اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري [1] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري [1] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاللهم إنا نسألك العلم النافع، والعمل الصالح.
قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمنا الله وإياه: [ كتاب الإيمان ].
قول المصنف رحمه الله: (كتاب الإيمان) البخاري رحمه الله ابتدأ كتابه بكتاب بدء الوحي، إشارة إلى اعتماده على الوحي من كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء بعد ذلك كتاب الإيمان، وابتداؤه بالعقيدة فيه بيان لأهميتها، وجلالة قدرها، وأهمية التفقه والتبصر بمسائلها، وتقديمها على سائر العلوم؛ وذلك أن شرف العلم بشرف المعلوم، ومعرفة مسائل الإيمان تتعلق في الغالب بالبواطن، وكذلك بمعرفة حق الله سبحانه وتعالى على عبده، وتتعلق أيضاً بأصول الدين، والأصول أولى للإنسان أن يتفقه وأن يتبصر فيها من الفروع.
وقوله هنا رحمه الله: (كتاب الإيمان)، الكتاب: هو مصدر كتب يكتب كتاباً، والمراد منه الجمع؛ ولهذا يسمى الكتاب كتاباً؛ لأن أوراقه قد اجتمعت وكذلك المسائل فيه، وتقول العرب: تكتب بنو فلان إذا تجمعوا، وتسمى الكتيبة كتيبة لاجتماع أفرادها، ويسمى المكتوب كتاباً لاجتماع الحروف فيه، وأصل الكتابة الجمع؛ ولهذا يقول الشاعر:
لا تأمنن فزارياً خلوت بهعلى قلوصك واكتبها بأسيار
المراد بذلك: اجمعها.
والإيمان المراد به التصديق، ولكن من جهة الاصطلاح الشرعي المراد بذلك التصديق بالقلب، وهو قول القلب، وعمل القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح، ولا بد من توفر هذه الأربع في الإيمان، أولها: قول القلب وهو التصديق، وعمل القلب وهو الإخلاص لله جل وعلا، الثاني: قول اللسان وهو فعله وعمله، والقول يسمى فعل، وهذا يعضده ظاهر الدليل من كلام الله جل وعلا في قول الله سبحانه وتعالى: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ[الأنعام:112]، فسماه قولاً ثم وصفه بأنه فعل، وعمل الجوارح على الصفة والهيئة التي أمر الله عز وجل بها، وهذا هو الإيمان، وهذه هي أجزاؤه، ويأتي الكلام عليه بإذن الله.
قال رحمه الله: [ باب الإيمان، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( بني الإسلام على خمس ) ].
هنا ذكر الباب على ما ذكر فيه الكتاب، والباب: هو ما يدخل منه ويخرج منه، أي أنه باب على هذه المسألة وهي مسألة، الإيمان، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( بني الإسلام على خمس )، المصنف رحمه الله هنا ذكر حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وهو حديث عبد الله بن عمر الذي يرويه حنظلة عن عكرمة بن خالد عن عبد الله بن عمر في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً )، هنا أراد أن يبين الإيمان ببيان أجزائه، وأجزاؤه هنا قد ذكرها على سبيل الإجمال والاختصار في حديث ( بني الإسلام على خمس )، فذكر شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وهي باللسان، وهي مقتضية لتصديق القلب، وتصديق القلب مما لا يختلف فيه عند أهل الإسلام، وذكر النبي عليه الصلاة والسلام هنا الإسلام، والمراد به مجموع الدين بجميع مراتبه، سواء كان ذلك الإسلام أو الإيمان أو الإحسان، وهي من المعاني التي بينها عموم وخصوص، فإذا جاء واحد منها دل على الباقي، وإذا اجتمعت تباينت، ويأتي الكلام على هذا بإذن الله تعالى.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال هنا: ( بني الإسلام )، وشبه الإسلام بالبناء، وهو نوع من بيان المعلومات بالأشياء المحسوسة لتقريب العلوم بالمثال، حتى يتصور ويفهم الإنسان المسألة، والبخاري رحمه الله يترجم كثيراً، ويبين المسائل بالتراجم وقرنها بالأدلة من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما يدرج في التراجم والأبواب الآيات والأحاديث؛ إشارة إلى أثرية وسلفية هذا الإمام الجليل وتعظيمه للوحي الشريف.
قال رحمه الله: [ وهو قول وفعل، ويزيد وينقص، قال الله تعالى: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ[الفتح:4]، وَزِدْنَاهُمْ هُدًى[الكهف:13]، وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى[مريم:76]، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ[محمد:17]، وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا[المدثر:31]، وقوله: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا[التوبة:124]، وقوله جل ذكره: فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا[آل عمران:173]، وقوله تعالى: وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا[الأحزاب:22] ].
قال المصنف رحمه الله في بيان الإيمان: (وهو قول وفعل، ويزيد وينقص)، هنا ذكر (وهو قول وفعل) باعتبار أن الوصف الذي أطلق عليه أصلاً هو الإيمان، ومقره القلب، ولما تحقق وصف العمل القلبي فاحتاج بيان ما هو زائد عن ذلك مما وقع فيه الخلاف، سواء عند مرجئة الفقهاء أو عند غلاة المرجئة من الجهمية، وهو ما يتعلق بمسائل الأقوال والأعمال، وربما خالفوا في بعض أعمال الباطن، وسيأتي الكلام عليه، فالإيمان: هو عمل الباطن، وهو عمل القلب وقوله، وكذلك أيضاً قول اللسان وعمل الجوارح، وهو مكون منها وهي ماهيته، ولا يقال إن هذه تتباين أو لها مراتب، الأهم الباطن، ثم يليه بعد ذلك قول اللسان، أو يليه بعد ذلك الجوارح، لا يمكن أن يقال هذا إلا باعتبار العباد لا باعتبار رب العباد، إنما قلنا باعتبار العباد يعني باعتبار المؤاخذة، فنحن نؤاخذ الناس بظواهرهم بعمل الجوارح والبواطن إلى الله.
أما من جهة تحقق أصل الإيمان فلا بد أن نقول إن عمل القلب وقول اللسان والجوارح سواء، إذا تحقق الإيمان بهذه الثلاثة تحقق الإيمان، وإذا تحقق ضد الإيمان ونقيضه بنقض أحد هذه الأجزاء انتقض حينئذٍ الإيمان؛ لهذا نقول إن الإيمان أجزاء، وهذه الأجزاء هي عمل الباطن وقوله، وقول اللسان، وكذلك عمل الجوارح، إذا اختل واحد منها اختل الإيمان، وإذا انتفى واحد منها انتفى الإيمان بالكلية، كقولنا محمد بن زيد، فـمحمد بن زيد هو محمد وهو ابن زيد وهو محمد بن زيد، سواء نسبناه لمحمد، أو نسبناه لأبيه، أو نسبناه لنفسه وأبيه، فقلنا محمد بن زيد أو ابن زيد أو محمد، فإذا مرض محمد فالذي مرض ابن زيد، وإذا مرض ابن زيد فالذي مرض محمد، وإذا مرض محمد وابن زيد فالذي مرض محمد بن زيد، وإذا مات محمد بن زيد فالذي مرض هذا وهذا ومات هذا وهذا، فإذا ثبت الكفر بالفعل فيثبت الكفر بعمل القلب، وكذلك بقول اللسان، ولا ننتظر ثبوت ذلك بالقلب أو الإفصاح عنه.
ولهذا نقول: كما أن الإيمان يتحقق بقول اللسان وعمل الجوارح وعمل القلب كذلك أيضاً فإن الكفر يتحقق بأحد هذه الأجزاء، وهذا لازم إذا قلنا إن الإيمان متكون من هذه الأجزاء، فلا بد أن يثبت الكفر بورود المكفر على أحد هذه الأعمال، ومن خالف في ذلك فقد وقع في البدعة والضلال، والبدعة في ذلك متباينة، والطوائف في ذلك متباينون.
