اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [4] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
تقدم معنا عقيدة أهل السنة والجماعة في مسائل الأسماء والصفات أنهم يثبتونها لله سبحانه وتعالى, وهذا الإثبات لا يتضمن تكييفاً ولا تشبيهاً ولا تمثيلاً, وكذلك فإنهم لا يجعلون الصفات معطلة من جهة المعنى بلا حقيقة, بل يثبتونها ويثبتون لها حقيقة, وكذلك يثبتون أثرها, ولكن لا يكون ذلك بتكييف, ولا بتمثيل, ولا بسؤال عن كيفية, ولهذا اتفق السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام عن النهي عن ذلك؛ أي: عن السؤال عن الكيفية, وقد جاء ذلك عن جماعة؛ كما جاء عن أسماء عليها رضوان الله, وجاء أيضاً عن ربيعة الرأي , وجاء عن الإمام مالك عليه رحمة الله: أن الاستواء معلوم, والكيف مجهول, والسؤال عنده بدعة. وإنما كان السؤال عنه بدعة باعتبار أن السبيل الموصل إلى معرفته معدوم؛ وذلك أن الله عز وجل نفاه, فهو يسأل عن شيء من العلم معدوم قد نفاه الله جل وعلا, ولا تحقق للإنسان بالوصول إليه, ولهذا قال الله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11], فالله سبحانه وتعالى لا يرى في الدنيا وإنما يرى في الآخرة, وإذا كان لا يرى في الدنيا, وقد نفى الشبيه له؛ فحينئذ لا يمكن أن يتحقق للإنسان معرفة الصفة على الكيفية التي هي عليها.
وأما مناهج أهل البدع والضلال في ذلك فإنهم على طوائف:
الطائفة الأولى: المعطلة, وهذه الطائفة هي التي عطلت صفات الله عز وجل؛ وذلك لأنه انقدح في أذهانهم شيء من المعاني الفاسدة من لوازم التشبيه أو التشبيه في ذاته, فنفوا صفات الله عز وجل, وعطلوها عن حقيقتها.
الطائفة الثانية: المثبتة, ولكنهم يشبهون الخالق بالمخلوق, فيجعلون لله عز وجل يداً, ولكنهم يقولون: كأيدينا, ويجعلون لله عز وجل سمعاً؛ ولكنهم يقولون: كسمعنا, ويجعلون لله عز وجل بصراً كبصرنا, وقدماً كقدمنا, وأصبعاً كأصبعنا, وغير ذلك من الصفات.
ولا شك أن الطائفتين هم من أهل الضلال في هذا؛ لمخالفتهم لظاهر كلام الله سبحانه وتعالى, فالله عز وجل في قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11], نفى وأثبت؛ فنفى الشبيه والمثيل, وأثبت الصفة له سبحانه وتعالى, فأثبت له جل وعلا السمع, وهو مشتق من اسمه جل وعلا السميع, وكذلك أيضاً اسمه البصير, اشتق لله عز وجل منه صفة البصر, ولهذا نقول: إن أهل السنة في ذلك يثبتون هذا ولا يكيفون, فيخالفون المعطلين من جهة الإثبات, ويخالفون ويفارقون أيضاً المشبهين من جهة التشبيه, فينفون تشبيه الله عز وجل بغيره من المخلوقين.
وتقدم الإشارة معنا أيضاً: أن الإنسان إذا حل مسألة التشبيه وما ينقدح في ذهنه, وأن إدراك الإنسان إنما يدور حول المحسوسات فإن التشبيه تابع لذلك, فإذا حل ذلك الأمر فإن لوازم تلك الصفات في ذلك منتفية عند الإنسان؛ وحينئذ لا يقوم بنفي الصفة أو جعل الله عز وجل شبيهاً لخلقه تعالى الله عز وجل عن ذلك علواً كبيراً.
ونجد طوائف من المنتسبين لأهل السنة من يجعل لوازم الصفة في ذلك لازماً لها, فيقوم بإثبات اللازم, لكننا نقول: إن الصفة تثبت على ما هي عليه, ويثبت لها الحقيقة, ويثبت لها الأثر, فنقول: إن لله عز وجل عيناً وسمعاً وبصراً ويداً وأصبعاً, وغير ذلك, ونثبت لها حقيقة, لكن هذه الحقيقة لا يعلمها إلا الله, ونثبت لها أثراً, وهذا الأثر لا نحيط به بجميعه وإنما ببعضه, فالله عز وجل بعينه يرى ويرعى ويحفظ ويكفي عباده سبحانه وتعالى, وكذلك فإن صفة الله عز وجل من جهة سمعه يسمع الله جل وعلا الأصوات على اختلافها, فهذا من آثار تلك الصفة, ولكن هذه الصفة لا نحيط بجميع آثارها, فنثبت ما بلغنا منها, ونتوقف عن اللوازم الواردة في ذلك لكل صفة يدل الدليل عليها.
وأما ما جاء عن بعض الأئمة من المبالغة في مثل هذه الصفات, وجعل الصفة إذا ثبتت أنها تلزم لصفة أخرى ونحو ذلك, فنقول: هذا فيه نظر, فمثلاً: ما جاء في كلام بعض أهل العلم فيما يتعلق بالجسم لله سبحانه وتعالى, قالوا: وذلك أننا إذا أثبتنا صفة اليد لله عز وجل, وكذلك القدم والساق والأصبع وغير ذلك؛ فإنه يلزم من ذلك الجسم, فنقول: هذا قدر زائد, وحينئذ نتوقف عن إثباته وننفيه؛ لأن الإثبات والنفي يلزم من ذلك السمع, ولا دليل في هذا.
كذلك أيضاً إثبات صفة الشم كما في قوله عليه الصلاة والسلام: ( لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من رائحة المسك ), هل يلزم من ذلك إثبات صفة الشم؟ قال بهذا بعض أهل العلم, ولكننا نقول: إن هذا ليس بلازم؛ لأن الله عز وجل لم يذكر في كتابه ولا نبيه صلى الله عليه وسلم هذه الصفة, وحينئذ لا نثبتها ولا ننفيها؛ باعتبار عدم ورود الدليل في ذلك, فلا ننفيها باعتبار أنها ليست بصفة نقص, ولا نثبتها لعدم وجود الدليل في ذلك.
