اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح كتاب العلم من صحيح البخاري [3] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح كتاب العلم من صحيح البخاري [3] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
قال الإمام البخاري: [ باب رفع العلم وظهور الجهل، وقال ربيعة: لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه.
حدثنا عمران بن ميسرة، قال: حدثنا عبد الوارث، عن أبي التياح، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا ).
حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس قال: لأحدثنكم حديثاً لا يحدثكم أحد بعدي، سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: ( من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل، ويظهر الزنا، وتكثر النساء، ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد ) ].
قوله رحمه الله: (باب رفع العلم وظهور الجهل) وثمة تلازم بينهما، إذا رفع العلم فإنه يظهر الجهل، وإذا انقبض الجهل فإن هذا أمارة على وجود العلم، والعلم يكون بقبض العلماء، فميزان خيرية الأمة هو بوجود العلماء لا بوجود المال؛ لأن الناس إذا كانوا على مال بلا علم اقتتلوا وافتتنوا، وبالعلم فإنهم يأنسون ويتآلفون ولو كانوا على فقر؛ ولهذا يقول عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله كما روى ابن وضاح في كتابه البدع والنهي عنها: لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهابكم ذهاب علمائكم. يعني: الخيرية تكون في الأمة مع وجود العلماء، وتنقص تلك الخيرية بنقصان العلماء؛ ولهذا في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه )، والمراد بذلك هو ذهاب العلماء، والبلد التي فيها علماء بمقدار أدائهم لرسالتهم فإن الأمة أمة مرحومة.
قول ربيعة: (لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه)، وذلك أن صاحب العلم إذا ضيع نفسه بعدم البلاغ، أو بعدم الاستزادة من العلم، أو ابتذال النفس فيما دون العلم فذلك من الهدر؛ لأن الإنسان إذا كان جاهلاً بنفسه فغيره أجهل به من نفسه؛ فلهذا ينبغي للإنسان ألا يأخذه ما يسمى بالورع البارد، وألا يأخذه أيضاً في المقابل الجسارة على العلم إذا كان جاهلاً فيجعل في نفسه من العلم ما ليس فيها، بل يعطيها قدرها من جهة البلاغ ومن جهة الأخذ والاستزادة.
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: [ ( إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ) ] تقدم معنا في حديث ابن العاص وهو في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ) ضلوا بأنفسهم، وأضلوا غيرهم، الله عز وجل هو الذي يرفع العلماء، والجاهل يرفعه الناس؛ ولهذا قال: ( اتخذ الناس رءوساً جهالاً )، أما العالم يرفعه الله يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة:11]، لهذا العالم لا يمكن أن يوضع، والجاهل لا يمكن أن يرفع؛ وذلك أنه إذا زال رافعه رجع إلى موضعه الذي هو فيه، أما العالم فالله عز وجل هو الذي رفعه بالعلم، ويضعه الله عز وجل إذا زل عن مكانه الذي هو عليه؛ لهذا كم من الناس يحاولون أن يطفئوا شمس عالم بعينه فيعجزون عن ذلك؛ لأن الله عز وجل هو الذي رفعه، وكم من الناس الجهال يحاولون أن يبرزوا جاهلاً، ويأبى الناس أن يدخل قلوبهم؛ لأن الله عز وجل هو الذي يرفع، وهو الذي يخفض، والقبول منه سبحانه وتعالى.
وفي قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم )، أي: أن الناس كلما تأخر الزمن في ذلك قبض العلم منهم، وظهر بذلك الجهل، وثمة تلازم بين قبض العلم وظهور الفتن، فأصل وجود الفتن هو قبض العلم، يعني: أن الناس إذا كانوا لا يعلمون حكم القتل تقاتلوا حمية، أو تقاتلوا لأجل القبيلة، أو تقاتلوا على المال، فما هو الذي يعيد الأمور إلى نصابها؟ العلم من الكتاب والسنة، والعدل والإنصاف؛ لأن الله عز وجل أرسل أنبياءه لإقامة العبادة، ولإقامة العدل في أمور الناس في دنياهم؛ لهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ[الحديد:25]، لهذا العالم من رسالته أن يقوم بالعدل في جانب العبادة والدين، وفي جانب الدنيا؛ وكلما انعزل العالم عن مجتمع الناس والعدل فيهم في أمور الدنيا، وقضاء حوائجهم، والإنصاف في أمورهم، فإن رسالته في ذلك فيها نقص.
النبي عليه الصلاة والسلام ما جاء بالأمور التعبدية فقط، بل جاء ليحفظ الحقوق أيضاً، ينتصر للمظلوم من ظالمه، ومن المبغي عليه من الباغي وهكذا؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء من ربه سبحانه وتعالى بالعدل كله؛ ولهذا نجد أنبياء الله عز وجل حاربوا الظلم في الأخلاق، الظلم في الأموال، الظلم في أمور الدين، فشعيب عليه السلام أرسله الله عز وجل لأجل ألا يطفف الناس المكيال والميزان، وألا يبخسوا الناس أشياءهم، يعني: في أمور البيع والشراء، وكذلك أخذ المكوس، وهي: العشر من أموال الناس من غير حق، فهذا من الظلم، فأرسله الله بالعدل في هذا.
ولوط عليه السلام أرسله الله عز وجل لمحاربة الانحراف في الأخلاق، وأنبياء الله عز وجل بعثهم أيضاً لإقامة حق الله عز وجل وتوحيده في الناس؛ لهذا نقول: إن الأحاديث التي تأتي في رفع العلم يتبعها ظهور الجهل، وكذلك لوازم ذلك من الفتن.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في حديث أنس بن مالك الآخر: ( يقل العلم ويظهر الجهل )، ثم ماذا يظهر؟ الزنا، لا يظهر زنا في أمة إلا مع وجود الجهل، ولكن قد يقول شخص: يوجد العالم الفلاني، العالم الفلاني، نقول: هذا ما أدى رسالته، فحاله كحال كتاب لم يفتح، أدى الرسالة أو ما أداها؟ ما أدى تلك الرسالة، إذاً: التقصير من قبله، والعقوبة إذا نزلت على أمة وفيها عالم ولم يكن فيها مصلح أول ما يبدأ بالعالم؛ لأنه لم يتمعر وجهه لحرمات الله؛ ولهذا نقول: إن ظهور الجهل وقبض العلم أمارة على وجود الفتن والاضطراب.
قال صلى الله عليه وسلم: ( يظهر الزنا وتكثر النساء)، لماذا؟ ما هو اللازم لكثرة النساء وقلة الرجال مع ظهور الزنا؟
الأمراض التي تهلك الناس، وقد جاء في ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام، أن كثرة الزنا هلاك للأمة بكثرة الأمراض؛ ولهذا إذا انتشرت الفاحشة في قوم سلط الله عز وجل عليهم من الأمراض ما لم يكن في أسلافهم فيموتون، كما ينتشر في الأزمنة المتأخرة من الأمراض والأوبئة ما لم تسمع به الأمم من قبل؛ ولهذا يزولون بالقتل، ومن دواعي القتل القتال، لكن لماذا يتقاتلون؟ يتقاتلون على الثروات، على الأموال، على القبلية، على الحزبية، على غير ذلك، يتقاتلون؛ لعدم وجود العلم، يتقاتلون ثم يبيد بعضهم بعضاً، إذاً: هذا لازم لعدم وجود العلم أم لا؟ لازم لعدم وجود العلم، فإذا وجد العلم فالأمة حينئذٍ مرحومة، وإذا ارتفع العلم جاءت لوازم كثيرة، من ذلك: انتشار الفواحش، وما يتبع ذلك من أمراض، وكذلك أيضاً تقاتل الناس على الثروات وغير ذلك، حتى يبقى النساء ويكثرن، ويقل في ذلك الرجال.
قال رحمه الله: [ باب فضل العلم.
حدثنا سعيد بن عفير، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن حمزة بن عبد الله بن عمر أن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بينما أنا نائم أتيت بقدح لبن، فشربت حتى إني لأرى الري يخرج في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب. قالوا: فما أولته يا رسول الله ؟ قال: العلم ) ].