وقوله هنا أنه (قول وفعل، ويزيد وينقص)، القول معلوم وهو قول اللسان، ويسمى بالكلام أو اللفظ ونحو ذلك، وأما بالنسبة للفعل، وهو عمل الجوارح فيسمى عملاً ويسمى فعلاً، أما القول فإنه يسمى فعلاً، ولكن لما اجتمع مع القول هنا خرج إلى عمل الجوارح، ويدخل أيضاً عمل القلب وفعله في هذا الإطلاق؛ ولهذا قال وهو (قول وفعل)؛ لأن القلب فيه قول وفعل، والقول هو التصديق، وأما الفعل فهو الإخلاص، وللسان قول، وللجوارح قول وفعل، ولهذا يصح في لغة العرب أن يوصف الفعل بالقول، فتقول: قال فلان بيده كذا، وهو إنما فعل، وهذا سائغ؛ ولهذا اقتصر على قوله: (وهو قول وفعل، ويزيد وينقص).
وقوله أنه (يزيد وينقص)، أولاً بالنسبة لأصل الإيمان كما تقدم أن عقيدة أهل السنة والجماعة والذي عليه السلف الصالح قاطبة من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام أنهم يجمعون على أن الإيمان قول وفعل واعتقاد، أو قول وعمل واعتقاد على ما تقدم تفصيله، وأنه يزيد وينقص، وأن انتفاء الإيمان في أحد هذه الأجزاء انتفاء للإيمان بالكلية على ما تقدم الكلام عليه، وأما ما يورده البعض من قولهم إن الإيمان هو اعتقاد القلب وقول اللسان، وأما بالنسبة للجوارح فهذا ليس من الإيمان، وإنما هو من متمماته، أو من كماله، أو شرط صحة، أو نحو ذلك، فهذا من الخطأ، وإنما نقول: إن الاعتقاد والقول أو عمل الجوارح كلها إيمان، لا هذا شرط لهذا، وليس هذا شرط لذاك، وإنما نقول: إن الإيمان هو قول وفعل واعتقاد، فلا بد أن تتوفر هذه حتى يوصف الإيمان، وإذا انتفى واحد منها فقد وقع الانتفاء عليها كلها، كأن يأتي شخص ويقول: مات محمد بن زيد، وأتى آخر وقال: مات ابن زيد، أو جاء آخر ويقول: مات محمد فهو واحد، فإذا باشر الإنسان الكفر بفعله وقع في الكفر، وإذا باشر الكفر بقوله وقع في الكفر، وإذا باشر الكفر باعتقاده وقع في الكفر، ولو كان يعمل الطاعة؛ ولهذا الإنسان يكفر بورود شعبة الكفر فيه إذا تحققت على سبيل العمد، وأما بالنسبة للإيمان فلا بد من توفر مجموع الشعب حتى يتحقق بذلك الإيمان أو قوة الإيمان، وتنتفي بذلك الموانع.
والطوائف في ذلك متنوعة فمنهم طائفة المرجئة وغلاتهم يقولون: إن الإيمان هو تصديق القلب فقط، وهم الجهمية، وقد جاءوا بجملة من البدع، ومن هذه البدع أنهم لزموا بقولهم وقالوا بالجبر، ونفوا صفات الله عز وجل، وقالوا بفناء النار؛ لأن لازم الجبر والقول بأن الإيمان تصديق القلب هو فناء النار لعدم ورود العقاب من الله سبحانه وتعالى، ويلزم من ذلك أيضاً أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأن مقره القلب، والزيادة إنما تطرأ على قول اللسان وعمل الجوارح فهي التي يستقل منها الإنسان ويستكثر، وهذا منتفٍ، فيجعلون الناس على إيمان واحد، وهؤلاء هم غلاة الجهمية، ولازم قولهم جملة من المفاسد، ومن جملة هذه المفاسد أنهم يقولون: إنه لا يوجد ضلال، ولا يوجد أخيار ولا هداة، ولا كفار ولا مؤمنون، كل يعبد الله جل وعلا، فمن عبد الحجر عبد الله، ولزم من ذلك أنهم نفوا صفات الله عز وجل، وقالوا: إن الله حال في كل مكان، بل قالوا: إنه لا يوجد خالق ومخلوق، ولا يوجد عابد ومعبود، فكل ما يعبد ويتوجه إليه يتوجه إلى الله، والله حال في العبد، وتحيروا في ذلك تحيراً بالغاً، فكلما استحضروا شيئاً التزموه حتى قال قائل:
العبد رب والرب عبدفيا ليت شعري من المكلف
وهؤلاء التزموا بكثير من اللوازم الفاسدة من قولهم بإيمان فرعون وإيمان إبليس، فإن إبليس يصدق بقلبه -كما هو ظاهر القرآن- أن الله جل وعلا رب وهو المالك والمتصرف؛ ولهذا سأل الله جل وعلا الإنظار: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[الحجر:36]، فأنظره الله سبحانه وتعالى، ولا يسأل ذلك إلا عالم بأن الله قادر على الإنظار، وهذا يلزم منه أن يقال بصحة إيمان إبليس وعدم ورود العذاب عليه، وأما آيات العذاب وأحاديث العذاب الواردة على إبليس وفرعون فقد تأولوها بمعانٍ فاسدة. كذلك بالنسبة لـفرعون فإنه يؤمن بقلبه بحق الله جل وعلا بالعبادة؛ ولهذا لما أدركه الغرق قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ[يونس:90]، فهو آمن إذاً بالله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يتحقق الإيمان في ذلك إلا وهو كامن في القلب، فصرح به عند إدراك الغرق له.
وهؤلاء الغلاة الزنادقة الذين أظهروا أمثال هذه الأقوال عطلوا أحكام الشريعة بالكلية، ولم يفرقوا بين فاسد وطائع، وكذلك عطلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن المعطل عابد لله بمجرد بقائه ومكثه لأن الله حال فيه، وكذلك عباد الأصنام، ويلزم من ذلك إلغاء أحوال النبي عليه الصلاة والسلام، فلماذا قاتل وجاهد وفعل إذا كان هذه الأمور التي أخبرتم عنها موجودة؟ فإذا كان الله عز وجل منتفي الصفات وحال في كل مكان فهو حال قبل وبعد النبوة فلا قيمة للنبوة حينئذٍ، ولا قيمة أيضاً للعقاب وإقامة الحدود والتأديب وغير ذلك، وكثير من الأمور والمفاسد التي يلتزمون بعضاً ويدعون بعضاً.
قال: (ويزيد وينقص)، ثمة طائفة من الطوائف المرجئة يسمون بمرجئة الفقهاء، وهم على مذهبين في باب الإيمان، وهي روايتان في مذهب أبي حنيفة رحمه الله:
الطائفة الأولى الذين يقولون: إن الإيمان هو تصديق القلب وقول اللسان، وهذه أشهر الروايات عن أبي حنيفة عليه رحمة الله، وعليها أكثر أصحابه.
الرواية الثانية الذين يقولون: إن الإيمان هو تصديق القلب، وأما بالنسبة لعمل الجوارح فهو شرط صحة خارج عن الإيمان، أو شرط كمال أو ركن، وهذه أقوال أهل الإرجاء، ويسلك هذا المسلك الماتريدية الذين وافقوا أهل الرأي على هذا القول، وهو مخالف لعقيدة أهل السنة والجماعة والسلف الصالح في ذلك، والذي عليه الإجماع أن الإيمان هو قول واعتقاد وعمل نص على ذلك جماعة من الأئمة، كما جاء عن سعيد بن جبير ومجاهد والحسن وسليمان بن يسار وسعيد بن المسيب وعكرمة وغيرهم من أئمة السلف، وكذلك هو قول أئمة الإسلام من التابعين وأتباع التابعين، وحكي الإجماع على هذا كما حكاه الإمام الشافعي رحمه الله، ونص على هذا الإجماع جماعة كالإمام النووي رحمه الله وغيره.
