اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , أسباب النزول [4] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:
فقد تقدم التأصيل في تعامل العلماء مع الروايات سواء كانت النسخ أو غير النسخ, وهذا من الأمور المهمة التي يفهم على ضوئها ما سنتكلم عليه بإذن الله عز وجل من جملة الطرق المروية في أسباب النزول, وكذلك أيضاً ما يتعلق في هذا الباب.
وينبغي أن يعلم أن أسباب النزول لها صلة في أبواب التفسير باعتبار أخذ القرائن في أبواب التعليل والتصحيح, كذلك أيضاً في الموقوفات من جنسها فيما يروى خاصة في أبواب الأحكام, وأبواب المعاني, فإن ذلك له أثر من جهة الصحة والضعف, وكذلك أيضاً له أثر من جهة الترجيح عند التعارض.
وهذا ما ينبغي لطالب العلم أن يكون على عناية وبينة فيه.
ثمة مرويات كثيرة في الأسانيد يذكرها العلماء في الكتب المصنفة على أبواب الأسانيد, وتقدم أيضاً الإشارة إلى أهم هذه المصنفات, وذكرنا أن أصح ما جاء في ذلك من الكتب بقصد مصنفه ذلك واشتراطه له هو تفسير ابن أبي حاتم وكذلك تفسير ابن جرير و عبد بن حميد و ابن المنذر والبغوي , وكذلك تفسير سعيد بن منصور عليهم رحمة الله.
الأسانيد التي تروى عن الأئمة في أبواب التفسير هي أسانيد مشتركة, منها ما يشترك مع سائر الأسانيد التي تروى في أبواب التفسير, في أبواب فقه المعاني, أو الأحكام, أو ما يتعلق بأسباب النزول, منها: ما يرد هنا وهنا, ونحن نورد بإذن الله جل وعلا جملة من الأسانيد الواردة في ذلك في أبواب أسباب النزول, ونبين المعلول منها وغير المعلول, وما كان من النسخ وما لم يكن من النسخ.
الإسناد الأول: ما يرويه ابن جرير الطبري وغيره أيضاً من حديث محمد بن سعد بن الحسن عن عمه عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا تارة يكون موقوفاً على عبد الله بن عباس , وتارة يكون مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و محمد بن سعد هو محمد بن سعد بن محمد بن الحسن بن عطية العوفي , ويروي عن عمه عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى, وهذه النسخة مكتوبة وليست محفوظة, والدليل على ذلك أن ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم في كتاب التفسير ربما يوردان هذه الرواية فيقولان: حدثنا محمد بن سعد بن محمد العوفي فيما كتبه.
يعني: أن ذلك نسخة وليس بمحفوظ. وهذا يفيدنا أن الأسانيد التي تروى بأسباب النزول بمثل هذا أنها نسخ وليست محفوظة, والتعامل معها يكون بعدم النظر إلى ضبط الراوي, وذلك أن الراوي مجهول, وفي بعض آبائه ضعف كــــعطية العوفي .
والجهالة في ذلك لا تضر؛ لأن مجموع المتون الواردة في ذلك مستقيمة, والمخالفة في ذلك تكون في النادر القليل, كذلك أيضاً لكونها من أهل بيت يروي بعضهم عن بعض, فإذا روى بعضهم عن بعض فإن هذا من قرائن القبول. وذلك يظهر في رواية الواحد منهم عن أبيه عن جده, وأهل الدار أعلم بضبط مرويات من فيها.
كذلك قد اعتنى العلماء بهذه النسخة, وأكثروا من روايتها, ولم يتكلموا عليها برد وإبطال, وإنما أكثر من الرد عليها والإبطال المتأخرون, وهذا لا يجري على نسق وطرائق الأوائل.
الإسناد الثاني: ما يرويه عبد العزيز بن سعيد عن موسى بن عبد الرحمن الثقفي عن الحكم بن أبان عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس , تارة يروى موقوفاً, وتارة يروى مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد يظهر أنه محفوظ وليس مكتوباً, وعلى هذا فهو معلول.