هذا الحديث فيه مع فضل العلم فضل عمر بن الخطاب عليه رضوان الله، وجلالة قدره في باب العلم، ونقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم حينما بين أنه أعطى عمر بن الخطاب فضله يعني: فيما شرب، إشارة إلى أن المصدر الذي يؤخذ منه العلم الحقيقي هو الوحي الذي أنزله الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيضاً فيه فضل اللبن وأن تأويله في المنام يكون بالعلم، وكذلك الحليب، فإذا رأى الإنسان أنه يستكثر من الحليب أو نحو ذلك فهذا أمارة على فضله وعلمه وديانته، وفي ذكر فضل العلم، ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من هذا الإناء حتى رأى أثر الري يخرج من أظفاره، يعني: أنه قد امتلأ عليه الصلاة والسلام من هذا اللبن حتى فاض من جسده، وأعطى عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى ما فضل منه.
وقوله: ( ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب ) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أعطى عمر بن الخطاب ذلك، يعني: أن ما لدى عمر بن الخطاب هو من فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، ومنته عليه وعلى الأمة جميعاً، وكذلك أيضاً فيه ما يؤيد حديث العرباض بن سارية عليه رضوان الله تعالى في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين )، ذكر عمر بن الخطاب عليه رضوان الله هنا في الفضل مع أن أبا بكر الصديق أفضل الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، ولا خلاف عند المسلمين في هذا، لكن لعل الإشارة إلى عمر بن الخطاب عليه رضوان الله فيها أن الأمر يطول له من جهة البقاء في الخلافة، بخلاف أبي بكر، فـأبو بكر بقي نحواً من سنتين، ولكن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله طال به الأمر بعد أبي بكر الصديق عليه رضوان الله، فكانت الإشارة إليه في مثل هذا، وربما في هذا تنبيه للصحابة أن يأخذوا من عمر بن الخطاب للحاجة إليه، وحاجة الناس لطول زمنه، وكذلك أيضاً كثرة الفتن مع كثرة الفتوحات، والفضل الذي آتاه الله عز وجل إياه، واتساع رقعة الإسلام في زمنه، وكثرة الناس وتوافدهم عليه، وقد كثرت رعيته عليه رضوان الله.
قال رحمه الله: [ باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها.
حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك، عن ابن شهاب، عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه فجاءه رجل فقال: لم أشْعُر فحلقت قبل أن أذبح؟ فقال: اذبح ولا حرج. فجاء آخر فقال: لم أشْعُر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: ارم ولا حرج فما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج ) ].
في هذا فتيا النبي عليه الصلاة والسلام وهو على الدابة، وفي هذا إشارة إلى أن العالم ينشغل بقضاء حاجة الناس وإجابتهم أياً كانت حاله، كان قائماً أو ماشياً أو كان جالساً، ولا موضع لبلاغ العلم ينصرف الإنسان فيه عن قضاء حاجة الناس، بل إن الإنسان على مدار يومه وليلته منصرف لتوجيه الناس، وهذه هي الرسالة والأمانة التي أعطاه الله عز وجل إياها، لا يقول: إن عملي إنما هو مقيد بساعات أو نحو ذلك، إذا وجد جاهلاً علمه وأعطاه ما أعطاه الله عز وجل من خير؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام كان كذلك، فلا يحتاج إلى مقاعد، أو إلى مياثير، أو إلى حلق، أو غير ذلك، إذا وجد من يسألونه في الطريق أعطاهم حينئذٍ سؤالهم وإجابتهم لحاجتهم إلى ذلك، وأيضاً فإن الإنسان إذا كان جاهلاً ويحتاج إلى مسألة، لا ينتظر إلى اجتماع الناس في موضع أو مسجد أو نحو ذلك، أو مثلاً في مكاتب أو مدارس، يسأل ولو كان في الطريق، فإذا وجد الإنسان قائماً أو راكباً يسأله عن شيء من الدين حتى يبرئ دينه.
كذلك أيضاً في وقوف النبي عليه الصلاة والسلام على الدابة إشارة إلى أنه ينبغي للعالم أن يبرز للناس بحيث يسمعونه جميعاً، بخلاف لو كان مثلاً لا يراه إلا واحد أو نحو ذلك، ولكن يبرز للناس عند الخطب على المنابر أو الكراسي أو نحو ذلك خاصة عند وجود الجمع حتى يرى الناس ويفهمون الخطاب وتبلغهم العبارة وكذلك أيضاً الإشارة، بخلاف ما لو كان جالساً عند عدد لا يراه الأدنى منهم.
قال رحمه الله: [ باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس ].
قال رحمه الله: [ حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا وهيب، قال: حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل في حجته فقال: ( ذبحت قبل أن أرمي؟ فأومأ بيده قال: ولا حرج. قال: حلقت قبل أن أذبح؟ فأومأ بيده ولا حرج ) ].
وفي هذا إشارة إلى أن البلاغ لا يقتصر على العبارة، فربما كان بالإشارة، وربما كان أيضاً برسم البيان، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان كثيراً ما يعلم أصحابه بالبيان، أو بضرب المثال، أو ربما بالرسم والخط على الأرض؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يبين الصراط المستقيم خط خطاً، ثم خط عن يمينه وشماله خطوطاً، ثم قام يشرح لهم، وهذا الرسم بالبيان لتبيين العلم، فهذا من الأمور الشرعية التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يبينها لأصحابه، كذلك كان يعلم بالمثال، فيضرب مثالاً كقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن عمر: ( بني الإسلام على خمس ) يعني: كحال البناء، فشبهه بالبناية من البيوت وغير ذلك ( بني الإسلام على خمس ) يعني: على خمسة أركان، كذلك في قول النبي عليه الصلاة والسلام مشبهاً للإسلام بالغيث على ما تقدم في حديث أبي موسى ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والخير كمثل الغيث )، يعني: إشارة إلى التمثيل في هذا، كذلك أيضاً في حديث النعمان بن بشير في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه ) لهذا نقول: إن في مثل هذا شيء من البيان، وتقريب المعاني للناس، والإفهام، كذلك بالإشارة له أن يبين، إذا علم أن الإنسان يفهم بمجرد إشارته.
قال رحمه الله: [ حدثنا المكي بن إبراهيم، قال: أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان، عن سالم، قال: سمعت أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يقبض العلم، ويظهر الجهل والفتن، ويكثر الهرج. قيل: يا رسول الله وما الهرج؟ فقال: هكذا بيده فحرفها كأنه يريد القتل ) ].
يعني: كحال الإنسان يضرب بالسيف، أو يضرب مثلاً بشيء من الأسلحة التي تقتل الإنسان، فهو يشير بذلك إلى ورود القتل في الناس.
قال رحمه الله: [ حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا وهيب، قال: حدثنا هشام، عن فاطمة، عن أسماء، قالت: (أتيت عائشة وهي تصلي، فقلت: ما شأن الناس؟ فأشارت إلى السماء فإذا الناس قيام، فقالت: سبحان الله. قلت: آية؟ فأشارت برأسها: أي نعم، فقمت حتى تجلاني الغشي، فجعلت أصب على رأسي الماء، فحمد الله عز وجل النبي صلى الله عليه و سلم وأثنى عليه، ثم قال: ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي حتى الجنة والنار، فأوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريب -لا أدري ذلك قالت أسماء - من فتنة المسيح الدجال، يقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن -لا أدري بأيهما قالت أسماء - فيقول: محمد رسول الله، جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا واتبعنا، هو محمد ثلاثاً، فيقال: نم صالحاً قد علمنا إن كنت لموقناً به، وأما المنافق أو المرتاب -لا أدري أي ذلك قالت أسماء - فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته ) ].
في هذا جملة من المسائل: منها ما يتعلق بباب التعليم بالإشارة، فقد أشارت عائشة عليها رضوان الله تعالى إلى السماء، لما سئلت: ما بال الناس؟ يعني ما أحوالهم؟ حيث أنهم يجتمعون في غير موعد الصلاة، فأشارت إلى السماء. في هذا إشارة إلى أنه يجوز للإنسان أن يعلم غيره بالإشارة ولو كان في صلاة إذا احتاج إلى ذلك.
