اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر [5] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر [5] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
قال المصنف رحمه الله: [ وصيغ الأداء: سمعت وحدثني، ثم أخبرني، وقرأت عليه، ثم قرئ عليه وأنا أسمع، ثم أنبأني، ثم ناولني، ثم شافهني، ثم كتب إلي، ثم عن، ونحوها. فالأولان: لمن سمع وحده من لفظ الشيخ. فإن جمع: فمع غيره، وأولها: أصرحها وأرفعها في الإملاء، والثالث والرابع: لمن قرأ بنفسه. فإن جمع فهو كالخامس].
تقدم الإشارة إلى مسألة صيغ السماع وتنوعها، وكذلك اختلاف العلماء في الاتحاد بين ألفاظ السماع وترتيبها، وفيما ذكر المصنف رحمه الله هناك من يوافقه على هذا، وهناك من لا يوافقه على هذا الترتيب.
ما هو محل اتفاق عند العلماء أن الصيغة التي تثبت سماعاً أقوى من الصيغة التي لا تثبت ذلك، فقوله: (أخبرنا وأنبأنا وحدثنا) أقوى من قوله: (عن) أو (أن فلاناً) أو (قال فلان).
واختلفوا في العنعنة والأنأنة أيهما أقوى؟ قول الراوي: عن، وقوله: (أن فلاناً قال).
فنقول حينئذ: إن ما أفاد سماعاً أقوى من غيره، وغيره الذي لا يفيد سماعاً يكون في الحكم سواء، يحتاط في ذلك الإنسان.
وكذلك ينبغي أن نعلم أن صيغ السماع قد تدخل فيها المغايرة كما تقدم الإشارة إلى هذا، في الاختلاف بين صيغ السماع، فمن الرواة من يبدل صيغة سماع شيخه، ومنهم من يجريها على ما هي عليه، فبعض الرواة يبدل (أخبرنا) (عن)، أو (أن فلاناً قال) أو غير ذلك، بحسب مذهب الراوي، فينظر إذا كان المحدث صاحب الكتاب ممن يترخص في صيغ السماع فحينئذٍ نقول: إن الترخص بذلك هو منهج له، وعلى هذا لو خالفه غيره فهذا من المخالفة المقبولة، ولكن إذا كان شديد الاحتياط بذكر صيغ السماع وخالفه غيره بذكرها، فذكر العنعنة أو الأنأنة، ثم جاء راوٍ فذكر صيغة السماع في أمر مشكل في سماع التلميذ من الشيخ أو نحو ذلك، فإننا نقول: إن الأصل في ذلك أن مثل هذه الرواية محتملة لعدم القبول؛ لأن بعض الرواة ربما يتجوز، فيغلب على ظنه أن فلاناً ما روى عن فلان إلا بسماع، فيذكر صيغة (حدثنا) من باب إحسان الظن، وهذا يوجد، وربما ذكرت خطأً، وهذا معروف في الأسانيد وإن لم يكن كثيراً.
وقد يقع من بعض الرواة التجوز، وذلك أن بعض الرواة يقول: أخبرني فلان أو سمعت فلاناً، يشير بلفظ المفرد، بينما هو حدث الجماعة.
وإذا تغيرت صيغة السماع فلا يعني ذلك تغير المجلس، أنه سمعه في أكثر من موضع، فإذا جاء في المسند: (أخبرنا) وجاء في موضع (عن)، أو جاء (أخبرنا) وفي موضع (أنبأنا)، لا يعني ذلك أن الشيخ حدث بهذا الحديث لهذا الراوي بعينه الحديث مرتين أو أكثر من ذلك، نقول: هذا محتمل سواء تغيرت أو لم تتغير، ولهذا طول ملازمة التلميذ لشيخه لها أثر على ضبطه للحديث ومعرفته له، وتقديمه على غيره ممن خالفه المتأخر وهذا من القرائن.
قوله: (والثالث والرابع: لمن قرأ بنفسه. فإن جمع فهو كالخامس) وهذا يظهر في القراءة في قوله: (قرأت على فلان) فهذا إشارة إلى أنه هو القارئ، وليس غيره، يعني: أنه أدعى وأقرب إلى ضبط الحديث من أن لو كان يروي مع غيره.
قال المصنف رحمه الله: [والإنباء بمعنى الإخبار، إلا في عرف المتأخرين فهو للإجازة كعن].
