إسلام ويب

تنازع العلماء في المراد بالسلم في قوله تعالى: (ادخلوا في السلم كافة)، فقيل المراد به الإسلام وقيل المراد به المسالمة، وتجوز المسالمة عند ضعف المسلمين شريطة أن يكونوا قابلين لها غير طالبين، وأما عند قوتهم فلا تجوز؛ لأن ذلك يفضي إلى عدم إعداد العدة، ثم بعد أن أمر الله بالدخول في السلم كافة وهو الإسلام على المشهور نهى عن تتبع خطوات الشيطان، وفي التعبير بالتتبع إشارة إلى تقصد الشيء وأنه قليل، وفي التعبير بخطوات إشارة إلى أنه يتدرج بالإنسان حتى يوقعه في الكبيرة، ولا يوقعه فيها مباشرة.

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة)

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فتكلمنا في المجلس السابق على قول الله عز وجل: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203]، وذكرنا كلام الفقهاء من السلف، وكذلك كلام المفسرين على ذكر الله عز وجل في الأيام المعدودات، وكذلك ذكرنا الفرق بين الأيام المعدودات والأيام المعلومات، وذكرنا أحكام التعجل، وشيئاً من أحكام المناسك، وكذلك أيضاً مناسبة أمر الله عز وجل بالتقوى، ونتكلم في هذا اليوم على قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208].

وجه الله عز وجل خطابه إلى الذين آمنوا، بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى أحوال الناس، فذكر أن هناك من يريد الآخرة، وهناك من يريد الدنيا، وهناك من هو من المنافقين، يظهر إرادة الآخرة وهو يريد الدنيا، وتقدم معنا أن منهم من يدعو الله عز وجل في المشعر الحرام أن يعطيه من حسنات الدنيا ويتغافل عن أمر الآخرة، ومنهم من يسر له أمر الدنيا وأمر الآخرة، وهي حسنة الدنيا وحسنة الآخرة، ومنهم من هو من المنافقين، وذلك في قول الله عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204]، وذلك أنه يظهر القول ليعجب الناس، وهو في باطنه من المنافقين.

المراد بالسلم في قوله تعالى: (ادخلوا في السلم كافة)

ذكر الله عز وجل هذه الدرجات وهذه الأحوال في أحوال الناس بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى أحكام الجهاد ومقاتلة المشركين، أمر الله سبحانه وتعالى هنا بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]، الخطاب توجه هنا إلى أهل الإيمان، ومعنى أهل الإيمان يفهم المقصود به بعد فهم كلمة السلم، والسلم قد اختلف المفسرون فيها على قولين:

ذهب جمهور السلف إلى أن المراد بالسلم هو الإسلام، وهو الانقياد لله عز وجل، والاستسلام له سبحانه وتعالى بطاعته بما أمر، واجتناب ما نهى الله سبحانه وتعالى عنه، فيكون هنا معنى السلم: الاستسلام، وهي معروفة في لغة العرب، وذلك أن امرؤ القيس لما ارتد قومه عن الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرتدو بقي على الإسلام، ولهذا أنشد في ذلك قوله:

دعوت عشيرتي للسلم لمارأيتهم تولوا مدبرينا

أي: دعاهم إلى الإسلام وهو دين محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي ذهب إليه عامة المفسرين، وجاء هذا عن عبد الله بن عباس كما رواه عطية العوفي عنه وجاء أيضاً عن جماعة من المفسرين، صح عن مجاهد بن جبر كما رواه ابن أبي حاتم في التفسير، وكذلك ابن جرير الطبري من حديث ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر ، وجاء أيضاً عن قتادة ، وجاء أيضاً عن الربيع وغيرهم من المفسرين.

وكما جاء عن الضحاك وغيره: أن المراد بذلك هو الإسلام، وهذا هو الأشهر، وهذا الذي عليه العامة.

وهذا المعنى في هذه الآية هو كقول الله سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، وقول الله جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28]، وكذلك ما جاء في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وكان النبي يرسل إلى قومه خاصة، وأن الله بعثني إلى الناس عامة )، وهذا فيه إشارة إلى وجوب دخول الناس على جميع أحوالهم ولغاتهم وأعراقهم وألوانهم في الإسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرسله الله إلى الناس كافة، وهذا أيضاً نظير ما جاء في مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده لا يسمع بأحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار ).

فإذا قلنا: إن هذه الآية على هذا المعنى في قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]، فما المراد بالذين آمنوا؟ وظاهر السياق إذا توجه الخطاب بين الذين آمنوا، فهم قد دخلوا في الإسلام، فهل هذا دخول جديد أم المراد بذلك هو تحصيل حاصل؟ أو تأكيد ما كان متحصلاً؟ وذلك كقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النساء:136]، فالله عز وجل أمر الذين آمنوا بأن يثبتوا على إيمانهم.

