ملايين من البشر، وكذلك في العراق، وفي الشام، وفي الهند، والهند التي عدد المسلمين فيها ربع المسلمين في العالم كله، قرابة المائتين وخمسين مليون مسلم، وهؤلاء يفوقون مسلمي العرب أضعافاً، وأولئك أكثر من تسعين في المائة منهم وثنيون كحال كفار قريش في الجاهلية.
هؤلاء القبوريون معدودون من جملة المسلمين إذا أردنا أن نحصيهم في تعداد المسلمين، ولكن هل هم غثاء كغثاء السيل؟ نعم، غثاء كغثاء السيل؛ لأنهم أجسام بلا أرواح؛ لأن حقيقة الروح هي التوحيد، وهي العلم الشرعي الذي ينبغي أن يعلم للناس، فلا يعلم الناس الآداب والسلوك، وفضول العلم، وهم قد ضلوا في باب التوحيد.
تأليف قلوب الناس على غير التوحيد من الضلال والزيغ، وتأليف قلوب الناس على غير العدل مع رب العالمين هو من الأمور الموهومة المصطنعة.
لهذا جعل الله جل وعلا أعظم الظلم وأعظم الحيف الشرك به سبحانه وتعالى؛ ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم حاكياً على لسان العبد الصالح لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، يقال: فلان ظلم فلاناً من الناس في ماله إذا أخذ ماله، أو أخذ مالاً وجحده من دين ونحو ذلك، أو لم يعدل في العطية ونحو ذلك، أعظم الظلم هو الظلم في حق الله سبحانه وتعالى وهو أن يعلق الإنسان قلبه في غير ما أمر به الإنسان، فيعلقه بصنم ووثن أو بولي من أولياء الله صالح، فضلاً عن الأشجار والأحجار وغير ذلك، ويعلقها لغير الله جل وعلا، هذا هو الظلم بعينه؛ ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
أجمع المفسرون -إلا ما جاء في بعض الروايات عن عكرمة و علي بن أبي طالب وأسانيدها ضعيفة- على أن الظلم المراد في هذه الآية هو الإشراك بالله جل وعلا، وأن الذي لم يعدل مع الله جل وعلا في الأرض أن الله جل وعلا لا يحقق له الأمن، والأمة لا يمكن أن تجتمع على غير التوحيد، لا يمكن أن تجتمع على أسماء من غير ثبوت أحكام فيها، أحكام شرعية تتحقق فيها مسائل التوحيد قولاً وعملاً، فإذا لم تتحقق فيها الأحكام وتوفر فيها الأسماء حينئذٍ تضل الأمة للأسف الشديد في هذا الباب وتصبح جوفاء وغثاء كغثاء السيل؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما ذكر أن الأمم تتداعى على هذه الأمة كما تتداعى الأكلة على قصعتها قالوا: ( يا رسول الله! أو من قلة نحن؟ قال: أنتم حينئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل )، وسبب هذا الغثاء في الأمة أن الأمة تعلقت بأمر الدنيا وكرهت الموت.
وأعظم ما تتعلق فيه الأمة في أمر الدنيا أن ينقلب الشرك إلى متاجر، فأصبحت المزارات مواضع اقتصادية وسياحية، فأصبحت تدافع عنها السياسات والدول، وتجعلها ضمن الأوقاف، وتوضع القبور للطواف عليها، وكذلك جلب السواح الذين يكونون من أقطار العالم الإسلامي، وهناك من الأضرحة والقبور من يزورها في العام أكثر ممن يزور البيت الحرام، وقد رأيت بعيني بعض المواضع في بلاد الهند من القبور والأضرحة ما يجتمع فيها في اليوم الواحد مليونان من المسلمين ممن يدعي الإسلام وهو محسوب على أمة الإسلام، وداخل في أرقامها، وهؤلاء غثاء كغثاء السيل، والسبب في ذلك هو الخلط في مقام العلم ومراتبه، والخلط في فهم العلم، وتبليغه للناس، وبيان الأمة الحقيقية التي تعرف العلم الشرعي ممن تأخذ المراتب المفضولة، وتدع المراتب الفاضلة.
