اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري [3] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري [3] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل.
قال الإمام البخاري رحمنا الله وإياه: [ باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبداً لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله كما يكره أن يلقى في النار ) ].
قول المصنف رحمه الله: (باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان)، هذا الحديث تقدم معنا في باب حلاوة الإيمان، وذكرنا مسألة كره الإنسان أن يعود إلى الكفر، وأشرنا إلى شيء من معنى الكره والمحبة، وأن الكره والمحبة على معنيين: كره فطري، أي: موجود في الإنسان، وكره مكتسب يمكن أن يكتسبه الإنسان، وذلك كالكره الذي يتدين به الإنسان ويتعبد به، وربما يلتزم الإنسان ذلك الكره مع طول مراسه، حتى يستروح ذلك الكره ويصبح كالكره الفطري، وإنما ذكر العودة في الكفر إشارة إلى أن الإنسان كان على الكفر، وهذا إنما خاطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة أصحابه؛ لأنهم كانوا على جاهلية وكفر، ثم أنقذهم الله عز وجل منها.
وفي هذا فائدة ومسألة وهي: أن الإنسان إذا كان عارفاً بالجاهلية، ثم جاء إلى الحق، فإن رجوعه إلى الجاهلية أخطر وأعظم ممن لم يعرف الجاهلية، وقد جاء عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى أنه قال: إنما يضل في الإسلام من عرف الإسلام ولم يعرف الجاهلية، وجاء بمعنى هذا أيضاً عنه، لكن بغير هذا اللفظ.
والمراد بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم شدد الوعيد على من كان على باطل، ثم بعد أن عرف الباطل انتقل إلى الحق، ثم أراد أن يرجع إلى الباطل الذي كان عليه، فإن عقابه في ذلك أعظم، وهذه في الغالب أنها لا تكون إلا لمن في قلبه جذوة من النفاق؛ ولهذا ذكر الله سبحانه وتعالى حال أولئك فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا[النساء:137]، أي: أن تقلب الإنسان بين الحق والباطل والكفر والإيمان لا يكون إلا من منافق، وهذا متوعد بالعقوبة الشديدة التي تختلف عن غيره، وهذا يرجعنا إلى أصله، وهو أنه كلما قامت الحجة على الإنسان واتضحت كان العقاب عليه أشر، وإذا ضعفت الحجة كان العقاب عليه أقل، وهذا ربما يكون مقتضى قول الله جل وعلا: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا[الإسراء:15]، والمراد بذلك أن العذاب يلحق الإنسان بقدر وضوح الحجة وبيانها وخلوصها لديه، ويعظم هذا الأمر في الإنسان إذا عرف الشيء بضده.
وتقدمت الإشارة معنا إلى أن حقائق الأشياء تعرف بجهتين: الجهة الأولى: بمعرفتها بذاتها، الجهة الثانية: بمعرفة ضدها، وأكمل هذه الوجوه أن يعرف الإنسان الجهتين، وأما إذا عرف جهة وقصر في الجهة المقابلة، فقد أصبح علمه قاصراً بحسب جهله بأجزاء ما يقابل ذلك العلم، وهذا في سائر العلوم سواء ما كان من العلوم الشرعية وغير الشرعية، أو ما كان من العلوم المحسوسة وأيضاً من غير المحسوسة.
وفي قوله: (من الإيمان)، أي: أن الإنسان يثاب على هذا الكره القلبي ولو لم يتلبس بشيء؛ لأن هذا ينعقد عليه عمل القلب، وعمل القلب يثاب عليه الإنسان مجرداً ولو لم يتلبس بشيء من القول والعمل؛ وذلك أن الإيمان قول وعمل في القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح، وإذا وجد العمل في أحد هذه الأشياء يؤجر الإنسان على ذلك، وعمل القلب لا يلزم منه عمل الجوارح، وعمل الجوارح يلزم منه عمل القلب، والإنسان إذا توطنت جوارحه على عمل الحق بعد طول مراس، فيثاب على عمل الظاهر ولو لم يصاحبه باطن، شريطة ألا يوجد باطن ينافي ذلك الظاهر، وهذا مثاله: أن الإنسان ربما يلهم التسبيح ويكثر من التسبيح والتهليل والاستغفار في قيامه وقعوده، وربما يراه الناس يسبح وهو لا يشعر، وذلك لكثرة تسبيحه، فيثاب على عمله ولو لم تصاحبه نية؛ لأن هذه المرحلة ما وصلت إلا بعد طول مراس وقوة إخلاص، ومداومة على هذا؛ ولهذا أظهر الله جل وعلا منته على أهل الجنة بأنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، وإظهار المنة في ذلك إشارة إلى التعبد ومدح تلك الحال، وإنما نشترط: عدم وجود المنافي؛ لأن عمل القلب أقوى من عمل الجوارح، فهو يلغيها.
وأما عمل الجوارح فلا يلغي عمل القلب، بل إن السيئة ربما تقع من الإنسان وتنقلب حسنة لعمل القلب؛ وذلك أن الإنسان ربما يتعبد لله جل وعلا بعمل لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو في دائرة البدعة، لكنه إذا لم يقصر في تمحيص تلك البدعة، التي هي في ذاتها مخالفة ومعصية، ولكن صاحبها عمل خالص في قلبه، وإخلاص لله جل وعلا انقلب ذلك أجراً، وهذا ظاهر في قول الله سبحانه وتعالى: لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ[آل عمران:195]، وهذا فيه إشارة إلى أن الله عز وجل لا يضيع عمل العاملين.
ويدل على ذلك أيضاً ما جاء في الصحيح في حديث حكيم بن حزام لما دخل في الإسلام، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا رسول الله، إني كنت أتحنث وأتعبد في الجاهلية فهل لي في ذلك من أجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما أسلفت من خير )، أي: أن الله عز وجل يتقبل من الإنسان عمله السابق ولو عمله في حال شركه إذا دخل في الإسلام، وأخلص النية بعد ذلك، فعمل حكيم بن حزام أصبح معلقاً حتى يصح عمل الباطل، فلما صح عمل الباطل تبع عمل الظاهر عمل الباطن، وأما بالنسبة لعمل الباطن فإنه لا يتعلق حتى يصح عمل الظاهر؛ وذلك أن الظاهر يتبع الباطن، والباطن لا يتبع الظاهر على الدوام، وإن كان بينهما تلازم.
قوله: ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ) تقدمت الإشارة إلى هذا، والكره الذي يجده الإنسان في قلبه للعمل، وكذلك المحبة في الغالب هي التي يدور عليها تعظيم العمل، وهو على جهتين تقدمت الإشارة إليهما، والإنسان يصح منه العمل ولو كرهه في قلبه، وكذلك أيضاً يقبل منه الترك فيما أمر الله عز وجل بتركه ولو أحب العمل؛ ولهذا جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( إني أريد أن أسلم، فقال: أسلم، قال: وأنا كاره؟ قال: أسلم، وإن كنت كارهاً )، يعني: أن الإنسان ربما يرغب في قبول الحق كاليهودي، أو الوثني، أو النصراني، أو البوذي، أو الملحد، ويريد أن يدخل في الإسلام فيقول: ولكني منقبض من هذه الشريعة، فقل: ادخل ولو كنت منقبضاً، فإنك على الحق. وهذا الانقباض هو شيء من بقايا الفطرة المنقلبة، وهذه الفطرة المنقلبة تجعل الإنسان لا يتقبل الحق حتى يتوطن عليه.
وهذا كحال الإنسان الذي يكون مثلاً في جو انحراف أو انحلال ونحو ذلك، فينكمش من بيئة الفضيلة حتى يدخل فيها ثم يلين قلبه، وكذلك جسده بعد ذلك، وهذا يشبه الإنسان الذي يعيش في برودة فإذا دخل في جو اعتدال يجد في ذلك حرارة، فيقال: ادخل معنا، فيقول: إني أجد حرارة وعرق، يقال: ادخل معنى ثم بعد ذلك تلين وتتوطن نفسك، كذلك الإنسان الذي يكون عند نار حامية، فإذا قيل له: ادخل إلى مثل هذا الجو، فإنه سيقول: إني أجد برودة، نقول: ادخل ولو وجدت البرودة ستتوطن بعد ذلك، كذلك أيضاً نقول: إن هذا الكره قد يجده الإنسان في بدنه أو في قلبه من قبول الحق، وكذلك أيضاً في أبواب الباطل، وهنا ذكر ما تقدم الإشارة إليه في هذا الحديث، وإنما كرر البخاري رحمه الله هذا الحديث لأنه ترجمه في البداية على حلاوة الإيمان، وهنا ذكر أنه من الإيمان.