وكذلك أيضاً ما يذكره بعض الأئمة من المنتسبين لأهل السنة, وهم ما يسمون بغلاة المثبتة -كالقاضي أبي يعلى وغيره- الذين يلتزمون ببعض اللوازم؛ فمثلاً: إثبات صفة الفم لله سبحانه وتعالى, وذلك أن الله عز وجل تكلم, فيلزم من ذلك إثبات صفة الفم وصفة الضرس وغير ذلك, فنقول: إنه ينبغي للإنسان أن يثبت الصفة إذا جاءت عن الله عز وجل, فالله متكلم سبحانه وتعالى كما شاء, وهل لنا أن نقول: إنه يلزم من إثبات صفة الكلام إثبات صفة الفم؟ نقول: إن هذا قدر زائد عن الإثبات, فلا نثبته لعدم وجود الدليل, ولا ننفيه لأنه ليس بصفة نقص, ولهذا نقول: إنه ينبغي للإنسان عند ورود دليل من كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم في إثبات صفة من الصفات أن يثبتها ولا يأخذ بلوازمها؛ لأن لكل لازم لازماً, ويتسلسل الإنسان في ذلك في مسألة الإثبات, ولهذا نقول: إنه ينبغي للإنسان أن يثبت ما أثبته الله عز وجل لنفسه من غير مقدار زائد في هذا.
وأما بالنسبة لما يتعلق باللوازم ومنهج أهل السنة في ذلك, نقول: إن أهل السنة يأخذون باللوازم عند النظر في كلام من يثبت اللوازم في مسائل الأسماء والصفات, ويلتزمون بذلك, ثم يقومون بالرد عليهم على هذا اللازم, فيثبتون اللازم ثم يثبتون ما يبطل هذا اللازم, ولهذا يرد في كلام كثير من الأئمة الأخذ باللازم في مواضع, ونفي اللوازم في مواضع أخرى, فيثبتونها في موضع إذا كان هناك من يأخذ بهذا اللازم, فيأتون بذاك اللازم ثم يبينون فيما يخالف ذلك الدليل, أو ربما أوردوا لازماً مخالفاً لدليل آخر من كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإلا فالأصل في مسائل الإثبات أنهم يتوقفون, وكذلك النفي فإنهم لا ينفون كل صفة لا تتضمن نقصاً.
قال المؤلف رحمه الله: [ وقد أعاذ الله تعالى أهل السنة من التحريف والتشبيه والتكييف، ومنَّ عليهم بالتعريف والتفهيم، حتى سلكوا سبل التوحيد والتنزيه ].
أهل السنة لا يحرفون الكلم عن مواضعه؛ ولكنهم يعرفون ويُفهِّمون ويقربون الدليل بما يستطيع الإنسان أن يفهمه, وهذا الإفهام ما لم يتضمن تشبيهاً فإنه لا حرج على الإنسان أن يأتي بشيء من المعاني والألفاظ التي يقرب بها الفهم إلى المتلقي, وأما إذا كان التفهيم والتعريف يتضمن تشبيهاً لله سبحانه وتعالى للمخلوقين أو ربما تضمن تعطيلاً فإنهم يتنزهون عن ذلك؛ لأنه يلزم منه حكم فاسد, ولهذا نقول: إن أهل العلم والمعرفة من أهل الحديث والسنة يلتزمون بالصفات الواردة بكلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيعرفونها ويفهمونها ولكن لا يشبهون, بخلاف أهل البدع فإنهم إذا أرادوا أن يفهموا شبهوا, فإذا أرادوا أن يبينوا لجاهل صفة اليد أشاروا إلى أيديهم, وأشاروا إلى أصابعهم, وإذا أرادوا أن يبينوا نزول الله عز وجل أو استوائه أشاروا إلى قعود على عروش أو نزول الإنسان من عتبات ونحو ذلك, وهذا يلزم منه تشبيه الخالق بالمخلوق, تعالى الله عز وجل عن ذلك علواً كبيراً.
قال المؤلف رحمه الله: [ ومنَّ عليهم بالتعريف والتفهيم, حتى سلكوا سبيل التوحيد والتنزيه, وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه, واتبعوا قول الله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] ].
قوله هنا: (سلكوا طريق التوحيد والتنزيه), التوحيد هو: أن نعتقد أن الله سبحانه وتعالى واحد في أسمائه وصفاته, ومعنى واحد في أسمائه وصفاته: أن الله سبحانه وتعالى لا يشاركه في هذه الصفة أحد, وهذا مقتضى نفي التشبيه والتمثيل, وذلك أننا إذا نفينا الشبيه والمثيل لله عز وجل فهذا دليل أن الله عز وجل واحد لا يشاركه في صفته أحد من عباده سبحانه وتعالى.
وقوله: (التنزيه) أي: أن ينزه عن شيء من النقائص ولو لم يرها الإنسان, فما كان لازماً لنقيصة أو كان نقيصة في ذاته فإنه ينفى عن الله سبحانه وتعالى, ولهذا يقول العلماء: إن التوحيد هو إفراد الله عز وجل في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته, ومعنى إفراد الله في أسمائه وصفاته: أن تثبت هذه الصفة وذلك الاسم لله عز وجل وحده لا شرك له أي: لا يشاركه في هذه الصفة أو هذا الاسم أحد من خلقه سبحانه وتعالى, فسمعه يختلف عن سمع المخلوقين, وبصره يختلف عن بصر المخلوقين, وسائر صفاته كذلك.
قال المؤلف رحمه الله: [ وكما ورد القرآن بذكر اليدين بقوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75], وقوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64] ].