من العلماء من قال في قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:208] أن المراد بذلك من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهراً، وكفر باطناً، وهذا يحمل على نوع تهكم، وذلك كحال تهكم المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:6]، يريدون بذلك في عبارتهم هذه في إنزال الذكر على محمد صلى الله عليه وسلم يريدون تهكماً، ولا يقرون بذلك، وهذا نظير قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]، أي: من يزعم أنه مؤمن، ونحن نعلم أنه ليس من أهل الإيمان، فالمعنى: ادخل حقيقة بدلاً من الزور الذي أنت فيه، فيكون العبارة هنا المراد بها التهكم بالمنافقين.

ومنهم من قال، وهذا هو الأشهر: إن الخطاب يتوجه هنا إلى من آمن بالأنبياء قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كمن آمن بموسى وعيسى، وكذلك أيضاً بآباء رسول الله صلى الله عليه وسلم كإبراهيم وغيرهم، عليك أن تؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء خطابهم يختلف عن خطاب المشركين، وذلك أن المشركين لا يؤمنون بموسى، ولا يؤمنون بعيسى بخلاف أهل الكتاب، فالخطاب توجه إلى أولئك.

جاء هذا عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس كما رواه ابن جرير الطبري في كتابه التفسير عن ابن جريج عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن سلام ، و أسد و أسيد ابني كعب ، وغيرهم ممن كان من اليهود، وذلك أنهم أرادوا أن يسبتوا يوم السبت فقالوا: إنا نعظمه والتوراة هي كلام الله، فأنزل الله عز وجل ذلك في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]، يعني: يجب عليكم أن تدخلوا جميعاً في الإسلام، ولا تدعوا من الإسلام شيئاً.

وعلى هذا نقول: إن قول الله عز وجل: كَافَّةً [البقرة:208] المراد بذلك هي جميع شرائع الإسلام، وليس المراد بذلك عموم الداخلين.

يعني: ينبغي للإنسان ألا يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، بل يجب عليه أن يدخل في السلم كافة في جميع شرائعه وأحكامه حتى ما يتعلق بالمناسبات من تعظيم أيام وأزمنة معينة.

وهذا التفسير في جعل الخطاب يتوجه إلى الذين آمنوا بمن كان قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأشهر، وهو الذي يتناسب مع قول من قال إن المراد بالسلم كافة هو الإسلام، وهذا هو الذي عليه أكثر المفسرين من السلف.

وذهب بعض المفسرين إلى معنى آخر في قوله: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]، وهو أن المراد بالسلم هنا هو المسالمة والمعاهدة، وحمل بعضهم هذا المعنى على ظاهر سياق الآيات، أن الله عز وجل لما أمر بالقتال: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190]، ثم أمر الله عز وجل بقتالهم أينما ثقفهم أهل الإيمان، ثم أمر الله عز وجل بقتالهم: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة:193]، فأمر الله عز وجل بقتالهم حالاً بعد حالٍ، ثم أمر الله عز وجل بالمدافعة، وأمر الله عز وجل بقتالهم على كل حالٍ حتى يدفع الكفر، وهنا أمر الله عز وجل بالدخول في السلم كافة، ومناسبة الدخول في السلم كافة على هذا القول وهو المسالمة قالوا: إن الله عز وجل أمره بقتال المشركين، وذلك مقيد بالمدافعة في قوله: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [البقرة:190]، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام متوجه إلى مكة يريد العمرة، وخشي من المشركين أن يصدوه عن المسجد الحرام، فأمره الله عز وجل بقتال من يعتدي عليه ويتعرض له.

فإذاً: هذه الآية إنما كانت بجهاد الدفع، لا بجهاد الطلب، وتقدم معنى التفريق بين الحالين.

ولما قدم النبي عليه الصلاة والسلام إلى مكة، وقع بينه وبين المشركين معاهدة، وذلك لما نزل النبي عليه الصلاة والسلام بالحديبية، والحديبية على شطرين: شطر في الحرم، وشطر في الحل، والمشركون يعلمون الحدود فوقفوا في الحل حتى لا يدخل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرم، ووقع الصلح بين المسلمين وبين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، وهذا الصلح جاء بعده إقدام النبي عليه الصلاة والسلام من العام القادم أن يأتي إلى الحج، وأمره الله عز وجل أيضاً بقتالهم لو تعرضوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما لم يتعرضوا جاءت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]، يعني: يجب عليكم أن توفوا بالعهد ولا تنقضوه.

إذاً: السلم المراد به هنا على قول من قال: إن المراد بالسلم هي المسالمة وترك الحرب: أن المراد بذلك ما كان متعلقاً بأمر صلح الحديبية، وهذا ذهب إليه جماعة من المفسرين وهم قلة، والأشهر في أقوال المفسرين من السلف أن المراد بالسلم هنا هو الإسلام، والاستسلام لله سبحانه وتعالى، والانقياد له جل وعلا على اختلاف عنده في كلام المفسرين، فمنهم من قال: إن المراد بالسلم هنا هو الإسلام، ومنهم من قال: هي الطاعة بجميع أنواعها، وهذه من المعاني المترادفة.