أعظم طريقة لإبلاغ العلم للناس: أن يسلك العالم طريقة محمد صلى الله عليه وسلم، حتى تتحقق في الأمة الخشية لله جل وعلا، والخوف منه سبحانه وتعالى؛ وذلك بالنظر في سيرته في بلاغه عليه الصلاة والسلام للدين، وللأحكام الشرعية.
إذا أردنا أن ننظر إلى بلاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدنا أن له صفتين:
الصفة الأولى من جهة معرفة مراتب العلم: أن أوله العقائد، ثم يليه بعد ذلك أركان الإسلام، ثم يليه بعد ذلك ما كان واجباً على الأعيان، ثم ما كان واجباً على الكفاية، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغ الأمر للناس.
الصفة الثانية: صفة تبليغ ذلك الحكم الشرعي الذي يأمر الإنسان بتبليغه، وقد حدث في الأمة كثير من الخلل في هذا الباب، ووقع فيها اللبس، فاستهانت الأمة في كثير من الأحكام الشرعية.
نجد كثيراً ممن يبلغ الناس العلم على غير هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم بأخذ باب من أبواب البلاغ، وترك الباب الآخر المقابل في ذات المسألة، فيأمر بالصلاة ولا يبين عقوبة تاركها، ويبين التوحيد ولا يبين عقوبة الشرك، ويحث على الزواج، ولا يبين خطورة الزنا، ويبين أحكام الحجاب، ولا يبين أحكام السفور، ويبين أحكام البيوع ولا يبين أحكام الربا وغير ذلك، ومن نظر إلى حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد أنه ما من حكم شرعي من أحكام الشريعة يتحقق الوصف فيه في ذهن المتعلم وبيان قدره في الشريعة إلا في اجتماع الوصفين، وإلا فالأوامر الشرعية تشترك في ذات الصيغة افعل ولا تفعل.
النبي عليه الصلاة والسلام يأمر الناس فيقول مثلاً: صلوا، ويأمرهم فيقول: تسوكوا، ويأمرهم فيقول: توضأوا، ويقول: صلوا الأرحام، أطعموا الطعام، وهو أمر واحد، لكن كيف نعرف أن هذه أغلظ من تلك؟ نعرف المراتب ببيان ضدها بعقوبة تارك الصلاة، وعقوبة قطيعة الأرحام، هل هو مخلد؟ هل هو يطلق عليه وصف الكفر؟ وهل موعود بالنار؟ وهل هو موصوف باللعن ونحو ذلك؟
وهذا ما سلكه كثير ممن ينتسب إلى الدعوة في زمننا، فأخذ شقاً من البلاغ، وترك الشق الآخر منها، إما طلباً للتيسير على الناس يزعم، وإما لإرادة عدم ترهيب الناس، وإما لتحبيبهم في الشريعة، وهذا نوع من القصور، ولا أعلم حكماً من أحكام الشريعة مرت مرحلته في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه كان يأمر بالفعل وينهى عن ضده، ويبين عاقبة الضد.