وأما الخبر الذي يروى ( من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فقد بطلت صلاته ) هذا خبر منكر بل هو موضوع؛ لهذا نقول: إن الإشارة في الصلاة جائزة إذا كانت لا تشغل الإنسان، وفيها دفع لانشغال ذهنه أو فكره، أو صرف مثلاً من يريد إشغاله، كأن يسأل الإنسان عن متاع وهو يصلى، ويخشى من انصراف قلبه ونحو ذلك بمثل هذا، أو يريد أن يذكر بشيء نسيه أو نحو ذلك، فيشير بيده أو يشير إلى ناحية وهو يصلي، هذا مما لا حرج فيه، كذلك أيضاً مخاطبة المصلي عند الحاجة، فمخاطبة المصلي عند الحاجة جائزة، كما خوطبت عائشة هنا عليها رضوان الله تعالى بذلك، فأجابت ولم تستنكر بعد ذلك توجيه السؤال إليها، قد يحتاج الإنسان لضرورة أو حاجة إلى سؤال شخص، أين المتاع الفلاني؟ أو أين فلان موجود أم ذهب؟ فيشير مثلاً لحاجته إذا كان الإنسان لا يستطيع الانتظار في ذلك، فهذا من الأمور التي لا بأس بها، ولا تبطل بها الصلاة.
وفي ذلك أيضاً من المسائل أن الإنسان كلما كان صاحب علم كان أكثر ثبات، ويظهر ثباته في حياة البرزخ في الفتنة، ذكر النبي عليه الصلاة والسلام الفتان في القبور فقال: ( تعود أرواحكم، فقالوا: يا رسول الله تعود أرواحنا؟ قال: نعم كهيئتكم اليوم )، يعني: ترجع إليكم عقولكم وأرواحكم كهيئتكم اليوم، فتسألون، يعني: تسألون عن الله سبحانه وتعالى، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن دين الإسلام، فمن كان على رسوخ وقوة فإنه يجيب بلا تلكؤ، ومن كان في تردد وشك وريب يظهر شكه في هذا الموضع، هل أنا أصيب إن قلت هذا ربما يكون غيره، أو غير ذلك فيقع في تردد، بخلاف الإنسان الراسخ الذي على بينة وثبات في ذلك.
قال رحمه الله: [ باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم، ويخبروا من وراءهم.
وقال مالك بن الحويرث: قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: ( ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ).
حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي جمرة قال: (كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس، فقال إن وفد عبد القيس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من الوفد أو من القوم؟ قالوا: ربيعة، فقال: مرحباً بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا ندامى. قالوا: إنا نأتيك من شقة بعيدة، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، ولا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر نخبر به من وراءنا ندخل به الجنة، فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع، أمرهم بالإيمان بالله عز و جل وحده، قال: هل تدرون ما الإيمان بالله وحده. قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وتعطوا الخمس من المغنم، ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت )، قال شعبة ربما قال: ( النقير )، وربما قال ( المقيَّر )، قال: ( احفظوه وأخبروه من وراءكم ) ].
في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بحفظ العلم، والحفظ هنا المراد به حفظ الصدر، وأن الإنسان ينبغي أن يعتني بجانب الحفظ، والحفظ بأنواعه سواء كان حفظ العلم بالصدر وهو أثبت وأرسخ للإنسان، بخلاف العلم إذا كان مجرداً عن حفظ، وإنما هو بفهم مجرد مع الوقت ربما ينساه الإنسان؛ لهذا ينبغي أن تكون للإنسان قاعدة في حفظه في كل علم يريد أن يتعلمه، فإذا كثر محفوظه وقوي مفهومه وأسهب في ذلك كان أرسخ في العلم وأثبت فيه، فينبغي له أن يكثر في كل فن من الحفظ والفهم، أن يجمع بينهما، وألا يحفظ بلا فهم، فإن ذلك لا يفيد طالب العلم كثيراً إذا كان لا يفهم ويحفظ حفظاً مجرداً هكذا، وربما أورثه ذلك شيئاً من الغرور والادعاء بالنفس من غير فهم، فالعلم هو الاستنباط والإدراك، ولكن القاعدة والثبات في ذلك هو في أمر الحفظ.
قوله رحمه الله: (باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس)، النبي عليه الصلاة والسلام حرضهم وحثهم على حفظ هذا العلم الذي أخبرهم إياه، حتى يبلغوا به من وراءهم، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما نوع الجواب على اختلاف حاجة الناس، وهذا يظهر في كثير من الأسئلة التي توجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، تارة يسأل: ( أي العمل أفضل؟ فيقول: الصلاة على وقتها )، وتارة يسأل: ( أي العمل أفضل؟ فيقول: أن تطعم الطعام وتقرأ السلام )، ويسأل تارة: ( أي العمل أفضل؟ فيقول: الإيمان بالله ثم الجهاد في سبيل الله )، اختلف الجواب لاختلاف حال السائلين، وهكذا ينبغي أن يكون العالم الرباني ينظر إلى حال الإنسان، إذا كان من أهل كمال التوحيد والعناية بذلك ومعرفة مقداره والعمل به، ولكن لديه قصور في جانب من جوانب الإنفاق والصدقة أو نحو ذلك يحثه على جانب الإنفاق، ( أن تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف )، كذلك جانب الصلاة إذا رأى أن لديه تقصيراً في جانب الصلاة أو نحو ذلك فسأله الوصية يوصيه بالتمسك بالصلاة على وقتها وهكذا، فيختلف الجواب حينئذ باختلاف حال السائل.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه وفد عبد قيس سألهم فقال: ( من الوفد أو من القوم )، وفي هذا أنه يستحب للإنسان إذا قدم إلى أحد ولم يعرف بنفسه أن يسأله من أنت؟ من أي بلد؟ من أي قوم؟ أو نحو ذلك فإن هذا أدعى لتقديره ومعرفة حاله، فربما يكون سيداً في قومه ولم تعطه قدره، فينفر ويحتاج إلى تأليف، وربما يكون شخصاً جاء من مكان بعيد وتظن أنه جاء من بلدك، ويختلف التعامل مع من جاء إليك قاصداً من بلد بعيد، فهذا ينبغي أن يقدر أكثر من غيره؛ لأنه جاء من شقة بعيدة قاصداً، فيلان معه، ويكرم إكراماً يليق بالمشقة التي وقعت له، بخلاف الذي يأتيك من طرف مدينتك، وهكذا؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( من الوفد ومن القوم؟ ) فأجابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقول: إنه ينبغي للإنسان أولاً أن يعرف بنفسه.
وقد تقدم معنا في قول ضمام بن ثعلبة: أنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر، يعني أنه عرف بنفسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا النبي عليه الصلاة والسلام سأل عن القوم؟ فأجابوه في ذلك حتى يجيبهم النبي صلى الله عليه وسلم فيعلم مقدار الجهل فيهم، ويعلم مقدار الخطأ الذي يقعون فيه، ربما يكثر في بلد نوع من المخالفات الشرعية فيعرف أحوالهم فيجيبهم بمقدار ما عندهم من خطأ، إذا انتشر عندهم مثلاً شهادة الزور، انتشر عندهم الكذب، انتشر عندهم الشرك، انتشر عندهم الزنا، انتشر عندهم السفور، انتشر عندهم الفاحشة، يقوم بإجابتهم بحسب ما لديهم، هذا هو العالم الرباني الذي يعرف أحوال الناس وأمراضهم في دينهم، ثم يقوم بإنزال ذلك الدواء والشفاء؛ لأن القرآن شفاء لكل شيء، فيقوم بإعطائهم تلك الأحكام.
