اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الإخلاص والمعوذتين للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإننا في هذا المجلس -بإذن الله تعالى- نتكلم على شيء من المعاني والتدبر في سورة الإخلاص وسورتي المعوذتين، وهذه السور الثلاث هي من أفضل وأعظم ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكلام الله عز وجل كله فاضل وعظيم، إلا أن الله سبحانه وتعالى قد جعل لهذه السور من الفضائل، وجعل الله جل وعلا فيها من الأثر وحسن العاقبة على الإنسان في عاجله وآجله ما خصه الله عز وجل بما لا يوجد إلا فيها، والله سبحانه وتعالى يفضل من قوله ما شاء على ما شاء ولمن شاء.
وأول هذه السور هي سورة الإخلاص، وهي السورة التي تسمى بنسب الرحمن، وهذه السورة قد أنزلها الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم في مكة على خلاف في ذلك، فقيل: إنها نزلت في مكة، كما جاء ذلك عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى، وقيل: إنها نزلت في المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلا القولين قد رويا عن عبد الله بن عباس .
وهذه السورة تتضمن معاني التوحيد، وأصول معرفة الله سبحانه وتعالى، والله جل وعلا، فيأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: الله أحد، فالله جل وعلا يقول في كتابه العظيم: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وسبب نزول هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما جاء في غير ما خبر- أن كفار قريش سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه فقالوا: انسب لنا ربك، فأنزل الله جل وعلا قوله سبحانه وتعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4].
هذه السورة وما تضمنت من آيات، وما تضمنت من معان عظيمة قلما توجد مجتمعة في موضع واحد من مواضع القرآن، وقد جاء في فضائلها شيء كثير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك: الحث على قراءتها في بعض ركعات من أنواع الصلوات، ويكفي في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها في أفضل النوافل وهي صلاة الوتر، وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً وعن غير واحد من الصحابة قراءتها في غير هذا، وكذلك أيضاً فإن سور القرآن إنما تتفاضل بجملة من الوجوه، منها: بالأجور المترتبة التي يجعلها الله عز وجل في السورة، ومنها: المعاني التي تتضمنها السورة، ومن وجوه التفضيل أيضاً: أن الله سبحانه وتعالى يجعل لهذه السورة أثراً في بعض الأحوال التي يعرض لبني آدم، وذلك كشفاء الأمراض والأسقام، فقد جاء في سورة الإخلاص والمعوذتين ما لم يأت في غيرهما، وهذه مجتمعة في سورة الإخلاص.
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير ما خبر كحديث أبي الدرداء ، وجاء أيضاً من حديث أبي سعيد وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن )، والمراد بذلك: في الجزاء لا في الإجزاء، يعني: أن الله عز وجل يعطي الإنسان في فضلها أي: كأنما قرأ ثلث القرآن من جهتين: الجهة الأولى الأجر والثواب، الجهة الثانية من جهة المعاني المتحققة؛ فإن القرآن على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: توحيد وعقائد.
والقسم الثاني: أحكام أي: حلال وحرام.
والثالث: هو القصص.
وهذه السورة قد جمعت النوع الأول وهو ثلث القرآن، فقد جمع الله عز وجل فيها أمر العقائد، وما يكون حقاً لله سبحانه وتعالى على عباده؛ فإن الإنسان لا يعرف ربه إلا بمعرفة صفاته، والله جل وعلا قد عرف نفسه سبحانه وتعالى لعباده بهذه السورة؛ ولهذا من قرأ سورة الإخلاص، فكأنما قرأ ثلث القرآن من جهة الأجر، إلا أن قراءة هذه السورة لا تجزئه عن قراءة القرآن، فليس له أن يقرأ السورة ثلاث مرات، ثم يظن أنه قرأ القرآن كله وسقط عنه التكليف بالقراءة بذلك، فهذا ليس هو المقصود في كلام الله عز وجل، وإنما المقصود في ذلك من جهة الثواب، وهذا الفضل توفيق من الله عز وجل ورحمة، ولطف وتيسير وعون للإنسان أن يتحقق له من الأجر مثل هذا المقدار.
وكذلك أيضاً من فضائل هذه السورة أن هذه السورة لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة من السور مشروعية تكرار هذه السورة في صلاة أو في الصلوات كما جاء في سورة الإخلاص، وقد جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الرجل الذي كان يصلي بقومه فكلما قرأ فيهم ختم قراءته بسورة الإخلاص، يعني: في كل ركعة يقرأ سورة بعد الفاتحة، ثم يتبعها بسورة الإخلاص، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يسأله عن ذلك، فقال: إني أحبها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبلغوه أن الله يحبه لحبه لها.
وكذلك أيضاً قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضائلها: أنها رقية، وكذلك أيضاً في قراءتها ضمن أذكار الصباح والمساء وتكرار ذلك ثلاثاً، ووصية النبي صلى الله عليه وسلم لغير واحد من أصحابه بتلاوتها كما جاء ذلك عن عقبة بن عامر عليه رضوان الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك بيده فقال: ( لا تدعهن في صباح ولا في مساء ) يعني: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، فكان عقبة بن عامر عليه رضوان الله لا يدعهن في صباح ولا في مساء، وهذه الخصائص المجتمعة في هذه السورة، وفي سورة المعوذتين لا تكاد توجد مجتمعة في غيرها من سور القرآن ولا من آيه، مما يدل على مزيد اهتمام فيها، وعظم أثر لها على نفس الإنسان ومن حوله، إضافة إلى ما تضمنته هذه السورة من معانٍ جليلة في معرفة الله سبحانه وتعالى.
وتعريف الله عز وجل عند عباده سبحانه وتعالى بأمثال هذا التعريف الجليل، والمشتهر في سبب نزول هذه السورة أن كفار قريش سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجيبهم بشيء إلا بشيء قد سمعه من ربه، وإذا لم يكن لديه شيء من الوحي انتظر حتى يأتيه الوحي، ثم أبلغهم بذلك، فسألوا رسول الله عن ربه؛ لأنهم يظنون أن الذين يدعون الربوبية كثر، فربما كان لك رب يختلف عن ربنا، فقالوا: انسب لنا ربك، يعني: إلى أي شيء يبتدئ وينتهي، فأنزل الله عز وجل عليه قوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:1-3]، وهذا تعريف من الله سبحانه وتعالى.
وفي هذا أيضاً إشارة إلى أن كفار قريش قاسوا حقيقة الله سبحانه وتعالى على حقيقة آلهتهم؛ فإن آلهتهم لها نسب تنتسب إليه، يعني: ترجع إليه، والله سبحانه وتعالى ترجع إليه جميع المخلوقات، فهو الذي ابتدأها وفطرها وأنشأها، وأما الله سبحانه وتعالى فهو الأول، فليس قبله شيء، وهو الآخر وليس بعده شيء، والله سبحانه وتعالى اختلف عن آلهتهم، فسبق إلى ذهنهم التشبيه في ذلك، فسألوا رسول الله عن نسب ربه، فقالوا: انسب لنا ربك، فهذه السورة يسميها غير واحد من المفسرين بنسب الرحمن تجوزاً، أي: أن الله عز وجل هو الله، وأن الله سبحانه وتعالى لا يرجع إلى شيء إلا إلى ذاته، وكل شيء يرجع إليه؛ ولهذا قال: هو الله أحد يعني: الله سبحانه وتعالى واحد وفرد لا يرجع إلى شيء ويرجع إليه كل شيء.
وفي هذا إشارة إلى أن الإنسان بطبيعته من جهة تفكيره أنه يضل في أبواب القياس في حق الله سبحانه وتعالى سواء كان ذلك في أمور الأسماء والصفات، أو معرفة حقيقة الله جل وعلا، فسبق إلى آذان كفار قريش التشبيه، وذلك أنهم ينحتون آلهتهم بأيديهم بحجارة، فهم يعرفون أصلها، سواءً كانت من خشب من أثل أو كانت من حجارة من أي جبل، أو كانت من تراب قد يبس وجفف من أي سهلٍ أو وعل أتوا به، فهم يعلمون أصل آلهتهم ومنشئها، ويريدون من ذلك أن يعرفوا حقيقة الله سبحانه وتعالى التي يظنون أن لها أصلاً كآلهتهم، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما يظنون؛ ولهذا نقول: إنما تظل البشرية بالتشبيه والقياس الفاسد، وأول ما عصي الله عز وجل بسبب القياس الفاسد وذلك بضلال إبليس، ضلال إبليس أول ضلال عرف، وإنما عصي الله عز وجل سبحانه بسبب هذا، وذلك أنه قاس نفسه على آدم، وأصل خلقته فإنه خلق من نار، ومعلوم أن النار ترتفع وتسمو بخلاف التراب الذي خلق منه آدم؛ فإنه يبقى ولا يتحرك، وهو إلى سفول وضعف بخلاف النار، فرأى في نفسه أنه أعظم منه، ولزم من ذلك أن يكون أهلاً لأن يسجد له لا أن يسجد لغيره، فكان ذلك القياس بإرجاع إبليس لأصله، وإرجاع آدم لأصله تفرع عن ذلك استحقاق صاحب الأصل الأشرف على غيره.