والتدرج مطلوب؛ ولهذا تيسير الشريعة في التدرج، لا في شطر الأحكام الشرعية، والإتيان بخلط كثير من الأمور؛ لهذا كثير من العامة في أقطار العالم الإسلامي ينظرون إلى الأحكام الشرعية، ولا يعرفون الأولويات منها، لا يعرف هل الصلاة هي آكد من صلة الأرحام أم لا؟ هل الصلاة آكد من الزكاة أم لا؟ لا يعرفون الترتيب، بماذا يعرف؟ بعقوبة التارك، فإذا أهملت عقوبة التارك -وهو الجزء الآخر من التشريع- وهو النهي عن المنكر وقع الخلط في أفهام كثير من الناس؛ لهذا وجد عند كثير من العامة من ينظر بإعظام إلى كثير من المتعبدين والزهاد، أو الذين ينفقون الأموال للناس وهم أصحاب جرم عظيم وشرك مع الله جل وعلا، ويقولون: إن هؤلاء يكفلون الأيتام، وهؤلاء ينفقون للناس، وهؤلاء يدعمون الفقراء ونحو ذلك، وهم في الشرك وقعوا، لماذا حدث هذا الخلط للناس؟ لأنهم علموا الشريعة جملة بباب واحد من أبواب البلاغ، وهو أن الله جل وعلا أمر بالصدقة، وأمر بكفالة الأيتام، وأمر بالصلاة ونحو ذلك، وما بيّن حقيقة تارك الصلاة؛ ولهذا كثير ممن ينتسب إلى الدعوة إلى الله جل وعلا في كثير من وسائل الإعلام يرى أن في هذا الشق الآخر شقاً لصف المسلمين وهذا هو الخلط؛ ولهذا إذا أراد الإنسان أن يتكلم في مسائل التوحيد يجد مشقة عند العامة، بل عند بعض من ينتسب إلى العلم، لماذا؟ لأنه حال تعليله وتبليغه للناس وقع في شق هذه القضية وهذه المسائل، فوقع فيها خلط لدى المتعلمين.
وأعظم ما يسلكه كثير ممن ينتسب إلى الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في بلاغ الناس، إما أن يقصد ترغيب الناس وتحريرهم إلى الخير، وهذا مقصد، لكنه وضع في غير موضعه، تحبيب الناس ألا تأتي بحكم ربما لم يحن وقته لهؤلاء المتعلمين؛ ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما جاءه الرجل، وقال: أريد أن أصلي صلاتين، وكان ذلك الرجل حينما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يوجد عندي وقت أصلي خمس صلوات -وهو شيخ قبيلة- يقول: لا يوجد عندي، أنا أريد أن أبايعك يا رسول الله! لكن أريد أن أصلي صلاتين، نقول: تدرج معه، اجعله يصلي صلاتين، ثم يدخل في الإسلام ويؤمن بها تشريعاً، لكن لا يجوز أن نقول: إنه لا يوجد في الإسلام إلا صلاتان، نقول: آمن بالخمس وصلِّ صلاتين، وهذا هو التيسير المقصود بالشريعة، ومن نظر إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريقة القرآن وجد أن الإسلام ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم على طريقة التدرج، ينزل حكماً ثم حكما.
كذلك في بلاغ الناس، فالعالم إذا حل في بلد من البلدان التي لم يقع فيها الإسلام من قبل، ليس له أن يأتي بأحكام الشريعة بديوان من دواوين الإسلام، ويأتي إلى شخص أو وجيه من الوجهاء قد دخل الإسلام ثم يأتي بدواوين الإسلام ويقول: هذا الإسلام كله آمن به وإلا فعلنا بك وفعلنا. لا، الحكمة من ذلك أن تقول: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، حينئذٍ دخلت في الإسلام، بعد ذلك قل: فرضت علينا الصلاة، ولا تخبره بما يتهيب الإنسان.
وقد حدثني أحد الإخوان ممن اهتم بأمر الدعوة إلى الله جل وعلا، يقول: ذهبت إلى بعض البلدان في بعض شرق آسيا من بعض البلدان الصناعية يقول: فالتقيت بأحد الذين يعتنون بالمعرفة والصناعة ونحو ذلك من أهل الكفر فدعوته إلى الإسلام فآمن، يقول: فأتاني وقال: أريد أن تعرفني بالإسلام، يقول: فأتيت بترجمة لأحد دواوين الفقه بعشرة مجلدات وقلت: هذا الإسلام، آمن به واتبعه، وإن لم تؤمن به فأنت حينئذٍ تعتبر مرتداً بعد أن تنطق بالشهادتين!! أليس هذا هو تشديداً وتغليظاً على الناس؟ هذا هو التشديد الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، التيسير في هذا هو أن تأمر بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم تأمره بالصلاة، ولو أجبرت، ولم يكن لديك يسر من الوقت تتواصل معه اتركه على هذا التوحيد وعلى ما هو عليه من أمر الصلاة؛ ولهذا يقول عمر بن عبد العزيز: لا تبلغوا الإسلام جملة فيتركه الناس جملة.