وهنا النبي صلى الله عليه وسلم حينما حثهم على الإيمان وأمرهم بأشياء أشار إلى أشياء معدودة؛ لأنه ينبغي للإنسان خاصة إذا كان القوم على عجل أن يقلل في المعلومات حتى يحفظوا ويدركوا تلك المعلومات، فأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بأربع، ونهاهم عن أربع مع أن المأمورات كثيرة، لكن هذا ما يحتاجون إليه ويضبطوه، وهذا باب من أبواب التدرج، ألا يعطى الناس الحق كله حتى لا ينفروا منه؛ وذلك نوع من التأليف والتدرج، كذلك أيضاً ينبغي للإنسان أن يعرف ألفاظه العامة إذا جهلها الناس؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام أمرهم بالإيمان، ثم قال: ( هل تدرون ما الإيمان؟ )، وهذا فيه شرح وتفسير للمصطلحات والإجمالات من الإنسان ولو لم يسأل، وهنا فيه تأدبهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قولهم: (الله ورسوله أعلم)، ثم ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أركان الإسلام الخمسة، وأضاف إليها مكان الحج قال: ( وتعطوا الخمس من المغنم )، وكذلك نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الحنتم والمزفت والدباء، الدباء نوع من النبات، وكذلك الحنتم.. المزفت.. المقير وغير ذلك، وهي وسائل يتخذ منها الخمر بتخميره فيها، وكانت العرب تأتي مثلاً إلى الدباء، أو ساق النخل، ويقومون بحفره ويضعون فيه العنب، أو يضعون فيه التمر، ويقومون بكتمه بداخله حتى يتخمر، ويقل الأكسجين لديه، فيصبح خمراً، كذلك أيضاً يأتون إلى الدباء والقرع ويقومون بشقة إلى نصفين، ثم يفرغونه من داخله، فيقومون بوضع العنب أو التمر أو نحو ذلك ويقومون بإغلاقه وكتمه بشيء حتى يتعرق ويتخمر في داخله، هذا ليس تعليماً ولكن من باب الشرح.
والحفظ والفهم يتصاحبان؛ لأنه إذا حفظ من غير فهم ربما حفظ على غير الوجه الصحيح من جهة اللفظ، فإذا رسخ في ذهنه نطق غير صحيح يبقى في ذهنه ويرسخ أكثر، فينبغي أن يحفظ المحفوظ على وجهه ويعرف المقصود منه.
قال رحمه الله: [ باب الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله.
حدثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا عمر بن سعيد بن أبي حسين، قال: حدثني عبد الله بن أبي مليكة عن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة لـأبي إهاب بن عزيز فأتته امرأة، فقالت: ( إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج، فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف وقد قيل. ففارقها عقبة، ونكحت زوجاً غيره ) ].
تقدم معنا الكلام على الرحلة واستحباب ذلك، وهنا ارتحل هذا الصحابي إلى النبي عليه الصلاة والسلام ما بين مكة والمدينة ليسأله عن أمر واحد، وفي هذا استبراء الإنسان لدينه، خاصة ما يتعلق في الأمور العظيمة من أمور الأبضاع وهي الفروج، وكذلك أيضاً ما يتعلق بأمور التوحيد ونحو ذلك، فإذا وقعت على الإنسان نازلة في ذلك فإن يذهب ويسأل ويستفصل من أهل العلم في ذلك ويرتحل، فقد كانوا يرتحلون على أقدامهم، وقد يسر الله عز وجل للناس في الأزمنة المتأخرة وسائل يرتحلون فيها، وربما يرتحل الإنسان ويطوف الأرض وهو في راحة ودعة، وهذا يدل على أن التكليف على الناس في مثل هذه الأمور هو أعظم، فبعض الناس يظن أن هذه وسائل راحة، لا هي أيضاً وسائل تكليف وإقامة حجة ونزع للأعذار من كثير من الناس الذين يتحججون، ربما تكون الأمة الأولى أرحم من هذه الأمة مع وجود هذه الوسائل، فليس هذا فضلاً لها، بل ربما أراد الله عز وجل أن يقيم الحجة على المقصرين أكثر من غيرهم؛ لذلك ينبغي للإنسان أن يبرئ ذمته؛ ولهذا نجد في كثير من الناس للأسف الشديد تكاسلاً عن تحصيل العلم الشرعي خاصة مع الوسائل الحديثة، الآن يستطيع الإنسان أن يتابع دروساً علميةً من أقصى الأرض، ومع ذلك الزهد في هذا ظاهر للناس، وكان الناس يرتحلون ويتمنون أن يلتقوا بعالم أو يسمعوا منه شيئاً، ويمر على طالب العلم في مشارق الأرض أو مغاربها ربما سنة وسنتين ولم يختم كتاباً علمياً أو يقرأ أحاديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفهم معانيها، وإن لم يجدها في بلده تضجر وقال: لا توجد في بلدي، والوسائل في ذلك اليوم متاحة.
قال رحمه الله: [ باب التناوب في العلم.
حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري ح، قال أبو عبد الله: وقال ابن وهب: أخبرنا يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن عبد الله بن عباس، عن عمر قال: ( كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك، فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته فضرب بابي ضرباً شديداً، فقال: أثم هو؟ ففزعت فخرجت إليه، فقال: قد حدث أمر عظيم، قال: فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي، فقلت: أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري، ثم دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت وأنا قائم: أطلقت نساءك؟ قال: لا. فقلت: الله أكبر ) ].
يونُس لها ست أوجه يونُس و يونُسء ويونِس يونِسء ويونَس ويونَسء بضم النون وفتحها وكسرها، هذه ثلاثة وكل واحدة معها همزة في آخرها وبدون همزة.
قوله رحمه الله: (باب: التناوب في العلم)، يعني: أن يحرص الإنسان على عدم تفويت شيء من مسائل العلم سواء قام بنفسه أو أناب غيره، وهذا فيه حرص الصحابة عليهم رضوان الله تعالى على مسائل العلم التي يعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، فيحرص طالب العلم على التلقي والفهم، وإذا فاته شيء من ذلك فانشغل بأمر الدنيا كالوظائف والعمل بالتكسب، أو ربما ينشغل الإنسان بشيء من الأعذار التي هي قائمة فيه كالأمراض أو الأسقام، فلا يفوت شيئاً من ذلك فينيب غيره بسؤاله عن مسائل العلم، ولو على سبيل الاختصار، خاصةً أنَّ التناوب الآن في هذا سهل عبر أجهزة التسجيل ونحو ذلك، فيستطيع الإنسان أن يستدرك ما فاته من مسائل العلم، وهذا فيه حرص الصحابة عليهم رضوان الله تعالى أيضاً في هذا تبعاً لحال النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيهه لأصحابه على الجمع بين مصالح الدين والدنيا، فما عطلوا دنياهم، وما فوتوا أيضاً مسائل العلم، فكان بعضهم ينيب الآخر في تحصيل العلم، ويقوم أيضاً بأمر دنياه؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يملك قوته )، يعني: أن الإنسان إذا كان لديه من ينفق عليهم من ذرية أو زوجة أو كذلك أب وأم ونحو ذلك إن كان لديه هذا الإثم فهو كاف في إهلاكه والإضرار به، والحساب عليه حساب عسير؛ لأن من الأمور الواجبة أن يقوم الإنسان على ذلك؛ ولهذا كان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى مع وجود هذه الأمور يوازنون بين مصالح الدين ومصالح الدنيا، فلا يفوتون ديناً ولا يفوتون دنيا، وفي هذا حرص الصحابة عليهم رضوان الله تعالى على هذا، وعلى معرفة أيضاً الجديد من حال النبي عليه الصلاة والسلام مما ينزل عليه من أمور الوحي؛ ولهذا كان عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى لما طرق الباب عليه خشي أو ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه أمر أو نزل به خطب عظيم فاستفصل من ذلك، فاطمأن بعد ذلك أن الأمر على خلاف ما ظن.
قال رحمه الله: [ باب الغضب في الموعظة والتعليم، إذا رأى ما يكره ].
في هذا أيضاً استحباب التكبير عند سماع الأخبار السارة الحسنة التي تسر الإنسان كما كبر عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى لما علم أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يطلق نساءه؛ لأن من نسائه حفصة بنت عمر عليها رضوان الله تعالى، فهو يحب القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله: [ حدثنا محمد بن كثير، قال: أخبرنا سفيان، عن ابن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي مسعود الأنصاري، قال: ( قال رجل: يا رسول الله! لا أكاد أدرك الصلاة مما يطيل بنا فلان، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضباً من يومئذ، فقال: أيها الناس! إنكم منفرون، فمن صلى بالناس فليخفف؛ فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة ).
حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا سليمان بن بلال المديني، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل عن اللقطة فقال: اعرف وكاءها، أو قال: وعاءها وعفاصها، ثم عرفها سنة، ثم استمتع بها، فإذا جاء ربها فأدها إليه، قال: فضالة الإبل؟ فغضب حتى احمرت وجنتاه، أو قال: احمر وجهه، فقال: وما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وترعى الشجر، فذرها حتى يلقاها ربها. قال: فضالة الغنم؟ قال: لك أو لأخيك أو للذئب ).
حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: ( سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كرهها، فلما أكثر عليه غضب ثم قال للناس: سلوني عما شئتم. فقال رجل: من أبي؟ قال: أبوك حذاقة. فقال آخر: من أبي يا رسول الله؟ فقال: أبوك سالم مولى شيبة، فلما رأى عمر ما في وجهه قال: يا رسول الله! إنا نتوب إلى الله عز و جل ) ] .
غضب النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغه لبعض العلم؛ وذلك لبيان أهمية الجواب عند سؤاله، أو ربما أيضاً أهمية خبر ذلك الأمر الذي وقع فيه الناس حتى يأخذوه على محمل الجد، وفي هذا أيضاً لفت لانتباه السائلين لأهمية الجواب وخطره أيضاً على الناس في حال تفريطهم في تلقيه أو في أخذه وفهمه وبلاغه؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم لا ينتصر ولا يغضب لنفسه، وإنما يغضب للحق، ربما يؤذى النبي عليه الصلاة والسلام ويساء إليه، ومع ذلك لا ينتقم ولا ينتصر لنفسه إلا إذا انتهكت محارم الله عز وجل فيعرف ذلك في وجهه، وهذا ظاهر في هذه الأحوال التي ذكرها المصنف رحمه الله تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الملقي: [ باب من برك على ركبتيه عند الإمام أو المحدث.
حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني أنس بن مالك: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي؟ فقال: أبوك حذافة، ثم أكثر أن يقول: سلوني، فبرك عمر على ركبتيه فقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه و سلم نبياً فسكت ) ].
في هذا تواضع المتعلم عند المعلم، وجاء هذا في قصة جبريل عليه السلام لما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وجاء في مسلم من حديث ابن عمر عن أبيه أن جبريل لما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه إشارة إلى الأدب والتواضع عند المعلم تقديراً وإجلالاً له، وأيضاً في هذا ما فعله أبو بكر و عمر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما جثيا على الركبتين للتواضع واللين، وأيضاً طلب العفو والمسامحة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن تسبب أحد في إغضابه ولم ينتصر للحق، وفي هذا أيضاً تأليف نفس الغاضب في الحق واللين معه، خاصة إذا كان صاحب منزلة علية كالعالم، وكذا قبل ذلك منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسؤال عبد الله بن حذافة حينما جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أبي؟ لأن الناس كانت تقع في الاختلاف في ملامحه عن ملامح أبيه، صورته وصورة أبيه، كما في قصة أيضاً أسامة بن زيد ووقوع الناس في ذلك، نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما غضب في ذلك حتى لا يسترسل الناس في مثل هذا السؤال، كي لا يفتح هذا باب شر على الناس، فكل يأتي ويقع في شك بعد أن كان غافلاً فيظهر أمره في الناس، كل يأتي إلى النبي فيقول من أبي؟ وهم يعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
وغضب النبي عليه الصلاة والسلام، أي أنه: سئل وأجاب فأراد أن يغلق هذا الباب؛ لأنه يفتح باب فتنة عظيمة باتهام الناس في الأعراض بمجرد الظنة، فإذا رأى الإنسان في صورته أو في صورة ابنه اختلافاً يسيراً أو نحو ذلك ظن سوءاً، وهذا موجود في الناس، قد ينزعه عرق لجده من أبيه أو لجده من أمه أو لأحد قراباته أو نحو ذلك، وهذا موجود مشهور في الناس، فيقع الظن في هذا، والنبي صلى الله عليه وسلم غضب من هذا، فالصحابة عليهم رضوان الله تعالى عرفوا ذلك في وجهه، ثم أغلقوا هذا الباب.
في هذا أيضاً في بروك عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أن النبوة لا ينتظرونها بمجرد جواب النبي عليه الصلاة والسلام عن أبي فلان وفلان ونحو ذلك، وإنما هم يرضون بالله رباً وبالإسلام ديناً من غير هذا، يعني أننا لسنا في شك من النبوة حتى نسأل من هو أبو فلان وأبو فلان، وأن النبوة قائمة في قلوبنا، والتصديق في ذلك قائم قولاً وعملاً واعتقاداً، وهذا الذي أراده أيضاً عمر بن الخطاب عليه رضوان الله.
قال رحمه الله: [ باب من أعاد الحديث ثلاثاً ليفهم عنه، فقال: ( ألا وقول الزور ) فما زال يكررها، وقال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هل بلغت ) ثلاثاً .
حدثنا عبدة، قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا عبد الله بن المثنى، قال: حدثنا ثمامة بن عبد الله، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه كان إذا سلم ثلاثاً، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً ).
حدثنا عبدة بن عبد الله، حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا عبد الله بن المثنى، قال: حدثنا ثمامة بن عبد الله، عن أنس: عن النبي صلى الله عليه و سلم: ( أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً، حتى تفهم عنه، وإذا أتى قوم فسلم عليهم، سلم عليهم ثلاثاً ).
حدثنا مسدد، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو قال: ( تخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر سافرناه، فأدركنا وقد أرهقنا الصلاة صلاة العصر، ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثاً ) ].
تقدمت الإشارة إلى هذا الحديث في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ويل للأعقاب ) مرتين، أو ثلاثاً، وفي مسألة رفع الصوت أمر النبي عليه الصلاة والسلام منادياً ينادي في الناس: ( ويل للأعقاب )، وفي هذا تكرار العلم والمسائل حتى يفهم الناس ويدركوا، وهذا سنة النبي عليه الصلاة والسلام في تكرار الحديث، إذا غلب على ظن المحدث أنه لم يفهم من حوله، خاصة إذا كان الخطاب يتوجه إلى جماعة كثيرة، بخلاف الخطاب الذي يتوجه إلى وحد بعينه فالغالب أن يكون الذهن حاضراً فإجابة واحدة تكفيه، أما إذا كانوا جماعة فربما كان وأحدهم غافلاً أو نحو ذلك، فربما أخذ بعض الحق الذي سمعه، وربما كان الحق مكملاً لبعضه فنقصانه يؤدي إلى شيء من القصور، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرر كلامه، وكذلك توجيهه للناس حتى يفهم عنه.
قال رحمه الله: [ باب تعليم الرجل أمته وأهله.
أخبرنا محمد هو ابن سلام، حدثنا المحاربي، قال: حدثنا صالح بن حيان، قال: قال عامر الشعبي: حدثنا أبو بردة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن أدبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران )، ثم قال عامر: أعطيناكها بغير شيء قد كان يركب فيما دونها إلى المدينة ].
وفي هذا أيضاً ما تقدم الإشارة إليه من حق من تلي أمره بالعلم، سواء كانوا أولاداً من بنين وبنات وزوجة وإخوة وأخوات؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى حق الموالي من العبيد والإماء بالتعلم، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم أن مقام الإنسان الذي يعلم جاريته ثم يقوم بإعتاقها أن له من الأجر ضعفين؛ وذلك للإعتاق؛ وكذلك أيضاً للتعليم، وكذلك أيضاً تعليم الخدم العمال الذين يكونون أجراء عند الإنسان، هؤلاء أيضاً من حقهم إذا كان يملك علماً أن يؤديه إليهم بتعليمهم لأمر دينهم والواجب عليهم ونحو ذلك، وهذا له أثر على نفوسهم أعظم من غيرهم باعتبار أن العبد يقبل من سيده؛ لأنه يملك عصمة حريته فيقوم بإعتاقه أو إبقائه على ما هو عليه فيقبل منه؛ لأنه يرجو منه خيراً، كذلك أيضاً صاحب المال مع الخادم عنده، والأجير ونحو ذلك، فعليه أن يستغل مثل هذه الفرص في البون بينهم حتى يقبل منه ويأخذ منه الحق، وهذا من المواضع التي يتوجه الخطاب فيها إلى الناس بتعليم الأمة الخير.