وعلى هذا المعنى دلالة السياق هو الأقرب، ولكن الأول أشهر وأرجح في كلام المفسرين من السلف، وهذه الآية تحتمل المعنيين؛ لأن أسلوب القرآن أطلق على السلم وهو المسالمة وترك الحرب، وكذلك أيضاً على السلم المراد به الإسلام فأطلقها على المعنيين في كلامه سبحانه وتعالى في هذه الآية، وكذلك أيضاً في آية الأنفال، وفي آية سورة محمد، وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا [الأنفال:61]، والمراد بالسلم هنا المسالمة.

أحوال السلم بين أهل الإسلام والشرك

والسلم بين أهل الإسلام وبين المشركين على حالين:

الحالة الأولى: في حال ضعف المسلمين، وعدم قوتهم، فإنهم يقبلون المسالمة مع المشركين، وذلك كحال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سالم طوائف، وذلك لتعدد طوائف الكفر حول النبي عليه الصلاة والسلام، وقد يطيق النبي عليه الصلاة والسلام طائفة، ولكنه لا يطيق الجميع، فسالم النبي عليه الصلاة والسلام بني قريظة، وسالم بني النضير، وبني قينقاع وغيرهم من أهل الكتاب، وسالم النبي عليه الصلاة والسلام المشركين في الحديبية فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يؤمن جوانب، ثم يقوم بإصلاح جوانب أخرى، فنقول في حال ورود الضعف في المسلمين وقوة المشركين، وعدم قدرة المسلمين على الدفع، فلهم أن ينزلوا على السلم، وقلنا: أن ينزلوا على السلم لا أن يطلبوا السلم؛ لأنه لم يثبت شيء في كلام الله، ولا في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه طلب السلم من المشركين، وإنما يقبلوه إذا عرض عليهم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قبل من المشركين السلم عند الحديبية؛ لأنهم طلبوه، ولهذا الله عز وجل يقول: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ [الأنفال:61]، يعني: لا تبادرهم أنت بالسلم.

ولهذا نقول: إن طلب المسلمين للسلم في حال القدرة على المدافعة لا القدرة على الطلب لا يجوز، وهو محرم؛ لأن في طلب السلم إظهار ضعف المسلمين بخلاف قبوله عند نزوله من غيرهم.

ولماذا قيدناه بحال عدم قدرة المسلمين على الدفع، وعدم قدرة المسلمين على الطلب هذا قدر زائد، فإذا قوي المسلمون على دفع وصد عدو صائلٍ عليهم فلا يجوز لهم المسالمة، وفي حال عجزهم حتى عن المدافعة وهذا في أحوال ضيقة، نقول لهم: يجوز لهم أن يطلبوا السلم، ولما كان النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه من أصحابه قادرين على الدفع ما جاز لهم أن يسالموا إلا أن جنح الناس للسلم فإنهم يجنحون له، ولهذا قال غير واحد من المفسرين: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره الله عز وجل في موضع أن يسالم أحداً، وإنما يقبل المسالمة عند عرضها عليه عليه الصلاة والسلام.

الحالة الثانية: نقول: في حال قوة المسلمين فإذا قوي المسلمون على الحالين، على الدفع أو على الطلب حرم عليهم السلم؛ لأن وجود العداوة بين المشركين وبين المؤمنين مطلب؛ لأنها عداوة دينية، ثم إن أصول الإسلام من مسائل العقائد، وغيرها من الحفاظ على عقيدة الولاء لأهل الإيمان، والعداء لأهل الشرك، وغير ذلك، كذلك أيضاً المفارقة بين أهل الإيمان، وبين المشركين لا يمكن أن تتحقق وبين المسلمين وبين غيرهم سلم دائم؛ لأن السلم الدائم يضعف تماسك المسلمين فيما بينهم، وإذا كانت العداوة قائمة، ولو لم يكن ثمة حرب كان أهل الإسلام على يد واحدة، ويتعاضدون فيما بينهم، ولو لم يتعاضدوا فعلى أقل أحوالهم يؤمنون بوجود عدو خارجاً عنهم وهم المشركون، ويتربصون بهم الدوائر.