فعصى الله سبحانه وتعالى ولم يرجع الأمر إلى الامتثال والانقياد لله سبحانه وتعالى، فكان ذلك موجباً للسخط عليه والغضب وطرده ولعنه كذلك، ومن هذا بدأ الصراع بين إبليس وآدم وذريته ومن آمن أيضاً من ذرية الشياطين؛ ولهذا نقول: إن أصل الضلال في البشرية إنما هو بالقياس الفاسد؛ ولهذا يقول العلماء: إنه لا قياس مع النص في حال ورود نص؛ فإنه ليس للإنسان أن يعمل القياس، فربما وصل إلى شيء من المعاني الفاسدة التي تعارض الدليل، وهذا يظهر عند كثير من البدع في أبواب الأسماء والصفات؛ فإنهم ربما ضلوا في صفة من الصفات، أو في شيء من أسماء الله سبحانه وتعالى بسبب قياس انقدح في أذهانهم.
والإنسان كل المعلومات التي لديه إنما هي أقيسة على مشاهدات، أو على مسموعات، يقيس ما يسمع على ما يرى، أو ما يخبر به على ما شاهده وعاينه، ثم يظن أن الغائب عنه كذلك؛ ولهذا الإنسان إنما هو انعكاس لما يشاهد، فالله جل وعلا قد أوجده خالي الذهن كحال الإناء الخالي الذي يستقبل ولا يدري ماذا يستقبل أي: يستقبل ماءً أو يستقبل لبناً، أو يستقبل تراباً، أو غير ذلك مما يوضع فيه، ولا يدري ما يوضع فيه حتى يوضع فيه فيدرك بعد ذلك العقل ماذا وضع فيه؛ ولهذا الأقيسة في ذلك تطرأ على الإنسان بمقدار ما طرأ عليه من معلومات، ثم بعد ذلك يقوى لديه القياس، أو يضعف على قدر المعروضات على ذهن الإنسان.
ولهذا الله سبحانه وتعالى لا مثيل حتى يقاس عليه؛ ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، يعني: ضرب الأمثلة لا يأتي على الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا نقول: إن أكثر الضلال إنما هو بضرب الأمثلة على الغيبيات؛ لهذا نقول: إن قياس الله جل وعلا على غيره، أو قياس غيره عليه، هذا من المعاني الخاطئة، لماذا؟ لأن من أركان القياس هو معرفة الفرع ومعرفة الأصل، والإنسان لم ير ربه جل وعلا فكيف يقيس غير الله جل وعلا على الله، والله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
ثم أيضاً في هذا إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان إذا بلغه شيء من أسماء الله عز وجل وصفاته أن يعلم أن كل ما يخطر في باله ويرتسم في ذهنه من وصف أو هيئة لتلك الصفة فإن الله عز وجل على غيرها لماذا؟ لأن الإنسان يقيس الغائب على المشاهد، فيظن أن الله عز وجل كذلك؛ ولهذا يقال: إن الإنسان كلما ظن أن الله كذلك فالله سبحانه وتعالى غير ذلك، وهذا بطبيعة الإنسان، والناس يختلفون في قدر المشاهدات والمعاينات، منهم من عاين سورة معينة فإذا تحدث عن سورة تذكر السورة فقاس عليها؛ ولهذا الذين في القرن الماضي إذا حدثوا عن صورة رجل أن رجلا ًقدم إليهم تخيلوا رجلاً على ناقة أو نحو ذلك، في زماننا يتخيلون الرجل جاء على مركب أو على لباس حديث، وقبل قرنين يختلف، وقبل ذلك يختلف، والبلدان أيضاً تختلف، وهذا بحسب ما لدى الإنسان من ارتسام.
كذلك أيضاً الإنسان الذي في بلد طوال، وإذا حدث عن رجل تخيل أن الرجل على لون معين، البلد الذين فيهم سود أو بيض أو حمر أو غير ذلك من ألوان الناس إذا حدث أن رجلاً جاء ونحو ذلك تخيل على هيئته ومن حوله أن هذا الرجل جاء كذلك، والرجل كذلك أيضاً الذي في بلد تختلف أشكال الناس وأجناسهم فيه، تخيل أن الرجل على الأجناس التي يشاهد؛ ولهذا الإنسان إنما هو يقيس على ما شاهده؛ ولهذا إذا حدثت رجلاً غربياً أو رجلاً شرقياً عن أنك دخلت على رجلين وهما جالسان ويتحدثان أو يأكلان، ارتسم في ذهنه في طريقة الجلوس الموجودة عنده، فيفهم المشرقي على خلاف المغربي، وتجد المغربي يتصور ذلك أنهم على طاولة وعلى كرسي، وتجد أن في بلد آخر يفكر أنهما على الأرض ارتسم في ذهنه الأرض، وإذا قلت: يا فلان! ارتسم في ذهن شخص اعتاد على الأكل بالملعقة على أنهما يأكلان بالملعقة، وإذا ارتسم في ذهن الإنسان في عادته أنهما يأكلان باليد يأكل باليد، وربما ارتسم في ذهنه أيضاً نوع الوجبة التي كان يأكلها وقومه، وهكذا بحسب المشاهد لديه؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى نهى عن ضرب الأمثلة على الله سبحانه وتعالى؛ وذلك لعدم وجود مثال؛ ولهذا الله جل وعلا يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].
وأصل ضلال أهل البدع في أبواب الأسماء والصفات هو في هذا الباب، فشبهوا الله جل وعلا بغيره، فلما جاءهم أن الله عز وجل على العرش استوى، منهم من شبه الله عز وجل بغيره سبحانه وتعالى، وفسروا الاستواء بالجلوس أو القعود: قعود الإنسان على عرشه، أو قعود الملك على عرشه، هذا ضرب من التشبيه أو ليس بضرب من التشبيه؟ ضرب من التشبيه، ما الذي حملهم؟ حملهم على ذلك المشاهدة التي رأوها، واستواء عروش الناس على عروشهم أو الملوك على عروشهم يختلف أيضاً من بلد إلى بلد في هيئة الاستواء وكذلك أنواع العروش وغير ذلك، فهي مختلفة في الأمور المشاهدة فكيف في أمر غيبي لم يشاهده الإنسان وليس كمثله شيء وهو السميع البصير سبحانه وتعالى.
ومن الناس ما إن ارتسم في ذهنه معنى قبيح، فدفعه ذلك إلى نفي تلك الصفة؛ تنزيهاً لله جل وعلا، فلما ارتسم المعنى القبيح أراد أن ينزه الله جل وعلا عن ذلك، مثل الاستواء، فبعض الطوائف يعطل هذا وينفي الاستواء؛ لماذا؟ لأنه يرى أن الإنسان أو الملك إذا استوى على عرش أنه محتاج إلى عرشه، فإذا زال العرش سقط الإنسان عن عرشه، قالوا: وفي هذا أنا لو قلنا بالاستواء على هذه الصفة أن الله عز وجل محتاج إلى عرشه، ومنهم من يقول: إن العرش أكبر من الجالس عليه، وعلى هذا فالعرش أكبر من الله سبحانه وتعالى تعالى الله عز وجل عن ذلك، ودفعهم إلى ذلك إلى نفي هذا وتعطيله.
إذاً: سبق إلى ذهنهم شيء من التشبيه والتمثيل قبل التعطيل؛ ولهذا يقول العلماء: إن كل معطل مشبه، أي: سبق إلى ذهنه شيء من التشبيه فنفر منه؛ ولهذا نقول: إن التشبيه كله باطل، وعليك أن تثبت أن الله عز وجل له من الأسماء والصفات ما ذكره الله جل وعلا في كتابه، أما كيف وعلى أي صفة؟ فالإنسان لا يعرف عن ذلك شيئاً، وليس له مثال فيمر الأدلة الواردة في ذلك كما جاءت، يثبت حقيقتها وأن لها معنى، والمعنى ما عرفنا الله عز وجل عليه مما نعلم من معانيه، وما لم نعلمه نكله إلى الله سبحانه وتعالى، والإنسان إذا أراد أن يمثل لا بد له من فرع أو أصل، والله جل وعلا واحد سبحانه وتعالى ليس ثمة فرع دون.. وليس ثمة أصل فوقه، وهو الأول سبحانه وتعالى وليس قبله شيء، وهو الآخر وليس بعده شيء؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى معرفاً بنفسه لعباده، آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله جل وعلا: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1].