قال رحمه الله: [ باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال.
حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يدخل الله أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد أسودوا، فيلقون في نهر الحياء أو الحياة - شك مالك - فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل، ألم ترَ أنها تخرج صفراء ملتوية ) قال: وهيب: حدثنا عمرو: الحياة، وقال: خردل من خير ].
قول المصنف رحمه الله: (باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال) تفاضل أهل الإيمان في الأعمال دليل تفاضلهم في الإيمان؛ لأن الإيمان إنما هو أعمال وأقوال واعتقاد في القلب، فإذا تباينوا من جهة تلك الأنواع، تباينوا من جهة قوة الإيمان، والإتيان بالعمل في الغالب كثرة وقلة وقوة وضعفاً له أثر على تباين الإيمان، ولكن ذلك ليس على سبيل الدوام، وقد يختلف في ذلك الناس، فربما يكون الإنسان ليس من أهل الصيام، وليس من أهل الزكاة، وليس من أهل الحج، وليس لديه من أداء العبادات إلا ما قل، كالإتيان بالصلاة وبعض النوافل، وغيره يكثر من تلك العبادات، من الصيام، والزكاة، والحج؛ لأنه من أهلها، نقول: إذا سقط الواجب عن الإنسان ولم يكن من أهل تلك الواجبات لا يقارن بغيره، وإنما يقارن بما وجب عليه بذاته، فإذا كان من أهل العزم على الصيام لا يدخل الصيام في أبواب المقارنة، وإذا لم يكن من أهل الزكاة، أو الغنى، وإنما هو من أهل الفقر، فلا تدخل أبواب النفقة في أبواب المفاضلة، وإنما يدخل العمل الآخر فيرتفع حتى يساوي غيره.
ولهذا جعل النبي عليه الصلاة والسلام أهل التسبيح والتهليل يوازون أهل الدثور الذين ينفقون من أموالهم، حينما قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبق أهل الدثور بالأجور، وذلك وإن كان فضل الله جل وعلا يؤتيه من يشاء إلا أن الله جل وعلا قد جعل بدائل للإنسان حتى يستطيع أن يفاضل غيره بذلك العمل، وما يحرم الله جل وعلا عبداً من عمل من الأعمال إلا وجعل له عوض، فالفقير الذي ينفق الدينار يساوي نفقة الغني بألف دينار؛ ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رب درهم سبق ألف دينار )، وذلك لمقام الدرهم عند صاحبه، والنبي صلى الله عليه وسلم فرق بين نفقة الإنسان وهو صحيح شحيح، يخاف الفقر، ويرجو الغنى وبين نفقة الشخص الذي يرمي بالمال، وهو غني لا يخاف الفقر، كالذي يأخذ ويغرف من بحر، فنفقته في ذلك تساوي نفقة الفقير، ولو كان درهماً من ماله، فهي مسألة تناسب، وهذا مقتضى عدل الله جل وعلا بين عباده.
وقوله رحمه الله: (تفاضل أهل الإيمان في الأعمال)، المصنف رحمه الله من دقة عبارته جعل التفاضل في الأعمال، ولم يقل: التفاضل في الإيمان لازم لتفاضل الأعمال؛ وذلك أنه لا يلزم من تفاضل الأعمال تفاضل الإيمان على الإطلاق، وأما تفاضل الإيمان في ذاته فإنه يلزم منه تفاضل الأعمال، إما كثرة وقلة، وإما قوة وضعفاً من جهة النوع.
وذكر المصنف رحمه الله في ذلك حديث أبي سعيد الخدري عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله جل وعلا: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل )، الخطاب هنا يتوجه إلى خزنة النار، وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، وهو مقتضى سبق رحمة الله لغضبه، وثوابه لعقابه سبحانه وتعالى، وهذا إنما يكون في مسائل الإيمان، ومعلوم لدينا أن ما كان من حق الله جل وعلا أي حق الله المحض مما لم يجعله الله تحت المشيئة، فإن الإنسان يحاسب عليه قبل دخوله إلى الجنة والنار، وأما ما كان من حق العباد فإن الناس يحاسبون عليه بعد خروجهم من النار، إذاً: لدينا حقان:
النوع الأول: حق الله وهو الذي يكون قبل الفصل، وذلك كتفريط الإنسان وتقصيره بالواجبات، من الصلوات ومن صيام رمضان، ومن شرب الخمر، ونحو ذلك مما كان لازماً على الإنسان، فإذا لم يجعل الله عز وجل لصاحبه رحمة عاقبه عليه وأدخله النار.
أما النوع الثاني: وهو حق الآدميين فيما بينهم، وهذا يكون بعد الخروج من النار، فيقتصون حقوقاً كانت بينهم، والدليل على ذلك ما جاء في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يخرج أهل النار من النار فيوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتصون حقوقاً كانت بينهم )، يعني: أن القصاص يكون بعد الخروج من النار؛ لهذا نستطيع أن نقول: إن الحقوق التي كانت بين بني آدم أهلها على نوعين: أهل جنة مع أهل جنة، وهذا يكون قبل الفصل، وأهل جنة مع أهل نار وهذا يكون قبل الفصل، وأما أهل النار مع أهل النار فيكون بعد الخروج من النار، فأهل النار الذين كتب الله لهم الجنة، يتقاضون الحقوق والخصومات التي كانت بينهم على قنطرة بين الجنة والنار؛ وذلك لأن هذه الحقوق ترفعهم منزلة في الجنة، أو تنزلهم منزلة من الجنة، وأما أهل الجنة فيقتصون قبل دخولهم الجنة، وقبل الفصل، وأما أهل الجنة مع حقهم الذي على أهل النار فيقتصون قبل دخولهم للنار؛ لأنهم يرتفعون في ذلك منزلة من الجنة، وينزل أولئك منزلة في النار، فينبغي ضبط هذه المراتب.
والله سبحانه وتعالى حينما بين دخول بين والنبي عليه الصلاة والسلام حينما بين دخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، بين أن الله سبحانه وتعالى يخرج طائفة من النار ممن في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، وهذا فيه جملة من المسائل: منها أن الله عز وجل يعذب بعض أهل الإسلام وهم قلة في النار ممن لم يغفر الله عز وجل لهم ذنوبهم، وهذا لحكمة أرداها الله سبحانه وتعالى، وأن من كتب عليه النار من أهل الإيمان فإنه لا يخلده فيها، وإنما يجعله في النار إلى أمد، وليس إلى الأبد، والخردلة قيل: هي الذرة، وقيل: هي حبة الحنطة، أو الشعير، أو الدقيق.
قال صلى الله عليه وسلم: ( فيخرجون منها قد أسودوا، فيلقون في نهر الحياء أو نهر الحياة )، نهر الحياء قيل إن المراد بذلك هو نهر المطر في كلام العرب، وقيل إن المراد بذلك: هو ما تحيا به الأجساد، وقيل: إنه كالنهر، أو كقطر المطر الذي ينزله الله جل وعلا عند نشور الخلق، والذي ينبت به عجب الذنب عند المحشر، وهذا الذي يضع فيه الله عز وجل من خرج من النار إلى الجنة.
قال صلى الله عليه وسلم: ( فينبتون كما تنبت الحِبة في جانب السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية )، في هذا إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى لا يخلد في النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وذلك لفضل الإيمان ومنزلته، وأنه سبحانه لا يخرج من النار من كان كافراً ليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ومن وجد في قلبه مثقال ذرة من كفر، فهل هذا يدخل الجنة أصلاً؟ نقول: إن وجود ذرة الكفر الأكبر ينفي وجود الإيمان أصلاً؛ وذلك لعموم قول الله جل وعلا: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ[المائدة:5]، ولا خلاف عند العلماء في أن الكافر ليس له إلا كفة واحدة، وأما ذرة الكفر الأصغر أو شوائب الكفر بأنواعه، سواء من الهوى، أو الذنوب والمعاصي، أو ما أطلق الشارع عليه كفر، ككفران المرأة لعشيرها، أو كفر الإنسان الكفر الأصغر كقوله صلى الله عليه وسلم: ( وقتاله كفر )، وغير ذلك مما سماه الشارع كفراً، فإن هذا لو عاقب الله عز وجل صاحبه لم يمنعه ذلك من دخول الجنة، والخلاف إنما هو في دخول أنواع الشرك الأصغر في المشيئة، أما الكفر الأصغر فيدخل تحت المشيئة.