الإجازة من مواضع الخلاف عند العلماء من جهة قبولها.
والمراد بالإجازة: أن يسمع التلميذ من شيخه بعض حديث ثم يجيزه في الباقي، أو لا يسمع منه شيئاً، ويجيزه بحديثه فيناوله إياه، يقول: خذ هذا الكتاب حدث به عني، أو حدث عني بحديث كذا، فيعطيه هذا الحديث أو ذلك الكتاب فيرويه عنه من كتابه، ويقوم التلميذ بنسخ ذلك الكتاب، له نسختان، وإذا أخذ نسخة فهو أضبط من غيره ممن يحدث عنه إجازة من كتاب غير الشيخ، فيجيزه الشيخ، ويكون الشيخ ضعيف الكتابة، فيقول: أجزتك بكتابي كذا، ولا يأخذ منه نسخة، وإنما يأخذ من أحد تلاميذه، فيستنسخ نسخة أخذت عن نسخة الشيخ، وهذا مما هو دون ذلك مرتبة.
ومن العلماء من يسوغ الرواية بالإجازة، ويجيز قوله: (أخبرنا) في مثل هذا، ومنهم من يجيز صيغ السماع كلها باعتبار أن هذا الكتاب كتاب صحيح ورواه عنه.
والإجازة يدخلها كثيراً التصحيف والتحريف؛ لأنه لم يسمعها، خاصة إذا كان المجاز ليس من أهل العلم والمعرفة بالرواية والدراية، فيقع عنده التصحيف، خاصة من المتقدمين من غير العرب الذين كانوا في زمن عدم النقط.
قال المصنف رحمه الله: [ وعنعنة المعاصر محمولة على السماع إلا من مدلس، وقيل: يشترط ثبوت لقائهما ولو مرة وهو المختار].
العنعنة لا تفيد سماعاً، لكنها أيضاً لا تدل على الانقطاع، وإنما تدل على احتمال الأمرين، وينتفي الانقطاع بالمعاصرة وإمكان اللقي، فإذا تعاصرا وأمكن اللقي، ولم يتهم الراوي بالتدليس فحينئذٍ يكون الحديث متصلاً.
وثمة قرائن إذا وجدت احتمل في ذلك الانقطاع، وذلك في قرائن متعددة منها:
القرينة الأولى: الاختلاف في البلد، وتباعدهما، وذلك إذا كان الراوي مثلاً خراساني الشيخ، وتلميذه يماني، فيحدث اليماني عن الخراساني بحديث بصيغة العنعنة، وهذا إذا لم يكن ثمة قرينة بقرب البلد فيزيد احتمال عدم السماع للتباعد، وكلما تقاربت البلدان وزادت المدة فهذا من القرائن في القبول وأنه سمع منه.
القرينة الثانية: طول زمن المعاصرة؛ لأنه إذا زاد زمن المعاصرة زال احتمال السماع، فحينما يتعاصر اثنان في بلدتين متباعدتين فإن احتمال اللقي في ذلك قليل، كأن يكون عمر الشيخ ثمانين، وعمر التلميذ عند وفاته عشرون، فالغالب أن همة الطالب في الارتحال والانتقال ولقي الشيوخ تكون بعد سن الخامس عشرة، وكلما تأخر الناس في ذلك زمناً تأخروا كذلك عناية في هذا الباب، وهذه الفترة مع تباعد البلدان تدفع الجزم بالسماع لماذا؟ لأن الطالب يحرص على العناية بعلماء بلده، فإذا استنفدهم يأخذ من الأبعدين، إذاً هذه المدة ليست بكافية أن يأخذ بمحيطه ومن حوله، كأن يكون مدنياً، أو يكون صنعانياً، أو يكون مكياً، أو يكون كوفياً أو نحو ذلك، فيحتاج إلى الأخذ من علماء بلده، وهم أقرب من أن يروي ويذهب إلى الخراسانيين في فترة زمنية من سنتين إلى ثلاث سنوات إلى أربع أو خمس سنوات، إذاً فضعف المدة بين الراويين في رواية لا تفيد السماع بالعنعنة والأنأنة أن اجتماع التباعد بين البلدان وقلة المدة الزمنية من قرائن عدم السماع وترجيحه على السماع، ولهذا نقول: إذا وقع الخلاف في مثل هذا واجتمعت القرائن في مثله فإن هذا دليل على عدم سماعه.