وذلك لتفرد موسى بن عبد الرحمن الثقفي , وهو ممن لا يحتج به, وكذلك تلميذه في ذلك عبد العزيز بن سعيد ممن تفرد بهذه الرواية عن موسى بن عبد الرحمن الثقفي , وعلى هذا يقال: إن هذا الإسناد مما لا يصح في أسباب النزول.
الإسناد الثالث: ما يرويه حجاج بن محمد عن ابن جريج عن مجاهد بن جبر , تارة يرويه عن عبد الله بن عباس , وتارة يرويه مرسلاً, وتارة يكون من قوله, وهذا إسناد ضعيف, فإنه تفرد به حجاج عن ابن جريج , و حجاج ممن لا يحتج به.
وكذلك أيضاً من الأسانيد وهو الإسناد الرابع ما يرويه الأئمة في هذا, وممن يكتب في هذا ابن جرير الطبري وكذلك ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن صالح كاتب الليث , عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس , تارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتارة موقوفاً عن عبد الله بن عباس وهو الأكثر.
ورواية علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس هي نسخة, وفيها من جهة رواتها علل, وذلك أن هذا الإسناد يتفرد به عبد الله بن صالح وهو مضعف, وفي حفظه شيء, وهو كاتب الليث، ويرويه عن معاوية بن صالح , وهو صالح صدوق, ويرويه عن علي بن أبي طلحة، و علي بن أبي طلحة أكثر بالرواية عن عبد الله بن عباس , وروايته عنه نسخة.
وذلك أن الأئمة قالوا بإثبات كونها نسخة، قد نص على هذا الإمام أحمد كما ذكره عنه أبو بكر النحاس في كتابه التفسير في سورة الحج, فإنه قد أسند عن الإمام أحمد عليه رحمة الله أنه قال: صحيفة بمصر لو سافر إليها الرجل ما كان ذلك كثيراً, يرويها علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس.
ورواية علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس يعلها بعضهم بعلل, منها:
أن علي بن أبي طلحة لم يسمع من عبد الله بن عباس , وإنما هي نسخة أخذها من غيره, والنسخة التي يرويها علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس أخذها قيل: من سعيد بن جبير، وقيل: من مجاهد بن جبر , وقيل: من عكرمة , وقيل: من غيرهم. وقيل: إن النسخة التي رواها إنما أخذها من القاسم بن أبي بزة عن مجاهد بن جبر عن عبد الله بن عباس.
وعلى كل فنسخة علي بن أبي طلحة نسخة صحيحة, والمعلول فيها شيء يسير, وورد فيها جملة من أسباب النزول, وهي صحيحة, بل يقال: إن نسخة علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس هي من أصح النسخ عن عبد الله بن عباس.
وثمة أسانيد لا تكون من النسخ أصح منها، كرواية مجاهد بن جبر عن عبد الله بن عباس , في كثير منها مرويات, وبعضها أيضاً نسخة عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى.
الإسناد الخامس في هذا: ما يرويه محمد بن مروان السدي عن الكلبي عن أبي صالح , أو أبي مالك عن ابن عباس عليه رضوان الله تعالى.
الإسناد السادس: ما يرويه السدي عن الكلبي عن أبي صالح , أو أبي مالك , وعن مرة عن عبد الله بن عباس.
وتارة وهذا الإسناد السابع: عن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا الإسناد معلول بــــــالسدي و الكلبي , و الكلبي في روايته لهذا الحديث عن أبي صالح وأبي مالك عن عبد الله بن عباس ممن لا يحتج به, وقد قال غير واحد باتهامه بالكذب, وحينئذ الطعن في عدالته مما يسقط أيضاً مروياته حتى في أبواب ضبط الكتاب.
وعلى هذا نقول: إن ما جاء عن الكلبي لا يخلو من حالين:
الحالة الأولى: المرويات المنقولة عن غيره وهي معلولة لا تصح.