اختلف العلماء في الشرك الأصغر هل يدخل تحت المشيئة أم لا؟ على قولين، وذهب إلى هذا جماعة وهما قولان عند ابن تيمية رحمه الله، قول بأن الشرك الأصغر لا يدخل تحت المشيئة؛ وذلك لعموم قول الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[النساء:48]، قالوا: ويدخل في ذلك عموم أنواع الشرك، ولكن القول الثاني ربما يناقضه بوجه؛ وذلك أن الله سبحان وتعالى إذا أطلق الشرك في كتابه فيريد بذلك الشرك الأكبر، ولا يدخل في ذلك الشرك الأصغر، بدلالة أن الله سبحانه وتعالى حرم الجنة على المشرك، وتحريم الجنة على المشرك يلزم منه أن يدخل في ذلك المشرك شركاً أصغر، وهذا لا يمكن أن نقول به، إما أن ندني الشرك الأكبر على جميع المواضع بأنه الشرك الأكبر، وإما أن نعممه في كل المواضع وهذا مشكل، وهذان القولان ذهب إليهما طوائف من أهل السنة، وكلها محتملة.
وإخراج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان إشارة إلى أن الإنسان لا يسلب وصف الإيمان مهما كثرت معاصيه، ومهما كثرت ذنوبه، فهو يوالى بحسب ما لديه من إيمان ولو قل، ويعادى بحسب ما لديه من معاصي وإسراف على نفسه، ولهذا التفاضل بين أهل الإيمان في الأعمال أثر على ثوابهم وعقابهم، فيعاقب الله جل وعلا منهم بالنار مدة معينة، ومنهم من يطول عقابه، ومن التفاضل في ذلك من ينزع منه الإيمان بالكلية بعد أن كان عليه فيخلد في النار.
وقد ذكر المصنف حديث أبي سعيد الخدري من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، وهذا دليل على البون الشاسع بينه وبين من كمل إيمانه، فإذا وجد هذان الطرفان البعيدان دل على وجود تفاضل بينهما، وكأنه ذكر أقصى النقص وهو ذرة، وذكر أقصى التمام ممن لم يدخل النار أصلاً، فكتب الله عز وجل له المنزلة العلية في الجنة، مما يدل على وجود مراتب عديدة بينهما، ولو ذكر مرتبة أعلى من ذلك لما كان لازماً وجود إيمان الذرة، فوجود إيمان الذرة لازم لوجود ما هو أعلى منه من مراتب ضعف الإيمان، وهذا دليل على زيادة الإيمان ونقصانه، وهو ما صدر به المصنف هذا الكتاب.
قال رحمه الله: [ حدثنا محمد بن عبيد الله، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة بن سهل أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثُدِي، ومنها ما دون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب، وعليه قميص يجره، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين ) ].
ورؤيا الأنبياء حق، ويؤخذ منها التشريع، وأراد المصنف رحمه الله أن يبين تباين الناس في الإيمان كتباينهم في رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا جملة من المسائل منها:
الإشارة إلى تباين الناس في الإيمان، وكذلك تباين الناس في الأعمال، وتباين الناس أيضاً في المنزلة عند الله سبحانه وتعالى.
وفيه أيضاً: أنه يستحب للإنسان إذا رأى خيراً لصاحبه أن يخبره بذلك، إذا غلب على ظنه أنه لا يفتن بخبر الخير، ومن كان كحال عمر بن الخطاب ممن هو قوي الإيمان، وسبر النبي عليه الصلاة والسلام حاله، وعرف واختبر قوة إيمانه وصدقه ويقينه، وأن مثل ذلك لا يؤثر عليه، وهذا يختلف فيه الناس.
وكذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام إنما أول الرؤيا لمعرفته بالمرئي، وأما إذا كان لا يُعرف المرئي فالغالب أن الرؤيا لا تحمل على وجه إلا بعد المعرفة، وقد جاء في مسند الإمام أحمد: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا سُئل عن رؤيا، وكان يعرف الرائي عبرها، وإذا كان لا يعرفه سأل عنه )؛ لأن معرفته لها أثر بضبط الرؤيا، وهذا ما يقصر فيه كثير من الناس؛ ولهذا تجد من يعبر الرؤيا عبر الهواتف، وفي الصحف والمجلات، أو عبر وسائل الإعلام، لا يدري من السائل، رجل أو امرأة، كبير أو صغير، مؤمن أو كافر، فاسق أو صالح، أو غير ذلك، وينزلها عليهم، وهذا من الخطأ، فإذا كان العلم الشرعي التام وهو الوحي، لا ينزل على كل أحد، فالله سبحانه وتعالى أنزل الشرائع فمنها ما ينزل على قوم، ولا ينزل على قوم آخرين، لوجود بعض الموانع، وعدم وجود الموجب لها، وعدم توفر الأسباب، وعدم توفر مجموع الشروط، فقد ينزل الحكم على قوم قاصراً، وليس بقاصر على قوم آخرين، فإذا كانت الرؤيا جزءاً من ثلاثين جزءاً من النبوة، فإنه يلزم من ذلك أن يقتدي هذا الجزء بالأصل، وهو النبوة والعلم الشرعي والوحي؛ ولهذا فإن الذي ينزل الرؤيا على كل راءٍ ولا يعلم حاله، هذا كالذي يفتي ولا يعلم حال السائل؛ لهذا ينبغي له أن يسأل عن حاله؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام بين الرؤيا لـعمر وما بين غيره، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إني رأيت الناس )، وهؤلاء الناس ما ذكرهم النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما ذكر عمر بن الخطاب، وفيه بشرى؛ ولهذا قال الله جل وعلا: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[يونس:64]، وجاء في الخبر: ( هي الرؤيا يراها الرجل أو تُرى له ).
وقوله: ( يعرضون علي وعليهم قمص )، في هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام يعلم من سرائر الناس ما لا يعلمه الناس منه، وفيه كذلك أيضاً أنه ينبغي للإنسان أن لا يأخذ بالظواهر، ولو كانت الظواهر معتبرة ويعرف الإنسان بها الفرق بين الناس لما احتاج النبي إلى الرؤيا؛ ولهذا جاء في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لما مر عليه رجل فسأل النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه عنه، فقالوا: هذا يوشك إذا غاب أن يسأل عنه، وإذا سأل أن يعطى، وإذا خطب أن يزوج، فمر عليه رجل آخر، فسأل عنه، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشك إذا غاب أن لا يسأل عنه، وإذا خطب ألا يزوج، وإذا سأل ألا يعطى، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هذا خير من ملئ الأرض من ذاك )، وهذا دليل على وجود البون الشاسع، والسبب في ذلك هو البون في عمل القلب، فيحتاج ذلك إلى شيء من الرؤى، أو لشيء من الإخبار بالوحي؛ لهذا ينبغي للإنسان ألا يأخذ بالحكم على البواطن مجرداً بالظواهر، وأما بالنسبة للأحكام الشريعة وإقامتها فالعبرة في ذلك بالظواهر؛ ولهذا ما ظهر للناس يؤخذ.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( منها ما يبلغ الثُدِي )، الثُدِي: هو جمع ثَدي، ويكون في الغالب للمرأة، وقيل أن الثدي للمرأة، والثندوة للرجل، والصواب أنها تطلق للرجل والمرأة كما في هذا الخبر، ويحتمل أن الذين رآهم النبي عليه الصلاة والسلام رجالاً ونساء؛ لأن ( الناس ) يدخل في ذلك الذكر والأنثى، وهذا من الأمور المسلمة في لغة العرب؛ وفي اصطلاح الشارع؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام سئل: ( من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قيل له: من الرجال؟ قال: أبوها )، فلعل النبي عليه الصلاة والسلام رأى الرجال والنساء فذكر هذا اللفظ على سبيل التغليب، والذي يظهر والله أعلم أن الثدي يطلق على الرجال والنساء، وكذلك أيضاً فإن أمور الرؤى لا تحمل على ما كان من أمور الظواهر، فإن جر القميص في الظواهر معصية، وأما في الرؤيا فهو دليل على الديانة؛ ولهذا ربما يرى الإنسان غيره قد حلق لحيته، أو يرآه مثلاً أسبل ثيابه، أو عليه ثياب حرير، أو نحو ذلك، فهذا لا يلزم منه أن يفسره على ما استقر به الحكم شرعاً.