وقد جاءت صفة اليد عن الله سبحانه وتعالى بصفة الإفراد, وبصفة التثنية, وبصفة الجمع, ولله عز وجل يدان, فيحمل الإفراد على الجنس, ويحمل الجمع على أن أقل الجمع اثنين, فالله سبحانه وتعالى له يدان, وهي على الحقيقة, ونثبت لها أثراً, ومن هذا الأثر: القبض والبسط والخلق؛ فالله سبحانه وتعالى خلق آدم بيده, وهو أيضاً يبسط الرزق, بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64], فهذا من آثار هذه الصفة, وليس لنا أن نأتي من آثارها ما لم يأت به النص, وكلما توقف الإنسان على ما ورد إلى مسامعه من الوحي كان أكثر هداية وصواباً.
قال المؤلف رحمه الله: [ ووردت الأخبار الصحاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر اليد؛ كخبر محاجة موسى وآدم, وقوله له: ( خلقك الله بيده, وأسجد لك ملائكته ), ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا أجعل صالح ذرية من خلقته بيدي كما قلت له: كن, فكان ), وقوله صلى الله عليه وسلم: ( خلق الله الفردوس بيده )].
وقوله: (خلقك الله بيده), ذكر هنا على سبيل الإفراد, والمراد بذلك هو جنس اليد, وإذا ذكر العدد مثنى فإنه لا يحتمل حصره بالإفراد ولا بأكثر من ذلك, بخلاف الإفراد والجمع فإنه يحمل على المثنى, ولهذا نقول: إن المثنى أوسع, فيسوغ للإنسان أن يطلقه بلفظ الإفراد, ويسوغ للإنسان أن يذكره بلفظ الجمع, فهو يحتوي الإفراد ويحتوي الجمع, والإفراد لا يحتمل التثنية بكل حال, والجمع كذلك لا يحتمل التثنية بكل حال, فربما يكون أكثر من ذلك؛ ولكن إذا جاءت التثنية في موضع -كما في قوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]- فالمراد بذلك هو هذا العدد.
تقدمت الإشارة معنا أن البدع إنما ظهرت في مسائل العقائد -وكذلك أيضاً في أبواب الفقه- عند أهل العجمة لما انتشر الإسلام, ولهذا نجد أن الصحابة لما كانوا في المدينة, ولم يكن ثمة امتداد للفتوحات الإسلامية كان أهل المدينة على مذهب واحد, وعلى قول واحد, ولهذا تجد أن الخلاف لدى المدنيين قليل -حتى في مسائل الفقه- بخلاف غيرهم, وحينما اتسعت رقعة الإسلام ودخل في ذلك العجم تبنى كثير منهم بعض مسائل العقائد -وكذلك في الفروع- المخالفة لظواهر الأدلة, ولهذا تجد أن بدعة القدرية, وما يتعلق أيضاً بمسائل الجهمية والرافضة والخوارج أن أصول هذه العقائد إنما كانت من عجم, فأخذوا الأدلة وخالفوا أمر الله سبحانه وتعالى.
كذلك أيضاً تجد أن الإجماع عند المدنيين أكثر من غيرهم؛ لكون العرب فيهم أكثر, ولهذا حتى الأقوال الشاذة في مخالفة الإجماع تجدها في غير المدينة, فتجدها عند الكوفيين, وعند البصريين, وعند البغداديين, وعند الشاميين, وعند المصريين, وهكذا, أما في أهل المدينة فتجد أن الخلاف في مخالفة الإجماع نادر, وقد يكون معدوماً, وأنه لا يكاد يصح عن فقيه مدني في التابعين وكذلك أتباع التابعين أنه خرق الإجماع, وأما المخالفات لغيرهم من أهل البلدان فهذا يرد وإن كان ليس بكثير.
قال المؤلف رحمه الله: [وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت به الأخبار الصحاح من السمع, والبصر, والعين, والوجه, والعلم, والقوة, والقدرة، والعزة, والعظمة, والإرادة، والمشيئة, والقول, والكلام، والرضا, والسخط, والحب, والبغض, والفرح, والضحك, وغيرها, من غير تشبيه لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين ].
وهذه نثبتها لله سبحانه وتعالى, وننفي عنها النقص, فنقول: إن الله عز جل يغضب ويسخط, والنقص الذي ننفيه هو التألم والأذى, فالتألم والأذى ننفيه, وكذلك يفرح, وننفي لازم النقص في ذلك وهو اللذة, فننفي عنه ذلك, وكذلك أيضاً ما يتعلق بالسخط فننفي في ذلك الألم؛ لأن هذه صفة نقص, لهذا نقول: إن هذا من اللوازم التي ينفيها الإنسان ويثبتها بعض المبتدعة, فبعض أهل البدع يثبتون أمثال هذه المعاني, ولهذا نقول: إن أمثال هذه الصفات نثبتها لله سبحانه وتعالى, ونجعلها على كمالها المطلق له جل وعلا, وننفي من ذلك ما يرد في الأذان من معاني النقص على سبيل الإجمال, وإذا ورد من قال بها فإننا ننفيها على سبيل التفصيل, ولنا أن نثبت من آثارها ما دل عليه الحس أو دل عليه الدليل, فلكل صفة من صفات الله عز وجل أثر في الناس دل عليه الدليل, ومنها ما يعرف بالحس؛ كغضب الله سبحانه وتعالى وبطشه, من تغيير أمور الكون, وكذلك أيضاً ما يطرأ من عقوبة الله عز وجل على الناس, وقدرته جل وعلا من إنزال العقوبة على الظالم, هناك من العقوبات ما ليس لها مثيل في الأزمنة السابقة, فنقول: هذا من آثار تلك الصفة لله سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله: [ من غير تشبيه لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين, بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله تعالى, وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ].