وقول عامر الشعبي: [ أعطيناكها بغير شيء قد كان يركب ]، وفي رواية في البخاري [ يرحل فيما دونها إلى المدينة ]، يعني: أن أمثال هذه المسائل العلمية تؤخذ برحلة، وقد جاءتك من غير ارتحال، وهذا فيه تذكير وتنبيه إلى بعض مسائل العلم المهمة التي يأخذها الإنسان من غير اكتراث بها، أن يعلم أن هذه المسائل وهذه الأحاديث قد كان الناس يذهبون إليها إلى أماكن بعيدة، وقد جاءتك وأخذتها من غير ارتحال فأرعها سمعك، وقم بحفظها وصيانتها، وكذلك أداء شكرها، وأداء الشكر هو: بتبليغها لمن يحتاجها، كما أخذتها من غير تعب فأدها لغيرك من غير تعب، تبرأ ذمتك في ذلك، وتؤدي حقها بالعلم والعمل.
الملقي: [ باب عظة الإمام النساء وتعليمهن.
حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا شعبة، عن أيوب، قال: سمعت عطاء، قال: سمعت ابن عباس، قال: أشهد على النبي صلى الله عليه وسلم، أو قال عطاء: أشهد على ابن عباس: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ومعه بلال، فظن أنه لم يسمع النساء فوعظهن وأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم، وبلال يأخذ في طرف ثوبه ) ].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يجعل للنساء أياماً يعظهن فيه، كما جاء في حديث (أبي سعيد الخدري: أن النساء أتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلن: غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لهن يوماً)، وفي هذا أن النساء لم يحضرن في ميادين الرجال للتعلم، بل يسألن يوماً خاصاً وهم يوم خير الخلق وأطهر الناس قلوباً، كان النبي عليه الصلاة والسلام يجعل لهن مجالس خاصة، وهذا دليل على محظورية الاختلاط في مسائل التعليم، وكذلك مسائل العمل، فماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لما قلن له: غلبنا عليك الرجال. هل قال: احضرن مع الرجال؟ بل النبي عليه الصلاة والسلام مع ضيق وقته وكثرة رعاياه وولايته ومشاغله جعل لهن يوماً، وأعاد عليهن ما كان يعلمه الرجال، فما زاد النبي عليه الصلاة والسلام في التعليم لهن إلا ما كان من خصائصهن، وإلا فالأصل أنه يتوجه إليهن الخطاب في أمور التوحيد والصلاة والزكاة، وأيضاً أداء الأمانة وغير ذلك، وهذا فيه وجوب تعليم من يلي أمر النساء لهن، بتعليم دينهن وتفقيههن وتبصيرهن بأحكام الشريعة عليهن.
قال رحمه الله: [ باب الحرص على الحديث.
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدثني سليمان، عن عمرو بن أبي عمرو، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة أنه قال: ( قيل: يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد ظننت يا أبا هريرة ! ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه ) ].
في هذا تباين المتعلمين بالحرص والتلقي، وقد امتاز أبو هريرة عليه رضوان الله تعالى بكثرة السماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثرة المخالطة، وفاق كثيراً أو أكثر الصحابة عليهم رضوان الله تعالى بالحرص على الأخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظن النبي عليه الصلاة والسلام ألا يستفهم منه أحد في مثل هذه المسائل ودقائقها قبل أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى، وهذا من حرصه، كذلك أيضاً فيه تشجيع العالم للمتعلم بأن ينبهه على حرصه وعنايته ويشكره كذلك عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأبي هريرة: ( لقد ظننت يا أبا هريرة ! ألا يسألني أحد عن هذا الحديث أول منك أو قبلك )، وذلك لما يراه من حرصه وعنايته، وفي هذا تشجيع وتحفيز وتحضيض له أيضاً على الاستمرار على ذلك، وفي هذا شيء من المدح المباح المثبت للإنسان.
قال رحمه الله: [ باب كيف يقبض العلم. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولتفشو العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً ].
ودروس العلم هو: اندفان العلم، وهذا فيه تمثيل أن اندراس الشيء كاندفانه إذا جاءت الريح ثم قامت بدفنه، فمثلاً مواضع القوم بعد أن يرتحلوا تدفن، كذلك الثوب إذا كان في البرية ثم جاءته الريح وسفت عليه الرمال فإنه يندفن؛ ولهذا جاء في حديث حذيفة بن اليمان عليه رضوان الله: ( يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب )، وشي الثوب: يعني: أن يكون الثوب في البرية وتركه صاحبه، ثم يدفن فلا يبقى منه إلا طرفه، وهذا هو المراد في قوله: (دروس العلم) فإنه خشي أو خاف دروس العلم يعني: اندفانه بحيث لا يبقى منه شيء، وليس المراد بذلك هو فقده من الأرض كلها، وإنما هو اندفانه حتى لا يوجد من يحييه، فإن الشيء إذا وجد من يحييه ويزيل عنه ما يدفنه فإنه يبقى، وهؤلاء هم العلماء الذين يظهرونه للناس، وإذا تركه العلماء اندفن ولا يعلم موضعه.
قال رحمه الله: [ حدثنا العلاء بن عبد الجبار، قال: حدثنا عبد العزيز بن مسلم، عن عبد الله بن دينار بذلك يعني حديث عمر بن عبد العزيز إلى قوله ذهاب العلماء.
حدثنا إسماعيل بن أويس، قال: حدثني مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ) .
قال الفربري: حدثني عباس، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا جرير عن هشام نحوه ].
تقدم معنا الكلام على حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العباد ) وتقدم الإشارة إلى رفع الله للعلماء، وكذلك أيضا آثار قبض العلم والجهل، وما يظهر من ذلك من تبعاته.
قال رحمه الله: [ باب هل يجعل للنساء يوماً على حده في العلم.
حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثني ابن الأصبهاني، قال: سمعت أبا صالح ذكوان يحدث عن أبي سعيد الخدري قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: ( غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن، فكان فيما قال لهن: ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار. فقالت: امرأة واثنين؟ فقال: واثنتين ).
حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن ذكوان، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم بهذا، وعن عبد الرحمن بن الأصبهاني قال: سمعت أبا حازم، عن أبي هريرة قال: ( ثلاثة لم يبلغوا الحنث ) ].
في هذا الحديث على ما تقدم تخصيص النبي عليه الصلاة والسلام للنساء يوماً يعلمهن فيه؛ وذلك إبعاداً لهن عن مواضع الرجال، وهذا على ما تقدم وهن في الصدر الأول وفي زمن الطهر والنقاء خصص النبي عليه الصلاة والسلام لهن يوماً، هذا فيه دلالة على حظر الاختلاط في ذلك الزمن.
كذلك أيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم علمهن ما يحتجن إليه من فضائل العمل بأهمية التربية؛ لأن المرأة ربما تمل من تربية أبنائها، أو ترى أن في ذلك استهلاكاً لوقتها، وتفويتاً أيضاً لأجرها أو نحو ذلك، وبين النبي صلى الله عليه وسلم كذلك أيضاً ما يتعلق بالمرأة مما يلحقه الله عز وجل عليها من المصائب من موت أبنائها أو بناتها وذلك في بدايتهن، أو ربما مات من ولادته ونحو ذلك، وقلما امرأة من النساء في الصدر الأول إلا ويحصل لها ذلك؛ وذلك لكثرة الأمراض والأسقام وضعف أمور الناس في أمور الولادة والطب وغير ذلك، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين أمر الفضل لهن في ذلك تطميناً لهن وتسكيناً في هذا الأمر، وجاء في بعض الروايات: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: وواحدة؟ قال: وواحدة )، وهي غير محفوظة.
قال رحمه الله: [ باب من سمع شيئاً فراجعه حتى يعرفه.
حدثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن عمر، قال: حدثني ابن أبي مليكة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من حوسب عذب. قالت عائشة فقلت: أوليس يقول الله تعالى: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا[الانشقاق:8] قالت: فقال: إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب يهلك ) ].