قال رحمه الله: [ باب الحياء من الإيمان.
حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه فإن الحياء من الإيمان ) ].
في قوله رحمه الله: (باب الحياء من الإيمان)، الحياء هو خصلة في الإنسان تحمله على ملازمة الخير والأخلاق الحميدة، ومجانبة الأخلاق السيئة، واشتق من الحياة؛ وذلك أن الإنسان لا تتم له حياة بطمأنينة ورغد عيش إلا بتوفر ذلك.
والحياء على نوعين: حياء فطري، وحياء مكتسب، فالحياء الفطري كالذي يوجد في الإنسان من خجله مثلاً أن تبدو عورته، أو خجله من أن يتكلم بكلام فاحش، ونحو ذلك، هذا يفطر عليه الناس، ويتباينون في قدر ذلك الحياء، أما بالنسبة للمكتسب، وهو الذي يكتسبه الإنسان من معلومات، فيخجل مثلاً أن يبدي ما لا يرضاه غيره عند غيره.
وفي هذا الحديث أن الإنسان ربما ينصح وهو على خطأ، ( فالنبي عليه الصلاة والسلام مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء )؛ ولهذا فإن منزلة الناصح بالنصح لا ينبغي أن تجعله معصوماً في الإنكار عليه إن كان في موضع نصحه خطأ؛ ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رآه ينصح أخاه في الحياء، فقال: ( كأنه قد أضر بك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير ).
وفي هذا أيضاً إشارة إلى أن الأصول الشرعية والأصول الفطرية ينبغي ألا تلغى بمصالح الأفراد، فقد يكون في الإنسان حياء شديد، فينبغي ألا تكسر قاعدة الحياء لديه، ولكن من الحياء ما يحرم الإنسان حقه، ومثاله: أن بعض الناس مثلاً يستحي حياء شديداً حتى يفوت مصالحه، ويسلب الناس حقوقه، وتضعف حاله وذريته ونحو ذلك، والدافع في ذلك الحياء، ويستغله الناس، وهذا أمر سيء في ذاته، لكن لا ينبغي أن يلغي أصل الحياء، بل أن يفرز الأصل عما هو فيه، ويقال: إن فيك قدر زائد ينبغي أن يعالج؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام إنما أنكر عليه إنكاره لذلك الأصل، لما قال: ( يعظ أخاه في الحياء ) يعني عموماً، وقد جاء في لفظ قال: ( إنه قد أضر بك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير )، وهنا في هذه الرواية قال: ( دعه فإن الحياء من الإيمان ) وفي ذلك إشارة إلى أن ملازمة الحياء الذي فطر الله عز وجل الإنسان عليه للإيمان، وعدم الخروج عما أمر الله سبحانه وتعالى به.
قال رحمه الله: [ باب: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ[التوبة:5].
حدثنا عبد الله بن محمد المسندي، قال: حدثنا أبو روح الحرمي بن عمارة، قال: حدثنا شعبة، عن واقد بن محمد قال: سمعت أبي يحدث عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله ) ].
حديث ابن عمر في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ) هذا الأمر هو للمشركين من غير أهل الكتاب، أما أهل الكتاب فإنهم يقبل منهم غير ذلك ولو لم يدخلوا في الإسلام، وذلك أن هذا الإطلاق في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( أمرت أن أقاتل الناس ) هو عام، وهذا من المسائل النادرة أن الحديث يخصصه القرآن، وذلك أن الله جل وعلا قال في كتابه العظيم: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[التوبة:29]، فأهل الكتاب لابد أن يعلم أن الله عز وجل قد خصهم بحكم شرعي وهو أن المقاتلة لهم لا تكون حتى يدخلوا في الإسلام، وإنما حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ولا يلزمون بالإسلام، أما الوثنيون وعباد الأصنام فإنهم يقاتلون حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، لا يقبل منهم غير ذلك، وهذا فيه خلاف يسير عند العلماء.
وفي قوله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ[التوبة:5] إشارة إلى أن الإنسان ينسلخ من الإيمان ويقع في الكفر بتركه لهذه الأشياء، ودخوله في هذه الأعمال الظاهرة أمارة على دخوله في الإسلام؛ لهذا أمر بتخلية السبيل، فالعبرة في ذلك هو بعمل الظاهر؛ لهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ) وقد ذكر هنا المقاتلة، والمقاتلة تكون من طرفين، أما القتل فيكون من طرف واحد؛ لأن المقتول قد يقتل وهو لا يريد القتل لصاحبه، أما المقاتلة فهي من المدافعة على وزن مفاعلة، أي: كل منهما حريص على قتل صاحبه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ) فيه أنه لا يجوز للمسلم أن يغدر بأحد، بل يعلمه بأن بينه وبينه حرب؛ ولهذا ذكر هنا أمر المقاتلة، ما قال: أمرت أن أقتل الناس، وإنما: ( أمرت أن أقاتل الناس )، والمقاتلة فيها إشارة إلى وجود الحرب والاستعداد لها، ولهذا قال الله جل وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ[التوبة:6]، أي: اجعل بينك وبينه أمان إلى أمد، ثم أعلمه أنه بعد زوال هذا الشهر أو الشهرين لا يوجد أمان بيني وبينك، وإنما هي الحرب، وبعد ذلك إن أتيته ليلاً أو نهاراً، سراً أو جهاراً، يخدعة أو من غير خدعة فإن ذلك لك؛ لأنك أعلمته بذلك، وهذا داخل في باب المقاتلة.
قال: ( حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة )، يشهدوا أن لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله، وأن محمداً رسول الله لازم لثبوت شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي رفع الله عز وجل به ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في سورة الشرح، أي: قرن اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر الله عز وجل، وجعل الشهادة لنبيه مقترنة بالشهادة لوحدانيته، واستحقاقه للعبادة.
قال صلى الله عليه وسلم: ( ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة )، تقدم معنا البيان في مسألتي الصلاة والزكاة ووجوبهما، والأدلة على ركنيتهما، والكلام على كفر تارك الصلاة، وخلاف العلماء في هذه المسألة، وكذلك مسألة الزكاة، والحج، والصيام في حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى السابق.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا إله إلا الله ) نص ابن جرير الطبري رحمه الله، على أن معناها: لا معبود بحق إلا الله، وعنه اشتهر هذا اللفظ.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله )، أي: أن الإنسان يأخذ الناس بظواهر الأمور، قال: ( فإذا فعلوا ذلك ) هذه الأعمال وقالوها، ( عصموا مني دماءهم وأموالهم )، وفي هذا إشارة إلى أن القول فعل، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله )، والشهادة تكون بالقول، ( ويقيموا الصلاة ) وتكون بالجوارح، ( ويؤتوا الزكاة ) وتكون بالجوارح، قال: ( فإن فعلوا ذلك ) إشارة إلى ما سبق، والعلماء قد اختلفوا في القول، هل يسمى فعلاً أم لا يسمى؟ الصواب أنه يسمى فعلاً؛ ولهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ[الأنعام:112]، فسماه قولاً ثم سماه فعلاً، وفي هذا الباب مسائل منها ما يتعلق بالقول، هل يسمى القول عملاً أم لا؟ وأيضاً ما كان من أمور التروك، هل التروك تسمى أعمالاً؟ لعل لها مناسبة ترد فنتكلم عليها.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( عصموا مني دماءهم وأموالهم )، يدخل في ذلك أيضاً عصمة الأعراض من باب أولى.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إلا بحق الإسلام )، حق الإسلام ما يقعون فيه من تقصير، وكذلك ما يقعون فيه من خلل، فإنه يجب أن يؤتى بحق الإسلام هذا.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( وحسابهم على الله )، أي: الحساب على الله سبحانه وتعالى لا على غيره، وهو المحاسب وحده والمؤاخذ في هذا الباب.
