إسلام ويب

فجأة وبغير موعد سابق تقع عيناها على آية من كتاب الله، فتتغلغل كلماتها إلى أعماق قلبها، وتوقظ إحساسها وخوفها، فيندفع سيل الذكريات في عقلها؛ لتستعيد كثيراً من المشاهد المخزية التي خلفتها وراء ظهرها، وينقطع هذا السيل الجارف بتصميم عجيب على الفرار إلى الله.

الفتاة في غرفة الانتظار في مستوصفٍ قريبٍ من بيتها

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

الجلوس في غرفة انتظار النساء عند بعض العيادات الطبية طويل جداً، لا أدري ماذا يفعلون في الداخل، تسمع إحدى النساء تخاطب جارتها بتذمر، فتنظر هي إلى ساعتها وتقول في نفسها: لي الآن عشر دقائق مذ دخلتُ غرفة الانتظار، وهاتان المرأتان كانتا قبلي، فالظاهر أن المسألة سوف تطول، وتتنهد الفتاة بنَفَس طويل، وتلتفت يميناً وشمالاً، وتتفرس في وجوه من معها في الغرفة، لا توجد في غرفة الانتظار أية فتاة أعرفها! كلهن نساء كبار!

فتُخرج الهاتف النقال من حقيبتها: دَعْنِي أكلمُ فلانة فقط وأضيع الوقت.. أُفّ! البطارية منتهية.

وتتكئ بخدها على يدها بملل، وتمر بنظرها على أرجاء الغرفة، ويقف النظر عند طاولة فيها بعض المجلات، فتقوم من مكانها وتتجه إلى الطاولة، فتقلب تلك المجلات، وتقلب، وتقلب: ما هذه المجلات؟! أما مِن واحدة تفتح النَفْس؟!

فترمي المجلة التي في يدها، وتهم بالرجوع إلى كرسيِّها، وقبل أن تلتفت لترجع يقع بصرها على مصحف، مصحفٌ وحيدٌ هناك على جانب الطاولة، لم يتناوله أحد: والله منذ زمن ما أمسكت مصحفاً -تقول في نفسها-، لم لا أقرأ فيه فقط لأتبرك؟!

وتأخذ المصحف وترجع به إلى كرسيها، ثم تفتح المصحف، فإذا هي سورة التوبة، وإذا بها الآية: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ * وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:101-102].

وتقف عند هذه الآية، ويبدأ قلبها يخفق بقوة، وتقرأ الآية مرةً أخرى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:102].

ويزداد قلبها خفقاناً، ويقشعر جلدها، وتحس بغصة بكاءٍ في حلقها، وتدمع عيناها، وكلما انتهت من الآية عادت وقرأتها من جديد، وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ... [التوبة:102]، سبحان الله العظيم! تريد أن تتجاوزها فلا تستطيع، سبحان الله! تقول في نفسها: ما هذه الآية؟! ما الذي أقرؤه؟!

سبحان الله! هل تتحدث عني هذه الآية؟! هل تخاطبني؟! وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ... [التوبة:102]، أيكون هذا وقت الاعتراف؟! أتكون هذه علامته؟!

سبحان الله! سبحان الله خالقي! أين أنا؟! أين موضعي في هذا الكون؟! أين كنتُ؟! وإلى أين أنا ذاهبة؟!

سبحان الله! هل كنتُ نائمةً فاستيقظتُ؟! هل كنتُ ميتةً فحييتُ؟! أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:122].

ويمر شريط الذكريات، ذكريات أعمالٍ لا تشرف أية فتاةٍ مسلمة آمنت بالله، فمِن خروجٍ مع شابٍ وخلوةٍ محرمةٍ معه، وما نتج عن ذلك مما تستحي من رؤيته العين المؤمنة، وما دار من كلماتٍ في تلك اللقاءات تأنَف عن سماعها الأذن، الأذن التي طالما استمعت لصوت الأذان يُرْفَع كل يومٍ خمس مرات: الله أكبر، الله أكبر، فلم تستجب ولم تقترب.

سبحان الله! تقول في نفسها: أين كنتُ؟! ولماذا فعلتُ ما فعلت؟! لا تقولي: إنه الحب يا نفس! فالحب إن لم يكن فيما أحله الله تعالى فهو حبٌ شيطاني! أم إن الأفلام والمسلسلات هي الشرع الذي نحدد به سلوكنا وأخلاقنا! وهل أنا فتاةٌ مسلمة من أمة محمد، أمة الطهر والعفاف، أم من أمة الكفر والإباحة، غربية كانت أو شرقية؟!