والله سبحانه وتعالى على ما تقدم معنا في تفسير سورة الفاتحة في اشتقاق كلمة الله سبحانه وتعالى من أي وجه مشتقة، وذكرنا كلام غير واحد من العلماء في ذلك.
وفي قوله جل وعلا: أَحَدٌ [الإخلاص:1] قيل: إن (أحد) بمعنى الواحد، وقيل: إن (أحد) تختلف عن الواحد، وهما قولان للعلماء، منهم من قال: إن الواحد هو المتفرد بالذات، والأحد هو المتفرد بالصفات والمعاني، ومن العلماء من يحمل كلا اللفظين على معنى واحد، وهو الأظهر.
قوله تعالى: اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:2]، والصمد قد اختلف أيضاً في معناها، جاء عن عبد الله بن عباس فيما رواه علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس قال: هو السيد الكامل في سؤدده، وجاء أيضاً عن غير واحد من السلف كـمجاهد بن جبر وغيره أن الصمد هو الذي لا جوف له، يعني: أنه لا يأكل ولا يشرب، هذا في لغة العرب يصفون ذلك فيما يعلمون مما يكون مثلاً من المحسوسات أو غير ذلك التي لا تكون بحاجة إلى طعام وشراب، والله جل وعلا سمى نفسه بالصمد أي: أنه لا يحتاج إلى شيء، ويحتاجه كل شيء سبحانه وتعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:1-2]، أي: أن الله سبحانه وتعالى السيد الكامل في سؤدده الذي لا يحتاج إلى أكل وشراب ليبقى، ولا يحتاج لشيء من مخلوقاته سبحانه وتعالى لينتفع ولا ليدفع الضر، وكل شيء محتاج إليه في هذا الباب.
قوله تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3]، ومعلوم أيضاً أن من وجوه الضلال على ما تقدم: ما يطرأ على الناس من أقيسة؛ ولهذا كفار قريش سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: انسب لنا ربك يعني: إلى أين يرجع؟ فالله سبحانه وتعالى قد بيّن غاية البيان على سبيل الإيجاز والاختصار، نسبه سبحانه وتعالى أنه واحد جل وعلا، لا يرجع الله جل وعلا إلى شيء، ويرجع إليه كل شيء، لم يلد ولم يولد، لم يكن له سبحانه وتعالى أب، ولم يكن له سبحانه وتعالى ابن، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3-4]، وهذا فيه دفع للتوهم الذي يطرأ على ذهن الناس، أو الوهم الذي طرأ على ذهن كفار قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يجهل حقيقة ربه فأرادوا اختباره، وإما أن يعرفوا حقيقة الرب الذي يدعو إليه، ومنهم من يسأل ذلك السؤال تعنتاً فأجابهم الله سبحانه وتعالى مخبراً نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك، أي: أن الله عز وجل لا ينتسب إلى أحد.
فصفات الله جل وعلا هي ذاته سبحانه وتعالى؛ فإن الذات هي مجموعة صفات، وهذه الصفات هي الذات.
ولهذا نقول: إن الله عز وجل يعرف سبحانه وتعالى بمعرفة ذاته، وبمعرفة صفاته؛ ولهذا نقول: إن الإنسان يعرف الله عز وجل بشيئين:
الشيء الأول: رؤية الله سبحانه وتعالى، فإذا رأيت الله جل وعلا أو رأيت غيره عرفته، لرؤيتك له، والله سبحانه وتعالى لا يرى في الدنيا، ويرى في الآخرة، فمن رآه عرفه سبحانه وتعالى، وكذلك أيضاً من رأى الشيء عرفه، واستطاع أن يصف ما رأى.
الثاني: هو بمعرفة صفاته ولو لم يره، وذلك أن يعرف صفات الله سبحانه وتعالى بالسمع والبصر وكذلك أيضاً باليد وكذلك أيضاً الرجل في القدم، وكذلك أيضاً في الساق، وغير ذلك من صفات الله سبحانه وتعالى القائمة في ذاته، وكذلك أيضا ًفي قدرة الله عز وجل ورحمته ولطفه، وغير ذلك من صفاته سبحانه وتعالى، فنقول: إن هذه صفات الله سبحانه وتعالى فيعرف الإنسان بالصفات الذات، ونضيف شيئاً ثالثاً في هذا، وهو أن يعرف الآثار؛ ليعرف الصفات والذات؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى أمر عباده بأن ينظروا فيما خلق الله عز وجل ليعرفوا صفات الله سبحانه وتعالى من القوة والقدرة والقهر والجبروت، والكبرياء والعزة وغير ذلك مما هو لله سبحانه وتعالى لا يشاركه في غيره.
لهذا يأمر الله عز وجل عباده بالتفكر كثيراً، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا [آل عمران:191]، فيتفكرون في خلق السماوات وما فيها من أبراج وكواكب ونجوم وسحب، ويتفكرون أيضاً في الأرض وما جعل الله عز وجل فيها من سهول وأودية وبحار وأنهار وجبال، وتراب وشجر وحجر، وغير ذلك مما جعله الله عز وجل فيها، وما جعل الله عز وجل عليها من مخلوقات من دواب تدب مما يمشي على رجلين، ومن يمشي على أربع، ومن يمشي على أكثر من ذلك، ومنها من يزحف، وغير ذلك من مخلوقات الله سبحانه وتعالى.
وأمر الله عز وجل أيضاً الإنسان أن ينظر في نفسه: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، وهذه يتعرف بها الإنسان على ماذا؟ على الله سبحانه وتعالى، ولو لم يره أو لم يعرفه بصفاته؛ ولهذا تقول العرب: الأثر يدل على المسير، وقد جاء عن بعض الملاحدة أنه جاء إلى بعض الأئمة فقال له: بماذا تعرف خالقك أو تثبت خالقك؟ فقال: ائذن لي بالتفكر، أو أني مشغول بسفينة في البحر فيها تجارة متوجهة إليّ وأخشى عليها الضياع، وأنتظر قدومها؛ فإنها لا ربان لها، قالوا: كيف لا ربان لها وتنتظر قدومها؟! قال: ويحكم! سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحر ذو أمواج، من يستطيع ذلك إلا اللطيف الخبير، يعني: إذا أنتم استكثرتم على سفينة أن تأتي فمن يسير هذه الأفلاك هذا المسير، على هذه الدقة المتناهية من أول الخليقة إلى يومنا؟ ولهذا نقل أهل الأدب أن أعرابياً سئل كيف عرفت أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق، وأن الله عز وجل موجود؟ فقال لهم: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا يدل ذلك على اللطيف الخبير؟ بلى يدل ذلك على اللطيف الخبير.
فالإنسان في ذاته إذا رأى أثراً ألا يعلم أن رجلاً مر من هنا، ألا يميز بالأثر يقول: هذا أثر صبي صغير، وهذا أثر كبير، وهذا أثر دابة، ويعرف ويميز الدابة، هذا خف الناقة وهذا حافر، وهذا أثر طير وغير ذلك، ألا يميز هذا أو لا يميزه؟ يميزه، وإذا أراد إنسان أن ينازعه إياه وقال: هذا ليس أثر البعير، وإنما هو أثر طائر، هل يستطيع أن يخالفه؟ هل يستطيع الإنسان أن يحلف على أن هذا أثر بعير أو أثر طائر؟ يميز أو لا يميز؟ يميز، وإذا خالفه أحد هل يحلف؟ لا يحلف.
يحتاج إلى تمييز أو لا يحتاج؟ العاقل لا يحتاج، وأما المجنون فيحتاج إلى دليل لإثبات نفسه فضلاً عن إثبات غيره؛ ولهذا نقول: إن الإنسان ولو لم يشاهد العين يستطيع أن يثبتها ولو لم يرها، لماذا؟ لآثارها؛ ولهذا نقول: إن الله عز وجل قد عرف نفسه لعباده بأنواع من أمور المعرفة التي يستدلون بها على معرفة صفات الله جل وعلا سبحانه؛ ولهذا الله جل وعلا عرف نفسه لعباده بوحيه، وما ذكره الله جل وعلا في ذلك فأرشد العباد إلى شيء من الأدلة إليه، وأرشد الله سبحانه وتعالى إلى شيء أيضاً من المعاني التي ربما لا يستدل الإنسان إليها بشيء من المشاهدات إلا بمشقة، فإن لله عز وجل من الأسماء والصفات ما لا يستطيع الإنسان الوقوف عليه إلا بالسمع وهو النص المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك عن ربه جل وعلا كتاباً وسنة.