و ( الله ) مشتقة من الإله وهو المعبود سبحانه وتعالى؛ ولهذا يقول الشاعر:
لله در الغانيات المدهسبحن واسترجعن من تأله
وقيل: إن الإله مشتقة من أله أي ارتفع؛ ولهذا يقول الشاعر:
تروحنا من الدهناء عصراًوأعجلنا الإلهة أن تغيب
والمراد بالإلهة الشمس؛ لأن العرب تسمي الشمس إلهة لارتفاعها.
وقيل: المراد بذلك هو البقاء والدوام من غير تغير؛ ولهذا يقول الشاعر:
ألهنا بدار لا تبين رسومهاكأن بقاياه وشام على اليد
وقيل: المراد بذلك أن الله عز وجل لا يحيط به العباد من حيث رؤيته وإدراك حقيقته سبحانه وتعالى، فقيل: إن الاشتقاق في ذلك من لاه أي اختفى عن رؤية عباده له، إلا ما يأذن الله عز وجل به يوم القيامة، ويستدلون بقول الشاعر:
لاهت فما رؤيت يوماً بخارجةيا ليتها برزت حتى رأيناها
وهذا قول الشاعر في معشوقته، يعني: أنها اختفت.
ويظهر أنها جامعة لهذه المعاني كلها، وهو أقرب إلى قول الشاعر:
لله در الغانيات المدهسبحن واسترجعن من تأله
أي: من تعبد لله سبحانه وتعالى.
قال رحمه الله: [ باب من قال: إن الإيمان هو العمل.
لقول الله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ[الزخرف:72].
وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ[الحجر:92-93] عن قول لا إله إلا الله. لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ[الصافات:61].
حدثنا أحمد بن يونس، وموسى بن إسماعيل، قالا: حدثنا إبراهيم بن سعد قال: حدثنا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور ) ].
قول المصنف رحمه الله: (باب من قال: إن الإيمان هو العمل)، الإيمان من جهة أجزائه هو قول القلب، وعمل القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح، فهو أربعة، وقول اللسان هو الشهادتان، وما يأتي من توابع الإيمان من تسبيح وتهليل، هذا إيمان اللسان، وهو القول، وهو متنوع بحسب ما جاء في ذلك من الدليل، وأما بالنسبة للقلب فالقلب له قول وله عمل، أما قوله فهو التصديق، أن يصدق الإنسان ويؤمن بأن الله جل وعلا واحد في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، أما بالنسبة لعمل القلب فهو الإخلاص، والإنسان يقوى عمله ويضعف بحسب ما في قلبه من قول القلب وعمله، وقول اللسان هل يسمى فعلاً أم لا؟ تقدم الإشارة إليه، وهل يسمى عملاً أم لا؟ سيأتي الكلام على هذا.
في قوله: (إن الإيمان هو العمل) لا خلاف عند العلماء في أن العمل إيمان، وأن الإيمان عمل، وإنما التباين في ذلك بين منهج أهل السنة والجماعة وهم أهل الحق ومنهج أهل الضلال فأن العلماء يجعلون الإيمان قول وعمل واعتقاد، فيجعلونه مركب من هذه الأجزاء، فإذا انتفى واحد منها انتفى الجميع، وإذا وجد سبب مكفر في أحد هذه الأجزاء فإنه يأتي على الباقي، وهنا يستدل بجملة من المعاني من الأقوال والأعمال، التي تدل على أن الإيمان -الذي هو التصديق الذي أول ما ينصرف إلى عمل القلب- يدخل فيه قول اللسان، وعمل الجوارح، واستدل بجملة من الآيات، من ذلك قول الله جل وعلا: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ[الزخرف:72]، العمل الذي ذكره الله عز وجل في الآية، جاء تفسير ذلك بأنه لا إله إلا الله، فقد جاء عند الإمام أحمد في مسنده من حديث معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( مفتاح الجنة: لا إله إلا الله ).
وفي قوله رحمه الله: (وقال عدة من أهل العلم في قول الله جل وعلا: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ[الحجر:92-93] ] عن قول: لا إله إلا الله)، هذا جاء مرفوعاً وموقوفاً، فقد ورد من حديث ليث بن أبي سليم عن بشير بن نهيك عن أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء موقوفاً أيضاً أن قول الله جل وعلا: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ[الحجر:92-93] عن لا إله إلا الله. والصواب في ذلك الوقف وليث بن أبي سليم فيه ضعف، وجاء تفسيره أيضاً عن عبد الله بن عمر، ومجاهد بن جبر، وعن غيرهم من المفسرين من السلف.
وقوله كذلك: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ[الصافات:61]، العمل ينصرف إلى القول بظاهر تفسير السلف في ذلك، وينصرف أيضاً بداهة -وهو الأصل- إلى عمل الجوارح، وينصرف كذلك إلى عمل القلب، وأما بالنسبة هل يوصف القول بأنه عمل؟ لم يكن موجوداً عند السلف أنهم يجعلون القول عملاً، وإنما يفردونه بذلك على سبيل التجوز؛ ولهذا الإمام أحمد رحمه الله ينكر وصف القول بالعمل، ومن أوائل من ذكر ذلك شبابة بن سوار فإنه يقول: إن الإيمان قول وعمل، والعمل هو القول.
ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن قول شبابة هذا، قال: هذا قول خبيث، يشبه قول المرجئة؛ والسبب في هذا أنه قال: قول وعمل، وجعل العمل هو القول وليس عمل الجوارح، إذاً: لا يوجد عمل جوارح، فجعله عمل القلب وقول اللسان، ولا يصح هذا.
والإمام أحمد رحمه الله في ظاهر أقواله لا يدخل الأقوال في أبواب الأعمال، بل يجعلها مقتصرة على الجوارح؛ ولهذا نجد في أبواب الطلاق أن الرجل إذا طلق زوجته -والطلاق قول- فقال: أنت طالق، أن هذا لا يرجع فيه إلى نيته، ولا يستدل على هذا بقوله عليه الصلاة والسلام: ( إنما الأعمال بالنيات )؛ ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن ذلك قال: هذا ليس بعمل، هذا قول، لا يسأل عن النية، وكأن الإمام أحمد رحمه الله يمضي الطلاق بمجرد ورود اللفظ؛ لأن النية يرجع فيها إلى العمل، والأقوال تدخل في أبواب الأفعال كما تقدم على سبيل التجوز، والأصل المفارقة بين عمل القلب وقول اللسان وعمل الجوارح، حتى لا تشتبه هذه المسائل بأقوال المرجئة، وإن كان ذلك سائغاً في لغة العرب، بل ربما يوصف الفعل بأنه قول، فيقول الإنسان: قال فلان كذا، وأشار بيده، فوصف تلك الإشارة بأنها قول، وهذا على سبيل التجوز، لا على سبيل الغلبة.
وفي حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله )، وهذا جاء بعد السؤال عن العمل، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام أجاب بأن الإيمان هو العمل، والعمل هنا هو تصديق القلب وقوله، وكذلك قول اللسان وعمل الجوارح، فهذا كله عمل، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم لأحد أمثلته وهو إيمان بالله ورسوله، ثم ذكر مثالاً آخر، قال: ( الجهاد في سبيل الله ) فجعل عمل الجوارح، وعمل القلب، وقول اللسان، الذي هو إيمان بالله ورسوله وشهادة أن لا إله إلا الله، كله من الإيمان، ثم ذكر ( الحج المبرور ) أي: أن كل هذه الصور داخلة في مسمى ومعنى الإيمان.
قال رحمه الله: [ باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، وكان على الاستسلام، أو الخوف من القتل.
لقوله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا[الحجرات:14]، فإذا كان على الحقيقة فهو على قوله جل ذكره: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ[آل عمران:19] ].
الإسلام من جهة إطلاقه على نحوين: إسلام على الحقيقة، وإسلام على الصورة بلا حقيقة، إسلام الحقيقة هو الذي يقترن فيه الباطن بالظاهر، وأما على غير الحقيقة فهو الإسلام الظاهر من غير باطن، وهو إسلام المنافقين، والإنسان يزيد وينقص في باب النفاق، وكلما زاد التباين بين الباطن والظاهر زاد جانب النفاق لدى الإنسان.