والزيادة تكون بالطاعة، والنقصان يكون بالمعصية، وفي النقصان ينقص الإيمان حتى يتلاشى من العبد، وأما الزيادة فلا حد لها حتى في النبي المرسل؛ ولهذا في قول الله سبحانه وتعالى حينما قال إبراهيم: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي[البقرة:260]، قال بعض المفسرين وهو قول سعيد بن جبير : يعني ليزداد إيماني، وهذا في مقام إبراهيم إمام الحنيفية السمحة، والمراد بذلك أنه يرتقي من علم اليقين إلى عين اليقين، وهي مرتبة علية للمراتب العليا فيما فوق الصديقية، وهي لمراتب الأنبياء، والناس يتباينون في ذلك بقدر ثبوت أسباب اليقين والإيمان في قلوبهم.
وذكر المصنف رحمه الله جملة من الأدلة من كلام الله جل وعلا على زيادة الإيمان، وإذا ثبت أن الإيمان يزيد فيلزم من ذلك ثبوت النقصان؛ لأن الزيادة جاءت على نقص، وكذلك فإن الزيادة لها سبب، فإذا زال ذلك السبب زال ذلك الإيمان، فإن الطاعة والعبادة التي يؤديها الإنسان هي التي تسببت في زيادة الإيمان، فإذا زالت زالت تلك الزيادة ونقص حينئذٍ الإيمان، وهذا مقتضى النص ولازم المعنى، وقد أورد المصنف في ذلك جملة من الآيات كقول الله جل وعلا: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ[الفتح:4]، وَزِدْنَاهُمْ هُدًى[الكهف:13]، وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى[مريم:76] .
قال رحمه الله تعالى: [ والحب في الله، والبغض في الله من الإيمان ].
يقول هنا: (والحب في الله والبغض في الله من الإيمان) حينما نقول: إن الحب في الله والبغض في الله من الإيمان فهذا إشارة إلى وجود شيء من الأعمال يزيد في الإيمان، وهنا يورد المصنف رحمه الله تعالى جملة من معاني الإيمان فيقول: (باب إطعام الطعام من الإسلام) إشارة إلى زيادة الإسلام بهذه الأعمال، سواء بعمل الجوارح، أو أقوال اللسان، أو عمل القلب، ومقصده في ذلك هو تحقق هذا الأصل، وثبوت أسماء الإسلام والإيمان والإحسان أيضاً.
قال رحمه الله: [ وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص ].
هذا الحديث قد رواه أبو بكر الخلال ورواه ابن أبي شيبة وغيرهم من حديث عيسى عن عدي بن عدي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إليه، وكان عاملاً له، وإنما أورد المصنف رحمه الله في هذا أنه قال لـعدي بن عدي: (إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً)، أراد من هذا أن يبين أن ثمة شرائع مستفيضة قد بينها الله سبحانه وتعالى، (فمن استكملها فقد استكمل الإيمان) يعني: أن الإيمان موجود ولكنه يزيد وينقص، وقد ينتفي بأحد موجبات انتفاء الإيمان وورود الكفر على الإنسان، وعمر بن عبد العزيز هو إمام سلفي تابعي فقيه، وكتابته في ذلك كتابة دلالة وبيان لذلك الحكم الشرعي، وهذا الكتاب كتاب مشهور يستدل به الأئمة على مسألة زيادة الإيمان ونقصانه.
والإيمان يزيد وينقص بحسب العمل، والعمل لا بد أن يتحقق بالقول، وكذلك أيضاً بالاعتقاد وبعمل الجوارح، فإذا أصبحت هذه حاضرة في كل عمل زاد الإيمان ولو كان العمل قليلاً، فإذا أدى الإنسان ركعتين بقلب حاضر، وكان عمل الجوارح تاماً، وكذلك قول اللسان، فإنه أقرب إلى الله عز وجل ممن يصلي عشر ركعات والقلب حينئذٍ منصرف؛ لأن عمل القلب -وهو أيضاً إيمان- قصر عن الحضور.
ولهذا قلنا: إن القلب له قول وله عمل، القول هو التصديق أن هذا الحكم شريعة، وأن هذه الصلاة من الله سبحانه وتعالى، أما بالنسبة للعمل فهو الإخلاص، والإخلاص هو الذي يزيد العمل وينقصه من جهة الثواب عند الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا نقول: كلما كان القلب حاضراً في حال عمل الجوارح وقول اللسان فإنه يزيد من الإيمان، كذلك إذا زادت الموافقة في عمل الإنسان بجوارحه فجاء عن اتباع وهدى زاد؛ ولهذا أجزاء الإيمان من عمل الجوارح وقول اللسان وكذلك عمل القلب كلما توفرت فيها القوة زاد ذلك العمل من إيمان الإنسان.
قال رحمه الله: [ وقال إبراهيم: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي[البقرة:260] ].
والطمأنينة المراد بها هي الزيادة كما جاء ذلك عن سعيد بن جبير فيما رواه ابن جرير الطبري في كتابه التفسير.
قال رحمه الله: [ وقال معاذ : اجلس بنا نؤمن ساعة ].
في قول معاذ بن جبل عليه رضوان الله تعالى: (اجلس بنا نؤمن ساعة) هذا الحديث قد رواه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث شداد بن هلال عن معاذ بن جبل عليه رضوان الله تعالى قال: (اجلس بنا نؤمن ساعة)، ومراده بـذلك أن الإنسان يزداد بجلوسه في حلق العلم إيماناً، فينبغي له أن يزداد من الإيمان بالاستكثار من أمر الطاعة، وأعمال الطاعة منها الجلوس في حلق الذكر فيزداد الإيمان، فقوله: (اجلس بنا نؤمن ساعة) أي: نزداد إيماناً، وهذا أيضاً فيه إشارة إلى أن الزيادة في التلبس بالعمل تزيد الإيمان، فالساعة تختلف عن الساعتين، والثلاث تختلف عن الأربع وهكذا، وثمة أيضاً ما هو أبعد من ذلك مما لا يتلبس به الإنسان بذاته وإنما له علاقة بغيره، كقوله النبي عليه الصلاة والسلام: ( صلاة الرجل إلى الرجل أزكى من صلاته وحده, وصلاة الرجل إلى الرجلين أزكى من صلاته إلى الرجل )، وهكذا فإن الأعمال تزيد بحسب ما يقترن بها.
قال رحمه الله: [ وقال ابن مسعود : اليقين الإيمان كله ].
قول عبد الله بن مسعود قد رواه الطبراني والحاكم من حديث الأعمش عن أبي ظبيان عن علقمة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: اليقين الإيمان كله. والمراد من هذا اليقين هو ما يقع في قلب الإنسان من تصديق لله سبحانه وتعالى، وما يتبعه من عمل الجوارح وقول اللسان؛ لأن الإنسان إذا تحقق فيه يقين القلب تاماً فإن عمل الجوارح وقول اللسان سيصبح تاماً إلا لمانع خارج عن الإنسان لا داخل فيه؛ لأن الموانع على نوعين: موانع داخل الإنسان، وموانع خارجة عنه، فالموانع الداخلة: هي التي تتعلق بالأعمال القلبية، وأقوال اللسان، وعمل الجوارح، ومعنى المانع في ذاته، أنه لا يريد بنفسه كالعلل النفسية من الملل والسآمة والكره وغير ذلك، أو العلل البدنية كالعرج أو العمى ونحو ذلك، منها ما يعذر به الإنسان، ويكتب له الأجر في حال ورود العذر إذا وردت النية، ومنها ما لا يعذر بها الإنسان لكونها قاصرة عن عذره، أو لكونه قد تسبب في وجودها، فالإنسان الذي يقول إنني أمل من العبادة ولا أحب العبادة فهذا سبب داخل فيه، هذا لم يتحقق فيه اليقين، أما من تحقق فيه اليقين وهو داخل فيه لا بد أن يتحقق فيه القول والفعل لورود الإيمان؛ لهذا قال على سبيل التفسير: (اليقين هو الإيمان كله).