كثير من أهل البدع -كما تقدم الإشارة إليه- ينفون بعض الصفات لله جل وعلا؛ لأنه انقدح في أذهانهم بعض المعاني السيئة, ولهذا يقولون: إن الله عز وجل لا يفرح؛ قالوا: لأن الفرح في ذلك يلزم منه الالتذاذ, وأن الغضب يلزم منه الألم, وهذه اللوازم هم أوجدوها ولم تكن موجودة في الدليل, ثم نفوا ما دل الدليل عليه على لازم في أذهانهم, وهذا اللازم إنما وجد في أذهانهم؛ لأنهم يجدون في أنفسهم أنه إذا فرح أحدهم التذ, وإذا غضب تألم, ونحن نقول: أنت شبهت ثم رجعت إلى الأمر فنقضته, فأنت شبهت الخالق بالمخلوق الذي هو أنت, ثم رجعت إلى ذلك الأمر فنفيته, فنقول: تشبيهك خطأ ولا ترجع إلى الصفة فتنفيها, بل نثبتها وننفي معنى النقص الذي قام في نفسك؛ لأن الله عز وجل يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].
وأما بالنسبة للأذى فنقول: إن المخلوق يؤذي الخالق؛ لكن لا يضره, فالأذى في كلام العرب على نوعين: أذى يضر, وأذى لا يضر, فالأذى الذي يضر هو ما يكون من المخلوقين؛ كفلان يؤذي فلاناً فضره, وأذى لا يضر وهو أذى المخلوق للخالق, ولهذا يقول الله جل وعلا: ( يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر وأنا الدهر ), لكن أذى المخلوق للخالق لا يضره؛ لأن الله عز وجل يقول: ( لن تبلغوا ضري فتضروني ), إذاً: نقول: إن هذا المعنى من الأذى هو مما لا يضر به المخلوق الخالق سبحانه وتعالى, ولهذا نقول: يجرى ما جاء في ذلك من الأدلة على ما ورد به النص, ونقول أيضاً: كل ضرر أذى, وليس كل أذى ضرراً.
قال المؤلف رحمه الله: [ من غير زيادة عليه, ولا إضافة إليه، ولا تكييف له ولا تشبيه، ولا تحريف ولا تبديل ولا تغيير ].
الزيادة في ذلك ما يجده الإنسان من لوازم الصفة, فمثلاً: الله سبحانه وتعالى يرى, وهذه صفة لله سبحانه وتعالى, وله عين وهذه صفة, والله عز وجل يسمع, فهل للإنسان أن يثبت صفة الأذن لله عز وجل؟ نقول: لا؛ لأنه قدر زائد, لكن هل يقول الإنسان: كيف يسمع بلا أذن, لابد أن نثبته؟ نقول: إنك شبهت الخالق بنفسك ثم قمت بإثباتها على ذلك اللازم, والله عز وجل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير, وإنما أثبتنا الرؤية وأثبتنا العين؛ لأن العين ثبتت بدليل مستقل كما أن الرؤية ثبتت بدليل مستقل, وكذلك أيضاً السمع نثبته لله سبحانه وتعالى بدليل مستقل, ولا نثبت ما زاد عن ذلك من الأذن؛ باعتبار أنه لم يرد دليل مستقل في هذا.
قال المؤلف رحمه الله: [ ولا إزالة للفظ الخبر عما تعرفه العرب وتضعه عليه بتأويل منكر يستنكر, ويجرونه على الظاهر، ويكلون علمه إلى الله تعالى ].
نقول: إن ثمة صفات خبرية, ويتجوز في الخبر ما لا يتجوز في غيره, ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العظيم: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [الأنفال:30]، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ [البقرة:15], وهذا الاستهزاء والمكر والكيد من الله سبحانه وتعالى على سبيل الإخبار, لكن لا يجعله الإنسان صفة لله سبحانه وتعالى على سبيل الاستقلال, وإنما يحمل على سياقه, أي: إن كاد أحد كاد الله به, وإن مكر أحد مكر الله به؛ لأن هذه الصفات جاءت على هذا السياق, فنقول: إنها صفات خبرية, والصفات الخبرية لا يثبتها الإنسان على سبيل اللزوم فيجعلها كالصفات الذاتية لله سبحانه وتعالى, فهي جاءت في سياق المقابلة, وهذا أيضاً كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح قال: ( مه, عليكم من العمل ما تطيقون, فإن الله لا يمل حتى تملوا ), فجاء ذلك في سياق الأمر بمثله فنثبته بمثل هذه الحال, ولا نجعله صفة لازمة لله سبحانه وتعالى, وإنما نجعله خبراً جاء عنه سبحانه وتعالى بمثل هذا السياق من غير زيادة ولا نقصان, فإذا زدنا عليه فجعلناه صفة لله عز وجل لازمة أخرجناه عن سياقه؛ لأن الله عز وجل أثبت المكر في حال وجود المكر, وأثبت الاستهزاء في حال وجود الاستهزاء, وأثبت الكيد في حال وجود الكيد, وليس لأحد أن يسمي الله الكائد أو الماكر أو المستهزئ أو غير ذلك؛ لأن مثل هذه الأسماء لله سبحانه وتعالى تكون أسماء لازمة وصفات له سبحانه وتعالى, بخلاف مثل هذه الأمور التي تكون أخباراً إنما جاءت عنه سبحانه وتعالى على سبيل المقابلة بالمثل, وما جاء من الأخبار التي ترد في كلام الناس ويندرج في مثل هذا الأمر فنقول: هذا من المعاني السائغة إذا كان ذلك اللفظ لا يتضمن معنى قبيحاً؛ كأن يقول الإنسان مثلاً: إن كسرتني كسرك الله, أو يقول الإنسان: اعتديت علي اعتدى الله عليك أو غير ذلك, ومثل هذه المعاني التي تجري في كلام الناس, ولا تثبت على سبيل الاستقلال له سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله: [ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله، كما أخبر الله عن الراسخين في العلم أنهم يقولونه في قوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران:7] ].
وهذا ظاهر في قول الله سبحاته وتعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7], يعني: صدقنا بما جاء في كلام الله سبحانه وتعالى من غير زيادة ولا نقصان.