قال رحمه الله: [ حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن سعد رضي الله عنه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رهطاً، وسعد جالس، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً وهو أعجبهم إلي، فقلت: يا رسول الله، ما لك عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمناً؟ فقال: أو مسلماً؟ فسكت قليلاً، ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي، فقلت: ما لك عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمناً؟ فقال: أو مسلماً، ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا سعد، إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه، خشية أن يكبه الله في النار ).
ورواه يونس وصالح ومعمر وابن أخي الزهري، عن الزهري ].
وهذا داخل فيما تقدم من معنى أن الإنسان قد يشكل عليه بعض الظواهر، فيربط بها البواطن، والنبي عليه الصلاة والسلام يعلمه الله عز وجل ببواطن بعض الأشخاص مما لا يعرفه أصحابه عليهم رضوان الله، فربما فعل شيئاً يتعلق بالموازنة بين أمر الباطن والظاهر، ويحمله بعض الناس على ما يعلمونه من الظاهر، كما جاء في قول سعد هنا، وسعد كأنه متأكد، لذا عاد على رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أعطى رهطاً ورجل عنده لم يعطه شيئاً، فقال سعد: ( يا رسول الله، ما لك عن فلان، فوالله إني لأظنه مؤمناً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أو مسلماً )، أي: لعله مسلم فهو دون هذه المرتبة التي تظنها أنت، وهذا الفارق بين الإسلام والإيمان إشارة إلى أنه قد يتحقق في ذات الإنسان الإسلام على الحقيقة، والإسلام على غير الحقيقة في شخص واحد، وذلك للتباين بين عمل الباطن وبين عمل الظاهر.
لهذا ينبغي للإنسان ألا يستعجل في الحكم على ظواهر الناس فيما لا يلزم معه إنزال الحكم الشرعي، وأما الحكم الشرعي فإنه يؤخذ من ظواهر الناس، وهذا في ماذا؟ وهذا في أمور تزكية الناس، أو الشهادة لهم، أو العطاء أو نحو ذلك، لذا فإنه ينبغي للإنسان أن يتوقى فيه؛ لأن حال الشهادة تختلف عن حال الغيب، فالإنسان ربما يشاهده أحد من الناس فيقوم بضبط خلقه وسلوكه ونحو ذلك، وأما إذا اختفى فإنه يفعل شيئاً آخر؛ لهذا يقول الإمام أحمد رحمه الله: ينبغي للرجل أن يسأل عن شهوده كل قليل، فإن الإنسان يتغير من حال إلى حال. وذلك أن الإنسان يستطيع أن يتصنع ساعة عند الناس، ولكن لا يستطيع أن يتصنع كل يومه؛ ولهذا فالسفر يسفر عن الأخلاق؛ بسبب طول الزمن، وأما مخالطة الناس فهي شيء عارض، والعارض يكون فيه التصنع، بينما الدائم يصعب فيه التصنع، والنبي عليه الصلاة والسلام علم من باطنه، وذلك مما أعلمه الله جل وعلا، وفي هذا أن كثيراً من أمور النبي عليه الصلاة والسلام وأفعاله ترتبط ذلك ببعض البواطن؛ لهذا أمثال هذه العلل ينبغي ألا تربط بعلة ظاهرة، فربما كانت العلة خفية، ويجب في ذلك الإيمان والتصديق، وأن توكل العلة إلى العالم بها، وأن يأخذ الإنسان ذلك على الامتثال.
وفي هذا أيضاً أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قلوب الناس ليخرج جذوة الإيمان في قلوبهم، ويستثيرها بالعطاء، ومعلوم لذي العقلاء أن العطاء يطهر القلوب من الفساد، وهو أيضاً معلوم عند أهل العقل المتجردين من الإسلام، حيث يسمون التطهير بالمأساة، أي: أن الإنسان إذا تقلب بالمأساة من حزن وكرب وفرح فإنه أقرب إلى معرفة الحقائق؛ لأن النفس لديه تطهرت.
والإنسان الذي لا تمر عليه المأساة كالذين يعيشون في رغد من العيش لا تتطهر لديهم الأقوال والأفعال؛ لهذا النبي عليه الصلاة والسلام يطهر قلوبهم بشيء من العطاء حتى يضطرب القلب، وينتفض ويرجع إلى الحق، ولهذا الفلاسفة كـأرسطو وأفلاطون وسقراط وغيرهم يسمون هذا التطهير بالبلاء، الذي يطرأ على الإنسان فيتجرد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم طهره الله جل وعلا من كل شيء ونقاه، وهذه المأساة تكون بالنعيم وتكون بسلب النعيم، والثمرة من ذلك أن الإنسان يتجرد في معرفة الحق؛ لهذا تجد الإنسان إذا نزلت به مصيبة صقل قلبه وابتعد عن الشوائب والمكدرات، وتجرد للحق، فمثلاً: الإنسان حينما يذهب إلى الطبيب، ثم يخبره الطبيب أن بك مرض السرطان، يقع لديه التطهير الآن، فيكون القلب أنقى ما يكون في هذه اللحظة، فربما يأتيه الشخص فيقال: فلان ظلمك. يقول: أحله الله. فلان سرق دارك؟ يقول: عفا الله عنه. يتعامل بطيبة تامة، هذا هو التطهير، أما النبي عليه الصلاة والسلام فإنه لا يوجد شيء في قلبه من الشوائب، ويتعامل مع الناس بقلب مطهر بلا مؤثرات.
ولهذا يقول الفلاسفة: إن القلب الذي لا يتطهر بالمأساة هو القلب الذي يُكشف له عن الحقائق، وكلما كثر التطهير بالمأساة في القلب عرف الحقائق وميزها من غير غبش.
فالإنسان حينما يريد أن يحكم على شخص لديه شوائب، كشوائب المال، وشوائب الشهوة، وشوائب الحظ، والسمعة، والجاه، وهو خليط في عقله، فإذا تطهر بالمأساة كالمرض أو نحو ذلك تجرد فيصبح المال لا قيمة له عنده، السمعة لا قيمة لها عنده، استوى لديه الناس، يقوم للضعيف، ويقوم للكبير على حد سواء، وهذا ما تحقق في مقام النبوة، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يدفع المال كما يدفع أحدنا كأس الماء، فيعطي عطاء من لا يخشى الفقر؛ لأن القلب ليس متعلقاً بالدنيا، وهو على كمال وتمام التطهير، النبي عليه الصلاة والسلام يتعامل مع أولئك الصحابة بهذا التطهير، يطهرهم بالعطاء، فيعطيهم حتى يرجعوا إلى أنفسهم ويقوموا بالتأمل؛ لهذا كم من الناس إذا نزلت به مصيبة رجع إلى الحق، لماذا يرجع إلى الحق مع أنه لا رابط بين الحادث الذي أصابه، وبين التوبة والإقلاع عن الذنب؟ فمثلاً كان يشرب الخمر، فوقع في حادث فإنه يرجع عن الخمر، السبب في ذلك أن القلب تطهر فرأى الأمور على حقيقتها التي حجبت عنه بشيء من الحجب، فجاءت هذه المصيبة وضربت القلب وأزالت عنه الران، كذلك أيضاً (إعطاء المال) فإنه يزيل عن القلب شيئاً من الغبش، فيطهره ثم يتجرد للحقيقة، وينساق لها.
قال رحمه الله: [ باب إفشاء السلام من الإسلام.
وقال عمار: ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار ].
قول المصنف رحمه الله: (باب إفشاء السلام من الإسلام)، هنا يذكر جملة من أمور الطاعات، ويلحقها بالإسلام، والسلام المراد به: التحية التي جعلها الله عز وجل خاصة لأهل الإسلام، وهي تحية أهل الجنة، والسلام يبذله الإنسان للإنسان المسلم، وهل يبذل لغيره أم لا؟ يقال: إنه يبذل لغيره التحية بقوله: مرحباً، وأهلاً وسهلاً، ونحو ذلك من التحايا، وأما بالنسبة للسلام فإنه يبذل لأهل الإيمان، فإذا سلم غير المسلم فإنه يرد عليه إذا سلم سلاماً صحيحاً، فإذا سلم ونطق الحروف وأخرجها من مخارجها الصحيحة، فيقال: وعليكم السلام، ولكنه لا يضيف: ورحمة الله وبركاته؛ لأن مثل ذلك لا يتحقق إلا لأهل الإيمان، وأما إذا وجد إضماراً في الكلام فإنه يقول: وعليكم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: [ من الإسلام ] أي: من الطاعات، وهنا يظهر أن المصنف رحمه الله بدأ يذكر الأجزاء اليسيرة التي هي من الطاعات، فالسلام على خلاف عند العلماء: هل هو من السنن أو من الواجبات؟ فمن العلماء من يقول: السلام سنة، ورده واجب، وهذه كلمة شائعة، ولكن لا أعلم لها أصلاً في كلام السلف، والذي يظهر والله أعلم.