وأما الأمور الخارجة عن الإنسان: وهي الإكراه الذي يمنع الإنسان، وهو على نوعين: إكراه ملجئ، وإكراه غير ملجئ، ومنها ما يرخص فيه الإنسان، ومنها ما لا يرخص على خلاف في نوع المسألة، وكذلك نوع الإكراه.
قال رحمه الله: [ وقال ابن عمر : لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر ].
في قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر) إشارة إلى التلازم بين عمل الجوارح وعمل القلب، وهو أن الإنسان لا يمكن أن يصل إلى حقيقة التقوى الظاهرة من اتقاء أعمال أو الإتيان بأعمال خشية عقاب الله جل وعلا إلا وقد لزم من ذلك ورود الباطل؛ لهذا الإيمان متلازم إذا وجد في القلب لا بد أن يوجد في الجوارح، وإذا وجد في الجوارح وكان صحيحاً فلا بد أن يوجد في القلب، والكفر إذا وجد في الجوارح فلا بد أن يوجد في القلب وهكذا.
ولهذا إذا ورد الكفر في أحد هذه الأجزاء لا بد أن يتحقق في الأجزاء الأخرى، ولا نطلب له يقيناً، فمن سجد لصنم لا نطلب بياناً لسجوده في باطنه هل استحل ذلك أو استباحه أم لا؟ لأن الإيمان قول واعتقاد وعمل، فإذا ورد ما ينافيه في أي شيء من هذه الأجزاء ثبت ذلك الكفر باطناً وظاهراً، كما أن الإيمان يتحقق في ثبوته بالقول والاعتقاد والعمل، وهي متلازمة إذا ثبت هذا ثبت هذا ،كذلك أيضاً في مسألة الكفر.
قال رحمه الله: [ وقال مجاهد : شَرَعَ لَكُمْ[الشورى:13] أوصيناك يا محمد وإياه ديناً واحداً ].
شرعة الله سبحانه وتعالى لعباده المراد بها: الإعلام والإشهار والظهور؛ ولهذا فسرها مجاهد بن جبر كما روى ذلك ابن جرير الطبري وغيره من حديث ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر أنه قال في قول الله جل وعلا: شَرَعَ لَكُمْ[الشورى:13]: أوصيناك يا محمد وإياه ديناً واحداً.
أي: أن الإيمان دين واحد لا ينفك بعضه عن بعض، فلا نقول إن عمل الجوارح شيء، وقول اللسان شيء، وعمل القلب شيء، بل هو دين واحد كله، إذا أصيب به علة فإن العلة في الإيمان كله، إذا جاءت علة في الجوارح فإن العلة في القلب، وإذا جاءت العلة في اللسان فإن العلة في القلب والجوارح، وهكذا فإنه متلازم؛ لهذا سمى الدين واحداً، وفسر قول الله جل وعلا: شَرَعَ لَكُمْ[الشورى:13]: أوصيناك يا محمد وإياه ديناً واحداً.
وأما أن نقول: إن الدين هو ما في القلب وما عدا ذلك هي لوازم، وما عدا ذلك هي أجزاء تزيد في الإنسان ولا تنقص أجره، فهذا قول المرجئة، إذاً هذه ليست من الدين الواحد، الدين الواحد هو المتلازم وهو التام الذي به يحيى الإيمان ويموت في قلب الإنسان وجوارحه.
قال رحمه الله: [ وقال ابن عباس شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا[المائدة:48] سبيلاً وسنة ].
قول ابن عباس هنا ((شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)) قد رواه ابن جرير من حديث أبي إسحاق عن التميمي عن عبد الله بن عباس قال: ((شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)) سبيلاً وسنة. ويظهر هنا أن البخاري رحمه الله أورد هذه الآثار كلها بصيغة الجزم لصحة أسانيدها؛ ولأن هذه الآثار من جهة الاستدلال بها تتعلق بمسائل في أصول الدين متعلقة بمسائل الإيمان، فينبغي ألا يورد في ذلك إلا ما هو صحيح تام الصحة، وإنما أوردها رحمه الله معلقة؛ لأن موقوفات البخاري ليست على شرطه في كتابه الصحيح كما هو معلوم بالسبر، كذلك أيضاً كما هو في عنوان كتابه الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه.
قال رحمه الله: قال رحمه الله: [ باب دُعَاؤُكُمْ[الفرقان:77] إيمانكم.
حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان ) ].
في إيراد المصنف رحمه الله لهذه الترجمة بقوله: (باب دُعَاؤُكُمْ[الفرقان:77] إيمانكم)، الدعاء هو شامل للدين كله؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة )، وحينما نقول الإيمان فهو شامل لكل عمل نعمله من قول أو فعل أو اعتقاد، والدعاء كذلك هو شامل لسائر هذه الأجزاء؛ ولهذا جعل الدعاء مرادفاً للإيمان، وجعل الإيمان مرادفاً للدعاء، والدعاء -بنوعيه دعاء المسألة ودعاء العبادة- كلها دعاء يتوجه به الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى.
ثم أورد المصنف حديث عبد الله بن عمر في قوله: ( بني الإسلام على خمس شهادة: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان )، وإيراد المصنف رحمه الله لهذا الحديث فيه تمثيل النبي عليه الصلاة والسلام بأشياء محسوسة تقريباً للفهم، وأن الإسلام كالبناء يتكئ على أركان، وهذه الأركان إذا اختل واحد منها اختل البناء وسقط، ومن هذه الأركان ما يسقط به البناء، ومنها ما يختل توازنه ويبقى ينتفع بشيء منه، ومرد ذلك إلى الدليل.
ولهذا تجد الأبنية فيها أركان إذا سقطت اختل البناء بكامله، وفيها أركان لو سقطت ضعف البناء ولم يختل الآخر، وفي قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ) المراد التوحيد والإيمان، وهذا التوحيد والإيمان وما يدخل معه في هذا المعنى هو في قول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فالشهادتان هما التوحيد، وقد جاء هذا مفسراً في حديث عبد الله بن عباس في الصحيحين وغيرهما حينما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن فقال: ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله )، وقد أورد البخاري رحمه الله في موضع آخر في كتابه الصحيح من حديث يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن عبد الله بن عباس رواية: ( فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله )، فجاء في معنى الشهادتين التوحيد، فجعل الشهادتين توحيد الله سبحانه وتعالى، فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله هي التوحيد، ويدخل فيها ما يتبعها من أعمال الجوارح مما لا تصح إلا به مما خصه الدليل.
والشهادة هنا المراد منها هو الإخبار عما في القلب؛ ولهذا يقال تشهد بكذا أي تخبر عما في قلبك، وليس المراد بذلك القول المجرد، فالشهادة شيء والكلام العام شيء، فإذا استشهد الإنسان فكلامه أخطر من الكلام المرتجل بلا استشهاد، وإنما هو استدعاء لما في القلب أن يخرج على اللسان؛ ولهذا نقول: إن الشهادة باللسان عظيمة القدر؛ لأنها إخبار عما في الباطن.
إذاً قوله: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ) الشهادتان شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله هما التوحيد، ومعنى لا إله إلا الله: أي لا معبود بحق إلا الله، أول من حمله على هذا المعنى هو ابن جرير الطبري رحمه الله، أي: قال: لا معبود بحق إلا الله، والمعنى في ذلك متقرر، وأن محمداً رسول لله وهي تمام الشهادة فلا تصح الأولى إلا بالثانية، ولا الثانية إلا بالأولى، وهما متلازمتان.