في هذا فضل عائشة عليها رضوان الله تعالى على غيرها، وهي فقيهة الصحابيات عليهن رضوان الله، ولها أيضاً استدراكات على الصحابة في بعض مسائل الدين من مسائل الأحكام وغيرها؛ وهذا لما خصها الله جل وعلا به من المزايا والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت أحضاهن منزلة إليه، وأحبهن أيضاً إليه عليه الصلاة والسلام، فقد كانت حريصة على تتبع ما فاتها من مسائل العلم، والاستفصال فيما تشك فيه، فتسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك مزيد بيان طالبة أن تفهم المسألة على وجهها، وفي هذا أنه ينبغي لطالب العلم إذا سمع شيئاً واستشكله أن يسأل أهل العلم عنه حتى لا يفهم على غير الوجه، بل يفهم على المراد، فهذا من تصحيح العلم وتنقيته؛ حتى لا ينقله على غير وجهه.
قال رحمه الله: [ باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب. قاله ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثني الليث، قال: حدثني سعيد، عن أبي شريح أنه قال لـعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: (ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولاً قام به النبي صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به، حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لأمرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً، ولا يعضد فيها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب )، فقيل لـأبي شريح: ما قال عمرو؟ قال: أنا أعلم منك يا أبا شريح لا يعيذ عاصياً، ولا فاراً بدم، ولا فاراً بخربة.
حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، قال: حدثنا حماد، عن أيوب، عن محمد، عن أبي بكرة، ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإن دماءكم وأموالكم )، قال محمد وأحسبه قال: ( وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب ) وكان محمد يقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذلك ( ألا هل بلغت ) مرتين ].
تقدم أهمية أن يعي الإنسان قول المعلم وانتباهه، وهذا يظهر هنا في قوله: (سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حينما تكلم به)، فينبغي للإنسان حال سماعه لشيء من العلم الذي يهمه أن يرعيه سمعه، وأن يكون حاضراً ببصره، وحاضراً بقلبه، وحاضراً أيضاً بجميع حواسه حتى يدرك العلم كما أريد منه أن يدرك.
وحضور الحواس في ذلك حتى ولو كان البصر، فالإنسان يتكلم ويكفيه من ذلك السماع، لكن البصر أيضاً له أثر في الفهم، فيدرك نطق الحروف من جهة مخارجها، ويزيد في الفهم والإدراك، كذلك أيضاً ربما تشار إشارة أو يرى مثلاً اهتمام الإنسان بالكلام، أو ربما تحدث قائماً، أو تحدث وهو محمر الوجه، أو وهو غاضب لأهمية هذه المسألة، وغير ذلك من الأحوال التي تبين أهمية المسائل ومراتبها بالنسبة للمتكلم.
وكذلك أيضاً في الحديث تحريض النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة عليهم رضوان الله على حفظ العلم وتبليغه، أي: أنه ينبغي ألا يقف العلم عندك بل أوصله إلى غيرك، فهذا هو زكاته، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما جاء في الصحيح: ( بلغوا عني ولو آية )، فهذا من زكاة العلم، ويتأكد على الإنسان إذا وجد المحتاج.
وكما أن الزكاة المال هي للمحتاجين، كذلك زكاة العلم أيضاً للمحتاجين من الجهال، فإذا وجد جاهلاً فبمقدار الجهل ومقدار العلم تجب على الإنسان الزكاة، فإذا كان الإنسان صاحب علم وفير، واكتمل نصابه وزاد زادت نسبة الزكاة عنده، فلكل علم زكاة إلا أن العلم يختلف عن المال؛ لأن المال له نصاب، وقبل ذلك لا تجب فيه الزكاة، أما العلم فتجب الزكاة ولو بمقدار يسير من العلم بأن يخرج الإنسان زكاته بالبلاغ؛ ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( بلغوا عني ولو آية )، ولو آية واحدة بلغها لغيرك.
قال رحمه الله: [ باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا علي بن الجعد، قال: أخبرنا شعبة، أخبرني منصور، قال: سمعت ربعي بن حراش يقول: سمعت علياً يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تكذبوا علي فإنه من كذب علي فليلج النار ).
حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا شعبة، عن جامع بن شداد، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: قلت للزبير: إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث فلان وفلان؟ قال: أما إني لم أفارقه ولكن سمعته يقول: ( من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار ).
حدثنا أبو معمر، قال: حدثنا عبد الوارث، عن عبد العزيز، قال أنس: إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثاً كثيراً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من تعمد علي كذباً فليتبوأ مقعده من النار ).
حدثنا مكي بن إبراهيم، قال: حدثنا يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار ).
حدثنا موسى، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ( تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي، ومن رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ) ].
حينما ذكر المصنف رحمه الله أمر البلاغ وفضله، وأن الإنسان ينبغي أن يعلم غيره، وكذلك أيضاً في إيراده لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب ) أراد أن يبين أنه ينبغي للإنسان أن يحترز في بلاغه، وألا يسهب، وألا يكثر إكثاراً يدعوه إلى الغلط والوهم بسبب الاستعجال وغير ذلك، فأراد أن يبين خطورة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يتجرأ عليه الإنسان، فقال عليه رحمة الله: (باب إثم من كذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم)، فالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم لا يختلف العلماء على أنه كبيرة من كبائر الذنوب، وإنما يختلفون في كفر الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ذهب بعض العلماء إلى كفر من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمداً، وممن ذهب إلى هذا إمام الحرمين الجويني، وخالفه في ذلك جماعة من العلماء، وقالوا: هو كبيرة لا يكفر الإنسان بذلك إلا إذا استحله، هذا إذا كان الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الكذب على الله عز وجل فهو أشد وأعظم، فينبغي للإنسان أن يحذر من نسبة شيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتأكد منه، ولا يجوز للإنسان أن يروي حديثاً وهو متردد في ثبوته إلا مع بيانه أو ذكره من غير صيغة الجزم؛ ولهذا يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من حدث عني بحديث وهو يَرى أو يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبَين )، يعني: إما هو أو الذي نقل عنه، فهنا يشتركان في دخولهما في دائرة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من كذب علي متعمداً ) فيه رحمة بالأمة أنه ربما يجري على الإنسان من الوهم والغلط ما لم يتعمده ولم يجسر عليه ولم يتساهل فيه، ولكن طرأ عليه وكان مستيقناً، ثم علم بعد ذلك أنه نقل عن النبي عليه الصلاة والسلام ما لم يستوثق منه، فهذا معفو عنه، ويجب عليه أن يصحح من نقل عنه ذلك؛ حتى لا تنقل سنة على غير وجهها.
وإنما عظم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الله عز وجل قبل ذلك؛ لأن الله عز وجل المشرع سبحانه وتعالى، فالكذب عليه يعني: إتيان بدين ونسبة دين إليه لم يشرعه الله سبحانه وتعالى، وهذا أمر على ما تقدم خطير.
أما بالنسبة للحديث الضعيف الذي يضعفه العلماء، نقول: الضعيف على مراتب: إذا كان الحديث ضعيفاً وضعفه شديد فإنه لا يجوز للإنسان أن يرويه إلا لبيان ضعفه، ومن باب أولى الحديث الموضوع والمكذوب والمطروح وغير ذلك، أما ما ضعفه يسير من الأحاديث ومتنه مستقيم فيسوغ للإنسان أن يرويه من غير جزم بصيغة التمريض، فيقال: يُذكر عن رسول الله، أو يُروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا حرج في هذا، ويدخل في ذلك أيضاً رواية الأحاديث يسيرة الضعف في فضائل الأعمال.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من تعمد علي كذباً فليتبوأ مقعده من النار)، ( فليتبوأ ) يعني: فليتخذ مقعداً له من النار قد هيئ له، وهذا وعيد شديد على من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبوأ الإنسان منزلة أي: هيأ له منزلة في موضع كذا، ( فليتبوأ مقعده من النار ) يعني: هيأ لنفسه موضعاً في النار والعياذ بالله بكذبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقول النبي عليه الصلاة والسلام: [ ( تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي ) ] اختلف العلماء في التكني بكنية النبي صلى الله عليه وسلم بـأبي القاسم هل النهي في حياته فقط أم بعد حياته أيضاً؟ والأرجح في هذا أنه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فقط، ومن العلماء من كره التسمي مع التكني، يعني: أن يتسمى الإنسان بمحمد، وأن يتكنى بـأبي القاسم جميعاً، إما أن يتكنى بالنبي صلى الله عليه وسلم بلا تسمي، أو يتسمى بلا تكني، وهذا قول لبعض العلماء.