كذلك أيضاً: فإن السلم مدعاة إلى عدم إعداد القوة، وعدم السلم يلزم منه إعداد القوة والترقب؛ لأنه يترقب قدرة المشركين عليهم، وقدرتهم أيضاً على المشركين، وكذلك أيضاً فإن الردة والنفاق إنما يظهر مع وجود السلم أكثر من وجود غيره، ولهذا الله سبحانه وتعالى بيّن أن طلب السلم ضعف وهوان، فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ [محمد:35]، يعني: أن الإنسان إذا طلب السلم مباشرة ولم ينزل عليه فهذا هوان منهي عنه، وأقل مراتبه إذا قوي الإنسان على حماية بلده، كأن يقول إمام المسلمين: أنا لا أستطيع الغزو فهل لي أن أسالم؟ نقول: هل تستطيع أن تدفع عن بلدك لو أريدت، يقول: أستطيع، نقول: يحرم عليك السلم.

وثمة حالة وهي كحال النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد دخول مكة أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يؤمن نفسه وأصحابه إذا أرادوا دخولها من العام القادم، فأنزل الله عز وجل نبيه على السلم الذي جنح إليه المشركون أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه.

ولهذا نقول: في حال القدرة وعدم الضعف يحرم على المسلمين أن يسالموا أحداً، ولا يلزم من عدم وجود السلم أن يكون بينهم وبين المشركين قتال، فقد يكون بينهم وبين أحد المشركين، أو جماعة وطائفة من المشركين شيء من العداوة وعدم المسالمة، لكن لم يكن ثمة قتال، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان بينه وبين المشركين من كفار قريش حرب، وما كان بينهم من السلم إلا زمن يسير، والقتال الذي كان بينهم هي غزوات يسيرة بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام لا تناسب المدة الطويلة، ولكن ذلك للحفاظ على من معه من المسلمين، كذلك فإن السلم مدعاة إلى انتقال المشركين إلى المسلمين، وانتقال المسلمين إلى المشركين، ويعني أيضاً سكن المسلمين بين ظهراني المشركين.

كذلك أيضاً: فإنه لا يلزم من عدم السلم عدم الانتفاع فيما بينهم من تجارة أو نحو ذلك، فيدخلون بأمان ولو كانوا محاربين كحال التجار ونحو ذلك، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم بقي زمناً ليس بينه وبين فارس والروم سلم، والأصل في ذلك أنهم من المحاربين، وما يؤتى إلى المدينة من تجارتهم سواء كان من السيوف أو كان من الرماح، أو كان أيضاً من السهام، أو كان من الألبسة التي يتاجر بها الناس مع وجود الحرب بينهم، ولهذا نقول: إن تحقق عدم السلم في الإسلام مقصد، وذلك للحفاظ على المسلمين وجماعتهم.

ثم هنا في قوله سبحانه وتعالى: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]، قوله: كافة، تقدم معنا أنها محمولة على معنيين، على المعنى الأول: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] يعني: جميعاً، وفي جميع الشرائع، ولا تنقصوا منها شيئاً، فتحمل على وجوب دخول الناس كافة في الإسلام سواء كانوا من العرب أو العجم، وهذا دليل على عموم رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المعنى الثاني: أنه يجب عليكم أن تؤمنوا بشريعة محمد كلها، لا تؤخذوا من غيره من الشرائع شيئاً، وذلك أن دين الإسلام قد نسخ غيره من الأديان، فلا ينظر الإنسان إلى شيء ويظن أنه محكم في شريعة ماضية فيدين به، وذلك أن الإسلام ناسخ لما سبق من الشرائع.

وأما على التفسير الآخر بأن السلم المراد به المسالمة وترك الحرب في قوله: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]، ففي هذا دلالة على معنى أن السلم إذا انعقد بين المسلمين وغيرهم وجب أن يدخل في السلم جميع المؤمنين، أفراداً وجماعات، ولو خالف بعضهم رجحان ذلك السلم، ولهذا عمر بن الخطاب عليه رضوان الله لما صالح النبي عليه الصلاة والسلام المشركين في الحديبية ما كان في ابتداء الأمر على قناعة بذلك في نفسه، مع إيمانه وتصديقه بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول: يا رسول الله! ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فلم نعطي الدنية في ديننا، فكأنه فسر مثل هذا الأمر أنه نوع ضعف بالمسلمين، فبيّن له النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا من أمر الله جل وعلا، ولهذا وجب عليهم أن يدخلوا أفراداً وجماعة.

نقض بعض أفراد المجموعة العهد يعد نقضاً من جميعها

كذلك أيضاً: فيه دلالة الأمر للطرف الآخر، وهم المشركون، وأنه يجب عليهم أن يدخلوا فيه كافة، وهذا فيه دلالة أيضاً على أنه لو نقض واحد أو فئة من المشركين العهد فإن العهد منقوض؛ لأن الخطاب توجه إلى الجميع أفراداً وجماعات، فلو نقضت فئة من المشركين عهد المشركين مع المسلمين انتقض عهد الجميع إذا كان ثمة قرينة تؤيد رضاهم بذلك.