قال: ( وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان ) شهادة أن لا إلا الله وأن محمداً رسول تتضمن الاعتقاد وكذلك قول اللسان، وبقية الأركان هي عمل الجوارح في الظاهر اللازم للإخلاص واللازم أيضاً للتصديق، فلا بد أن يتوفر في هذه الأركان أجزاء الإيمان وهو عمل القلب، وكذلك أيضاً قول اللسان وعمل الجوارح، فلا بد أن يتوفر في إقامة الصلاة تصديق بأن المشرع والموجب والفارض هو الله، وكذلك أيضاً عمل الجوارح، وقول اللسان فيما أمره الله سبحانه وتعالى أن يقول إذا أمر.
والصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وقد دلت الأدلة على أهميتها وركنيتها، وأمر الله جل وعلا بها في كتابه الكريم في مواضع عديدة، وجاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث في ذلك، وأمر الله جل وعلا فيما هو متعدٍ في حالها مما يدل على أهميتها في ذاتها، فأمر الله جل وعلا بالركوع مع الراكعين مما يدل على أن الأمر بها بذاتها آكد من الأمر متعدياً بإتيانها جماعة.
والصلاة جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان منزلتها، وكذلك جاء عنه كفر تاركها كما جاء في صحيح مسلم من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة )، وكذلك جاء في السنن من حديث بريدة قال عليه الصلاة والسلام: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر )، وجاء أيضاً في حديث عبد الله بن عمرو قال عليه الصلاة والسلام: ( من حافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بها كن له نجاة وبرهاناً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها حيث ينادى بها لم تكن له نوراً ولا نجاة ولا برهاناً يوم القيامة، وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف ).
وجاء أيضاً عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى بيان كفر تاركها، كما جاء في حديث عبد الله بن شقيق قوله: ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة. كما رواه الترمذي من حديث بشر بن المفضل عن الجريري عنه، وكذلك جاء أيضاً عن التابعين كما رواه محمد بن نصر من حديث حماد بن زيد عن أيوب بن أبي تميمة السختياني أنه قال: ترك الصلاة كفر لا نختلف فيه. كذلك جاء عند ابن جرير وغيره في تفسير قول الله جل وعلا: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ[الماعون:4-5] من حديث مصعب بن سعد عن سعد بن أبي وقاص أنه قال في قول الله جل وعلا: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ[الماعون:5] قال: ليس تركاً إنه إن كان تركاً كان كفراً. وقد حكي الإجماع على هذا، وبعض العلماء يقول: إنما هو إجماع على وصفه بالكفر لا الإجماع على كونه كفراً أكبر، وهذا قد ذكره غير واحد كما أشار إليه محمد بن نصر في كتابه تعظيم قدر الصلاة، وحكي القول بالتكفير في بقية الأركان عن جماعة من السلف، وهو يروى عن عبد الله بن مسعود وفي إسناده ضعف، وجاء أيضاً عن سعيد بن جبير، وجاء عن نافع، وجاء عن الحكم، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقال به إسحاق وابن حبيب من المالكية وجماعة، ويقول به إسحاق بن راهويه، ومال إليه فيما يظهر أبو داود رحمه الله، بل إن أبا داود رحمه الله في كتابه السنن يظهر من صنيعه أنه يرى أن من لم يكفر تارك الصلاة فهو مرجئ، وكذلك أيضاً هو ظاهر صنيع إسحاق بن راهويه رحمه الله، بل إن إسحاق بن راهويه يرى أن من لم يكفر تارك الأركان الخمسة أنه مرجئ أيضاً، وهذا قول قال به جماعة من السلف، وقل من يقول به من المتأخرين، وجاء مثل ذلك في قضية الحج عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى كما رواه الإسماعيلي وغيره، وجاء عند البيهقي أنه قال: لقد هممت أن أبعث أقواماً فينظرون من كان عنده جدة فلم يحج أن يضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين. وهذا جاء عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى من وجوه، وهو صحيح عنه.
قال رحمه الله: [ باب أمور الإيمان، وقول الله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ[البقرة:177]، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ[المؤمنون:1] الآية.
حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا أبو عامر العقدي، قال: حدثنا سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان ) ].
في قول المصنف رحمه الله: (باب أمور الإيمان) المراد بذلك أحواله، وكذلك أيضاً أنواعه وصوره وأجناسه، وأورد المصنف رحمه الله قول الله جل وعلا: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ[البقرة:177]، يريد بذلك أن ينفي فعل الإيمان عن بعض الصور إذا كانت متجردة من عمل القلب، وإثباتها إذا كانت مصاحبة لعمل القلب، لأنه لا بد من توفر عمل القلب وقول اللسان وعمل الجوارح في الأعمال فيما لم يستثن فيه الدليل في بعض الصور من الإتيان بعمل الجوارح وعمل القلب، ففي بعضها لا يلزم من ذلك قول اللسان؛ لأنه لم يشرع، كبعض الأعمال التي يفعلها الإنسان كالصدقة ونحو ذلك، فإن النية في ذلك في عمل القلب، وأن يبادر الإنسان بعمل الجوارح، وأما قول اللسان فإنه لا محل له في بعض الأعمال، ولكنه لو وجد وجب أن يكون هو الإيمان، وإذا انتفى لم يكن ثمة إيمان في هذا الجزء.
وفي قوله هنا: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ[المؤمنون:1])، يعني: أنه مع تحقق الإيمان فيهم فإنهم يفلحون ويزيدون في الفلاح، وربما يقصرون فيه، وأورد في ذلك ما يدل على هذا المعنى لتعدد الأعمال، وتعدد أثرها على الإنسان، فأورد فيه حديث أبي هريرة في قوله: ( الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان ).هذا الحديث جاء بعدة ألفاظ، فجاء بلفظ ( الإيمان بضع وستون ) وجاء ( وسبعون ) وهو عند الإمام مسلم رحمه الله في كتابه الصحيح من حديث سهيل عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الإيمان وبضع وستون ) أو ( سبعون ) وجاء ( اثنان وسبعون ) أو ( سبعون ) وهو أيضاً في الصحيح، وجاء ( ثلاثون ) وفيه نظر، والصواب في ذلك أنه ( بضع وستون شعبة ) .
وذكر هذا العدد ليس المراد به الحصر، وإنما المراد به بيان التكثير، بيان شعب الإيمان، وإلا لو عددنا شعب الإيمان والأعمال التي تنطبق على الصور التي جاءت في الحديث لجاءت كثيرة جداً، ولا يمكن للإنسان أن يحصرها بعدد معين، وإنما المراد بذلك هو التكثير، فالعرب تذكر أمثال هذه الأعداد كالسبعين والستين والتسعين والسبعمائة والتسعمائة على سبيل التكثير، وليس المراد بذلك التقييد.
وفي قوله: ( الإيمان بضع وستون شعبة )، الإيمان هو ما تقدم الكلام عليه في تعريفه، وقوله: ( بضع وستون شعبة )، والبضع هنا إنما أورده مع الستين، لأن بعض العلماء حمله على أنه أريد بذلك الحصر، ولكننا نقول: إنه لو أريد بذلك الحصر لوجب علينا أن نقول أريد بذلك حصر الشعب لا حصر أنواعها وأجناسها وأصنافها، وإلا فهي متعددة، فنستطيع أن نقول مثلاً ما يتعلق بأبواب الصلة، يدخل فيه صلة الأبناء، وصلة الزوجات، وصلة الجيران، وصلة الضيف، وصلة البعيد والقريب كلها داخلة في أبواب الصلة، ولو أردنا أن نجزئها لجعلنا صلة الجار والإحسان إليه شيئاً، وصلة الوالدين شيئاً، والإحسان إلى الزوجة شيئاً، والإحسان إلى الأبناء شيء، وهذه شعب تجمعها شعبة واحدة وهي أصل صلة الناس، ويحتمل أن نقول المراد بذلك هي أنواع الشعب، ويدخل تحت ذلك أنواع كثيرة لو حملناها على هذا المعنى.