ولهذا نقول: إن الإنسان في أمور الله سبحانه وتعالى يكلها إلى السمع، وألا يتجوز في ذلك، فلا يثبت لله عز وجل ما لم يثبته سبحانه وتعالى لنفسه جل وعلا، وهذه يهتدي بها الإنسان من أمور الأرض ودلالتها والسماء والأبراج على قدرة الله عز وجل وبديع صنعه، وما عدا ذلك مما لا يستدل الإنسان به من أمور الكون، فهو يردها إلى الله سبحانه وتعالى، فثمة أمور من دقائق الصفات لا يستطيع الإنسان أن يستنبطها مجردة من دلالات الكون، فلا يستطيع الإنسان مثلاً أن يثبت أن لله عز وجل أصابع من غير دليل، لكن ثبت الدليل على أن له أصابع سبحانه وتعالى، وهذه تليق بالله سبحانه وتعالى نثبت لها حقيقة، ولا نكيفها، ولا نشبهها، ولا نمثلها بشيء من مخلوقات الله عز وجل؛ لأنه ليس له مثال، وليس للإنسان أن يقول: إنه لا بد من دلالة في الكون تثبت أمثال هذه الصفات، نقول: هذه مردها السمع، فالإنسان يستدل من دلالات الكون وظواهره على قدرة الله عز وجل وقوته وعزته وجبروته وبطشه، وغير ذلك من الدلالات كغناه سبحانه وتعالى وهيمنته جل في علاه على هذه المخلوقات وحسن تدبيرها، ولطف الله جل وعلا بعباده وغضبه في إنزال العقوبات، ورحمته بعباده أنه يخرج الناس وكذلك أيضاً الإحياء والإماتة وغير ذلك.
فنقول: إن من الصفات ما يستطيع الإنسان الوقوف عليها من أمور الكون، ومنها ما لا يستطيع الإنسان الوقوف عليها إلا بالنص المسموع من كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
في قول الله جل وعلا: اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:2-3]، الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في هذه الدنيا، وجعل له ابتداء وانتهاء، ومعلوم أن الإنسان إذا عاش على صورة معينة تخيل أن غيره كذلك، باعتبار أن الإنسان يبتدئ بولادة وينتهي بموت، ويظن أن غيره كذلك، كذلك أيضا ًعجلة الزمن تبتدئ وتنتهي، ويظن أن كل موجود له عجلة زمن، الله عز وجل خلق الإنسان وخلق عجلة الزمن، ووضع الإنسان في عجلة الزمن وأداره، فظن الإنسان الذي يعيش في ذلك أن كل موجود له دائرة زمن؛ ولهذا الإنسان يعجز عن تصور وجود شيء بلا زمن، فالإنسان إذا غلب على ذهنه تصور معين ظن أن كل شيء خارج عنه كذلك، حتى يجد مثالاً خارقاً في هذا؛ ولهذا الإنسان في الكون إذا كان لديه شيء ثم وضعه يسقط إلى أسفل أو إلى أعلى؟ يسقط إلى أسفل، أما أعلى فلا يسمى سقوطاً، بل يسمى ارتفاعاً، أليس كذلك؟ كذلك، لكن هل يخطر في بال الإنسان أنه إذا وضع شيء يمكن لا يسقط، لا يتخيل وجود هذا حتى يكتشفه، فيظن كل شيء كذلك، فإذا خرج عن هذه الدائرة وجد أنه يوجد من الأجرام من إذا وضعه لا يسقط إلى أسفل وإنما يمضي أليس كذلك؟ نعم، ولهذا هذه الدائرة التي وضع فيها لا يستطيع أن يتصور شيئاً خارجاً عنه؛ ولهذا الإنسان لا يمكن أن يضرب مثالاً إلا وهو موجود؛ ولهذا لا يستطيع أحد منكم أن يرسم شكلاً لم يره، لو أعطي أحدكم قلماً وورقة وأقول: ارسم شكلاً لم تره هل يستطيع؟ لا يستطيع، حتى لو قام بالإدارة ونحو ذلك، هو إما رآها في رسم سحاب وإما رآها في شيء من مخلوقات الله من غصن شجر أو في أرض من سف الرياح أو غير ذلك، لا يمكن أن يرسم شيئاً على الإطلاق، حتى التخيلات التي يراها الإنسان من شكل الأشياء مثلاً يقول: هذه صورة الجن أو صورة إبليس أو نحو ذلك، هذه أين رآها؟ إن لم يرها في اليقظة رآها في المنام، هو انعكاسات بين يقظة ومنام، لا يمكن أن يأتي بشيء جديد، هذه الأشكال الموجودة في ذهن الإنسان المشاهدة في يقظة أو في منام، هذه أمثلة، الإنسان يقوم باستخراجه؛ ولهذا نقول: إن الإنسان حتى في صناعاته لا يمكن أن يأتي بشيء إلا وهو موجود في الكون، رآه ثم قام بصناعة شيء على مثاله، والصناعة لدى الإنسان تختلف: منها ما يجمع جزئين، ومنها ما يجمع ثلاثة، ومنها ما يجمع عشرة، إذاً هو يركب بين متفرقات ويظن أنه أبدع.
ولهذا المعلومات والمعارف التي لدى الإنسان، وهل هي إيجاد من عدم، أم تركيب متفرق؟ تركيب متفرق، ويبدع الإنسان في ذلك بقدر التركيبات في هذا.
من الناس من يجمع معلومتين ويخرج بمعلومة، ومنهم من يجمع خمسين معلومة، ويكون لديه نتيجة أخرى؛ ولهذا أكثر الناس معلومات أكثرهم إنتاجاً، فجمع المعلومات هو شبيه بجمع المادة المحسوسة، وليس للإنسان شيء من المعرفة أكثر مما هو موجود أوجده الله سبحانه وتعالى منه يقيس ومنه ينتج؛ ولهذا الإنسان إنما يأتي إلى شيء من الموجودات ويقوم بخلقها، سواء كان من المعارف أو كان من المواد؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى أراد أن يبين أن هذه الدائرة التي يوجد فيها الإنسان أن الله سبحانه وتعالى ليس له مثيل سبحانه وتعالى فيها، ولا في غيرها؛ ولهذا الله عز وجل يقول في كتابه العظيم: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، يعني: الله عز وجل سميع وبصير، لكن أعلم أنه ليس كمثله شيء؛ ولهذا نقول: ينبغي للإنسان في حال الإثبات أن يثبت أمر الصفة لله عز وجل ولا يشبه، ولا يكيف، ويتوقف، ولا يجعل لازماً للصفة صفة أخرى؛ ولهذا بعض الأئمة ربما يكون لديه شيء من هذا من التسامح في مسائل اللوازم، كما جاء في حديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من رائحة المسك ) يقول: هذا فيه دليل على إثبات صفة الشم، هل هذا صحيح أو ليس بصحيح؟ الراجح أنه ليس بصحيح، لماذا؟ لأن الإنسان يعرف الطيب من غيره من الرائحة بالشم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أطيب عند الله، وما يدريك أنها كانت بشم أو بغير شم، أو بعلم لا يحتاج إلى مثل هذا، هل نستطيع أن نثبت هذا أم لا نستطيع؟ نتوقف في إثبات أن لله عز وجل ريحة استدلالاً بحديث: ( لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من رائحة المسك )؛ ولهذا نقول: إن مثل هذا الأمر توقيفي يثبت ولا يزاد على ذلك، ويعذر الإنسان فيما يخطر في باله من أشياء.
لكن ينبغي للإنسان أن يطردها ويتيقن أنه ليس لله مثال، ويكفي الإنسان أنه في الكون الذي موجود فيه يرى من مخلوقات الله يوماً بعد يوم ما ليس له مثال، ولو ذهب الإنسان إلى برية وهي كلها مخلوقات، ذهب إلى برية رأى من الحشرات ورأى من الكائنات ما لم يره من السابق أليس كذلك؟ كذلك.
هذا في دائرة كون هو وجد فيها، والله سبحانه وتعالى بين أنه ليس كمثله شيء.