هذا هو حقيقة التيسير، حقيقة التيسير ليس أن آتي إلى فلان وأقول له: المسألة خلافية وخذ ما تريد، والمسألة فيها قولان، ثم أشق صف المسائل، أو أقول: إن الله جل وعلا أمر بكذا وأمر بكذا وأمر بكذا، ثم يقع الخلط بين الناس فلا يعرفون مراتب المأمور به، ولا دركات المنهي عنه.
لهذا ينبغي للعالم أن يكون بصيراً بمسألة البلاغ، كما كان بصيراً في مسألة التلقي، وأن يعلم طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلقي الوحي، كذلك في البلاغ، فيكون بصيراً أيضاً فيها، وأن الله جل وعلا ما أنزل هذه الشريعة إلا وهي شريعة سمحاء، والمراد بذلك اليسر والسماحة وعدم التشديد على الناس، واليسر قد تقدم الكلام عليه في مسألة التدرج، وإذا علم أن الإنسان لا يصلح حاله مثلاً في بلاغ الحكم الشرعي إليه، ولم يكن هذا الحكم من الأمور المتأكدة، والواجبة على التغليظ والتأكيد، فعليه ألا يبلغ ذلك الإنسان بهذا الحكم، وإنما يتدرج معه بحسب صلاحه لحاله، كما تدرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الإنسان إذا بلغه الدليل وجب عليه الاتباع، ولا مناص عنه، وإذا حاد عنه فإنه حينئذٍ يعاقب بتركه ذلك، ويستحق حينئذٍ العقاب، فلا يكون الإنسان عوناً لبعض العامة، أو من يستثقل بعض النصوص الشرعية عوناً للشيطان بصده عن سبيل الله سبحانه وتعالى.
وينبغي أن يعلم أن العلماء عند التحقيق على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: العلماء العارفون بالله الذين عرفوا الشريعة نصوصاً واستنباطاً، عرفوا ما حث الشارع عليه من وجوه الاستدلال بالنظر بكلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك بالنظر إلى الأقيسة، والنظر والاعتبار، وكذلك أيضاً بالنظر إلى المقاصد وسد الذرائع ومعرفة المحكم من المتشابه، والناسخ من المنسوخ، والمطلق من المقيد، والعام من الخاص، وتمييز بعضها عن بعض، فهؤلاء يعرفون الأدلة، ويعرف بعضهم دليل بعض، فيعذر بعضهم بعضاً، ويعلم هؤلاء العلماء أن من خالفهم من المخالفين أنه إنما خالف لدليل وله وجهة نظر فيه، فيعذر بعضهم بعضاً.
وبهؤلاء الناس، وبهذا الصنف، أو بهذه الطائفة الأمة مرحومة, وهي على سعة من أمرها.
المرتبة الثانية: وهي فئة العامة الذين هم من الجهلة الذين يتبعون كل قائد، يتبعون من يتكلم سواء بجهل أو بعلم.