ويستمر شريط الذكريات يمر بسرعة: كم من صلاةٍ تكاسلتُ عن أدائها، حتى إنني لا أستيقظ لصلاة الفجر مطلقاً، يا ألله! وما صليتُ صلاة الظهر اليوم! سبحانك يا رب! كم تمهل! كم ترأف! كم تلطف! كم تستر! وهبتني الحياة، وأصححت جسدي، وعقلي، ألبسُ ما شئتُ، وآكل ما اشتهيتُ، وأنام كل ليلةٍ قريرة العين في أمنٍ وأمان، بين أهلٍ وإخوان، نِعَمٌ أتقلب فيها ليل نهار، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، أيكون هذا هو الرد على نعمة الله يا نفس؟!

إلهي أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

سبحانك وبحمدك يا رب! والله لأنت أحق من ذُكِر، وأحق من عُبِد، وأرأف من مَلَك، وأجود من سُئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك الذي لا شريك لك، وأنت الفرد الذي لا نِدَّ لك، كل شيءٍ هالكٌ إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكُر، وتعصى فتغفِر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حُلْتَ دون النفوس، وأخذتَ بالنواصي، وكتبت الآثار، ونسخت الآجال، القلوبُ لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللتَ، والحرام ما حرمتَ، والدين ما شرعتَ، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرءوف الرحيم، وليس لي ربٌ سواك.

وتطأطئ الفتاة رأسها، وتضع يدها على وجهها، ويتردد بكاؤها في صدرها، ولكنها ما زالت في غرفة الانتظار والنساء من حولها ينظرن.

فتحاول إخفاء شهقات البكاء التي تمَلَّكَتْها؛ ولكن أنَّى لها الإخفاء؟! إنها لحظة الصدق التي طال غيابها، إنها لحظة الإيمان التي هيأها الله لها بتلك الآية العظيمة من سورة التوبة.

إنه قدر الله اللطيف مع هذه الفتاة، إنها للتوِّ الآن تستيقظ من عالم الغفلة، وتكشف لضميرها أوراق أمسِها، وأوراق يومها.

إنها فتاةٌ كسيرة، إنها فتاةٌ تحاسب نفسها، وتفكر بجدٍّ في العودة إلى الله.

وجديرٌ بها والله، وبكل فتىً وفتاة، ورجلٍ وامرأة، جديرٌ بنا كلنا أن نقف لمحاسبة النفس بين الحين والآخر.

لقد قام قلب هذه الفتاة من رقاده بعد أن كان في سباتٍ عميق، وكأنما هي القومة لله المذكورة في قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا [سبأ:46]. ولقد والله انتبهَتْ وتفكرَتْ، لقد أيقظَتْها الآية.

وهنا بدأ قلب الفتاة يحيا من جديد، ويعود له نبضه الحقيقي، وتعود له حواسه الإيمانية، بدأ يميز بين المعروف والمنكر، بعد أن كان أعمى وأصمَّ لا يفرق بينهما، بدأ يفرق بين الطاعة والمعصية، لقد صحا وانتبه من غفلته، وأخذ يقلب في الماضي والحاضر، ويحس بطعم المعصية المر، وبدأ يفكر بالموت، بدأ قلبُها يفكر بالموت، ويشعر بالخوف من معاصٍ سالفة كثيرة، ويتساءل: كيف اجترأتُ عليها؟! كيف أمنتُ عقوبتها؟! كيف بارزت ربي بها؟! وكيف سأقابله بها؟! إنه الله العظيم! إنه الله الكريم! إنه الله الحليم!

وتصرخ الفتاة في داخل أعماقها: كم كنتُ بعيدةً عنك يا رب! كم كنتُ بعيدةً عنك يا رب!

وبدأ قلب الفتاة يتألم من لوعة الفراق، وليس أقسى ولا أوحش من بُعْد القلب عن محبوبه الأعظم! ليس أقسى ولا أوحش من بُعْد القلب عن الله! وهاهي الفتاة تعود إليه، وتناجيه بكل رقة، هاهي تناجي ربها وتشتكي إليه: يا رب! يا رب! ما لي مفرٌ ولا مخبأ، ولا حيلةٌ ولا ملجأ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك يا رب! فامنُن عليَّ بعفوك الكريم.