وبعض العلماء يجعلون صفات الله عز وجل من المتشابه, لكن هل هي من المتشابه أم من المحكم؟ نقول: هي محكمة من جهة, ومتشابهة من جهة, فهي متشابهة من جهة كيفيتها أي: من جهة الكيفية, فنكل أمرها إلى الله سبحانه وتعالى, وهي محكمة من جهة حقيقتها, فنقول: إن الله عز جل سميع بسمع, وبصير ببصر على الحقيقة, وأن لله عز وجل يداً على الحقيقة, وأما الكيفية فهي إلى الله سبحانه وتعالى.
وهذا من مواضع الخلاف عند المفسرين من أهل السنة في هل كلام الله سبحانه وتعالى فيه متشابه مطلق أو لا متشابه مطلق فيه؟ فمن قال: إنه لا متشابه فيه فإنهم يجعلون صفات الله سبحانه وتعالى محكمات, ويجعلون حتى تفويض ذلك الأمر هو إحكام من الله سبحانه وتعالى, والذي يظهر والله أعلم أن مجموع القرآن محكم, ولكن يوجد متشابه نادر, وهذا المتشابه منه مطلق ومنه مقيد, فالمطلق أي: ما هو مطلق على سبيل الخلق لا يعلمه إلا الله جل وعلا؛ وذلك كبعض المعاني التي ترد في كلام الله عز وجل لا يعلمها إلا الله؛ كعدد أصحاب أهل الكهف, فهذا موكول إلى الله سبحانه وتعالى, وهو من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى, وكذلك أعمار كثير من الأنبياء الذين قصهم الله عز وجل والذين لم يقصصهم الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام, وكذلك أيضاً الحروف المقطعة في كلام الله عز وجل منهم من يجعلها في المتشابه المطلق الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى, ومنهم من يخرج هذا من المتشابه المطلق, فيقول: إنه قد جاء في كلام بعض السلف تفسير في هذا, يعني: أنها عنده ليست متشابهة, ولو كانت متشابهة لما أولها؛ لأنه لا يتكلم في تأويل القرآن بغير علم.
وأما المقيد فهو متشابه على قوم دون قوم, وهذا ظاهر في حديث النعمان بن بشير -كما هو في الصحيحين وغيرهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الحلال بين والحرام بين, وبينهما أمور مشبهات لا يعلمهن كثير من الناس ), فلم يقل: كل الناس, بل قال: ( لا يعلمهن كثير من الناس ), فالتشابه هنا نسبي, وليس مطلقاً, ولهذا قالوا: إن كلام الله سبحانه وتعالى ما أنزله الله عز وجل إلا وهو محكم, وأما التشابه فإنه يقع في بعض أذهان الناس, وفي قلوب بعض الناس, فيجهل هذه المسألة فتكون متشابهة بالنسبة له, ولكنها معلومة عند غيره, وهي نسبية, فمن العلم من كلام الله ما يعلمه القليل النادر, ومنهم ما يعلمه الكثير, ومنهم ما يعلمه الأكثر, والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ ويشهد أهل الحديث ويعتقدون أن القرآن كلام الله وكتابه ووحيه ].
قوله: (ويشهد أهل الحديث) معنى (يشهد) أي: أنهم يبينون بألسنتهم ما يعتقدونه في قلوبهم من جهة كلام الله سبحانه وتعالى, والقرآن هو كلام الله جل وعلا, وهو المتلو بالألسن, والمكتوب في الصحف, والمقروء فيها, وكلام الله سبحانه وتعالى نثبته على الحقيقة, وقد سماه الله عز وجل بجملة من الأسماء؛ لعظمته وجلالة قدره, فسماه الله عز وجل القرآن, والكتاب, والفرقان, وغير ذلك من أسمائه التي تدل على عظمته وجلالة قدره.
وكذلك أيضاً فإن القرآن اختلف العلماء فيه هل هو مشتق أم لا؟ فمن العلماء من قال: إنه مشتق من قرأ يقرأ قراءة, فسمي القرآن كذلك, وهذا قول الأكثر, سواء كانوا من أهل اللغة أو من أهل السنة, فيقولون: إن الله عز وجل أول ما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1], والمراد من ذلك هي قراءة القرآن, ومن العلماء من قال: إنه جامد, وليس بمشتق من قرأ يقرأ قراءة, وهذا قال به إسماعيل بن قسطنطين وهو شيخ الإمام الشافعي رحمه الله, وقال به الإمام الشافعي رحمه الله, ودافعهم في ذلك قالوا: إنه يلزم من هذا أن نجعل كل كتاب قرآناً, فنجعل السنة قرآناً, ونجعل الكتب العربية قرآناً, وكتب الشعر قرآناً باعتبار أنها تقرأ, لكننا نقول: إن هذا اللفظ قد غلب على هذا الاستعمال؛ كقولنا مثلاً: (الكافرون) على من خرج عن دين الإسلام, مع أنها تدخل في أبواب اللغة في معاني أخرى, ومثل ذلك: لفظ (المؤمنون) فهو يدخل فيه كل من صدق بشيء وآمن بوجوده, كمن آمن بوجود مادة أو دينار أو درهم أو آمن بوجود شخص أو أرض أو غير ذلك, فهذا مؤمن, لكن غلب اصطلاحاً على من آمن بالله وبرسله وملائكته وكتبه وبيوم البعث وبالقدر خيره وشره, فهذا هو المؤمن, فهو إذاً قد غلب هذا الاستعمال, وأما من جهة أصل اللغة فهو يدخل فيما هو أوسع من ذلك, وكذلك أيضاً لفظ (القرآن) فنقول: إنه مشتق من هذا المعنى.
وكذلك من علل القائلين بأن القرآن غير مشتق أنهم يقولون: لا يهمز في لغة مكة, ونقول: إن هذا الهمز يرد أيضاً في غيرها من الألفاظ؛ كلفظ أيضاً (المؤمنون), فأهل مكة يقولون: المومنون والمؤمنون, وكذلك القران والقرآن, وكلها نطق صحيح, فهل ننفي ونقول: إن لفظ (المؤمنون) ليست بمشتقة باعتبار أنها تجري على هذا الوجه؟ نقول: بل هي مشتقة من آمن يؤمن, أي: صدق بما علم.