من هذه القرائن: أن ينقض العهد وهو بين ظهرانيهم، فلا ينزل به عقاب، ولا يظهر منهم استنكار لذلك النقض، ومن ذلك أن يظهر منهم مدد له، سواء كان بين ظهرانيهم أو كان خارجاً عنهم، فإن هذا من النقض، بل ما هو أبعد من ذلك لو أن الأمة المعاهدة دعمت غيرها كفئة ثالثة على المسلمين، كانت مناقضة ولو لم تباشر بنفسها، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في المدينة كان اليهود ثلاث طوائف: بنو النضير وبنو قريظة، وبنو قينقاع، فهؤلاء ثلاثة طوائف، أما بنو قينقاع فالنبي عليه الصلاة والسلام أجلاهم ابتداءً، وأما بنو النضير فإن النبي صلى الله عليه وسلم أجلاهم لما أرادوا قتله برمي الحجارة عليه، لما ذهب إليهم النبي عليه الصلاة والسلام يريد منهم دية لرجل من بني عامر؛ وذلك لأن بينهم وبني عامر حلفاً، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام منهم أن يدفعوا شيئاً من الدية، فأرادوا قتل النبي عليه الصلاة والسلام فنقض عهدهم بذلك، وأما بنو قريظة لأنهم لما علموا بقتال المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناصروهم على رسول الله، وهم في ذاتهم لم يباشروا شيئاً، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام عهدهم في ذلك منقوضاً.

ولهذا نقول: إن الأمر بالدخول في العهد شامل للأفراد والجماعات، ومن كان منطوياً تحت اللواء، فإنه يؤاخذ بجريرة قومه، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن أخذه بجريرة قومه، قال: إن أخذناك بجريرة قومك، وهذا في حال الأمة المناقضة، وفي الزمن المعاصر ثمة مسائل شائكة، وهي ما تتعلق بالدول، وتتعلق بالجنسيات، وتتعلق أيضاً بالحلف وغير ذلك، فهذه أيضاً من المسائل الشائكة التي تحتاج إلى شيء من التفصيل في غير هذا المجلس بإذن الله تعالى.

النهي عن تتبع الشيطان وبيان السر في التعبير بالتتبع

ثم قال تعالى هنا: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208]، بعد ما أمر الناس بالدخول في السلم وهو الإسلام على الأشهر، والسلم وهو المسالمة، بين أن مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى هي اتباع لخطوات الشيطان، وهنا يؤخذ من أن الأصل فيما أمر الله سبحانه وتعالى أنها موافقة للفطرة، فما جاء في شريعة الله سبحانه وتعالى أصولاً وفروعاً وآداباً وسلوكاً، فهو دين الفطرة، ولهذا لما أمر الله عز وجل بالدخول في الإسلام أمر بالدخول إليه، وكأنه موضع عام فسيح لا يستطيع الإنسان له تتبعاً وقصداً، وهنا لما جاء فيه الشيطان قال: وَلا تَتَّبِعُوا [البقرة:208].

التتبع هو قصد الشيء بين أشياء، وكأن الإنسان يتتبع قليلاً بين كثير، وهذا من بلاغة القرآن، فلما أمر الله عز وجل أهل الإسلام أن يدخلوا عموماً في الإسلام أمرهم من غير ذكر التتبع، وإنما أمرهم بالدخول كافة؛ لأنه فضاء لا يمكن لإنسان أن يقتنصه من غيره، وأن الدين دين الفطرة، ولما جاء لأمر الشيطان دل على أن الإنسان يقصده بنفسه، ولهذا قال: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:208].

ثم أيضاً قال: خطوات الشيطان، إشارة إلى تقليلها، والتقليل هنا يؤخذ منه معان:

أولها: أن المراد بذلك التقليل، وأن المحرمات التي حرمها الله عز وجل على الإنسان قليلة، بالنسبة لما أباحه الله سبحانه وتعالى، فالأصل فيما خلقه الله عز وجل للناس هو الوفرة والكثرة، ولهذا يقول الله جل وعلا: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة:29]، يعني: ما في الأرض جميعاً، إشارة إلى أن المحرم لا يستحق الذكر لقلته، وإن كان قصه الله عز وجل علينا، ولكنه أمر نادر، فبيّن الله عز وجل أن ما في الأرض جميعاً مباح، وأن أمر الشيطان هو خطوات يسيرة من هذه الأرض، ولهذا قال: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168].