إن بذل السلام واجب في ذاته، ورده أوجب.
وقوله رحمه الله: (وقال عمار: ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان) الحديث، هذا الحديث قد جاء مرفوعاً وموقوفاً، رواه عبد الرزاق في كتابه المصنف عن ابنه، ورواه غيره عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق، وجعله عن عمار، ويرويه عن عمار صلة بن زفر عن عمار بن ياسر، وجعله موقوفاً عليه، وروي هذا الحديث من وجه آخر مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه عبد الرزاق في كتابه المصنف عن معمر عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن عمار بن ياسر مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو غير محفوظ، والصواب في ذلك الوقف، وذكر البخاري له موقوفاً هو ترجيح للموقوف على المرفوع، وهذا نهج للبخاري في إيراده حتى في أبواب المعلقات.
في قوله رحمه الله: (ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار) العمل الواحد لا يجمع فيه الإنسان الإيمان، ولكن قد تجتمع بعض شعب الإيمان التي تتبعها شعب أخرى، فيتحقق الإيمان بمجموعها لوجود لازم للشعب الأخرى.
فهنا ذكر ثلاثاً، ذكر (الإنصاف من نفسك)، والإنصاف من النفس يتعلق بحق الإنسان لربه جل وعلا، وحق الإنسان للآخرين، ويغلب الثاني، فالإنسان إذا أنصف نفسه في حق الناس، فأدى ما عليه بالنسبة لوالديه من بر الوالدين، وإكرام الجار، وكذلك في أبواب المعاملات لم يسرق ولم يغتصب، وأعطى كل ذي حق حقه، وفي البيع لم يغش ولم يخادع ونحو ذلك، فإن هذا من الإنصاف، ومما يتعلق أيضاً بذات الإنسان لم يكن من أهل الشح، ويعطي كل ذي حق حقه، وهذا يتعلق بشيء من أنواع العبادات، كمسألة الزكاة، فإن الزكاة إذا وجبت عليه ليست حقاً له وإنما هي حق لغيره.
وقد جاء في حديث عائشة قال: ( ما خالطت الزكاة مالاً إلا أهلكته )، وهذا معناه أن الزكاة إذا وجبت على الإنسان، ثم بقيت في ماله فهي مفسدة للمال؛ ولهذا من يجب عليه الزكاة في ماله، فحلت عليه هذا اليوم وجب عليه أن يخرج الزكاة من ماله فوراً، وأن يفصلها؛ لأن مبيتها مع المال مفسد للمال، وكثير من أرباب المال يشكو من عدم البركة في ماله، وزوال المال مع كثرته عنه، أو عدم الانتفاع منه، والسبب في ذلك وجوده مال ليس له فيه حق وإنما هو لغيره من الأصناف الثمانية بات عنده، وقد جاء في الصحيح ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه صلاة العشاء، فقام فزعاً يجر رداءه، فلما رجع إلى أصحابه، قال: إني تذكرت تبراً من ذهب فخشيت أن يبيت إلا عند أهله )، ومعلوم أن المال إذا بات عند النبي عليه الصلاة والسلام أو بات عند غيره، فهو سيصل إلى أهله، ولكن تلك الليلة فارقة؛ لأنه يجب أن ينتفع منه أهله مباشرة؛ لهذا ينبغي للإنسان إذا أخرج الزكاة، أو سمى شيئاً أو وقفاً في ماله وصرفه، يجب عليه أن يفرزه مباشرة حتى لا تفسد الصدقة ماله.
وفي قوله رحمه الله: (وبذل السلام للعالم)، هذا ما يتعلق بأمور الآخرين، سواء كانت في السلام أو في غيره، والإنسان إذا بذل السلام للعالم، الصغير والكبير، الفقير والغني، أياً كان من يعرفه ومن لا يعرفه، فإن ذلك دليل على نبل النفس، وإذا بذل الإنسان الحق لغيره وحرص عليه في باب السلام، وبذله للجميع، فإنه سيحرص فيما هو أعظم من ذلك وآكد، وهذا دليل على نفي الشح.
وفي قوله: (للعالم) إشارة إلى بذله على من يعرف ومن لم يعرف، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من أشراط الساعة أن السلام لا يبذل إلا للمعرفة.
وفي قوله: (والإنفاق من الإقتار)، أي: أن الإنسان كلما كان فقيراً وقع في الشح، والخوف من الفقر، واليأس من الغنى، فإذا أنفق الإنسان في حال الإقتار فقد تحقق في قلبه الإيمان، بأن الذي أعطاه هذا سيرزقه ما هو أكثر منه، وأن الرازق هو الله، وهذا دليل على وجود الإيمان في قلبه بعظمة الله جل وعلا.
كذلك فيه: حمل هم غيره من أهل الإيمان، وهذا كالترابط الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم ) الخبر، واجتماع هذه الأشياء كحال أغصان الشجر التي تجتمع وفيها فروع كثيرة من الشعب؛ ولهذا يستطيع الإنسان أن يجمع أغصان الشجرة، فيأتي إلى أصلها ويقول: هذه ثلاث هي كل الشجرة؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام ذكر هذه الأشياء لترابط سائر الأعمال وشعب الإيمان فيها، فيستطيع الإنسان أن يولد من واحد من هذه الأعمال شعباً كثيرة.
قال رحمه الله: [ حدثنا قتيبة، قال: حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو ( أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت، ومن لم تعرف ) ].
هذا يتضمن شيئاً من المسائل السابقة، وفي قوله: ( أي الإسلام خير ) إشارة إلى تفاوت مراتب الإسلام، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أن الإسلام العلانية، والإيمان السر.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( تطعم الطعام، وتقرأ السلام ) إشارة إلى أن عمل الجوارح، وكذلك قول اللسان داخل في أبواب الإسلام، والإسلام والإيمان بينهما عموم وخصوص.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( على من عرفت ومن لم تعرف ) إشارة إلى حب الإنسان لأهل الإيمان، ولو لم يعرفهم، وأنهم مشتركون في الحق، وأن المعرفة في ذاتها ينبغي أن يتجرد منها الإنسان، فربما كانت المعرفة لحض من حضوض الدنيا، أو لشيء من الأسباب القدرية، فيحب أحداً لكونه جاراً له، وهذا السبب القدري لا يقدمه على غيره من جهة قوة الإيمان؛ لهذا ينبغي أن يتساوى الناس في باب العطاء، وكذلك أيضاً في باب بذل التحية والمعروف.
قال رحمه الله: [ باب كفران العشير، وكفر بعد كفر.
فيه عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أريت النار، فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن. قيل: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط ) ].
في قوله عليه الصلاة والسلام: (كفران العشير وكفر بعد كفر)، هذا الكفر المراد به الكفر الأصغر، والكفر على نوعين: كفر أكبر، وكفر أصغر، والكفر الأكبر هو المخرج من الملة، والكفر دون كفر له أسباب، ويقع في أمور العقائد، وكذلك في الأقوال، وفي الأعمال.