المرويات التي تروى عنه من قوله, فيكون حينئذ من تفسيره, وهو من علماء التفسير, لكنه كثير الوهم والغلط حتى اتهم بالكذب, ولكنه في ذاته مفسر, والمفسر لا يستطيع أن يخالف المعنى اللغوي.
وعلى هذا يقال: إن شذوذه في ذلك يمكن أن يعرف ويضبط, ولا يمكن أن يخرج عن النسق, وكذلك طرائق الأئمة الذين يخالفونه في ذلك.
الإسناد الثامن في هذا: ما يرويه أسباط بن نصر , و أسباط بن نصر يروي جملة من الأسانيد, تارة يرويها عن السدي وهو الكبير, وتارة يرويه عن غيره, والعلة فيه, وذلك أنه مضعف.
بعض العلماء يقول: إن رواية أسباط بن نصر سواء في أسباب النزول أو في غيرها مما يغتفر؛ لأنه من النسخ, وهذا محتمل.
الإسناد التاسع: ما يرويه جماعة عن الضحاك عن عبد الله بن عباس , وهذا يروى من جملة طرق عن الضحاك عن عبد الله بن عباس , وهذا معلول, والعلة في ذلك أن الضحاك لم يسمع من عبد الله بن عباس كما نص على هذا الأئمة كـــــشعبة بن الحجاج , و أبي زرعة , و الدارقطني وغيرهم, وروى الضحاك عن ابن عباس جملة من أسباب النزول, وهذا لا يصح.
وما روى عنه من أسباب النزول يعضد بأحوال: إذا كان من قوله, أي: من قول الضحاك أن آية كذا نزلت في كذا من غير أن يسنده، يعضده ما يروى من قول أصحاب عبد الله بن عباس كـــــعكرمة و سعيد بن جبير و مجاهد بن جبر وغيرهم. إذا جاء على هذا النحو فإنه يعضد ذلك, وإذا جاء أيضاً من قول عبد الله بن عباس يعضده أيضاً, ويؤكد بعضها بعضاً. وما جاء عنه من أقواله في التفسير من ذاته فهو أيضاً من المفسرين, فتفسيره من قوله أقوى من تفسير غيره.
الإسناد العاشر: ما يرويه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه, تارة يكون موقوفاً على أبيه, وتارة يرويه عن غيره, يرويه زيد بن أسلم عن أحد الصحابة, والعلة في ذلك عبد الرحمن بن زيد بن أسلم , فروايته عن أبيه بعض الناس يجعلها نسخة في التفسير, وبعض الناس لا يجعلها نسخة, بل يقول: إنها من المحفوظ. وكونها نسخة محتمل, و عبد الرحمن بن زيد مضعف ولا يحتج به من جهة حفظه.
الإسناد الحادي عشر: ما يرويه عطاء الخراساني عن عبد الله بن عباس , تارة يكون مرفوعاً, وتارة يكون موقوفاً على عبد الله بن عباس , و عطاء الخراساني لم يسمع من عبد الله بن عباس التفسير, والرواة عن عبد الله بن عباس في سائر المرويات ممن اسمه عطاء ثلاثة: عطاء بن أبي رباح , و عطاء بن يسار , و عطاء الخراساني.
وكيف تميز هذه الروايات في حال الإبهام؟
نقول: إذا كان في التفسير فهو عطاء الخراساني , هذا هو الأصل, وإذا كان في أبواب الأحكام وعلى الأخص في أبواب المناسك فإنه عطاء بن أبي رباح , و عطاء بن يسار في الأغلب يسمى.
وأصح مرويات من اسمه عطاء في هذا هو عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عباس , وهو من أهل الحفظ والإمامة والدراية, وينبغي العناية بمرويه هذا وغيره.