القرينة الثالثة: كثرة المروي وقلته، وهذه لها أثر على ترجيح أحد الأمرين، لا الجزم به، فإذا تباعدت البلدان ولم يرو إلا حديثاً واحداً مع قلة الزمن، فهذه قرينة على عدم اللقاء، ولماذا نقول: قرينة على عدم اللقاء؟ لأنه لا يرتحل ليسمع حديثاً واحداً، وإنما يرتحل وقد جمع همته على أن يأخذ ما لدى الشيخ من حديثه أو من أهم حديثه؛ وهو ما قصده بالارتحال بالذهاب إلى ذلك البلد إلا وقد نوه باسم ذلك الشيخ بجمعه للحديث والسنة، فيذهب إليه ويرتحل ويأخذ حديثاً واحداً وهو في زمن قصير، فهذا من قرائن عدم السماع.
ولهذا تجد بعض الأئمة يذكرون أن فلاناً لم يسمع من فلان؛ لأنهم سبروا أمثال هذه الأمور، تباعد القطرين وقلة الزمن، وقلة المروي، فاجتمعت وأعطت عند ذلك الإمام عدم السماع منه.
القرينة الرابعة: أن يروي الراوي عن غير أهل بلده حديثاً بصيغة لا تفيد سماعاً حديثاً لا يوجد عند أهل بلده، بمعنى حديث يرويه يماني أو مصري عن خراساني، وتباعد بين القطرين، فيروي حديثاً لا يوجد عن الخراسانيين عن شيخه، فهذا دليل على وجود راوٍ بينهما وهم في ذلك، والأصل أنه يحمل رواية الراوي أهل بلده عنه، فيقومون برواية ذلك الحديث عنه وحمله كذلك.
القرينة الخامسة: أن يكون التلميذ غير معروف بالارتحال من جهة الأصل، لم يرتحل إلى بلدان دون تلك البلد، كمصري أو يماني، أيها أقرب إليه مكة أو المدينة أو خراسان؟ مكة والمدينة، فإذا روى عن شيخ له خراساني بصيغة لا تفيد سماعه، وهذا التلميذ لا يعرف بالارتحال إلى البلدان التي هي أولى وأقرب من خراسان فهذه قرينة على عدم السماع، ونرجح حينئذٍ عدم السماع.
القرينة السادسة: أن يعرف الشيخ بعدم الارتحال، وقد ذكرنا هنا أن التلميذ لا يعرف بالارتحال، وكذلك الشيخ لا يعرف بالارتحال؛ لأنه احتمال أن الشيخ هو الذي ارتحل إلى التلميذ، خاصة إلى مواضع معظمة كمكة والمدينة، فهذه قرينة على أن صيغة السماع لا تدل على أنه سمع منه، وهي إلى الانقطاع أقرب، كأن يكون خراسانياً لم يشتهر عنه أنه ذهب إلى مكة والمدينة؛ لاحتمال أن يكون ذلك التلميذ اليماني أو المصري التقى مع الشيخ في مكة في الحج، فسمع منه الحديث والحديثين، فإذا نظرنا في سيرته وجدنا أنه لم يرتحل، وهذا من قرائن إثبات عدم السماع.
القرينة السابعة: ألا يشارك ذلك التلميذ من هو أولى منه بالرواية عنه من أهل بلده، أو من أهل العناية، المشاركة على سبيل العموم، وهذا نعرفه بالنظر إلى روايات تلاميذ ذلك الشيخ، وذلك مثلاً شيخ خراساني له تلاميذ مائة، وهؤلاء المائة يوجد منهم عشرة أو سبعة مدنيين، أو حجازيين، أو يمانيين، أو نحو ذلك، فهذا دليل على أن الشيخ إما وفد إليه الناس، أو هو تحرك من مكانه، فالتقوا في نقطة، يعني: أصبح ثمة حركة للشيخ، وهذه الحركة قد يضعف على الإنسان تمييزها، أي: ضعف عند الإنسان تمييز من الذي تحرك، ولكن في الغالب أن التلميذ يتحرك، واحتمال أن الشيخ تحرك من موضعه إما إلى مكة والمدينة، والتقى بهذا الجمع، وهذا يعطيك عند الوقوف على رواية راوٍ ترجيح أن صيغة الرواية محمولة على السماع؛ لأن ثمة جمع رووا عنه في بلدان أخرى، فاشترطوا معه ودل على حركة الشيخ إما إلى مكة والمدينة، وما كل مواضع الارتحال للرواة تلاميذ وشيوخ تدونها الكتب، خاصة ما يتعلق بالحج، باعتبار أنه طريقة معلومة، ما كل من ذهب إلى الحج يقال أنه ذهب إلى الحج، الناس معتادة على هذا، على إسقاط هذا الفرض.