قال رحمه الله: (فيه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم) ثم ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: ( أريت النار، فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن )، في هذا الحديث إشارة إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام أراه الله جل وعلا ما لم يره أحداً من العباد، وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام كما أنه رأى النار، فإن الله عز وجل أراه الجنة.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( أكثر أهلها النساء ) جملة من الاحتمالات: إما أن يراد بذلك أنهن أكثر على الحقيقة، وإما أن يراد أنهن أكثر بالنسبة للنار لا بالنسبة لمجموع النساء، والغالب أن النساء أكثر من الرجال؛ ولهذا في غالب الدول تجد أن النساء بالنسبة إلى الرجال إلى درجة الثلثين، ومنها ما هو أكثر من ذلك، وهذا في الأغلب، وقرأت إحصائيات لإحدى الدول أن النساء بالنسبة للرجال يشكلن تسعين بالمائة من نسبة السكان، حتى قيل أنهم يأتون برجال من الأجانب ويمنحونهم الجنسية حتى يتزوجوا النساء لديهم، وهذا لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى في البشر.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن )، ذكر هنا النبي عليه الصلاة والسلام سبب كثرة النساء في النار، وهو أنهن يكفرن العشير، وهذا الكفر هو كفر النعمة، وكفر النعمة كما أنه يكون لله سبحانه وتعالى يكون للسبب الذي جعله الله عز وجل منعماً للإنسان، وكفر النعمة هو فطرة وغريزة يغرسها الله عز وجل في الإنسان، يتخلص منها بإيمانه وصدقه ونزاهته؛ لأن الإنسان يحب أن يستأثر بالخير له، وهذا أمر معلوم يجده الإنسان في الصبي، ويجده في الكبير، ويجده في الشيخ، ونحو ذلك؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟ قالوا: يا رسول الله ما منا من أحد إلا وماله أحب إليه من مال وارثه. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر ).
وهنا ذكر سبب كفران العشير فقال: ( أي يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى أحداهن الدهر )، الدهر: في لغة العرب يراد به السنة، ولعل المراد به هنا ما هو أوسع من ذلك وهو المدة الطويلة، سواء كانت سنة، أو كانت أبعد من ذلك، ولكن لا يسمى ما دون السنة دهراً، ولكنه السنة، وما كان أكثر منها، والعرب لم تكن لسنواتهم بداية ونهاية، لم يكن محرم هو بداية السنوات لا في الجاهلية ولا في الإسلام، وإنما كانوا يحسبون بدوران اثني عشر شهراً، إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا[التوبة:36]، فالسنة عند الجاهليين تبتدئ من أي شهر لديهم، سواء كان محرماً، أو كان صفراً، أو كان ربيعاً، أو جمادى، فإن دارت وأتت على الشهر نفسه قالوا: الحول، وأما ضبط محرم في ابتدائه السنة الهجرية إنما كان بعد وفاة رسول الله صلى الله وعليه وسلم؛ ولهذا يقول أبو بكر العربي: لم يكن محرم أول السنة لا في الجاهلية ولا في الإسلام، وإنما كانت هي دائرة لا يعلم ابتداؤها، ولا أعلم ذكر بداية المحرم في شيء عن السلف إلا ما جاء في قول الله سبحانه وتعالى: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ[الفجر:1-2]، جاء عند ابن جرير الطبري عن قتادة قال: وَلَيَالٍ عَشْرٍ[الفجر:2] هي العشر من محرم. وهذا في تفسير قتادة وقتادة بصري، وانفراده في مثل هذا التأويل فيه ما فيه، وتفضيل عشر محرم على غيرها يحتاج إلى دليل.
وكفران العشير هو الذي أوجب على النساء دخول النار، وهذا فيه إشارة على عظم كفر النعم سواء كان من زوج، أو كان من غيره، فيجب على الإنسان أن يشكر؛ لهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا يشكر الله من لا يشكر الناس )، وهذا وإن كان مرتبطاً بالبشر إلا أن له رابطاً ما هو أبعد من ذلك، فإذا لم تشكر في الأمور المحسوسة كالذي يؤدي لك بيده ثم تقبض، فإنك ستكون أقل شكراً في الأمور الغير محسوسة كنزول القطر عليك من السماء من غير طلب، وكذلك إنبات الأرض لك ولغيرك؛ لأن الحق في ذلك مشاعاً فتكون أقرب إلى كفر ذلك؛ لهذا فإن الذين يشكرون الناس على فضلهم الذي يؤديه الله عز وجل ويرسله إليهم بواسطة خلقه فإن هذا أمارة على شكر الخالق سبحانه وتعالى، فهؤلاء كفروا الخالق... بسبب كفرهم لمن جعله الله عز وجل سبباً في ذلك الإنعام.
وهذا فيه إشارة إلى أن أكثر دخول النساء النار بسبب هذا النوع، وليس بسبب ما جاء في الحديث من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أليست إذا حاضت لم تصل ولم تصوم ).
واختلف العلماء في المرأة التي تحيض ولم تصل ولم تصم هل يكتب لها صلاتها في حال حيضها أم لا؟ على قولين: وقد ذكرهما النووي رحمه الله في أوائل كتاب المنهاج، وذكر الخلاف في هذه المسألة، والذي يظهر لي والله أعلم أن المرأة يكتب لها أجر الصلاة إذا حاضت، وإنما النقصان يكون في العمل والتلبس به؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام ذكر هنا أن كثرة دخول النساء للنار هو بسبب كفران العشير، مع أنه لو كان الأجر لا يلحق للمرأة؛ لكان سبباً أيضاً في دخول النار؛ لأنه نوع نقص في الثواب يقابله ورود السيئة.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما رأيت منك خيراً قط ) إشارة أيضاً إلى إنكار الحق وكذلك الخير بالجملة، ومثل هذا الأمر ينبغي أن يحذر الإنسان منه حتى في نفسه، ففي أبواب الإنعام وشكر المنعم والإحسان عليه أن يبادر الإنسان بشكر من أحسن إليه، فيدعو له، ويشكره في وجهه وعند غيره إن وجد فرصة، فهذا أمارة على شكر المنعم، والنفوس الضعيفة القاصرة أو التي فيها شح لا يزيدها الإنعام إلا شحاً، وأنفة أن ينسب الخير إليها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب في ذلك أعظم مثال لأمته، حين صعد المنبر فقال: ( ما من أحد من الناس أمن عليَّ في ماله وولده من أبي بكر )، وهذا شكر لهذا الشخص الذي ناصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معه، وشكر الخلق أمارة على شكر الخالق سبحانه وتعالى.
وفي هذا أيضاً لفتة لطيفة جليلة، وهي أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما شكر أبا بكر عليه رضوان الله تعالى ليس فيه شكر الكبير لمن هو دونه فحسب، بل فيه ما هو أعظم من ذلك، ألا وهو شكر الكبير لمن هو دونه أمام العامة، ومن يطيق هذا؟ أن يكون الرجل سيداً وجيهاً في قومه يشكر شخصاً بعينه؛ لأن له فضلاً عليه أمام العامة كلهم وهذا أمارة على طهارة النفس، وعدم تعلقها بشيء من جاه الدنيا، وهذا غاية في التجرد أن يشكر الإنسان المنعم عليه، سواء كان أمام واحد، أو مائة، فيقول: لفلان فضل جزاه الله عني خيراً، وهذا ينبغي أن يستحضره الإنسان، فإنه من أمارات الإيمان، ومن أمارات طهارة النفس، وكذلك أمارة على طاعة الخالق سبحانه وتعالى.
نكتفي بهذا القدر، وإذا كان لدى الإخوان شيء من الأسئلة بما يتعلق في هذا الباب فليتفضلوا.
السؤال: الجزية ذكرت أنها في أهل الكتاب، طيب الأثر ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب )؟
الجواب: هذا في المجوس؛ لأن المجوس قيل إنهم من أهل الكتاب؛ أنهم أهل كتاب سماوي، وقيل إنهم مزيج بين الحنيفية وبين الكتاب فسنوا بهم سنة الكتاب، وجاء هذا مرفوعاً وموقوفاً.
السؤال: يرد: وعليكم السلام إذا سلم، طيب إذا أتى غير المسلم بالتحية كاملة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: تقول: وعليكم.
السؤال: طيب والآية: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا[النساء:86].
الجواب: مسألة التحية، وكذلك جزاء المنعم في شكره أمر الشارع بأن يجازي الإنسان ويكافأ على شكره، والمكافأة لا يلزم أن تكون بالمثل، فقد يكون لديك نصراني ويزوجك أخته، هل تزوجه أختك؟ لا، يجوز لك منه ما لا يجوز له منك، وذلك أن اليد العليا هي فوق اليد السفلى؛ ولهذا نقول: إن حق المؤمن على غيره أولى من حق غيره عليه، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري [3] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
https://audio.islamweb.net