الإسناد الثاني عشر: ما جاء عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى, ويروى عن عبد الله بن مسعود في ذلك الإسناد الذي تقدم من حديث مرة عن عبد الله بن مسعود وغير ذلك, كما جاء عن عبد الله بن مسعود ما يرويه الثقات من أصحابه, كــــــأبي وائل عن عبد الله بن مسعود.
الإسناد الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر: كذلك علقمة و الأسود و أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود , وهذه جملة من الأسانيد وهي أسانيد صحيحة من جهة الأصل, وهي أدق أسباب النزول لو صح الإسناد إلى من رواه عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى؛ وذلك أن أصح الأسانيد في أسباب النزول هو ما جاء عن عبد الله بن مسعود .
وتقدم معنا أن أكثر الصحابة عليهم رضوان الله تعالى عناية بأسباب النزول هو عبد الله بن عباس , ولكن لماذا قلنا: إن أصح ما جاء في هذا عن عبد الله بن مسعود ؟
قلنا في ذلك؛ لأن عبد الله بن مسعود متقدم, وهو من طبقة كبيرة, وقد توفي في عام اثنين وثلاثين للهجرة, قبل انصرام عقد الخلفاء الراشدين في الخلافة الراشدة, وكان أدرك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يدركه عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى, وثمة مرويات في أسباب النزول يعتني بها, ولهذا قال عبد الله بن مسعود كما رواه مسروق عنه: ما من آية في كلام الله جل وعلا إلا وأنا أعلم فيما نزلت, وكيف نزلت, ولو أني أعلم أحداً من الناس أعلم مني بكتاب الله جل وعلا تبلغه الإبل لذهبت إليه.
وهذا فيه إشارة إلى عنايته بمواضع الآي, وقد يكون هذا متضمناً للدقة في العلم, وكذلك أيضاً إشارة إلى الإحاطة، وإلا فإنه ما كل ما جاء في القرآن من ألفاظ وأحكام له أسباب محددة معروفة, ولكن لعل المراد بذلك هو النوع الأول مما تقدم من معرفة أسباب النزول، وهو المعنى العام والمستفيض من بيئة الناس وأحوالهم، فإنه يعرف المواضع وتراتيب الأحكام. وهذا ما ينبغي لطالب العلم أن يعتني به.
وقد يقال الإسناد السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر: ما جاء عن أبي بكر و عمر و عثمان و علي , وهذه لا يكاد يصح منها شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, يوجد آحاد قليلة, ولكن ثمة مرويات كثيرة عند المتوسعين في أبواب أسباب النزول عن هؤلاء الخلفاء الراشدين عليهم رضوان الله تعالى، وهي معلولة ولا تصح.
والعلة في ذلك كما تقدم الإشارة إليه: أن الأئمة من الصحابة الكبار لم يكن ثمة حاجة إلى ما يسمى بأسباب النزول في زمنهم, وإنما الحاجة إلى العمل, وذلك لأن القرآن محكم, وأن الحاجة إلى أسباب النزول في زمن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى هي في حال ورود الخلاف على سياق آية ومعنى حكم.
وسياق الآية ومعنى الحكم لم يكثر الخلاف فيه إلا في زمن التابعين, وفي بعض البلدان قبل وصوله إلى بلاد الحجاز كالعراق والشام وخراسان ومصر ونحو ذلك؛ لبعد الناس عن لغة العرب ظهر فيهم الخلاف, وظهرت الحاجة إلى ما يعضد تلك المعاني الصحيحة مما يسمى بأسباب النزول من دفع دعاوى التخصيص, وكذلك أيضاً دفع بعض المعاني بعدم إغلاقها وتقييدها على نحو باب من الأبواب, وهذا ما ينبغي لطالب العلم أن يكون على بينة ودراية فيه.
ثمة رواة وهذا قد يقال: إنه الإسناد العشرون: عن بعض الصحابة, يرد فيه بعض الأسانيد المروية في أسباب النزول, وهذا يروى عن زيد بن ثابت عليه رضوان الله تعالى, وكذلك يأتي عن أبي بن كعب في بعض أسباب النزول, وهي قريبة من جهة الضعف فيما جاء عن الخلفاء الراشدين الأربعة, وهي أوهى ما جاء في أسباب النزول.