قوله: (وقيل: يشترط ثبوت لقائهما ولو مرة وهو المختار) هذا الأصل، أن نشترط المعاصرة وإمكان اللقي، وتقدم معنا القرائن التي تعطي الإنسان إيحاء، لكن لا تدل دليلاً قاطعاً، فكون الشيخ مصرياً والتلميذ يمانياً هل هذا دليل قطعي أنه ما التقيا؟ ليس بدليل هذه الأقطار، لكن هي قرائن، فإذا اجتمعت أمثال هذه القرائن أعطت الإنسان قوة بنفي ذلك السماع.
ولهذا نقول: المعاصرة وإمكان اللقي، والمعاصرة تتباين منها ما تمتد عشر عشرين ثلاثين أربعين سنة، وكلما امتد زمن زاد احتمال اللقاء، وإذا قصر قصر احتمال اللقاء، فاسم المعاصرة عريق، وهو شامل لسنوات، لسنة سنتين، وشامل لعشرين وثلاثين وخمسين وستين سنة.
وبين المعاصرة وثبوت اللقاء إمكان اللقاء، أن يكون ممكناً، لا مستحيلاً، هناك ما هو مستحيل مع وجود المعاصرة، مثلاً أن يروي التلميذ عن شيخه حديثاً، ويكون الشيخ محبوساً، فهذه معاصرة، لكن السماع في ذلك محال أن يروي، خاصة إذا كان التلميذ بعيداً عن الشيخ، فما هي الخصيصة أن لقي التلميذ الشيخ في حبسه وهو مغترب عنه ولم يره أخص الناس منه.
إذاً فوجود المعاصرة في ذاتها لا يلزم من ذلك اللقي، بل حتى إن كان اللقي إذا وجد دليل قاطع بعدم ثبوته، فإنه يقال بذلك.
كذلك: إذا وجدت المعاصرة وكان التلميذ صغيراً، مثلاً توفي الشيخ وعمر التلميذ عشر سنوات، وهما من بلدان متباعدة، كاليماني والشامي، فالشيخ شامي والتلميذ يماني، والتلميذ عمره عشر سنوات عند وفاة الشيخ، فهذا شبه قطع أن إمكان اللقي بعيد، لماذا؟ لأن الصغير لا يعرف بالرحلة، ولا يعرف بالانتقال من بلد إلى بلد.
قال المصنف رحمه الله: [ وأطلقوا المشافهة في الإجازة المتلفظ بها، والمكاتبة في الإجازة المكتوب بها، واشترطوا في صحة المناولة اقترانها بالإذن بالرواية، وهي أرفع أنواع الإجازة. وكذا اشترطوا الإذن في الوجادة، والوصية بالكتاب، وفي الإعلام، وإلا فلا عبرة بذلك، كالإجازة العامة، وللمجهول والمعدوم على الأصح في جميع ذلك ].
الإجازة إما أن تكون معاينة مع مشاهدة، بحيث يشاهد الإنسان من أجازه، وإما أن يكون ذلك كتابة، يعني: أن يكتب له إجازة برواية ذلك الحديث، سواءً رآه قبل ذلك أو لم يره، وكلها إجازة إذا صح التثبت من النسخة، ولم يدخلها دخيل، وأن النسخة هي التي كتب بها الشيخ إليه.
وقوله: (واشترطوا في صحة المناولة اقترانها بالإذن بالرواية، وهي أرفع أنواع الإجازة) لأنه ربما أعطاه الكتاب هدية، أو أن يحفظه من الضياع له كوديعة وأمانة، فما أجازه برواية ما فيه، ولماذا التفريق بينها وكلها مد؟ نقول: لأنه ربما مد لديه بأحاديث ليست له، فاختلطت أحاديثه في هذا الكتاب مع أحاديث رواة، أو أحاديث يستذكرها، فبمجرد مناولته لها أخذها وحدث بها عنه فيظن أنها له وليست له.
وإذا قال: أجزتك بهذه الرواية فهذا دليل على أن ما في هذا الحديث هو حديث الشيخ بنفسه.