وهذا يدل على ضعف الإنسان في جانب القياس؛ فثمة مخلوقات أنت لا تعلم حالها، فكيف تريد أن تثبت لله عز وجل شيئاً وليس له مثال سبحانه وتعالى؟!
قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، أي: لم يكن لله عز وجل ما يكافئه من مثيل أو شبيه أي: ليس لك أن تقيس، لماذا؟ لأن القياس يلزم من ذلك أن تثبت أصلاً، وأنت لم تر الأصل، وليس لديك أيضاً شيء من الفروع من هذا لكي تلحقها بذلك الأصل.
وعلى هذا فالله جل وعلا واحد أحد سبحانه وتعالى لا ند له ولا نظير، ولا شبيه له تعالى الله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيرا.
قوله سبحانه وتعالى في السورة الثانية وهي سورة الفلق: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1].
هذه السورة مدنية على الأشهر، ويروى عن بعض السلف أنها سورة مكية، وهي إنما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما سحر، هي وسورة الناس أيضاً، والنبي صلى الله عليه وسلم سحر في المدينة سحره لبيد بن الأعصم اليهودي الذي كان خادماً، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما سحر في مشاطة، يعني: في مشط كان النبي صلى الله عليه وسلم يمشط شعره به، وفيه بقايا من الشعر، فأخذ لبيد هذا الشعر وأعطاه اليهود، ثم سحر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وقيل: إن الذي جاء بهذه المشاطة هن بنات لبيد بن الأعصم اليهودي، وأتين بهذه المشاطة إلى لبيد بن الأعصم ، ثم قام لبيد بن الأعصم بإعطائه يهوده، ثم قاموا بسحر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو معلوم، فأنزل الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم لذلك شفاءً بهاتين السورتين: بسورة الفلق وسورة الناس.
وفي هذا جملة من المعاني منها: أن الإنسان ينزل الله عز وجل عليه من البلاء ما يريد به؛ امتحاناً واختباراً له مهما علت منزلته، بل إن الله سبحانه وتعالى يبتلي الصالحين من عباده الأمثل فالأمثل، ومن هذه المعاني أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر وهو من هو؛ وذلك لرفع العنت عن الأمة، والمشقة، وقد يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو أكثر الناس ذكراً لله جل وعلا، وهو إمام الذاكرين والمتألهين والمتعبدين، وأقرب الخلق إلى رب العالمين، مع ذلك نفذ إليه ما نفذ من مكر اليهود به، وكذلك أيضاً سحره.
ومعلوم أن السحر إنما هو تسلط بعض الشياطين على الإنسان، والوسيلة في ذلك هي شيء من عقود السحر أو نفثات السحرة على الإنسان مما أخذ من جسده، ثم بعد ذلك يكون على الإنسان بذلك ضرر عليه: إما من تخيلات، وإما أمراض وأسقام، وإما إغماء، وإما تسبب ذلك بموت، على اختلاف مراتب السحر.
نقول: إن الله سبحانه وتعالى ينزل بعض الشيء على رسوله صلى الله عليه وسلم لحكم، من هذه الحكم: أن النبي صلى الله عليه وسلم هو قدوة هذه الأمة، وما ينزل به يخفف نزول البلاء على من دونه عليه الصلاة والسلام، فإذا علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل به البلاء وهو من هو فعليك ألا تجعل نفسك أعلى من ذلك، أنت تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق على رب العالمين، فإذا أنزل الله عز وجل عليه مثل ذلك، فإن الإنسان يتسلى، ولا يحزن، ويحمد الله عز وجل على ما اختاره وقضاه له؛ ولهذا أيضاً فإن من المسائل التي يوردونها في هذا في مسألة كون النبي عليه الصلاة والسلام سحر: أنه أكثر الناس ذكراً، والذكر يحصن الإنسان، ومع ذلك سحر النبي عليه الصلاة والسلام فأين مقام الذكر من التحصين في مثل هذه الحالة؟
نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم إمام الذاكرين، وأيضاً تقدم معنا أن الأذكار على مراتب، وأن منها ما يكون علاجاً لشيء، ونقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم تنزل عليه المعوذتان من قبل وهما حصن له وعلاج له عليه الصلاة والسلام من ذلك.
لهذا نقول: إن الأذكار تتفاوت، وسحر النبي عليه الصلاة والسلام كان قبل ذلك، وأقوى الأشياء على السحرة وعلى الشياطين سورة الإخلاص والمعوذتان على سبيل الخصوص؛ ولهذا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سحر قبلهما ولم يسحر بعدهما؛ ولهذا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم في سحره لا يعني من ذلك تركاً للذكر، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم إمام الذاكرين من قبل ومن بعد، إلا أن الأذكار لم تكتمل نزولاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد.
وفي هذا إظهار لأن الله سبحانه وتعالى لم يجعل كرامة الإنسان بسلامة الدنيا، بل إن كرامة الإنسان هي بسلامة دينه، أما بالنسبة للدنيا فإن الإنسان في ذلك يلحقه من البلاء والأمراض والأسقام، فإن الله سبحانه وتعالى يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم خير الخليقة عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك أذن بنزول البلاء عليه سبحانه وتعالى في الأرض من أذية كفار قريش وطرده وإخراجه وضربه عليه الصلاة والسلام وشج رأسه، وإدماء قدميه، وكسر رباعيته، والوقوع في عرضه عليه الصلاة والسلام بالسب والشتم وغير ذلك من الصفات التي كانوا يلحقونها به، وقذف أهله عليه الصلاة والسلام وهن الأطهار كـعائشة عليها رضوان الله تعالى، هذه أنواع من البلاء التي يعلم الله عز وجل حصولها ويقدرها الله جل وعلا على نبيه عليه الصلاة والسلام، وهذا دليل على أن سلامة الدنيا ليست مقصودة للصالحين، المقصود في ذلك هو سلامة الدين؛ ولهذا نقول دائماً: إن الكرامة ليست بسلامة الدنيا، وإنما الكرامة بسلامة الدين، فإذا سلم الله عز وجل لديك دينك فاعلم أن الله يحبك، وأما الدنيا فالله عز وجل يأخذ منها ويعطيك بمقدار يراه الله سبحانه وتعالى، ولحكم عظيمة يجعلها الله عز وجل في الإنسان، ولهذا نقول: إن الله عز وجل قدر لنبيه عليه الصلاة والسلام ما قدر من هذا.
كذلك أيضاً فيه بيان لشدة مكر أعداء الأمة والدين، والتربص ووضع الدسائس، فاليهود قد وضعوا الدسائس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومكروا به، عجزوا عن المكر بجسده أو بماله أو بأصحابه، فحاولوا المكر بنفسه عليه الصلاة والسلام ففعلوا ما فعلوا، فشفاه الله عز وجل بهذا الذكر العظيم الذي أنزله الله سبحانه وتعالى عليه.
ثم أيضاً: إن الله جل وعلا جعل النبي صلى الله عليه وسلم مشرعاً وقدوة للناس؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إني لا أنسى، ولكني أنسى .. )، يعني: النبي عليه الصلاة والسلام ربما ينسى ويسهو في صلاته، كما سها عليه الصلاة والسلام في إحدى صلاتي العشي، فصلى ركعتين، والصلاة أربع، ونام النبي عليه الصلاة والسلام عن صلاة الفجر حتى ما أيقظهم إلا حر الشمس، والنبي صلى الله عليه وسلم مع ذلك يقول: تنام عيناي ولا ينام قلبي، يعني: أن قلبه حاضر يلهج بالتفكر وذكر الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك الله سبحانه وتعالى يقدر عليه مثل هذه الأشياء؛ رحمة بالأمة، فإذا كان الإنسان يسهو ما يحزن ويوجل أو يظن أن الله عز وجل سخط عليه، إذا كان يعلم أن مثل هذا الأمر العارض قد قدره الله عز وجل على نبيه، وإذا طرأ على الإنسان شيء من الغفلة في نومه العارض من النوم عن الصلاة، مع وضع احتياطه، ثم وضع النبي عليه الصلاة والسلام بلالاً يوقظه من صلاة الفجر، ثم نام الإنسان عن صلاة الفجر وتأخر قيامه حتى خروج الوقت، فإن هذا ليس فيه وجل، ولا ضيق ولا حرج، أو يظن أن الله سبحانه تعالى أراد به سوءاً، فمن لطف الله عز وجل ورحمته بعباده أن قدر مثل هذه الأشياء حصولاً للنبي عليه الصلاة والسلام رحمة بالأمة؛ ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إني لا أنسى، ولكني أنسى لأسن )، يعني: أن الله سبحانه وتعالى جعله مشرعاً في عمله وكذلك في تركه، ونسيانه عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا نقول: إن مثل هذه الأشياء هي من التشريع حتى في نوم النبي عليه الصلاة والسلام عن صلاة الفجر هي من التشريع؛ ليعلم الناس إذا ناموا ماذا يفعلون في حال استيقاظهم، هل الصلاة تسقط عنهم؟ أم يؤدونها؟ هل ذلك مشقة وعنت على الإنسان، أم الأمر في ذلك يسر من الله عز وجل إذا كان الإنسان لم يتعمد هذا، وغير ذلك، فهي رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده.