قال المؤلف رحمه الله: [ ويعتقدون أن القرآن كلام الله وكتابه ووحيه وتنزيله غير مخلوق ].
أي: أن القرآن كلام الله, والله عز وجل تكلم سبحانه وتعالى على الحقيقة, وقوله: (وهو كتابه) أي: وهو المكتوب في اللوح عنده سبحانه وتعالى, وهو المتلو بالألسن, وهو المحفوظ في الصدور, ولهذا الله عز وجل يقول عن تلاوته: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ [الأعراف:204], فسمى المقروء قرآناً وهو كلامه جل وعلا, وكذلك أيضاً المحفوظ في الصدور هو قرآن, لهذا يقول الله عز وجل في كتابه العظيم: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49], يعني: هو قرآن وإن كان محفوظاً, وقرآن ولو كان مكتوباً, وقرآن ولو كان متكلماً بها, فنقول: هذا كلام الله سبحانه وتعالى, وأن تكلم القارئ به لا يجعله ليس بكلام الله عز وجل, وكتابته لا تجعله ليس بكلام الله عز وجل, وحفظه في الصدور لا يجعله ليس بكلامه سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله: [ ومن قال بخلقه واعتقده فهو كافر عندهم ].
وذلك لأن القرآن صفة من صفات الله سبحانه وتعالى, ومن قال بخلق الصفة فإنه يقول بخلق الموصوف, تعالى الله عز وجل عن ذلك, وإذا كان الإنسان إذا قلت: إن يده مخلوقة فيلزم من ذلك أنه مخلوق, وإذا قلت: إن يده ليست مخلوقة, وعينه ليست مخلوقة, وبصره ليس بمخلوق يلزم أنه خالق, تعالى الله عز وجل أن يشاركه أحد من خلقه أو من الناس في ذلك, ولهذا نقول: إن كلام الله سبحانه وتعالى تكلم الله عز وجل به على الحقيقة, وهو كلامه وليس بمخلوق.
وهنا لدينا مسألة: وهي أن نفي الخلق عن صفة الله سبحانه وتعالى في قول أهل السنة والأئمة من السلف: إن كلام الله عز وجل على الحقيقة وليس بمخلوق هذا النفي هو نفي نقيصة؛ فالإنسان المخلوق صفة خلقه هذا نقصان له وكمال لخالقه, إنما نفاه أهل السنة في هذا لما ورد كلام المبتدعة في هذا, والذي دفع المبتدعة في هذا اللوازم؛ فهم قالوا: إنه كلام الله, وكلام الله انتقل منه إلى الصحف, ثم دون بالأحبار على الأوراق, وكذلك أيضاً حملناه في الصدور فهل يلزم من ذلك أن في أجوافنا صفة الله سبحانه وتعالى؟ تكلمنا ونطقنا بهذا الكلام بألسنتنا وشفاهنا وما تخلل ذلك من لعابنا هل هذا كلام الله سبحانه وتعالى؟ فجرى من اللوازم الذي نفوا أن يكون ذلك صفة له سبحانه وتعالى, بل قالوا: هو مخلوق, وأن الله عز وجل خلق القرآن كما خلق الجبال والأنهار والسحاب وغير ذلك, وجعلها آيات, فدفعهم في هذا ما يروه من تحوله, فحينما يرون الجبال تتغير وتنقلب قالوا حينئذ: هذه مخلوقة, ويلزم من ذلك أيضاً أن القرآن حينما يتغير من حال إلى حال يلزم من ذلك أن يكون مخلوقاً, وإنما نفى أهل السنة والسلف الصالح في ذلك أن القرآن ليس بمخلوق لما أظهروا الخلق, وإلا فهذه المسألة مسكوت عنها؛ وهي مسكوت عنها حتى في زمن الصحابة؛ فهم يثبتون مثلاً صفة اليد ويكتفون, ولا يقولون: ليست مخلوقة؛ لأنه يلزم من الصفة أن تكون من الموصوف ولا يخاض فيما عدا ذلك, ولكن لما بعد الناس عن لغة العرب وطرأت مثل هذه الأقوال من كلام المبتدعة جاء العلماء بنفي تلك الألفاظ, فإذا وجد أحد من الناس يثبت صفة لله عز وجل أو ينفي عنه صفة من صفاته نأتي وننقضها ولو لم نكن قبل ذلك قد أوردناها؛ لماذا؟ لأننا لا ننفي على سبيل التفصيل وإنما على سبيل الإجمال؛ لأن النفي على سبيل التفصيل نقصان, ولهذا إذا أردت أن تمدح شخصاً فإنك تنفي النقائص عنه على سبيل الإجمال, فمثلاً: إذا ذهب رجل إلى رجل, وأراد أن يسأل عنه؛ لأنه قد خطب منه ابنته, وذهب يسأل عنه جيرانه, فإذا أردت أن تمدحه تقول: هذا الرجل لا يضرب أمه, لم أره مرة ضرب أمه, وما رأيته قتل أحداً, وما رأيته سرق أبداً, ولا يزني, فهذا مدح أو ذم؟ هذا ذم, فتنفي عنه النقائص على سبيل الإجمال, وتثبت على سبيل التفصيل المحامد, فتقول: هو كريم, طيب, سخي, وغير ذلك من الصفات التي يثبتها الإنسان, ولهذا نقول: إن السلف الصالح إنما نفوا خلق القرآن ولم تكن واردة في كلامهم في ذلك إلا بعد ما جاء هذا القول, وأول من تكلم في هذه المسألة فيما أعلم هو ما جاء عن عبد الله بن عباس و عبد الله بن مسعود عليهما رضوان الله في هذه المسألة, وفي الأسانيد في النفس منها شيء, فقد جاء عند قول الله عز وجل: قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر:28], قال: غير مخلوق, جاء ذلك عن عبد الله بن عباس كما رواه ابن جرير الطبري و ابن أبي حاتم في كتابه التفسير من حديث علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس قال: غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر:28], قال: غير مخلوق, وذلك أن هذه المسألة لم تكن قد ظهرت في زمن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى, وإنما ظهرت بعد ذلك.