وأما إذا ناوله من غير الإذن بالرواية فاحتمال أن يكون وديعة وأمانة؛ لأن نصف هذه الأحاديث مجرد وشبيه بالاستذكار، فأنا أكتب وحدث به الناس عن النبي عليه الصلاة والسلام، وأذكره لأبحث عن وصل واتصالي به، فيقوم بمجرد ذلك بالتحديث عن ذلك، ويظن أنها متصلة، ويوجد فيها من المناكير وغير ذلك.
نقول: لا بد من الإذن بالرواية، سواءً بلفظ الإجازة يقول: أجزتك أن تروي عني هذا الكتاب، أو حدث عني بما في هذا الكتاب، أو أروه عني أو غير ذلك.
قوله: (وكذا اشترطوا الإذن في الوجادة) الوجادة هي أن يجد الإنسان كتاب الشيخ وهو عالم بخطه، وهي مأخوذة من وجد الكتاب، أو وجد الشيء، أي: وقف عليه، سواءً كان ذلك عن قصد أو غير قصد، ولكن تذكر الوجادة، أو وجود الشيء غالباً في المفقود، ولكن تستعمل هذه العبارة، أي: أن الإنسان حريص على مثل هذا فوجده، فيقول: وجدت كذا في الطريق؛ لأن مثله الهمم تتداعى على العناية به، فوجد الضالة مع أنه لم يطلبها قبل ذلك، أو وجد رجلاً في طريقه، أو وجد فلاناً في الحج أو نحو ذلك، فإنه كان حريصاً ولو لم يكن مفقوداً بالنسبة له ويبحث عنه، ولو كان على سبيل الصدفة.
فالوجادة إذا وجد كتاب الشيخ هل يرويه عنه أم لا؟ يقولون: لا بد من الإذن بذلك، لماذا؟ لأننا إذا قلنا هذا في الإجازة وهي المناولة، فكيف بوجادة لم يناول إياها؛ لأنها ربما تكون حديث استذكار، أو ليست أحاديث له دونها، قد أخذها من بعض أقرانه، فنقول: لا بد في ذلك من الإذن، وأن يكون عالماً بخط الشيخ أيضاً، لا أن يكون وجد الكتاب وأذن له الشيخ بما فيه، فاختلط عليه بكتاب آخر، فربما كان للشيخ أكثر من كتاب، فاختلط هذا بهذا، فيشترط أن يعرف تمييز خط الشيخ عن غيره.
قوله: (وإلا فلا عبرة بذلك كالإجازة العامة وللمجهول وللمعدوم على الأصح في جميع ذلك) أضعف أنواع الإجازات هي الإجازة للمجهول والمعدوم، فالمجهول الذي لا يعرفه الإنسان كأن يجيز من وراء هذا الحائط، أو يجيز لأهل الأردن، أو لأهل حمص، أو لأهل دمشق، أو لأهل بغداد، أو لأهل مكة، يقول: من كان في مكة فله أن يروي عني هذا، وحينئذٍ سيدخل في هذا مجاهيل ومكلفون وغير مكلفين، ذكور وإناث، ويدخل في هذا المسلم والكافر ونحو ذلك، فيه ضعيفة.
وكذلك الإجازة للمعدوم، كأن يقول: أجيز لكل أحد أن يروي عني ممن يقف عليه، يعني: أناس لم يولدوا بعد، أو يجيز لكل أحد من أهل هذا القرن ولد أو لم يولد أن يروي عنه، فربما كان حملاً في بطن أمه، أو ربما لم يولد فوجد ذلك فإنه يدخل في هذا الخطاب.
قال المصنف رحمه الله: [ثم الرواة إن اتفقت أسماؤهم وأسماء آبائهم فصاعداً، واختلفت أشخاصهم فهو المتفق والمفترق].
الرواة بطبيعة الحال يتشابهون في الأسماء، وقد تقدم معنا أنه ربما يتشابه الراوي مع غيره، فيتشابه باسمه واسم أبيه، وربما جده، ويفرق بينهما بالكنى والبلدان، وربما يشترك بالاسم واسم الأب، ويختلف في القبيلة، فيبحث عن مفارقات في اسمه أو في بلده أو في كنيته، أو في شيخه أو في تلاميذه، أو في اختصاصه، وهذا معروف عند العلماء.
ويدخل في هذا أيضاً بعض وجوه التصحيف على ما تقدم الكلام عليه عند المصنف رحمه الله.