المعنى الثاني: أن في هذا معنى في قوله: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168]، يعني: أن الشيطان يتدرج بابن آدم بالوصول إلى المعاصي، فلا يوقعه في الكبيرة مباشرة، فلا يدعوه إلى الزنا، وإنما يدعوه إلى مقدماته، إلى سماع مجون، أو سماع وصف، وإطلاق بصر، أو غير ذلك، أو غناءٍ محرم أو نحو هذا، حتى يوصله إليه، فلا يمكن لأحدٍ أن يقع في زناً إلا وقد بدأ بأولى خطواته، وكأن الشيطان يستعمل طريقة الإيناس في بني آدم، كحال الإنسان الذي يقود أعمى حتى لا يجفل ويقوم بالرجوع، والشيطان لو ابتدأ الإنسان بالوقوع في الكبيرة مباشرة ما وقع فيها، ولا يدعوه إلى القتل مباشرة، وإنما يدعوه إلى الانتقام بالغيبة، والسب، والتعيير؛ لأنه يدرك أن وصوله إلى الكبيرة بلا خطواتها لا يمكن أن يصل إليها؛ لأن النفوس تنفر من الكبائر أشد من نفرتها من غيرها.

طريقتا الوصول إلى المحرم

ولهذا نقول: إن الشيطان يوصل الإنسان إلى المحرمات على طريقين: إما بمباحات وإما بمكروهات، والوصول بالمباحات هو كقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ ) فهذه أسئلة مباحة أن تسأل من خلق الأرض؟ من خلق السماء؟ من خلق النجوم؟ لكنها تنتقل مباشرة إلى سؤال محرم، من خلق الله؟ فهو لم يرد المباح أصلاً، وإنما أراد الوصول إلى المحرم بواسطة المباح.

الأمر الثاني: هو أن يوصله إلى المحرم عن طريق المكروه، وهذا هو الأشهر، وبحسب مقام الإنسان في العبودية تكون خطوات الشيطان إليه، فالعابد الصالح لا يأتيه الشيطان بالمكروهات، وإنما يأتيه بالمباحات حتى يتوسع فيها ثم يجسره بعد ذلك على المكروهات لهيبة المكروهات في قلبه، وأما المقصر فإن الشيطان يجسره على المكروهات حتى يقع في الصغائر، ثم يقع بعد ذلك بالكبائر.

أعداء الإنسان ثلاثة

وقول الله جل وعلا: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168]، ذكر هنا بعد ذكر خطوات الشيطان وطريقة الإيناس بالتدرج بالإنسان حتى لا يجفل، وأنها خطوات قليلة، كذلك أيضاً ليست سريعة كالجري والركض، وإنما هي خطوات يسيرة، حتى يتدرج مع الإنسان حتى يصل إلى المحرم، ولكنه قال: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168]، هنا عداوة الشيطان بينة ظاهرة، وأما ظهورها وجلاؤها لأن الله سبحانه وتعالى بيّنها في كتابه العظيم، ومعلوم أن ألد الأعداء للإنسان هو الشيطان، وأعداء الإنسان ثلاثة: نفسه الأمارة بالسوء، وشيطان الجن، وشيطان الإنس، وهم أعداء الإنسان، وأشدهم خطراً عليه هو شيطان الجن، وهو إبليس وذريته، وهو ألدهم وأشدهم خطراً عليه، وقوله هنا في بيان العداوة: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168]، فالشيطان يأتي إلى الإنسان بصورة الناصح المشفق، لا يأتي الإنسان بعداوته الصريحة، فلا يقوم بإظهار تلك العداوة، ثم يدعوه إليها، وإنما يدعوه بصورة الناصح المشفق كما بدأ بآدم عليه السلام، ولكن المراد بالبيان هنا ما بيّنه الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم.

قوله تعالى: (يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير ...)

حرص الصحابة على معرفة وجوه الخير

يقول الله جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ [البقرة:215]، هنا يسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محمداً عليه الصلاة والسلام عن النفقة، وهذه الآية نزلت قبل فرض الزكاة، ولهذا سألوا عن مصارفها، وهذا فيه دليل على حرص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على معرفة وجوه الخير، ومعرفة الفاضل من المفضول، وشدة تحريهم في ذلك، وكذلك أيضاً حرصهم على الإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى وبذل المال.

وقد جاء عن غير واحد من المفسرين: أن هذه الآية إنما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل فرض الزكاة جاء ذلك عن السدي ، والضحاك ، ومجاهد بن جبر وغيرهم من السلف، والمراد بالنفقة هنا هو ما يخرجه الإنسان من ماله سواءً كان ذلك من النقدين، أو كان ذلك من عتق الرقاب، أو كان ذلك أيضاً من بهيمة الأنعام، أو كان ذلك من الألبسة والكسوة والإطعام وغير هذا.

الحكمة من تسمية المال بالخير في قوله: (قل ما أنفقتم من خير)

قال تعالى: قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ [البقرة:215]، أمر الله عز وجل هنا أن يبيّن أن الإنفاق إنما هو من الخير، وهنا وصف المال بالخير، وقد تقدم معنا هذا في قول الله عز وجل: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [البقرة:180]، وأن المراد بذلك المال، ما أنفقتم من مالٍ، وإنما سماه خيراً يعني: أن الله عز وجل رزق العبد إياه، ويحتمل أن المراد بذلك أيضاً هو أنه ينبغي للإنسان ألا ينفق إلا من مال طيب، فالمال المحرم لا يسمى خيراً، وهذا كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة كما في مسلم : ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً )، يعني: أنه يجب على الإنسان أن ينفق من المال الطيب، وأما المال المحرم فإن كسبه محرم، والنفقة منه هوى، وذلك لأنه ما أريد به وجه الله؛ لأن أصل الكسب محرم.