وذلك لانشغال هؤلاء بالأحكام, وانشغال هؤلاء أيضاً برواية القرآن وضبطه على وجهه وتبليغه للآخرين, كذلك وجوه القراءة فإنهم قد اعتنوا بذلك أكثر من عناية غيرهم.
فإن عبد الله بن عباس و عبد الله بن مسعود قد اعتنوا بالأحكام أكثر من العناية بوجوه قراءات العرب ولسانهم, وأما ما جاء عن أبي بن كعب وزيد بن ثابت فإنهم قد اعتنوا بالقراءات أكثر من غيرهم, فجاء المنقول في ذلك عنهم أكثر, ولهذا المروي عنهم في أسباب النزول أقل من غيره صحة, وإن كان ثمة أفراد من الأسانيد قد أخرجها صاحبا الصحيح كــــالبخاري و مسلم , ولكنها أفراد معدودة لا تشكل باباً لديهم في هذا العلم.
وذلك أيضاً لعلو كعبهم في أبواب الاستنباط والمعاني مما لا يحتاجون إليه في بيان الخلاف ونحو ذلك, ثم إن الخلاف أيضاً لم يظهر في زمنهم كظهوره في زمن الآفاقيين ممن ذهب إلى جملة من البلدان ونحو ذلك, فإنه كان ممن يختص بنشر المعاني من غير ورود مخالف عليه.
الإسناد الحادي والعشرون في هذا, منها أسانيد نازلة في هذا والعلة في ذلك متأخرة كما يرويه حفص بن عمر العدني عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن عبد الله بن عباس , تارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتارة موقوفاً على عبد الله بن عباس، والعلة في ذلك من حفص بن عمر العدني فإنه لا يحتج به, وكما تقدم الكلام عليه أن ثمة مرويات في أسباب النزول تقف على عكرمة مولى عبد الله بن عباس , وثمة مرويات تكون عن شيوخه, وأن ما كان موقوفاً على عكرمة مولى عبد الله بن عباس فهو أصح وأدق مما يرفعه إلى غيره, وذلك لشدة احتياطه في أسباب النزول عليه رحمة الله, فإنه من أهل الاحتراز والدراية في ذلك.
ونعلم أن ما جاء من أسباب النزول عن عكرمة مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبواب الإرسال فإنه أدق من الموقوفات على عبد الله بن عباس، والمقطوعات على عكرمة أدق من المرفوعات إلى عبد الله بن عباس, ونستطيع أن نقول باعتبار أن عكرمة مع كونه أكثر التابعين اختصاصاً في أسباب النزول: إن أقوى ذلك وأمثله ما جاء من قول عكرمة من جهة إضافة الإسناد إليه, ويليه بعد ذلك ما كان موقوفاً على عبد الله بن عباس , ويليه بعد ذلك ما كان مرسلاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويليه بعد ذلك ما كان مسنداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبار أن كثيراً من المتأخرين الذين يروون الأسانيد تارة يرفعون الموقوف والمقطوع ويسندونه كما جاء في جملة من الأسانيد التي تذكر هذه الروايات كرواية حفص بن عمر , فتجعلها مسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الإسناد الثاني والعشرون في هذا: ما يرويه محمد بن أبي محمد عن مجاهد عن عبد الله بن عباس , وتارة يكون على مجاهد بن جبر موقوفاً, وتارة يكون مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والعلة في ذلك في محمد بن أبي محمد , وهو شيخ محمد بن إسحاق صاحب السيرة. ولا يحتج به، وذلك لجهالته وعدم استفاضة درايته في أبواب الفقه، وكذلك في أبواب التأويل.