وللعلماء مصنفات في هذا، من ذلك كتاب الخطيب البغدادي عليه رحمة الله في المتفق والمفترق، فقد جمع قدراً لا بأس به في هذا.
قال المصنف رحمه الله: [ وإن اتفقت الأسماء خطا واختلفت نطقاً، فهو المؤتلف والمختلف ].
ومن ذلك كـعلي وعُلي، فيوجد علي وعُلي كـعلي بن رباح ، وكذلك عُبيدة وعَبيدة تشترك من جهة الرسم والنقط، ولكنها تختلف من جهة النطق.
قال المصنف رحمه الله: [ وإن اتفقت الأسماء واختلفت الآباء، أو بالعكس فهو المتشابه، وكذا إن وقع ذلك الاتفاق في اسم واسم أب، والاختلاف في النسبة، ويركب منه ومما قبله أنواع، ويركب منه ومما قبله أنواع: منها أن يحصل الاتفاق أو الاشتباه إلا في حرف أو حرفين، أو بالتقديم والتأخير أو نحو ذلك].
مقدار التشابه والاختلاف يقل ويكثر في الراوي، قد يكون المتشابه بالاسم واسم الأب، ويختلفون فيما عدا ذلك، وقد يتفقون بالاسم واسم الأب واللقب، ويختلفون فيما عدا ذلك، وقد لا يعرف عن الراوي إلا اسمه واسم أبيه، ولقبه، ولا تعرف له كنية، ويشتركان في بلد، وهذا على القرائن التي تقدمت معنا مراراً.
ثمة مصنفات للأئمة في أبواب الكنى كالكنى للبخاري ، والكنى للإمام مسلم ، والكنى للدولابي .
وثمة أيضاً كتب في ألقاب الرواة، وكتب في البلدان، فيوردون الرواة في هذه البلدان، أو من دخل هذه البلد، ومن أشهر هذه الكتب تاريخ دمشق لـابن عساكر ، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي ، وتاريخ واسط لبحشل وتاريخ خراسان، وتاريخ نيسابور، وتاريخ المدينة وأخبار مكة، وتاريخ مصر لـابن يونس وغير ذلك من المرويات، وغيرها من المصنفات التي اعتنت بذكر أخبار ومرويات الرواة في هذا البلد ممن كان من أهلها أو دخل وروى أو روي عنه فيها.
السؤال: هناك أحاديث في مسلم فيها عنعنة فما حكمها؟
الجواب: ينبغي أن نعلم جلالة الإمام مسلم رحمه الله، وأن نعلم عنايته بالروايات والمرويات ومعرفة الرواة، ومعرفة البلدان، وهو من أهل الارتحال ودخول كثير من البلدان، ومعرفته للفقه المروي عن السلف، ولقاء الشيوخ، واختصاصه بالتلاميذ، والانتقاء من الأحاديث، فهو من أهل البصيرة والنقد في هذا، ولهذا لا ينبغي لطالب العلم أن ينظر إلى عنعنة مجردة منفكة عن قرائن كثيرة موجودة، تعطي الإنسان شبه يقين في بعض المواضع، فينظر إليها مجرد عنعنة، ثم يقوم بالكلام عليها، وأولئك الأئمة كانوا في زمن أحصوا كثيراً من البلدان ودخولها، والرواة وعرفوهم، والمرويات وفهموها، وعرفوا الأزمنة، والأماكن التي يجتمع فيها الناس وإمكان اللقي، فكان بين المتأخرين وبين المتقدمين شيء من الانفصال عن إدراك كثير من هذه المعلومات.
والإمام مسلم رحمه الله في ذكره لبعض الصيغ التي لا تفيد سماعاً أنه ثبت عنده السماع، ولو التمس ذلك في القرائن لوجد أن ذلك ظاهر. والإمام مسلم رحمه الله يروي أحاديثه بالعنعنة مما ثبت سماعه عنده، ولهذا لا نجد متناً منكراً أو مخالفاً للثقات، أو وجدت فيه قرائن تدل على رد تلك العنعنة إلا والمعاصرة موجودة وإمكان اللقي كذلك متوفر، واجتمعت قرائن أخرى دلت على ذلك.
السؤال: نرجو منكم بيان صيغة التمريض وحكمها.