لقد بدأ قلبها يتذوق لذة المناجاة، وروعة الإنابة والإخبات.

حقيقةً إن علامة حياة القلب بعد موته هي في انتباهه لحق قدْر الله سبحانه وتعالى، هي في احترام وتبجيل حدوده، هي في معرفة المعروف وإنكار المنكر.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: [أتدرون من ميت القلب الذي قيل فيه:

ليس مَن مات فاستراح بـمَيْتٍ>>>>>إنما الميْتُ ميِّتُ الأحياءِ

قالوا: ومن هو؟ قال: الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً].

الفتاة تغادر المكان

حملت الفتاة حقيبتها، وخرجت من غرفة الانتظار تخنقها عبرة الإنابة، ثم خرجت من المستوصف كله، لقد تركت موعد الطبيب خلف ظهرها، واستقبلت نفسَها التي بين جنبيها، إن ما يشغلها الآن أعظم بكثير مما جاءت إلى المستوصف لأجله، بل لا وجه للمقارنة.

وتمشي بخُطَىً ثقيلة، وتراودها الذكريات من جديد: ماذا أفعل اليوم بموعدي مع فلانة؟! لقد صمَّمنا على الذهاب سوياً إلى الخبر ! ليتني لم أولد قبل اليوم! وما نفع الشيشة التي سندخنها في ذلك المكان التعيس؟! والله إنها لقلة حياءٍ وجرأةٌ على الله! ولماذا أذهب؟! ألِأَجل الضحك؟! ألِأَجل فلانة؟! وماذا تنفعني فلانة إذا انحطت منزلتي عندك يا رب؟! نعم. ماذا عن منزلتي عندك وأنا في ذلك المكان؟! كم هي منحطة! صحيح إن منزلة العبد عند ربه بقدر طاعته لأمره، واجتنابه لنهيه، وكلما زاد في معاصيه انحطت منزلته أكثر وأكثر، هل هو الغباء؟! أم هي الغفلة؟! أم هو خور العزيمة، وضعف الهمة؟! أم هو كل هؤلاء؟! ما أحلمك يا رب! ما أحلمك!

وتستمر الفتاة في مشيتها متوجهةً إلى بيتها، ملفوفةً بعباءتها الجميلة، والدموع تبلل غطاء وجهها الشفاف، وصدى الآية في ذهنها يتكرر: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:102].

وتظل تزري على نفسها وهي في الطريق إلى البيت: ما هذه العباءة التي ألبسها؟! ما هذا السفه؟! لماذا ألبسُ المخصَّرة؟! أإظهاراً للجمال؟! أم فتنةً للرجال؟! أين خوف مقام الله يا نفس؟! أين خوف الوعيد يا نفس؟! أين خوف الوعيد؟! أم إن التصديق به مُعَطَّل؟! يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:5-6].

لطالما تعلقتُ بحبل الرجاء! فقلت: الله غفور رحيم، ثم استرسلتُ في المعاصي، لقد نصَحَتْنِي تلك الفتاة المتديِّنة التي صادفتُها في سوق الخبر ، وأشارت إلى عباءتي الفرنسية الضيقة الفاتنة، وحجابي الشفاف، فقلت لها بكل برود وعناد: لو سمحتِ! لا تتدخلي، اهتمي بشئونكِ!

سبحان الله! ما أحقر الكبر والغطرسة على باطل.

واسترسلتُ وزدتُ في أنواعٍ من الآثام، وقلتُ كما يقول الناس حولي: الله غفورٌ رحيم! وتفننتُ في التعدي على حدود الله وتماديتُ، والله غفورٌ رحيم! وشرب مُعَسِّل وعلاقات محرمة، والله غفورٌ رحيم! وحفلات ديْجِيْه، والله غفورٌ رحيم! ومحادثات في الإنترنت، وحواراتُ غَزَل مع الرجال، والله غفورٌ رحيم! ومتابعةٌ لخزايا الفضائيات، والله غفورٌ رحيم! واستهتارٌ بالعباءة، ولامبالاة، والله غفورٌ رحيم! لا إله إلا الله! كيف منِّي هذا الاغترار؟!

ولقد دخلت امرأة النار في هِـرَّة، فكيف بما هو أكبر من ذلك؟! نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:49-50].