يقول الله جل وعلا آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، أي: التجئ وأستجير بالله سبحانه وتعالى لا بغيره.
وقوله سبحانه وتعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، المراد من ذلك هو الالتجاء من كل شيء، وعلى سبيل الخصوص من السحرة والشياطين الذين ألحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ما ألحقوا، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، والفلق المراد به هو فلق الصبح على الأشهر، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، وهو انفلاق الصبح وخروج الشمس فالقة ظاهرة، والله سبحانه وتعالى رب كل شيء، وإنما ذكر هنا الفلق باعتبار أنه علم ظاهر لابتداء اليوم، والناس يترقبونه في معرفة وقتهم، ومعرفة ابتداء يومهم وعملهم؛ فإن الناس إنما يعرفون الأزمان على مجريات الأفلاك؛ ولهذه الأمور الظاهرة فالله سبحانه وتعالى يجعل نفسه في كثير من المواضع رباً لبعض هذه الظواهر إشارة لعباده، مع كونه جل وعلا رب كل شيء ومليكه، إلا أنه سبحانه وتعالى يريد أن يلفت عباده ببصائرهم وأبصارهم إلى مثل هذه الآيات العظيمة، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، رب الفلق هو الله سبحانه وتعالى وهو رب كل شيء، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2].
الله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ به سبحانه وتعالى وحده، ألا يستعيذ بغيره، وقد كان المشركون في الجاهلية يستعيذون بما لديهم من عظماء إذا أرادوا الاستعاذة من الجن، استعاذوا بعظيم الجن وسيدهم من شر أتباعه. والإنسان يجب عليه أن يلتجئ إلى الله وحده.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم غاية ما حصل لديه في ذلك أنه يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله، فيخيل إليه أنه ذهب إلى فلان ولم يذهب، ويخيل إلى أنه أتى نساءه ولم يأت عليه الصلاة والسلام، فكان ذلك من التخيلات، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:1-2]، أي: ما خلقه الله سبحانه وتعالى، فلكل شيء من مخلوقات الله سبحانه وتعالى أثر، وهذا الأثر يتباين، منه ما هو خير، ومنه ما هو شر.
ومن العلماء من يستنبط من قول الله عز وجل: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:1-2]، يقولون: إن السحر غالباً ما يربط بزمن؛ ولهذا ذكر فلق الصبح، أي: أن الزمن ليس كما يضعونه هم، وإنما هو الذي يضعه سبحانه وتعالى، وهو الذي يضع آجاله، وهو الذي ينقضها سبحانه وتعالى ليس لهم تصرف إلا فيما أذن الله سبحانه وتعالى فيه.
ثم قال تعالى: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2], فالله سبحانه وتعالى جعل لبعض مخلوقاته شراً، وجعل لبعضها خيراً، وجعل لبعضها خيراً وشراً، وبعضها يغلب خيره، وبعضها يغلب شره، والله سبحانه وتعالى أمر عباده بأن يستعيذوا من شر ما خلق، وينبغي أن نعلم أن نسبة الشر إلى الله سبحانه وتعالى مجرداً من جهة خلقه ليس من الأدب؛ لأن الله عز وجل لا يوجد شراً محضاً إلا ما يرى الإنسان بذاته أنه شر، ولكن الله سبحانه وتعالى له حكمة، وهذه الحكمة إما بالمآل, وإما بالتركيب، معنى المآل أي: أن هذا الشر يبدأ شراً، ثم يئول إلى خير، والإنسان يرى أوله ولا يرى آخره، وإما أن يكون بالتركيب، أي: أن هذا شر في ذاته، فإذا امتزج مع غيره، أو ركب مع غيره أصبح خيراً؛ ولهذا الله عز وجل يوجد من مخلوقاته التي ينظر الإنسان فيها أنها ضرر عليه، وهو لا يدرك حقيقة النفع لهذه المخلوقات، مثلاً: من العقارب أو الحيات أو ما يؤذي الإنسان من هوام الأرض ونحو ذلك، لا يعلم الإنسان من ذلك نفعاً.
وعدم علمه ليس دليلاً على عدم النفع، فربما كان في مآلها خير، وربما إذا كانت مركبة مع أمر آخر كانت تئول إلى خير، كأن يكون بهيمة أو حشرة من الحشرات إذا اقترنت مع غيرها، أو مع ثنتين أو ثلاث أو أربع اعتضدت فأدت إلى نتيجة معينة، وهذه النتيجة المعينة لا يفهمها الإنسان إلا بفهم حقائق تركيب هذه المخلوقات وما تئول إليه.
قوله: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3]، الغاسق قيل: هو القمر، وقيل: هو جميع الكواكب والأفلاك، وقيل: هو الأجرام الظاهرة التي يعرف فيها الزمن سواء كان ذلك القمر، أو كان ذلك الشمس، وفي ظهوره وخفائه، وفي هذا أيضاً قرينة على أن السحر غالباً ما يكون مربوطاً بزمن، أو مقيداً بسبب، فالله سبحانه وتعالى ربط هذه الأشياء به سبحانه وتعالى من جهة إيجاد الشر, ومن جهة إيجاد الزمن، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يوجد الزمن ابتداءً وانتهاءً، والله جل وعلا رب الفلق، ورب الغاسق إذا وقب.
والله سبحانه وتعالى أيضاً هو الذي خلق هذه الكائنات وأوجد شرها من شر ما خلق؛ ولهذا نقول: إن الإنسان لا ينسب إيجاد الشر إلى الله سبحانه وتعالى إلا إذا أراد الاستعاذة منه، أو قرنه بالخير، أو أضمر الفاعل؛ ولهذا نقول: ليس من الأدب أن الإنسان ينسب الشر لله سبحانه وتعالى؛ ولهذا الجن تأدبت مع الله عز وجل كما في سورة الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10]، لما ذكروا الرشد والخير قالوا: أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ [الجن:10] ذكروا أن الذي أراد هو الله وهو الرب سبحانه وتعالى، ولما ذكروا الشر قالوا: لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ [الجن:10] حذفوا الفاعل من باب الأدب مع الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا الله جل وعلا لا يريد بعباده شراً، ما خلق العباد لينزل عليهم الشر، ولكن يتسببون بوجود الشر وجره إليه، ولو صلحت أحوالهم كما أمر الله سبحانه وتعالى لانتظم أمر الحياة لديهم من غير أذية ولا شرك، كما تنتظم الكواكب في سيرها منذ أن خلقها الله سبحانه وتعالى إلى قيام الساعة لا يصطدم بعضها ببعض، لماذا؟ لأنه ليس لها مشيئة تخرجها عن أمر الله سبحانه وتعالى، فكانت تسير وفق نظام أمر الله عز وجل الكوني..
وإذا حصل فساد فيها فهو بسبب فساد الإنسان كما قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41]، حتى الفساد الذي يكون في البحر من اضطراب الكائنات ووجود الأمواج وغرقها واختلال أمر البيئة هو بسبب الشر الذي يأتي من الإنسان؛ ولهذا لو استقام أمر الإنسان على أمر الله لاستقامت لهم الحياة استقامة تامة من غير اختلال ولا اضطراب، ولكن يخالفون أمر الله، فالله عز وجل يغير عليهم سننه سبحانه وتعالى عن أصلها، فيجعلها الله عز وجل في ذلك ضرراً، فيكون خيراً للمؤمن، وشراً على الكافر، خيراً على المؤمن إذا صبر وآب، وشراً على المعاند إذا بقي على ما هو عليه.
قوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4]، قيل: إن النفاثات هنا هن بنات لبيد بن الأعصم وكن من السواحر، وقيل: غير ذلك، والمراد بذلك: العموم من السحرة من نساء اليهود، ومنهم من قال: إن اليهود كانت تستعمل النساء في السحر وبالوصول أيضاً إلى آثار الناس والولوج إلى بيوتهم بخلاف الرجال؛ فإنهم لا يدخلون إلى بيوت الناس، ولا يجدون من آثارهم، فيجعلون النساء هن الوسائل بالوصول إلى شعر الإنسان أو بقية لباسه، أو بقية طعامه أو غير ذلك حتى يسحر به، والمرأة في ذلك أقدر على الوصول إلى ذلك من الرجل، وهن يتولين ذلك, وهذا مشهور عند اليهود بشر النفاثات في العقد، والمراد بالعقد: عقد السحر التي تقرأ مع ترنمات أو تلاوات يتلونها بتمتمات بعقد الجن أو حضورهم ونحو ذلك، حتى يؤذى الإنسان بموجبها، وهذا أمر جعله الله سبحانه وتعالى قدراً في مقدور بعض مخلوقاته كالجن، أن يؤذوا الإنسان بموجب ذلك، وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4].
ثم ذكر الله جل وعلا بعد ذلك الداعي من ذلك كله فقال: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5]، فبين أن أصل السحر هو الحسد، فلا يسحر ساحر أو يدعو أحد أو يتسبب بسحر أحد إلا بسبب الحسد، وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5].
لهذا الإنسان إذا آتاه الله عز وجل نعمة في دينه، أو نعمة في دنياه، فعليه أن يحترز لها بذكر الله سبحانه وتعالى فربما حسد عليها فأوذي في ذلك، وأعظم ذلك هو أن يحترز الإنسان بذكر الله عز وجل، وما جعله الله عز وجل شفاءً للنبي صلى الله عليه وسلم كهاتين المعوذتين، والحسد داء عظيم يقع في النفوس, ولا تخلو النفوس منه ولو من شيء دقيق.
ربما الإنسان لا يجد نصيباً في باب من أبواب الخير فيحسد من أُعطيه، وأقول: إن الإنسان مهما يعطيه الله عز وجل من أمور الخير، فإنه يبقى يفقد شيئاً، ربما يؤتيه الله عز وجل بسطة في الجسم، لكن الله عز وجل يسلبه الصحة، أو يعطيه الله عز وجل الصحة، لكن لا يعطيه الله عز وجل البهاء والوضاءة، أو يعطيه الله عز وجل المال، ولكن لا يعطيه العلم، أو يعطيه الله عز وجل العلم ولا يعطيه المال، أو يعطيه الله سبحانه وتعالى النعمة بالذرية، والزوجة، ولا يعطيه الله عز وجل سعادة المال، فلا بد أن يكون للإنسان شيء من القصور في هذا الباب، فينظر إلى غيره ممن كمل من وجه ليس عنده فيحسده؛ لأن الإنسان ينظر إلى ما فقد ولا ينظر إلى ما وجد، فيقع لديه شيء من وجوه الحسد لغيره.
ولهذا يقول غير واحد من العلماء يقول: ما خلا جسد من حسد، ولكن الكريم يخفيه، واللئيم يبديه، ومعنى (حسد): أن الإنسان يجد في نفسه شيئاً مما فقد، ربما الإنسان أوجده الله عز وجل عقيماً، ويرى الذرية عن يمينه وشماله لإخوته وجيرانه وأصحابه، أو يراه في الناس فيقع في نفسه كلما رأى متعة الأولاد والذرية أو نحو ذلك، أو حرمه الله عز وجل الزوجة الصالحة، أو حرمه الله عز وجل المال، أو حرمه الله عز وجل الجاه، أو حرمه الله عز وجل الصحة أو غير ذلك يجد الإنسان إذا رآه، هذا أمر يفطر على تمنيه الإنسان، فربما جر هذا الإنسان إلى تمني زوال النعم، وهذا يقع في النفوس الخبيثة، كلما عظم هذا الأمر في الإنسان ازداد خبثاً حتى يتمنى زوال نعمة ينعم بها غيره, فالإنسان لا يدري, فنفوس الناس تختلف: فمن الناس من يحسدك على شيء يسير ويتمنى زواله منك، ويقوم بعمل سحر لزوال تلك النعمة.
ولهذا نقول: إن الإنسان كلما ظهرت لديه نعمة من نعم الله عز وجل امتاز بها على غيره من أي شيء في دينه أو دنياه، فعليه أن يكثر من ذكر الله عز وجل حماية لها، كما يحوط الإنسان ماله، كلما يكون لدى الإنسان مال عظيم يقوم بحياطته أكثر من غيره، لثمنيته عنده، والمال اليسير يقل الإنسان من حياطته؛ ولهذا كلما تعظم النعمة عند الإنسان فعليه أن يكثر من حياطتها بذكر الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى بيّن هذا المعنى بالحياطة والاستعاذة والالتجاء إلى الله جل وعلا: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، وفي قوله جل وعلا: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1].
والسورة الثالثة هي سورة الناس، وهي سورة مدنية أيضاً على الأشهر، وقيل: إنها مكية، والصواب أنها مدنية، وهذا الذي عليه جماهير المفسرين، وهي إنما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:1-6].
و(أعوذ برب الناس) أي: ألتجئ إلى الله سبحانه وتعالى، وأستعيذ به سبحانه وتعالى، وإنما ذكر رب الناس: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] أي: أن الإنسان يوجل منهم أكثر من غيره، وأذية الناس لبعضهم أعظم من أذية غيرهم لهم، فالكواكب والأفلاك والبهائم لا تؤذي الإنسان كما يؤذي الإنسان نفسه، والإنسان يخاف من عدوان أبناء جنسه أكثر من عدوان غيره؛ ولهذا ذكر هنا ربوبية الله عز وجل للناس كأنه يبين أن الذين تخاف منهم فالله عز وجل ربهم, وهو الذي يدبرهم، وهو الذي جعل فيهم خصائص العدوان، وجعل فيهم خصائص الرحمة، فهو ربهم سبحانه وتعالى فالتجئ إليه ولا تلتجئ إليهم.
وقوله: (( مَلِكِ النَّاسِ ))، أي: المالك لهم والمدبر لشئونهم، والمتصرف بهم؛ ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى إنما أرجع الشيء لأصله؛ حتى يرجع الإنسان إلى الأصل ويدع الفرع، فلا يتعلق بالناس بقلبه، ولا يخاف أحداً إلا الله، ولا يرجو إلا الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (( إِلَهِ النَّاسِ )). أي: المعبود من قبل الناس كلهم، والواجب عليهم في ذلك؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى هو ربهم، وهو مالكهم، فاستحق العبودية وحده سبحانه وتعالى، والناس هم البشر، وقيل: بدخول الجن في لفظ الناس، وقيل: إنما هي للذكر والأنثى من بني آدم، وبعض العلماء يقول: إنه يدخل في ذلك الثقلان من الجن والإنس؛ ولهذا يكثر الخطاب بيا أيها الناس في القرآن؛ لدخولها في جميع المخاطبين، ويأتي مفسراً في بعض المواضع يا معشر الجن والإنس، يعني: الخطاب فيها إنما هو لعمومهم.
وفي قوله سبحانه وتعالى: إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [الناس:3-4]، أكثر الأذية من جهة الباطل إنما هي أذية الشيطان، والأذية الظاهرة هي أذية الإنسان للإنسان، والأذية الباطنة هي أذية الشيطان للإنسان، فالإنسان إنما يسلطه الله عز وجل على النفوس، والله سبحانه وتعالى يسلط الإنسان على الإنسان في الظاهر.
قوله: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس:4-5]. أعداء الإنسان ثلاثة: نفسه الأمارة بالسوء وهذه أولها، وهي موجودة مع كل أحد؛ ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى على لسان عبده: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف:53]، أي: أن الإنسان يطرأ عليه من مكائد نفسه وضررها عليه، ولا يكاد يسلم من هذا إلا قلة من عباد الله سبحانه وتعالى، والله جل وعلا قد سلط نفس الإنسان عليه ابتلاءً وامتحاناً، وكذلك أيضاً اختباراً لثباته وقوته.
الثاني: هو شيطانه وهو الوسواس الخناس الذي يوسوس له، ثم يخنس ويختفي، يظهر له شيئاً من الخواطر السيئة؛ لصرفه عن عمل الخير، أو لأذيته في نفسه، ثم يخنس أي: يبعد نفسه كأنه لم يفعل من ذلك شيئاً، وقيل: إن المراد بخنوسه هو أن الإنسان إذا ذكر الله سبحانه وتعالى خنس الشيطان وابتعد عن أذيته للإنسان، ولا يكاد يسلم إنسان من ذلك إلا من وفقه الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما منكم من أحد إلا ومعه قرين. قالوا: حتى أنت يا رسول الله! قال النبي صلى الله عليه وسلم: حتى أنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم )، على خلاف، هل قرين النبي صلى الله عليه وسلم أسلم يعني: دخل الإسلام؟ أو أن النبي صلى الله عليه وسلم أعانه عليه فيسلم من شره؟ كلا المعنيين قد قال بهما غير واحد من العلماء.