وهذا الإسناد الذي يرويه محمد بن أبي محمد عن مجاهد بن جبر يظهر والله أعلم أنه لم يسمع من مجاهد بن جبر التفسير, وذلك أن العلماء قد نصوا أن التفسير المروي عن مجاهد بن جبر لم يسمعه منه أحد, وإنما كان نسخة قد دفعها إلى القاسم بن أبي بزة فسمعت من غيره.
و مجاهد بن جبر في روايته عن عبد الله بن عباس وله أسانيد في هذا, وهذا الإسناد الثالث والعشرون: ما يروى عن مجاهد بن جبر , وهي أسانيد:
أولها: ما يرويه ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر , وما يرويه ابن جريج عن مجاهد بن جبر , وما يرويه الليث بن أبي سليم عن مجاهد بن جبر , وما يرويه سفيان عن مجاهد بن جبر.
نقول: إن من يروي التفسير عن مجاهد بن جبر فإنه يرويه بواسطة القاسم بن أبي بزة، قد نص على ذلك ابن حبان في كتابه معرفة رواة الأمصار, فإنه قد ذكر أن التفسير لم يسمعه أحد من مجاهد بن جبر , وإنما رووه عن القاسم بن أبي بزة , والقاسم بن أبي بزة ضابط لكتابه, وهو ثقة في دينه, وعدل في روايته.
والمرويات حينئذ عنه تنظر في ذات الراوي، إذا كان ثمة واسطة بينه وبين القاسم فإن هذا يرد, وإذا لم يكن ثمة واسطة وإنما أخذ منه مباشرة كأكثر الرواة كـابن أبي نجيح و ابن جريج وسفيان وغيرهم, فإنهم يروون هذا فيما يظهر عن القاسم بن أبي بزة , وربما كان لبعضهم واسطة كحال سفيان , وكذلك فإن ليث بن أبي سليم وإن كان ضعيفاً في ذاته فإنه يروي عن القاسم بن أبي بزة مباشرة فإنه أدركه.
وعلى هذا ينبغي ألا ننظر إلى ذات الرواة من جهة ضبطهم في ذاتهم, وإنما ننظر إلى النسخ, فإذا صحت النسخة فإن الرواية الصحيحة إذا كان الإنسان من أهل الديانة, فـليث بن أبي سليم له مرويات في أسباب النزول يرويها عن مجاهد بن جبر عن عبد الله بن عباس , وتارة تكون مرسلة من قول مجاهد بن جبر.
فعلى هذا نقول: إن ليث بن أبي سليم في روايته لأسباب النزول لا يخلو من أحوال:
الحالة الأولى: ما يرويه ليث بن أبي سليم عن مجاهد بن جبر , وما يرويه ليث بن أبي سليم عن غير مجاهد بن جبر.
ما يرويه عن مجاهد بن جبر عن عبد الله بن عباس أو عن مجاهد في ذاته فهو صحيح وهي النسخة التي تقدم الكلام عليها.
وما يرويه ليث بن أبي سليم عن مجاهد بن جبر عن غير عبد الله بن عباس فهي معلولة وليست هي من النسخة, وما يرويه ليث بن أبي سليم عن غير مجاهد بن جبر، فهذا ليس من النسخة, وما يرويه ليث بن أبي سليم عن مجاهد بن جبر في غير أبواب التفسير، فهذا ليس من النسخة, وهو معلول, وثمة جملة من الأخبار في هذا ترد بإعلالها بــــليث بن أبي سليم.
ولهذا ينبغي لطالب العلم في حال تقييده لأبواب النسخ أن يفرق -كما تقدم الإشارة إليه- بين ضبط الراوي وبين النسخة حتى يكون من أهل الإتقان والدراية في ذلك.
كذلك أيضاً أن يغلب على استعماله أن يكون من أهل الحكم في ذاته, وألا يلتفت إلى حكم غيره, لأنا لا نريد بهذا الكلام أن يكون طالب العلم ممن يعتد بذاته, ويقدم قوله على قول الأئمة في هذا, وإنما نقول: حتى يكون من أهل المراس والتدقيق في نقل المرويات, كذلك أيضاً أن يكون من أهل الحذق والخبرة والنقد.