ولكن الذي يظهر والله أعلم أن المراد بذلك هي الكثرة، ودليل ذلك وأماراته أنه لو كانت هذه الشعب مضبوطة بعدد معين لضبطها الرواة ولم يفوتوها وهم أئمة حفاظ؛ ولهذا تباينت فيها الروايات: ( بضع وسبعون ) و( بضع وستون ) ( اثنان وسبعون ) ونحو ذلك، وهذا يدل على أنهم ما قصدوا العدد بعينه، وإلا فالصحابة أضبط الناس لأمثال هذه الشرائع، مما يدل على أن المراد من ذلك أن الشريعة أعداد، وهذه الأعداد يستكثر منها، وإحصاؤها يشق على الإنسان.
وفي قوله: ( شعبة ) المراد بالشعب: هي ما تفرع عن أصل؛ ولهذا الشجرة لها أصل، ويتفرع عنها شعب، وكذلك أيضاً أنساب الناس لها أصل ويتفرع عنها ما يسمى بشجرة النسب، وكذلك الطرق والأودية هي أصول ويتفرع عنها شعب، وهذه الشعب بقدر صغرها يكون أثرها على الإنسان، وبقدر عظمها يكون أثرها على الإنسان، فإذا كانت الشعبة عظيمة وهي كأصل الشجرة وساقها ونحو ذلك فإن أثرها على الإنسان عظيم وهو التوحيد وأركان الإسلام ونحو ذلك، ثم يكون بعد ذلك شعباً عظيمة كأغصان الشجر، ثم بعد ذلك يكون أغصاناً يسيرة أو أوراقاً يسيرة وكبيرة، ويكون في ذلك أجزاء من الأعمال.
ولهذا هناك من الأعمال ما ثوابها عظيم، وهناك ما ثوابها قليل، وهناك من الآثام ما عقابها عظيم، وهناك ما هي دون ذلك، وهذا بحسب ما يقترن بها من تعظيم أو تحقير، ومرد ذلك إلى أمرين: الأمر الأول: الدليل، وما كل ما عظمه الدليل فهو معظم في الإنسان بكل حال، فقد يعمل الإنسان عملاً هو في ذاته عظمه الدليل، ولكن ضعفه بضعف عمل قلبه أو بضعف جوارحه، فهو ضعيف في حقه، ولكنه قوي في أصله، كحال الصلاة مثلاً، فحين يؤدي الإنسان الصلاة الفريضة فيذهب إلى صلاة الفجر ويؤديها ولكنه بقلب ساه لاه منصرف، مقصر بالإتيان بالأركان والواجبات، وربما غيره يؤدي ركعتين نافلة في غير الفجر وتكون أعظم عند الله عز وجل من تلك التي قصر فيها تقصيراً عظيماً، وربما لم يكسب منها إلا أنه أسقط الفرض عن نفسه؛ لهذا لا بد من النظر إلى الجانبين من جهة تعظيم الأعمال: النظر إليها من جهة النص، الثاني: النظر إليها من جهة العمل، وعمل القلب وقول اللسان وعمل الجوارح واستيفاء الشروط فيها، وهذا كما أنه في أبواب الطاعات والإيمان، كذلك هو أيضاً في أبواب المعاصي والكفر؛ ولهذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعب.
وفي قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) إشارة إلى وجود المراتب التي عظمها الشارع، وأنه ينبغي للإنسان أن يقصد ما يقربه إلى الله سبحانه وتعالى، ويظهر هنا الفقه؛ لهذا يقول العلماء: النية تجارة العلماء، وهو الذي يربح بعمل قليل يفعله في زمن يسير ثواباً جزيلاً عند الله؛ ولهذا الأعمال ليست بالنصب، فقد ينصب الإنسان في عمل ليله ونهاره، وغيره يعمل عملاً يسيراً لكنه يثاب في ذلك أعظم، وذلك بحسب النظر إلى الأمرين: النظر إلى تقدير الشارع لذات العمل، وكذلك النظر لعمل الإنسان في ذاته بحضور القلب وقول اللسان وعمل الجوارح.
لهذا النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس في قصة جويرية لما خرج النبي عليه الصلاة والسلام لصلاة الفجر ورجع بعد ارتفاع الشمس وهي جالسة في مصلاها قال: ( أما إني قلت أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت فيما قلت لوزنتهن )، وهي جلست ساعات؛ ومع ذلك جعل ذلك القول أعظم منها؛ لأن هذا مرده إلى تعظيم الشارع له، والنبي عليه الصلاة والسلام اكتمل فيه حضور القلب وقول اللسان وكذلك عمل الجوارح، وكذلك أيضاً المرجو في حال جويرية أم المؤمنين، ولكن لما غاب عنها معرفة تقدير الشارع وقع حينئذٍ التباين.
لهذا العالم الفقيه هو الذي يعرف المواضع التي تنجيه والتي تقربه إلى الله أعظم، كحال التاجر الذي يعرف مواضع التجارة هنا يربح ضعفها وهنا لا، وهنا أكثر وهنا أدنى؛ ولهذا يقال إن العلماء يسبقون العامة بمعرفتهم بمواضع العبادة التي يتقربون بها إلى الله عز وجل أكثر.
وبهذا نعلم أن الإيمان يقوى ويضعف بتوفر هذه الشعب، والشعب كما تقدم لا تتكافأ، قد تأتي واحدة توازي عشراً أو عشرين أو ثلاثين كأركان الإسلام والتوحيد ونحو ذلك، ومن الشعب من إذا فقد لا تنفع بقية الشعب كتوحيد الله سبحانه وتعالى، ومن الشعب من توازيها شعبتين ونحو ذلك وهكذا؛ لهذا ينبغي للإنسان أن يعلم أن الإيمان والاستقامة والالتزام يكون بتوفر مجموع الشعب، وقد تنقص شعبة في الإنسان، ولا ينظر إلى شعب بعينها دون شعب.
وأما بالنسبة للحياء فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( والحياء شعبة من الإيمان )، وتخصيصه بالذكر من دون شعب الإيمان إشارة إلى أهميته، وأنه شعبة يتفرع عنها شعب، وهي خصلة تدل الإنسان على ملازمة الخير والبعد عن خوارم المروءة ولزوم حسن الخلق، ولما كان الحياء هو أصل لمجموع الشعب خصه عليه الصلاة والسلام بالذكر، فإن الإنسان يستحي أن يكذب، وأن يخون، وأن يسرق، وأن يزني، ويحرص على القيام بمكارم الأخلاق، والإتيان بالطاعات، ويخشى أن يقع الناس في عرضه.
قال رحمه الله: [ باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
حدثنا آدم بن أبي إياس، قال: حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر وإسماعيل عن الشعبي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ).
قال أبو عبد الله : وقال أبو معاوية : حدثنا داود عن عامر قال: سمعت عبد الله عن النبي، وقال عبد الأعلى : عن داود عن عامر عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم ].