مصارف الزكاة لمن أراد أن يخرجها في مصرفها بنفسه

ثم قال تعالى: مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [البقرة:215]، ذكر هنا شيئاً من أصناف من ينفق عليهم، وما ذكر في سبيل الله، ولا ذكر الغارمين والمؤلفة قلوبهم، وذلك أن هذا الأمر إنما يتوجه إلى ولي أمر المسلمين، وهذا من جهة الأصل، من جهة مصارف الزكاة، أن ولي الأمر من جهة صرفها له أن يدفعها في سبيل الله، ويدفعها للمؤلفة قلوبهم، وأما لما جاء السؤال منهم احتاجوا إلى الإنفاق إلى من حولهم؛ لأن الأمر في غير ذلك غالباً لا يعنيهم، وإنما ينفق إلى رسول الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينفقه في سبيل الله.

إذاً: فسؤالهم هنا فيما يدفعونه هم للناس مباشرة يداً بيد، لا أن يدفعوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان السؤال على هذا لأعطوه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يتكفل بمصارفه، فهم أرادوا أن يعرفوا مصارف الزكاة، ومصارف النفقة من تلقاء أنفسهم، فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل وجوه الإنفاق، وهي أن ينفقوا على الأقربين.

فضل الوالدين على الأبناء

وهنا خص الوالدين بالذكر، ثم ذكر الأقربين مع أن الوالدين هم أقرب الأقربين، وذلك لفضلهم على الإنسان، ومنزلتهم وتقدمهم على غيرهم، وأنهم أولى ما ينفق الإنسان عليه، وبهذه الآية أخذ بعض العلماء أن الإنفاق على الوالدين أعظم من الإنفاق على الأبناء والزوجة وأوجب، وذلك أن حق الوالدين أعظم من حق الأبناء على الأب، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى أمر ببرهم أعظم وأكثر من أمر الولي ببر أبنائه بعد بلوغهم، فالنص في ذلك على حد سواء أن الله عز وجل حينما أمر ولي الأمر بأن ينفق على الذرية جاءت النصوص قبل بلوغهم، وأما في حال كبرهم، فإن النصوص في ذلك متوجهة إلى الأبناء ببر آبائهم.

حكم إنفاق الزكاة على الأقربين

وهنا مسألة: وهي مسألة الزكاة وإنفاقها على الأقربين، نقول: الأصل في دين الله سبحانه وتعالى أن الصدقة على الأقربين أعظم من الصدقة على الأبعدين، وذلك أنها صدقة وصلة، ولهذا أبو طلحة لما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن أحب مالي إليّ بيرحاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: اجعلها في الأقربين، وغير ذلك من النصوص، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً الرجل بكفالة أهله، وما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً في الصحيح: ( كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يملك قوته )، وغير ذلك من النصوص التي تدل على التشديد.

كذلك أيضاً في حديث أبي هريرة في الصحيحين في قول النبي عليه الصلاة والسلام، قال: ( ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً ).

وقال غير واحد من العلماء: إن المراد بالإنفاق هو الإنفاق على الذرية؛ لأنه يستحيل على الإنسان أن ينفق كل يوم إلا على ذريته، وأما الصدقات الأخرى فهي عارضة، فيكون ذلك احتساباً من الإنسان يستعذر النية باللقمة التي يضعها في فم ابنه، أو بنته، أو زوجه، أو أمه، فيكون المراد بذلك هو الإنفاق على الأقربين، وهي من النفقة، وإن كانت واجبة على الإنسان أن ينفق على أبنائه وبناته، إلا أن الاحتساب في ذلك متأكد، وكأن في حديث أبي هريرة : ( ما من يوم يصبح فيه العباد )، إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يستحضر نية الإنفاق.

وأما بالنسبة لدفع الزكاة للأصول والفروع، فنقول: إن أخذ الزكاة على حالين:

الحالة الأولى: آخذ لها لحاجته بنفسه، وذلك كحال الفقير والمسكين إنما يأخذ ليأكل، ويأخذ ليشرب، فنقول: إن الوالدين إذا كانوا بهذه الحالة فلا يجوز للابن أن يدفع الزكاة لهما، بل يجب عليه أن ينفق عليهما من ماله، وهذه المسألة قد حكى الإجماع فيها ابن المنذر ، وابن قدامة ، وغيرهم من العلماء، وأن الإنسان إذا كانت حاجة الوالدين لأنفسهما فإن الزكاة لا تدفع لهما، وتستثنى حالة أن الإنسان إذا كان ليس بقادر على النفقة، وعليه زكاة واجبة إما في ذمته أو نحو ذلك، وليس هو من أهل القدرة على الإنفاق، هل يعطيهما من الزكاة أم لا؟ نقول: اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: فذهب المالكية والشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، ورجحها ابن تيمية إلى أنه يجوز له أن يدفع الزكاة، بل نقول: إنه يجب عليه أن يدفع الزكاة لهما إذا كان لا يجد غير الزكاة، ولو كان ذلك لحاجتهما.