الثالث من الأعداء: هي شياطين الإنس.
وهؤلاء الأعداء الثلاثة إذا أدركهم الإنسان وعرف منافذهم إليه وقاه الله عز وجل شرهم.
وكل واحد من هؤلاء الثلاثة له وسائله إليه قد ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه، وجاءت عن نبيه عليه الصلاة والسلام، فخطرات النفوس وتسويلها وحبائلها ومكائدها وسائل للبعد بها عن الحق.
فالنفس التي تأتي بالخطرات ربما تجتمع أيضاً مع شيطان الجن، فيجتمع الأول والثاني، وأخطر الأشياء إذا اجتمعت الثلاثة، وسوسة النفس ووسوسة الشيطان وأذية الإنس للإنسان، فإذا اجتمعت هذه الأشياء فهي أثقل ما تكون على الإنسان.
لهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى قد جمع سبل الخير للإنسان التي تحميه من آثار ذلك، وأعظم ذلك هو الدعاء وذكر الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا جاء في الخبر أن: ( الدعاء سلاح المؤمن ) يعني: يواجه به خصومه من جهة النفس، وذلك بدعاء الله عز وجل ألا يكله الله سبحانه وتعالى إلى نفسه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من شر نفسه، وألا يكله الله جل وعلا إليها طرفة عين، إذا كان هذا النبي عليه الصلاة والسلام صاحب النفس الزكية النقية المطهر بتطهير الله عز وجل الذي غسل الله عز وجل قلبه بشق صدره عليه الصلاة والسلام في مكة فأنقاه الله عز وجل مما فيها، فيسأل الله عز وجل ألا يوكل إلى نفسه طرفة عين، فكيف بغيره؟ ولهذا نقول: ينبغي للإنسان أن يكثر من دعاء الله عز وجل أن لا يوكل إلى نفسه، وإنما يؤتى الإنسان باعتماده على نفسه من دون الله، كأن يعتمد على ذكائه، أو على دهائه، أو على حنكته، أو على درايته وخبرته وعلمه ومعرفته، وغير ذلك، فيكله الله عز وجل إليها، وإن صحت لديه النتائج ووجد الثمار فإنه يزداد ضيقاً وحرجاً، وعدم اطمئنان حتى بنتائجه لماذا؟ لأن العبرة من ذلك هي انشراح الصدر، وإذا حقق الله عز وجل لك بعض النتيجة -مع راحة نفس وسعة بال وطمأنينة- خير من أن يحقق الله عز وجل لك النتائج كلها من غير راحة بال؛ لأنك إنما تبحث أصلاً عن راحة البال، ولو لم تتحقق النتائج؛ ولهذا نقول: إنه ينبغي للإنسان أن يتكل على الله سبحانه وتعالى، وأن يعتمد عليه، وأما بالنسبة لعداوة الإنسان فالله عز وجل قد جعل من ذلك حياطة من الاستعاذة من شر الناس، وأن يكفيهم الله سبحانه وتعالى.
كذلك كلما كان الإنسان لله جل وعلا أقرب من جهة التعبد كفاه الله سبحانه وتعالى الشرور، وإذا نزلت به الشرور ضعف أثرها عليه؛ لأن أعداء الإنسان يريدون أن ينزلوا به ضراً لكي يضعف وينهزم ويخسر، ولكن إذا رأوا ثباته وأن الأمر في ذلك لا يزيده إلا تقدماً فإنهم يعجزون عن مواجهته؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العظيم: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، يعني: أن كفاية الله لعبده بمقدار عبوديته له؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث أبي هريرة كما روى البخاري قال الله جل وعلا: ( من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه )، هذه مرتبة الكفاية، فالمؤمن يسدده الله جل وعلا بقوله وفعله وبصره وسمعه، فلا يمشي إلا إلى حق، ولا يضرب إلا في حق، ولا ينظر إلا إلى حق، ولا يسمع إلا حقاً، هذا هو التوفيق والسداد من الله عز وجل لعبده؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام يوصي بعض أصحابه فيقول: ( قل اللهم اهدني وسددني، وتذكر بهدايتك هداية الطريق، وبالسداد سداد السهم )، يعني: أن الإنسان كلما التجأ إلى الله عز وجل وأكثر من دعائه الله سبحانه وتعالى والالتجاء إليه، كفاه الله سبحانه وتعالى؛ لهذا نقول: إن من أعلا مراتب العبودية لله عز وجل هو التضرع بين يدي الله وسؤاله.
السؤال والدعاء يتضمن الافتقار والحاجة، أنت حينما تمد يدك إلى أحد تطلب منه العون أليس هذا يتضمن أنه قادر عليها؟ ولهذا الله سبحانه وتعالى إذا لم يُسأل يغضب، كما جاء في السنن وغيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من لم يسأل الله يغضب عليه )؛ لهذا اسأل الله كل شيء، ولو الشيء اليسير، لماذا؟ لتظهر ضعفك وتبين قوة الله عز وجل، فتقول: اللهم أعني، لماذا يقول الإنسان: بسم الله في دخوله بيته، وفي خروجه، وفي دخوله المسجد، وفي لباسه وغير ذلك؟ لأنه يطلب العون، أي: أستعين بسم الله، والباء هنا للاستعانة، بسم الله الرحمن الرحيم عند ذبحه، وعند كثير من أعماله، أو غير ذلك من الأذكار يستعين فيها الإنسان بالله سبحانه وتعالى حتى يعلم أن مثل هذه الأشياء يحتاج إلى مدد من الله سبحانه وتعالى؛ لهذا نقول: إن الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى هو سبب مد الله سبحانه وتعالى لعبده بالعون والتسديد.
قوله تعالى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:5-6].
وهنا ما يأتي في صدور الناس من خواطر وآراء يأتي من جهتين: من الجنة، ومن الناس.
ذكر الجنة وقدمهم باعتبار أنهم أمكن وأقدر على الوسواس النفسي من الناس، والناس لهم أثر أيضاً بالوسوسة على الإنسان بماذا؟ بالآراء والأفكار، والأقوال الشاذة البعيدة عن الحق من الشبهات وغير ذلك، فيقذفون شبهة على مسامعك تجلجل في نفسك، فتقوم بالتفكير بها وتأملها، فربما أحدثت انحرافاً في فكرك، أو في عقيدتك، أو في رأيك وأصلها وسواس، كلمة رمى بها على مسامعك فأحدثت في نفسك شراً.
ولهذا نقول أيضاً: من وسائل رد الأقوال الشاذة والآراء المنحرفة: أن يكثر الإنسان من الاستعاذة، كم من الناس قذفت أو يقذف في قلبه شبهة، أو يسمع شبهة أو يقرأ شبهة، هذه من وسواس الإنسان، فيطرأ عليه شيء من ذلك، فيقوم بالتفكير بهذه الخاطرة، والزيادة عليها، وربما لوثت على الإنسان عقيدته، أو لوثت عليه فكره؛ لهذا عليه أن يستعيذ بالله من شرها، إن كانت خيراً ستنفعه، وإذا كانت شراً سيكفيه الله عز وجل إياها بمقدار الاستعاذة والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى.
وفي قوله جل وعلا: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:6] تأييد لقول من قال: إن كلمة (الناس) لا يدخل فيها الجن؛ لأن الله عز وجل ذكر الجن ثم عطف عليهم الناس فقال: والناس، وقال: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:4-6]، وتقدم معنا أن كلمة (الناس) يرى فيها بعض العلماء أنهم الثقلان: الجن والإنس، ومنهم من قال: هم الذكر والأنثى من بني آدم، ولا يدخل في ذلك الجان، وكلا القولين لهم قائل من العلماء.
أسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكم التوفيق والسداد والإعانة، والهداية والرشاد، وأسأله جل وعلا أن يبصرنا وأن يفقهنا بما سمعنا، وأن ينفعنا بذلك، وأسأله جل وعلا أن يجعلنا أهل هداية وسداد، وتوفيق ورشاد، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وألا يكلنا إليها؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد...
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الإخلاص والمعوذتين للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
https://audio.islamweb.net