أما في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ومن رآني في المنام فقد رآني )، رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام حق إذا رآه كما يعلم من حالته، فإن الشيطان لا يتمثل برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه على الصفة المذكورة في الأخبار فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لو رآه على خلاف الصورة يقال: هذا ليس هو النبي صلى الله عليه وسلم.
فالذي يرى النبي عليه الصلاة والسلام على هيئته، ولو لم ير الوجه، أو رآه مدبراً مثلاً أو نحو ذلك، فهذا يقال: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا نوع كرامة لرائي النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن الإنسان لا يأخذ من المنامات تشريعاً، فيقول: رأيت عليه الصلاة والسلام وأمرني بكذا، ويقول: النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( من رآني في المنان فقد رآني ) إذاً: هذا وحي جديد، انقطع الوحي أو لم ينقطع؟ انقطع الوحي؛ ولهذا أذكر سائلاً يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فأمرني بكذا وكذا من المحرمات، هذا إما أنه كاذب، أو رأى شيطاناً.
أتى رجل أحد العلماء في ليلة الثلاثين من شعبان، وقال: إني رأيت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: غداً من رمضان، فقال العالم: إن الذي رأيته في المنام قال لنا في اليقظة: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته )، أي: لسنا بحاجة إلى مناماتك، أيها أولى خبر اليقظة أو خبر المنام؟ خبر اليقظة، لهذا المنامات لا تنسخ تشريعاً، ولا تأتي بتشريع، ولكن هي مجرد رؤيا تكون فيها تطمين أو فضل أو كرامة للإنسان.
قال رحمه الله: [ باب كتابة العلم [.
قال رحمه الله: [ حدثنا محمد بن سلام، قال: أخبرنا وكيع، عن سفيان، عن مطرف، عن الشعبي، عن أبي جحيفة قال: قلت لـعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة، قال قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر ].
وهذا فيه إشارة إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحض أصحابه على الكتابة، ولكن النهي الذي جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام عن الكتابة؛ حتى لا يختلط بالقرآن، فيظن الناس أن هذا قرآناً فيضعونه ضمن سور القرآن، ولكن لما حفظ القرآن ودون كان هناك من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى من يكتب، أو من علم النبي عليه الصلاة والسلام منه أنه يفصل بين القرآن وكلامه عليه الصلاة والسلام، وهذا من الاحتراز للدين، والإجلال والتعظيم لكلام الله سبحانه وتعالى من أن يدخل ما ليس فيه، ولو كان عظيماً من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لمنزلة كلام الله وعلو شأنه ومرتبته.
وقوله هنا: (فما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل) يعني: ما أخذتها عن النبي عليه الصلاة والسلام، المراد بالعقل: هو ما يجب على عاقلة الإنسان من الديات مما يأتي، مثلاً: من دية القتل أو غير ذلك، قال: (وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر) يعني: أحكام هذه المسائل.
قال رحمه الله: [ حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: حدثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: ( أن خزاعة قتلوا رجلاً من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فركب راحلته فخطب فقال: إن الله حبس عن مكة القتل أو الفيل شك أبو عبد الله، وسلط عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولم تحل لأحد بعدي، ألا وإنها حلت لي ساعة من نهار، ألا وإنها ساعتي هذه حرام، لا يختلى شوكها، ولا يعضد شجرها، ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد، فمن قتل فهو بخير النظَرين إما أن يعقل، وإما أن يقاد أهل القتيل، فجاء رجل من أهل اليمن فقال: اكتب لي يا رسول الله! فقال: اكتبوا لأبي فلان. فقال رجل من قريش: إلا الإذخر يا رسول الله! فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر إلا الإذخر )، قال أبو عبد الله: يقال: يقاد بالقاف فقيل لـأبي عبد الله: أي شيء كتب له؟ قال: كتب له هذه الخطبة ].
في هذا أهمية حفظ العلم وتدوينه سواء كان بحفظ الصدر وضبطه على ما تقدم، فحينما حث النبي عليه الصلاة والسلام وفد عبد قيس فقال: ( احفظوا عني وأبلغوا بها من ورائكم )، هذا حفظ العلم بالصدر، وحفظ الكتابة في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( اكتبوا لأبي شاه )، وكلها من وسائل حفظ العلم وتدوينه، وهي من المسائل المهمة التي ينبغي العناية بها وهي: كتابة العلم وحفظه وتدوينه، خاصة إذا كان عالي السند من كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلية من الصحابة والتابعين وأضراب هذه القرون المفضلة.
كذلك أيضاً فيه عناية النبي عليه الصلاة والسلام بإصلاح ذات البين خاصة في المسائل العظمى التي تكون بين القبائل، وكذلك أيضاً درء الفتنة وحل المشاكل التي تكون بينهم، فالنبي عليه الصلاة والسلام انتدب إليهم، وبين حكم الله عز وجل في مسائل القتل التي تكون بين الناس، وهذا من الأمور الواجبة على من ولي أمراً من أمور الناس، وكذلك أيضاً على الأسياد والوجهاء والحكام والعلماء أن يصلحوا بين الناس خاصة في المسائل العظام؛ حتى لا تقع الفتنة في الناس فتنتشر ويزداد في ذلك القتل، ويقع في ذلك الفتنة، وما يتبعها من شرور عظيمة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال رحمه الله: [ حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا عمرو، قال: أخبرني وهب بن منبه، عن أخيه، قال: سمعت أبا هريرة يقول: ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثاً عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب. تابعه معمر، عن همام، عن أبي هريرة .
حدثنا يحيى بن سليمان، قال: حدثني ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: ( لما اشتد بالنبي صلى الله عليه و سلم وجعه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا من بعده. قال عمر إن النبي صلى الله عليه و سلم غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، قال: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع. فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه و سلم وبين كتابه ) ].
فهذا الحديث هو تكملة لما يتعلق بمسألة كتابة العلم وتدوينه، وذلك أن الضبط على ما تقدم هو على نوعين: ضبط كتاب، وضبط صدر، وضبط الكتاب هو أدق، ولكن ضبط الصدر هو أنفع لصاحبه باعتبار أن العلم معه لا يحتاج إلى تقريب ومعرفة مواضعه، بل هو حاضر معه في ذهنه؛ ولهذا ذكر أبو هريرة عليه رضوان الله تعالى أن عبد الله بن عمرو عليه رضوان الله أكثر منه حديثاً؛ ذلك لأنه كان يكتب ولا يكتب أبو هريرة عليه رضوان الله، وهذا ظن من أبي هريرة عليه رضوان الله، وإلا فأحاديث أبي هريرة أكثر من أحاديث عبد الله بن عمرو، فربما كان عبد الله بن عمرو يكتب ولكن ليس بهذه الكثرة، فظن أبو هريرة عليه رضوان الله أن ما دونه عنه أكثر مما حفظه أبو هريرة، وربما ظن أن حفظه ربما ينسى بعضه من جهة البلاغ، وأما من جهة العد فأحاديث أبي هريرة الموجودة سواء في مسند الإمام أحمد، أو في مجموع السنة هي أكثر من أحاديث عبد الله بن عمرو كالكتب الستة وغيرها.
ثم ذكر بعد ذلك حديث عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ( ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده ) )، يعني: من ذلك البيان، فالله سبحانه وتعالى حينما لم يقدر لنبيه عليه الصلاة والسلام ذلك الكتاب إن شاء الله أنه خير لهذه الأمة، فالله عز وجل لا يقدر لها بإذنه إلا خيراً.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح كتاب العلم من صحيح البخاري [3] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
https://audio.islamweb.net