وذهب جماعة من الفقهاء، وهو المشهور في المذهب إلى المنع بجميع الأحوال، وإنما قال من قال بالجواز في مثل هذه الحال، قالوا: لأن المانع من دفع الزكاة هو القدرة على الإنفاق، والقدرة على الإنفاق منه ممتنعة، فلا يجوز أن تحبس إعطاء المال لوالديه، وحقهما عليه، والمانع من ذلك معدوم، وسبب المنع هو وجود النفقة، وألا يكون الإنسان شحيحاً، فلما عدم المال جاز له أن يدفع الزكاة لوالديه.

الحالة الثانية ممن يأخذ الزكاة: أن يأخذ الزكاة لغير حاجته، وذلك كالذي يجاهد في سبيل الله، أو الغارم، أو المملوك يريد أن يعتق نفسه أو نحو ذلك، فنقول: إن المال إذا كان لا يأخذه الإنسان لحاجته أكلاً ولباساً ونحو ذلك، وإنما لحظ غيره كالأب الذي يريد من ابنه أن يقضي عنه ديناً، أو أن يعطيه مالاً ليجاهد، أو أن يتحمل حمالة لإصلاح ذات البين، فهل للابن أن يدفع الزكاة لأبيه في مثل هذه الحال؟ نقول: هذه المسألة اختلف العلماء فيها على قولين، وهما روايتان أيضاً في مذهب الإمام أحمد رحمه الله، ورجح ابن تيمية على أنه يجوز دفع الزكاة للوالدين إذا كان ذلك في غير حاجتهما بالإطلاق، وإذا كان في حاجتهما بشرط ألا يستطيع الإنفاق.

وأما بالنسبة للزكاة للابن فنقول: إن حكم زكاة الأب على ابنه كحكم زكاة الابن على أبيه، وهي على هذا التقسيم.

وأما بالنسبة لدفع الزكاة على الإخوة والأخوات، فهذه المسألة أيضاً من مسائل الخلاف، اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

منهم من قال: بجواز دفع الزكاة لهم.

ومنهم من قال: إن الزكاة لا تدفع لهم، بل يجب عليه أن ينفق عليهم.

ومنهم من فرق في حال إرثهم ألا يكون لهم أبناء، وليس له أبناء حينئذٍ يرثون، إذا كانوا من أهل الإرث، فإنهم حينئذٍ أقرب إليه من غيرهم، وإذا كانوا محرومين من الميراث فإن الإنسان ينفق عليهم، ولو من زكاة ماله، والأظهر والله أعلم أنه يجوز للإنسان أن يدفع زكاة ماله على إخوته بكل حال، سواءً كانوا وارثين أو غير وارثين، ولو أنفق عليهم وهو مقتدر، ولم يدفع الزكاة إليهم، فهو أفضل، ومن كان أبعد من الإخوة فإنه يجوز من باب أولى، ويأخذ الآباء وإن علوا حكماً واحداً، ويأخذ الأبناء وإن نزلوا حكماً واحداً، فأبناء الأبناء كحكم الأبناء، وكذلك الجد كحكم الأب، ومن كان خارجا ًعنهم من الأقربين أو من الأرحام ونحوهم فإن الزكاة تدفع إليهم، كزوجة الجد إذا لم تكن جدة فإن الإنسان يدفع إليها الزكاة، وكذلك الأعمام والأخوال وأبناء العم وأبناء الخال والخالة، فإنهم أيضاً من ذوي الأرحام تدفع إليهم الزكاة.

عدم احتقار الخير وإن قل

ثم قال تعالى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:215]، هنا في قوله: (من خير) يعني: قلّ أو كثر، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان ألا يتقلل شيئاً من الخير، ولو كان ديناراً أو درهماً، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( اتقوا النار ولو بشق تمرة )، فينفق الإنسان ما يستطيع، سواءً كان ديناراً أو درهماً، أو تمرةً أو تمرتين بما يستطيعه الإنسان، ولا يحتقر من ذلك شيئاً، فإن الله عز وجل يحصيه على الإنسان، ولهذا قال الله عز وجل: فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:215]، يعني: يعلمه من حال الإنسان، ويحصيه لعبده ويجازيه عليه. نكتفي بهذا القدر.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير آيات الأحكام [21] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

https://audio.islamweb.net