وقول المصنف رحمه الله (باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) يريد بذلك أن يورد أجزاء وأنواعاً لأعمال داخلة في الإيمان، ويريد أن يثبت الأصل الذي افتتح به الباب وهو زيادة الإيمان ونقصانه، وأن يذكر أن الأعمال من الإيمان أياً كان نوعها فهي إيمان، ولكن لا يلزم من انتفاء ذلك العمل أن ينتفي أصل الإيمان إلا بدليل خصه الشارع، فالنفي هنا يقع على ذات العمل لا على ذات الإيمان، وأما إذا انتفى محله وهو عمل القلب وقول اللسان وعمل الجوارح فإن هذا دليل على انتفاء الإيمان؛ ولهذا قال: (باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) وأشار إلى كف الأذى، وهنا مسألة وهي هل التروك من الإيمان؟ استقر لدينا أن الأعمال والأفعال من الإيمان، نقول: كذلك التروك من الإيمان، إذا ترك الإنسان الأذى وأخلص أثيب على ذلك، وهذا قدر زائد عن الفعل، وهذا من لطف الله جل وعلا وجميل إحسانه أن الإنسان يثاب على الترك، وهذا على مراتب بحسب دوافع النفس، فإذا وجد الإنسان دافعاً في نفسه على الإقدام على عمل سوء، ثم كبح نفسه عن الإقدام على ذلك ككتم الغيظ وكظمه عن أن ينتقم ممن له حق الانتقام، فصبر عمن آذاه، فأجره عند الله عز وجل أعظم، بخلاف الذي يكف الأذى ولا يستحضر شيئاً في قلبه يدفعه إليه، كحال الإنسان الذي لا حاجة له مثلاً إلى السرقة، أو الغصب، أو الضرب، ونحو ذلك، هذا لا يثاب على ذلك، ويظهر الثواب عند ورود الدافع القلبي، أو الدافع الظاهر، وهذا في أبواب التروك.
وإذا استحضر الإنسان نية الترك في ذلك يثاب عليها، ويعظم الأجر عند الله عز وجل ويضعف بحسب الدافع وحضور النية، فالإنسان الذي يكف أذاه عن الآخرين يمر به في اليوم مائة شخص ومائتان، هل يؤجر على تركه لهؤلاء؟ لا يؤجر حتى يستحضر النية، ويعظم الأجر إذا اعتدى عليه أحد بعينه من هؤلاء المائة، وكف أذاه عنه لوجود الدافع في قلبه أعظم من تركه للمائة الآخرين بحسب ورود الدافع.
ولهذا تعظم السيئة عند الله عز وجل إذا ضعف الدافع لها، فالذي يسرق وهو غني أعظم إثماً عند الله من السارق الفقير، الشيخ الذي يزني أعظم عند الله عز وجل من زنا الشاب؛ ولهذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم وذكر منهم ( الملك الكذاب، والأشيمط الزاني، والعائل المستكبر )، والعائل المستكبر هو الفقير الذي يستكبر؛ لأن الكبر يتبع الغنى ويتبع السؤدد والرئاسة، ووجود الكبر من الفقير دليل على سوء طوية، وضعف متمكن في الإيمان، كذلك أيضاً الأشيمط الزاني وهو الشيخ الكبير دوافع الزنا فيه ضعيفة، فإذا أقدم على ذلك فهذا دليل على شدة ضعف الإيمان، فانتشله إلى هذا الجرم شهوة ضعيفة، فدل هذا على ضعف قلبه.
كذلك الملك الكذاب لا يرجو الناس ولا يخافهم فما كذب إلا لضعف في إيمانه، كلما كان الدافع في قلب الإنسان للعمل السيئ أقل كان الإثم عند الله أعظم، وكلما كان في أبواب التروك أيضاً الدافع للعمل أعظم كان الترك عند الله عز وجل أعظم للإنسان؛ ولهذا ينبغي للإنسان أن يستحضر كثيراً من أمور التروك علّ الله عز وجل أن يثيبه على ذلك ولو لم يكن ثمة دافع في ذلك قلبياً، وفضل الله سبحانه وتعالى واسع.
وأورد المصنف هنا أبواب السلامة من الوقيعة في الناس سواء في ذلك باللسان أو باليد، قال: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده )، وهذا يدخل فيه الأمر الخاص وكذلك العام.
قال رحمه الله: [ باب أي الإسلام أفضل.
حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد القرشي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو بردة بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبي بردة، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: ( قالوا يا رسول الله، أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده ) ]
هنا أراد أن يبين ما تقدم الإشارة إليه ضمناً، وهو تباين هذه الشعب من جهة أوليتها ومراتبها، وذكرنا فيما تقدم أن الأعمال تتباين من جهتين: جهة مقدارها في الشرع، وجهة تحققها في الشخص، من جهة مقدارها في الشرع ليس لك أن تعظم عملاً صغيراً لم يعظمه الشارع، فليس لك أن تجعل بذل السلام كأداء الصلاة مثلاً، وليس لك أن تجعل برك وإحسانك لجارك كإحسانك لوالديك، وليس لك أن تجعل إحسانك لأبيك كإحسانك لأمك وهكذا؛ لأن هذا أمر قد قدره الشارع.
لهذا نقول: إن شعب الإيمان على مراتب، وما يعظمه الإنسان ربما يكون ضعيفاً، ولكنه مع ذلك لا يوازي ما كان معظماً عند الله لو اكتملت شروطه في قلب الإنسان، فالإنسان قد يعظم بره لأبيه على بره لأمه؛ لضعف فيه لا في تقدير الشارع؛ لأن الشارع عظم بر الأم على بر الأب، ولكن ربما يقبل بعضهم بإخلاص تام ببره لأبيه، ولا يكون حاضر القلب ببره لأمه، فيضعف بره لأمه أجراً، ويعظم بره لأبيه عند الله عز وجل لتحقق ذلك الأمر فيه.
ولهذا نقول: إن هذه المسألة مسألة موازنة، ولا بد للإنسان أن يستحضر الأمرين، وهنا إنما يورد رحمه الله الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما هو مقدر شرعاً لا فيما يتحقق في ذات الإنسان، فأورد هنا التباين في قوله: ( أي الإسلام أفضل ) إشارة إلى أن الإسلام فيه فاضل ومفضول عند المقارنة، وكله فاضل عند الانفراد، وعند المقارنة فثمة فاضل ومفضول، فقال: ( أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده ) يعني: أن أبواب التروك تفوق أبواب الأعمال في بعض الأحيان، وإنما النبي عليه الصلاة والسلام خص هذا الرجل بهذا الحكم مع تباين الجواب، فالنبي عليه الصلاة والسلام سئل قال: ( أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله. قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيله )، ويأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل: ( أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها )، فتباين الجواب في ذلك، وذلك لاختلاف حاجة السائل، فلما اختلفت حاجة السائل اختلف تبعاً لذلك الجواب، وهذا من فقه المجيب، أن يعلم حال السائل حتى يجيبه بما ينفعه لا بما ينفع غيره، فالعالم المتبصر في ذاته يكون جوابه قاصراً إذا لم يعرف موضع الجواب، فيجاوب الناس على نسق واحد، فإذا سئل أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيله، ويستمر على هذا الجواب، وربما الذي يسأله ليس من أهل الجهاد، بل رجل قاعد، أو رجل مريض، أو ربما امرأة، أو ربما صبي، أو شيخ كبير، أو ربما مقصر بشيء لا يتحقق الجهاد إلا بإتمام ذلك، فالرجل الذي لا يؤدي الصلاة ومقصر فيها لا يقال له: إيمان بالله ثم جهاد في سبيله، وإنما يقال له: الصلاة على وقتها؛ ولهذا ينبغي للعالم أن يضع العلم موضعه من السائل لا موضعه من الشريعة فقط، وهذا من الفقه والحكمة.
وهنا إنما قدم اللسان على اليد فقال: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده )؛ لأن سلامة اليد تابعة لسلامة اللسان، ووقوع الأذى من اللسان أظهر من وقوع الأذى من اليد، ولا يقع الأذى من اليد إلا وسبقه الأذى من اللسان، فالإنسان يسب ويشتم ويضرب وهكذا وإلا لا.
قال رحمه الله: [ باب إطعام الطعام من الإسلام.
حدثنا عمرو بن خالد، قال: حدثنا الليث عن يزيد عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ( أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ) ].