والمرتبة الثالثة: هي شر من وصف بالعلم، وهي أنصاف المتعلمين الذين أخذوا من العلم شيئاً وتركوا أشياء، وبهذا لا يعذرون العلماء عند الخلاف، ولا يعرفون مواضع الخلاف التي يسوغ فيها الخلاف، وإذا تكلم العلماء في مسألة من مواضع الإجماع ابتدروا إليهم ببعض ما يخالف قولهم، فيتبعهم العوام ويظنون أنهم علماء، فينشق حينئذٍ الصف، وربما لم يقدروا مواضع الخلاف، فيتشددون فيما يستحق التسهيل، أو يتساهلون فيما يستحق التشديد، فلم يعرفوا مراتب العلم، وخلطوا بين هذه الأمور، فأصبحوا حينئذٍ هم الشر والوبال، ونحن حينئذٍ إذا عرفنا هذه الأوصاف أدركنا مواضع الرحمة ومواضع النقمة.
أعظم مواضع الرحمة في مواضع الخلاف هي: ما اختلف فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا يقول عمر بن عبد العزيز : ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا، وإنما اختلافهم رحمة، فإذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فليعلم أن الخلاف حينئذٍ من خلاف الرحمة، والخلاف النقمة هو الخلاف في التوحيد، وهو أصل النقمة، ولهذا يقول أبو يزيد البسطامي كما روى ابن .. قال: لو لم تختلف الأمة لخشيت العنت، والخلاف رحمة إلا في تحقيق التوحيد، يعني: في تحقيق التوحيد فليعلم أن الخلاف حينئذٍ خلاف نقمة.
فينبغي أن يعلم مواضع خلاف الرحمة، وتعلم القطعيات والكليات، والأصول التي عليها الاتفاق، ويفرق بينها وبين غيرها.
وفي زمننا هذا وقع اللبس عند كثير من العامة في مسائل العلم، ووصف العالم الحق، العالم الحق هو الذي تحقق فيه وصف العلم.
وقد وقع هذا الخلط بأسباب متنوعة، منها: أنه وجد من العامة من يصدر أنصاف المتعلمين أو الجهلة الخلص الذين ربما كانوا يعرفون شيئاً من مسائل الدين، من معرفة التاريخ أو بعض الصيغ أو المغازي ونحو ذلك، فصدروا على أنهم حكم في الشريعة كلها، على أنهم علماء يفتون في الحلال والحرام، فأفتوا في الأمور النازلة، وشقوا مسائل الخلاف ونحو ذلك.
كذلك من أسباب اللبس في تقدير مواضع العلماء ونحو ذلك ما يسمى بالشهادات العلمية المعاصرة، التي صدرت كثيراً ممن حمل الشهادات وهو ليس من أهل العلم، يعرفون مسائل دقيقة اختصوا فيها وكان الاختصاص في هذا الباب وبالاً على الأمة، الأمة ينبغي أن تسلك مسائل الاختصاص حتى تبدع وتنجز، لا أن تصدر هؤلاء المختصين في مسائل جزئية حتى يكونوا مفتين في مسائل كلية؛ ولذلك نسمع أن فلاناً مختص وأستاذ في الفقه المقارن، ودكتور في الفقه المقارن، وإذا أردنا أن نميز نجد أن الماجستير مثلاً في أحكام الأصابع، بالفقه المقارن، ونجد الدكتوراه في أحكام الأظفار، ثم أمام الناس أستاذ الفقه المقارن، وكأنه أخذ الفقه من أوله إلى آخره، والأليق في هذا أن يقال: أستاذ الأصابع بالفقه المقارن، حتى لا يدلس على الناس، أليس هذا هو الحق؟ هذا الحق، فأصبحت الألقاب للأسف الشديد تطلق يلاعنان؛ ولهذا وقع شق الصف عند العلماء وأصبح من يفتي في بعض المسائل الجزئية يتكلم في جميع مسائل الدين، ويقال: إن المسألة مسألة خلافية؛ لأن فلاناً قال كذا، ولأجل هذا يقول الشاعر:
قد بدلوا لفظ الفقيه بغيرهومن العجيب محدثون دكاتره
والله لو سمع الجدود بفعلنالتناقلوها في المجالس نادره
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , إنما يخشى الله من عباده العلماء للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
https://audio.islamweb.net