الجواب: التمريض له صيغ متعددة، كـيروى ويذكر ويقال ويحكى، وحكي وغير ذلك، فهذه من صيغ التمريض وأشباهها، وأما الجزم فيقول: قال وذكر وحدث وروى فلان، فهذه من صيغ الجزم، وهذه يشتهر بها البخاري رحمه الله في كتابه الصحيح في الأحاديث المعلقة، فيذكر تارة بصيغة الجزم، وتارة بصيغة التمريض، وصيغة التمريض ليس له اطراد فيها أنه يذكرها بصيغة التمريض، ويريد من ذلك الإعلال، وربما ذكر الحديث بصيغة التمريض، ويريد به الإعلال، أو ربما ذكر الحديث المروي بصيغة التمريض لكونه قاصراً عن شرطه، لا لكونه ضعيفاً؛ لأن له شرطاً وهو قاصر عنه، وربما روى الحديث بصيغة التمريض؛ لأنه يرويه بالمعنى وهو صحيح، وربما ذكره بصيغة التمريض لأنه اختصره واجتزأه، ولهذا وجد في صحيح البخاري بعض الأحاديث رواها البخاري بصيغة التمريض، وقد أخرجها البخاري نفسه في الصحيح. وفي مقابل هذا وجد من المرويات ما ذكره البخاري بصيغة الجزم وهو ضعيف، ولكن هذا ليس هو الأغلب.
السؤال: هل كل ما فيه صحيح مسند الإمام أحمد ؟
الجواب: الإمام أحمد رحمه الله وغيره من الأئمة يصنفون المصنفات ولهم مقاصد في التصنيف، منهم من يقصد الصحة، ومنهم من يقصد الشهرة، ومنهم من يقصد الجمع، ومنهم من يقصد دخول الأحاديث في دائرة الاحتجاج، ومنهم من يقصد جمع نوع معين كالمرفوعات، ولم يقصد الموقوفات، ومنهم من يقصد نوعاً معيناً من أنواع العلوم، فمنهم من يقصد التفسير لا يقصد غيره، ومنهم من يقصد السير لا غيره، ومنهم من يقصد الفضائل وغير ذلك، فلكل إمام غاية ومراد في تصنيفه لذلك الكتاب، ولا بد من معرفة مقصد الإمام في كتابه، ومعرفة شروطه، وكيف تعرف؟ تعرف بعدة أشياء:
أولها: بعنوان الكتاب، فعنوان الكتاب له دلالة، مثلاً مسند الإمام أحمد أراد أن يخرج المسندات والمرفوعات، الجامع المختصر المسمى بصحيح البخاري أراد أن يروي في ذلك الأحاديث الصحيحة، فكل ما فيه هو عند البخاري صحيح، وكذلك صحيح ابن خزيمة وصحيح ابن حبان وغير ذلك، أما كتاب معرفة السنن والآثار للبيهقي فقد أراد بذلك أن يورد الموقوفات مع المرفوعات وأن يجمع بينها، وفي كتاب السنن الكبرى للبيهقي أراد أن يروي المرفوعات وإن أشرك في ذلك شيئاً من الموقوفات، فتؤخذ بعض المناهج منه، وكذلك في عنوان صحيح البخاري : الجامع المختصر المسند الصحيح من سنن النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله، فهو أراد من ذلك أن يورد ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من سننه وأقواله وأفعاله عليه الصلاة والسلام، ولا يريد الموقوفات، ولا يريد أن يروي أشياء في التفسير ليست مقصودة لديه، ولو أوردها على سبيل التبعة.
الثاني: أن ينص على شرطه أو منهجه، أو مقصده في مقدمة الكتاب، فـمسلم رحمه الله ذكر شرطه ومقصده في المقدمة، و البخاري ليس له مقدمة، والإمام أحمد ليس له مقدمة في مسنده، و عبد الرزاق في مصنفه ليس له مقدمة، و أبو داود بين منهجه في كتابه، و الترمذي رحمه الله في كتابه العلل بين منهجه في كتابه، فنقول: في المقدمة نعرف منهج المصنف وقصده في التأليف، إما في المقدمة أو في ثنايا الكتاب.
الثالث: بالسبر، إذا سبرنا الكتاب عرفنا المنهج، ولهذا شروط البخاري وعاداته في الصحيح كلما أمعن الإنسان نظراً في كتابه استنبط قيوداً وشروطاً وعللاً احترز أو أرادها البخاري رحمه الله في منهجه، ولهذا نقول: إن هذا يتنوع بحسب الحال.