إذاً: الله سبحانه وتعالى متكلم, وهذا القرآن هو كلام الله, وهو قول الله, ونصفه كذلك بأنه نبأ, وقول, وكلام, قال تعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى [آل عمران:55], وقال: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143], فنقول: هو كلام الله جل وعلا, وقوله سبحانه وتعالى, وإنما ينفي أهل السنة أنه ليس بمخلوق لظهور هذه المسألة في كلام بعض المبتدعة في هذا الباب, فنفوا هذه المسألة وقالوا: من قال: كلام الله عز وجل مخلوق فهو كافر؛ لمخالفته ما استقر وتواتر واستفاض, ولأنه يلزم من ذلك خلق الموصوف, تعالى الله عز وجل عن ذلك علواً كبيراً, وقد نشأ بعد ذلك جملة من المسائل في هذا الباب يأتي الكلام عليها.
قال المؤلف رحمه الله: [ والقرآن الذي هو كلام الله ووحيه هو الذي نزل به جبريل على الرسول صلى الله عليه وسلم قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا [فصلت:3-4] ].
أراد المؤلف أن يبين هنا أن القرآن الذي نتكلم عليه, وأنه كلام الله وليس بمخلوق؛ هو الذي نزل به جبريل على رسوله صلى الله عليه وسلم, وإنما خص جبريل هنا؛ لأن جبريل هو الموكول بالوحي, وما عدا ذلك فإنه ليس بكلام الله سبحانه وتعالى, وإنما هو حكم الله عز وجل وقضاؤه, ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى له الأمر, وأمره في ذلك ما يتعلق بالأوامر, وكذلك أيضاً ما يتعلق بالمنهيات, ولله سبحانه وتعالى تسخير وتدبير, فتدبيره وتسخيره في السموات والكواكب والأفلاك وتسييرها ونحو ذلك, وهذه مخلوقات لله سبحانه وتعالى, وأما كلامه جل وعلا وأمره ونهيه فهو منه سبحانه وتعالى منه بدأ وإليه يعود.
قال المؤلف رحمه الله: [ كما قال عز وجل: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:192-195]].
وهذا ظاهر أيضاً في قول الله عز وجل: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ [البقرة:97], يعني: نزل الكتاب أي: القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم هدى ونوراً.
قال المؤلف رحمه الله: [ وهو الذي بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته، كما أمر به في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67], فكان الذي بلغهم بأمر الله تعالى كلامه عز وجل ].
وهنا جعل المنزل من الله سبحانه وتعالى وهو كلامه لم يتغير ولم يستحل, وإنما أمره بأن يبلغه كما جاء: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67], ما أنزل إليك من غير زيادة أو نقصان؛ لأنه لا يتحكم بكلام الله عز وجل, فالله عز وجل حفظ كلامه.
وهنا في قول الله عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9], حفظ الله عز وجل ذكره -وهو كلامه سبحانه وتعالى- من التغيير والتبديل, وأما ما طرأ في كلام الله عز وجل في التوراة والإنجيل وغيرها من التحريف فليس هذا تغييراً لكلام, وهذا أيضاً مما ينقدح في كلام بعض المبتدعة, فهم يقولون: إن كلام الله عز وجل يغير؛ كما تغيرت التوراة والإنجيل, فنقول: إن هذا لا يلزم منه تغيير الصفة؛ فهم غيروا وغيبوا الحروف المكتوبة بالأحبار ودونوا حروفاً أخرى, وأما كلام الله سبحانه وتعالى فهو لا يحول ولا يزول, وهو محفوظ عنده سبحانه وتعالى, ولا يغيره شيء.
وهم حملوا هذا التغيير الذي طرأ على الكتب السماوية السابقة -وهي كلام الله سبحانه وتعالى- جعلوها كتصرفات الإنسان في الكون وفي المخلوقات حينما يغير الإنسان الحجر ويكسره أو الرمل ينقله ويتحول ونحو ذلك؛ نقول: هذه مخلوقات, وذاك كلام الخالق سبحانه وتعالى, فالإنسان إنما غير المخلوق, وهي الأحبار والحروف, وأما من جهة الحقيقة فكلام الله عز وجل محفوظ عنده.
قال المؤلف رحمه الله: [ وفيه قال صلى الله عليه وسلم: ( أتمنعوني أن أبلغ كلام ربي؟ ), قال: وهو الذي تحفظه الصدور، وتتلوه الألسنة ].
الذي تحفظه الصدور, كما قال تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49], فوصفه بأنه آيات وأنه بينات, لم يتحول عن وصفه بمجرد دخوله في صدر الإنسان, كذلك أيضاً المتلو بالألسن, وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ [الأعراف:204], فجعل المقروء ذلك هو قرآن وهو كلام الله سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله: [ وتتلوه الألسنة, ويكتب في المصاحف, كيف ما تصرف بقراءة قارئ, ولفظ لافظ، وحفظ حافظ، وحيث تلي, وفي أي موضع قرئ, وكتب في مصاحف أهل الإسلام، وألواح صبيانهم وغيرها ].
وهذا لا ينقله عن كونه كلام الله سبحانه وتعالى, وهذا من اللوازم التي جعلت بعض أهل البدع يقولون بأن كلام الله عز وجل مخلوق, يقولون: يدون في الحروف, فإذا دون تعدد أي: كتب في لوح, ثم في لوح آخر, ثم في لوح آخر ونحو ذلك, نقول: إن هذا كلام الله سبحانه وتعالى, وأما ما يتعلق بالأحبار فالأحبار مخلوقة والورق مخلوق, وكذلك أيضاً بالنسبة للإنسان إذا تكلم بكلام الله عز وجل نقول: إن هذا كلامه سبحانه وتعالى, وأما بالنسبة للصوت فهذا صوت القارئ, ولهذا يقول العلماء في كلام القارئ يقولون: الكلام كلام البارئ, والصوت صوت القارئ, فهذا كلامه سبحانه وتعالى, وأما بالنسبة لهذا الصوت الذي يكون رقيقاً ويكون خشناً, ويكون منخفضاً, ويكون عالياً؛ فهذا صوت المخلوق, وأما الكلام فهو كلام الله سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله: [ كله كلام الله جل جلاله غير مخلوق, فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر بالله العظيم ].