فإن الأئمة الأوائل يشترطون فيمن أراد الدقة في أبواب العلل أن يكون من أهل الحفظ للرواة وكذلك المتون وطول المراس بالحكم على الأحاديث, وكذلك أيضاً طول إمعان النظر في التماس القرائن مما يولد في أسباب النزول, وكذلك أيضاً في ألفاظ المعاني, وما كان في الأحكام وغير ذلك, فإنه إذا كان من أهل الإكثار والدراية وفق وكان من أهل الاختصاص.
وينبغي أيضاً لطالب العلم أن يعلم أن ثمة مصنفات كثيرة لدى المتأخرين في أسباب النزول اعتنت بالتصحيح والتضعيف, وكثيراً من هذه المصنفات فيها من الأخطاء المنهجية وفيها أيضاً من الوهم والغلط, ومخالفة طرائق الأئمة النقاد, وكذلك من الحكم على ظواهر الأحاديث والأسانيد من غير إحاطة أو إعمال أي قرينة كانت فوقعوا في إعلال كثير من الأحاديث الصحيحة, وكذلك أيضاً في تصحيح كثير من الأحاديث المعلولة, وأيضاً فإن هؤلاء أهملوا باب النسخ في أبواب التفسير وأبواب أسباب النزول على وجه الخصوص, ولم يعتدوا بها على الإطلاق, فينظرون إلى ترجمة الراوي ثم يعلون مرويه, وهذا مخالف لطرائق الأئمة عليهم رحمة الله.
ولهذا ينبغي أن تلتمس أحكام الأئمة في مواضعها, وقد بينا جملة من النسخ في ذلك في رسالة سميناها التقرير في أحكام أسانيد التفسير وهي مطبوعة.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم التمام والسداد والإعانة, وأن يوفقني وإياكم لمرضاته, وأن يلهمنا الرشاد والصواب, وأن يجعلني وإياكم من الموفقين في القول والعمل, وأن يسلك بي وبكم منهجاً قويماً وصراطاً مستقيماً, إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
السؤال: يقول هنا: كيفية التعامل مع الإسرائيليات؟
الجواب: النبي عليه الصلاة والسلام حسم هذا الأمر، كما جاء في الصحيح قال: ( حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ), ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إما حق فتكذبوهم فيه, أو باطل فتصدقوهم فيه ) .
ولهذا الإنسان يروي ما جاء في هذا مما لم يخالف ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا نقول: لا حرج ما استقام المعنى.
السؤال: يقول: متى ظهر مصطلح الإسرائيليات؟
الجواب: الإسرائيليات نسبة إلى بني إسرائيل, وبنو إسرائيل إنما سموا بذلك باعتبار أنهم من أبناء يعقوب, ومن ذرية يوسف عليه السلام, فـــــيعقوب باللغة العبرية يسمى إسرائيل, فكانت المرويات في ذلك منسوبة إلى أولئك القوم من اليهود والنصارى من الأحبار والرهبان.
السؤال: يقول: ما معنى العناية بالألفاظ دون العناية بأسباب النزول؟
الجواب: العناية بالألفاظ هي ما يسمى مفردات المعاني, فنقول: مثلاً: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [الحج:36] , نقول: وجبت نزلت أو سقطت, هذا ألفاظ, إذاً: لفظة ومعناها, وهذا يعتني به المصنفات الحديثة ما يسمى بمعاني مفردات القرآن.
أكثر المفسرين عناية بهذا الباب هو مجاهد بن جبر يعتني بذكر اللفظة ومعناها, وقد توسع في ذلك توسعاً كبيراً.
السؤال: هذا هنا يسأل عن حديثين: (مخموم القلب) و أبي ضمضم ؟
الجواب: حديث (مخموم القلب) لا بأس به, وحديث أبي ضمضم فيه ضعف.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , أسباب النزول [4] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
https://audio.islamweb.net