أما الإمام أحمد رحمه الله في مسنده فما قصده في ذلك؟ جاء عنه نقول، نقل عنه أبو موسى المديني ، ونقل عنه كذلك أبو الفرج ابن الجوزي كما في أوائل كتاب العلل، أنه قصد بالمسند أن يخرج الأحاديث المعروفة عند العلماء بالاحتجاج، إذاً ما قصد الصحة، وإنما قصد الاحتجاج، ولما كان العلماء لا يحتجون إلا بحديث صحيح أو ما قاربه، ولا يحتجون بالمطروح والموضوع ندر أو عدم أن يكون في مسند الإمام أحمد حديث موضوع، والإمام أحمد لما صنف كتابه المسند أعطاه ابنه عبد الله وقال: خذ هذا فعليه فتيا الناس في الآفاق، وما يدور عندهم.
إذاً: أراد بذلك أن يجمع الأحاديث الدائرة عندهم وما اشتهر واستفاض.
ولهذا نقول: إن قصد الإمام أحمد رحمه الله في تصنيف جميع ما اشتهر، وما دخل في دائرة الاحتجاج، فيوجد فيه الضعيف ويوجد الصحيح، ويوجد الحسن، ويوجد الضعيف جداً.
لكن بالنسبة للموضوع فنقول: لا بد من التنبه إلى أمرين في مسند أحمد :
الأمر الأول: أن يوجد رواة اتهموا بالوضع فهذا موجود في مسند أحمد .
الأمر الثاني: فهو حديث يجزم بوضعه أنه مكذوب على النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا لا وجود له في مسند الإمام أحمد ، ولا يعني الاطراد في وجود الراوي المتهم يلزم منه أن هذا الحديث مكذوب، فربما اشتهر واستفاض، ولم يكن لدى الإمام أحمد سماعاً إلا من هذا الوجه، ولهذا لما ذكر أبو الفرج ابن الجوزي بعض الأحاديث في مسند الإمام أحمد ذكرها في العلل وحكم عليها بالوضع، فرد عليه الحافظ ابن حجر رحمه الله في ذلك في كتاب سماه (القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد ) وقال: إن مسند الإمام أحمد رحمه الله ليس فيه مكذوبات، وإنما فيه رواة اتهموا، وتهمة الراوي بذلك لا يعني كذب الحديث الذي رواه؛ لأنه جاء عند الإمام أحمد ، أو ثبت عنده أن الحديث له طرق، ولكن ما جاء واتصل عند الإمام أحمد ذلك؛ لأن قصد الإمام أحمد أن يروي الحديث مسنداً منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السؤال: ما رأيكم في كتاب تحرير التقريب؟
الجواب: يبدو لي أن أكثر الاستدراكات في هذا الكتاب فيما أذكر، إنما هي خاصة على قضية المستور والمجهول والمقبول عند الحافظ ابن حجر ، وتقدم معنا أن محاولة ضبط مسألة المجهول والمقبول على من يروي عنه اثنان أو ثلاثة، والتزام ذلك بالاطراد أن هذا ليس بسليم، وإنما لا بد من النظر إلى جملة من القرائن في مسألة المجهول ورفع الجهالة، فإنه ربما أن راوياً يروي عنه اثنان من الرواة فنرفع عنه الجهالة، وراوياً يروي عنه ثلاثة فلا نرفع عنه الجهالة.
فرجل كـمالك يروي عن واحد أفضل من غيره، والراوي ربما مستور ويكون مدنياً، وجهالة المدني تختلف عن العراقي والمصري وغير ذلك، لماذا؟ لقلة الكذب، والطبقة المتقدمة تختلف عن غيرها، وجهالة النساء تختلف عن جهالة الرجال، وعدد التلاميذ، وعدد الأحاديث، وغير ذلك، فهذه قرائن إن اجتمعت جعلت نظام العدد في ضبط ذلك فيما يروي من التلاميذ غير منضبط، فربما حمل ذلك بعضهم إلى عدم الانضباط في الحكم، وهذا ليس كذلك، وإنما هي قرائن تصير الإنسان، وهذه الملكة تكون لدى الإنسان مع قوة سبره وكثرة اطلاعه، ومعرفته بالرواة وبلدانهم وطبقاتهم، وكذلك شيوخهم وتلامذتهم، ومروياتهم، وأنواع تلك المرويات، وبالله التوفيق.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر [5] للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
https://audio.islamweb.net