وهذا فيه ما تقدم في تلك الدلالة من بيان شعب الإيمان، وكذلك أيضاً ما يزيد الإيمان ويتممه للعبد، وأيضاً فيه حرص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في السؤال عن الأعمال وعن المراتب العلية، وفيه أنه ينبغي للمعتني أن يسأل عن الأتم، وأن يسأل عن الفاضل، وأن يدع المفضول، وأن يعرف المراتب التي تجعله يسبق الناس، الإنسان إذا أراد أن يسلك طريقاً يوصله إلى بلد من مكة إلى المدينة يسأل ما هو أخصر طريق؟ كذلك أيضاً من جهة العمل حينما يقول أي الإسلام أفضل؟ أي ما هو أخصر طريق يوصلني إلى الله؟ لماذا؟ لأنه يريد أن يأخذ الزاد، قال: ( أي الإسلام أفضل؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ) فذكر إطعام الطعام، وإقراء السلام على من عرفت ومن لم تعرف؛ لحاجة السائل إلى ذلك.
قال رحمه الله: [ باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى عن شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن حسين المعلم، قال: حدثنا قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) ].
أورد المصنف رحمه الله قوله: (باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، ومحبة الإنسان لأخيه ما يحبه لنفسه هي ضد ما يسمى بالطمع والجشع والشح، وما يسميه أهل العصر بالأنانية، وهذه المحبة القلبية ليس المراد بها المبادرة العملية، ولهذا ربط الإيمان بالمحبة، ومحل المحبة القلب، ولا يلزم من ذلك ألا يتحقق الإيمان حتى يعمل، فإذا اشترى الإنسان طعاماً لنفسه اشترى لجاره وإلا لا يتحقق له الإيمان، أو شرب أعطى جاره، أو اشترى سيارة اشترى لمن حوله لا، بل نقول: المراد بذلك هو عمل القلب ( حتى يحب لأخيه )، يعني: يحب إذا اشترى سيارة أن يكون لفلان سيارة، اشترى بستاناً أن يكون لفلان بستاناً، تحقق له الخير يحب أن يكون له مثله، هذه المحبة القلبية علامة على الإيمان، وأما الأمر الآخر وهو الإيثار فهو مسألة أخرى.
وقوله هنا: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) بعد قوله: (باب من الإيمان)، يظهر من هذا أن البخاري رحمه الله فسر الحديث أن المراد بنفي الإيمان نفي تمامه ونفي الكمال، فجعل تحقق المحبة هو تحقق زيادة الإيمان؛ لأن انتفاء المحبة لا يعني من ذلك تمني زوال النعمة؛ لأن ذلك هو الحسد، فالإنسان قد لا يحب لفلان الخير، لا يحب أن فلاناً يشتري سيارة، لكن لا يحب أن سيارته تحترق، أو بستانه يهلك، بل يقول: يبقى على ما هو عليه، وإلا لا؟ فهل يكون هذا من جملة من انتفى إيمانه؟ لا، لا نقول من انتفى إيمانه، ولكن نقول: إذا تمنى أن يهلك الإنسان فهل يتحقق فيه الإيمان؟ نقول: إذا كان ذلك يتوجه إلى المؤمنين عامة فهذا لا يمكن أن يكون مؤمن أبداً، لكن شخص بعينه نقول: هذا نقص في الإيمان؛ لهذا في قول النبي عليه الصلاة والسلام ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) المراد من ذلك هي المحبة القلبية، والمراد من ذلك هو نفي كمال الإيمان لا نفي الإيمان بالكلية، وإذا توجه ذلك إلى المؤمنين عامة فصار الإنسان لا يحب لهم ما يحب لنفسه انتفى الإيمان بالكلية؛ لأنه مع التعدد لا يمكن أن يقول إني أقصد فلاناً بعينه، وإنما يقصد ما اشتركوا فيه وهو الإيمان.
السؤال: قوله ( الإيمان بضع وستون شعبة ) هل الكفر بضع وستون شعبة؟
الجواب: ذكرنا حفظك الله أن هذا العدد ليس المراد به الحصر في الإيمان، وكذلك أيضاً لا يلزم معه الحصر بنقيضه وهو الكفر، والكفر شعب وصور كثيرة جداً، كذلك الإيمان والطاعة؛ لهذا نقول إن هذا القدر من الشعب مراد منه التكثير، وكل ما دل الدليل عليه أنه شعبة من الإيمان فنقيضه شعبة من الكفر، ولكن لا يكفر به الإنسان، كل معصية يفعلها الإنسان ولو كان الكذب أو الغيبة والنميمة هي من الكفر وإن لم ينص الشارع عليها؛ لأن الشارع قد بين أن الإنسان يتخذ إلهه هواه، فالإنسان الذي يتخذ إلهه هواه فينهب ويسرق ويزني ويشرب الخمر هذه ليست ذاتها مكفرة، ولم يرد الدليل فيها بذاتها أن من فعلها كافر، ولكن هي شعب منه لا يكفر بها الإنسان.
السؤال: [ كيف نتعامل مع أسانيد التفسير؟ ]
الجواب: فيه رسالة ستطبع وستنزل السوق بعد أيام، هي بعنوان التقرير في علم أسانيد التفسير لدى دار المنهاج كتبنا فيها إجابة على هذا السؤال، وما يتعلق بالتعامل مع أسانيد التفسير صحة وضعفاً ومناهج العلماء في ذلك.
السؤال: ما الفرق بين مرجئة الفقهاء ومرجئة المتكلمين؟
الجواب: أولاً ذكرنا أن أبا حنيفة رحمه الله له قولان في الإيمان:
القول الأول: أن الإيمان هو اعتقاد القلب وقول اللسان، وهذا القول قال به جماعة من أصحابه.
القول الثاني: أن الإيمان هو اعتقاد القلب، وأما والنسبة للعمل وقول اللسان فإن هذا متمم للإيمان، أو ركن منفصل عنه، وهذا يقول به طوائف من المتكلمين ممن يذهب مذهب أهل الرأي، ومن غلاة الجهمية من يأخذ بهذا، وهذا المذهب شبه مندثر، وبدا يحيا في زماننا مذهب الذين يقولون أن المراد بذلك هو التصديق بالقلب ظهر على الجوارح أو لم يظهر؛ ولهذا ينظرون إلى شعب ظاهرة تدل على وجود أصل التصديق بوجود خالق، وهؤلاء الذين سلكوا مسلك ابن سبعين وابن هود والتلمساني الذين قالوا: إن كل الطرق تؤدي إلى الله سبحانه وتعالى، وأما مرجئة الفقهاء وهم أقرب الطوائف إلى أهل السنة باعتبار أنهم أثبتوا عمل القلب، وأثبتوا قول اللسان، وأثبتوا عمل الجوارح، ولكنهم خالفوا في صياغته، فقالوا: إن عمل الجوارح إنما يزيد عمل الإنسان، ولكن لا يثبت به الكفر، ومنهم من يقول: إنه يثبت به الكفر ولكنه شرط صحة، ومنهم من يقول: إنه شرط كمال، وكل هذه العبارات على منهج أهل السنة ليست صحيحة.
السؤال: [ هل يلزم النية في باب التروك للمعاصي؟ ].
الجواب: وأما بالنسبة لأبواب التروك للمعاصي فلا بد أنا نستحضر النية مطلقاً ولو لم يكن ثمة موقف؟ فيؤجر على النية ولو لم يكن ثمة موقف، وإذا كان ثمة موقف أعظم عند الله جل وعلا، فمثلاً شخص جائع أو فقير وتهيأ له السرقة ولم يسرق يحتسب هذا الترك لله؛ لأنه عظيم، ولكنه في حال غناه أخف، وإذا استحضر أجر ولو كان غنياً بعيدا مقتدراً على نفسه.
وصلى لله وسلم وبارك على نبينا محمد.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري [1] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
https://audio.islamweb.net