وهنا من المسائل التي يوردها العلماء: أن من قال: إن حرفاً من كلام الله مخلوق فهو كافر, ولا يوجد من أهل البدع من يقول: هذا الحرف مخلوق وهذا الحرف ليس بمخلوق, ولكن يريدون أن يشددوا في هذه المسألة, وأن يبينوا أن كلام الله سبحانه وتعالى محفوظ بحروفه من أوله إلى آخره, فمن قال: إن حرفاً من القرآن مخلوق فيلزمه أن يقول بالحرف الآخر, وهذا كفر بالله سبحانه وتعالى, ويريدون أن يشددوا أيضاً بنفي هذا القول برمته عن كلامه سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله: [ سمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول: سمعت أبا الوليد حسان بن محمد يقول: سمعت الإمام أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق, فمن قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم ].
بعض السلف رحمهم الله يشدد في كلمة غير مخلوق, فهم يقولون: لا تقل: مخلوق, ولا تقل: غير مخلوق؛ بل اسكت عما سكت عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, مع جزمهم أن هذا صفة من صفات الله سبحانه وتعالى؛ لكن هذا كان في ابتداء الأمر, وفي زمن لم يشع ذلك القول ويشتهر, أي: لا تقل: كلام الله عز وجل غير مخلوق, لكن الآن وجب أن تقول: كلام الله غير مخلوق؛ لأن هو نفي لنقيصة ظاهرة شائعة؛ كقول الله عز وجل: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64], وقوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [المائدة:64], فمثل هذا الأمر ونفيه نقول: يد الله عز وجل ليست مغلولة؛ هذا نفي لقول عندهم قد اشتهر واستفاض فننفيه, ولكن في بداية الأمر كان العلماء ينفون ذلك الأمر, وينفون أن تقول: غير مخلوق, ويكفرون من يقول: مخلوق؛ لأن هذا أمر مسكوت عنه؛ كحال الإنسان حينما يريد مثلاً أن يقول: يد الله غير مخلوقة, نقول: ما الداعي لك بهذا الكلام؟ هل يوجد أحد قال: يد الله مخلوقة؟ إذا قال: لا, نقول: أنت مبتدع؛ لماذا؟ لأن هذا خوض في تفاصيل لا ينبغي ولا يجوز لإنسان أن يخوض فيها, مع الإيمان بأن هذا الأمر حق من جهة اللفظ, وما كل معنى ولفظ صحيح يسوغ للإنسان أن يقوله, كما تقدم الكلام عليه من جهة نفي النقائص على سبيل الإجمال, وإثبات المحامد على سبيل التفصيل, ولهذا يقول العلماء: إن كلام الله على الحقيقة تكلم به الله جل وعلا وهو غير مخلوق لما شاع القول بخلقه, وهذا تشعب ونما في كثير من قضايا ومسائل الأسماء والصفات, ولهذا نقول: إن الإنسان إذا أراد أن يفهم القضية والمسألة في مسائل الصفات عليه أن يعرف تسلسل هذه المسألة من أين جاءت, وكيف نشأت, من جهة التقعيد الفكري, وكذلك أيضاً العقلي لدى كثير من الطوائف, منها ما يتعلق بالعجمة, ومنها ما يتعلق بالتأويل والفتنة.
قال المؤلف رحمه الله: [ قال ابن خزيمة : القرآن كلام الله غير مخلوق, فمن قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم, لا تقبل شهادته, ولا يعاد إن مرض ].
وهذا محل إجماع عند أهل السنة؛ أن من قال: كلام الله مخلوق أنه كافر بالله سبحانه وتعالى؛ لأن كلام الله يجمع على أنه صفة من صفاته, ويلزم من هذا القول قول فاسد؛ وهو أن الصفة مخلوقة والموصوف مخلوق تعالى الله عن ذلك.
قال المؤلف رحمه الله: [ ولا يصلى عليه إن مات, ولا يدفن في مقابر المسلمين, ويستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ].
طبعاً لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين باعتبار أنه داخل في دائرة الزندقة, فلم يجتمع معهم في الحياة فلا يجتمع أيضاً في مواضعهم في الممات, وللمسلمين مقابر وللكفار مقابر, وفي حياته يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه؛ لكونه سلك طريق الزندقة, وأما مسألة الاستتابة فيقولون: إن كان عنده شبهة فيستتاب, والعلماء يختلفون في مسألة توبة الزنديق, وكذلك أيضاً استتابته, فمنهم من يقول: إنه يستتاب, ومنهم من يقول: إنه لا يستتاب في ذلك.
والاستتابة ثابتة وهي محل إجماع, يعني: في مسألة أصل الاستتابة, ولكن يختلفون في تنزيلها, ويختلفون في عددها, فمثلاً: هل كل كافر يستتاب؟ منهم من قال: لا تنزل على كل أحد, ومثلاً: من سب الله عز وجل أو سب نبيه منهم من قال: لا يستتاب, وهذا قول الجمهور, ومنهم من قال: إنه يستتاب, ومنهم من قال: يستتاب مرة واحدة, ومنهم من قال: يستتاب ثلاثاً, وقد جاء عن عمر بن الخطاب و علي بن أبي طالب في الاستتابة ثلاثاً, ولا يثبت في ذلك شيء من كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومنهم من يستأنس بقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا [النساء:137], قالوا: وهذا ثلاثاً, فهو كان مؤمناً ثم كفر, ثم آمن ثم كفر فازداد كفراً, فقالوا: وهذا دليل على رجوعه واستتابته أكثر من مرة.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [4] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
https://audio.islamweb.net