قد يعجب الإنسان كيف يرزق الله تعالى كثيراً من عباده، ويتابع عليهم نعمه، وهم من أشد الناس له معصيةً وجرأةً على حدوده، فيتساءل متعجباً: كيف يرزقهم؟! كيف ينعم عليهم، وهم يفعلون ما يفعلون؟!

يقول النبي صلى الله عليه وسلم مستدركاً هذه الشبهة: (إذا رأيتَ الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا قوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44]).

قال بعض السلف: إذا رأيتَ الله يتابع عليك نعمه، وأنت مقيمٌ على معاصيه فاحذره، فإنما هو استدراجٌ يستدرجك به، وقد قال تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُـلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].

هذا هو هوان الدنيا على الله تعالى، لا قيمة لها مطلقاً، ولا تعدل شيئاً، ولا حتى جناح بعوضة، فلو كان جميع الناس أمة كفر واحدة لأعطاهم منها ما يريدون وأكثر، ولجعل بيوت الكَفَرَة ودَرَجَها ذهباً وفضة، وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب].

وهذا هو واقع كثيرٍ من المغرورات بالدنيا، يحسبنَ أن الله يعطيهن من الدنيا؛ لأنه يحبهن، ولولا أنه يحبهن لَمَا أعطاهن، فإذا أعطين شيئاً منها حسبنَ أنهن أفضل الناس في كل شيء، حتى في الإيمان.

وهذا مثل صاحب الجنتين تماماً، ذلك الذي ظن أن كونه يملك بستانين عظيمين يعني: أن الله تعالى يحبه بالضرورة، فدخل ذات يومٍ بستانه العظيم، وقال قولته كما بينها القرآن: قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً [الكهف:35-36]، فله منَ الله الدنيا، وله منه الآخرة أيضاً.

سبحان الله! ماذا أبقيتَ لغيرك؟!

وإذا كان هذا هو ظنهنَّ كما ظن صاحب الجنتين، فكيف يقبلنَ نصيحةً من أحد؟! كيف وهن أفضل الناس كما يعتقدن؟! فهناك المغرورة بصحتها وقوتها، والمغرورة بكثرة أموالها، والمغرورة بمنصبها أو منصب زوجها، وهناك المغرورة بثناء الناس عليها، أو على ملابسها، أو جمالها، وهنَّ جميعاً في غفلةٍ عما هنَّ فيه من آثام عظيمةً، ومعاصٍ مستديمة؛ ولكن سكرة الفرح، ونشوة الإعجاب بالنفس، والغرور تشغل الإنسان عن التأمل في حقيقة واقعه، وتشغله عن النظر في مستوى علاقته بالله تعالى، وهذا هو الابتلاء، نسأل الله الثبات على الحق.

قال بعض علماء السلف: رُبَّ مستدْرَجٍ بنعم الله عليه وهو لا يعلم، ورُبَّ مفتونٍ بثناء الناس عليه وهو لا يعلم، وقد ينظر بعض النساء إلى امرأةٍ ملتزمة بدينها وحجابها فيحتقرنها أو يلمزنها، وقد يجلس مجموعةٌ من النساء في مجلس فتكون مادةٌ من مواد المجلس التندر بالمنقَّبات، أو بالمتدينات، وهاتِ النكتَ والاستهزاء والسخرية، وقد يغادرنَ ذلك المجلس وهن في سلامة وشبع، ولم تنزل عليهن في ذلك المجلس صاعقة، ولا غصَّتْ إحداهُن بلقمةٍ فماتت، بل على العكس، السرور، والسلامة، والانشراح قائم بينهن على أتم حال، وينصرفن إلى بيوتهن وقد علقت في ذهن إحداهن بعض النوادر والنكت الآثمة، فتحملها على التبسُّم وهي في طريقها إلى بيتها، وكل ذلك الأمن والانبساط -لو كُنَّ يعلمنَ- إنما هو استدراجٌ وإمهال، وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج:20].

صح في مسند أحمد ، وفي السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لَمَّا عُرِجَ بي مررتُ بقومٍ لهم أظفارٌ من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم)، وإذا كان هذا هو العذاب في حال المسلمين عامةً، فكيف إذا كانت الغيبة واللمز والاستهزاء بأهل الخير والصلاح خاصةً؟! وكيف إذا كان الاستهزاء بمظهرٍ شرعي يحبه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؟! وقد قال تعالى في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنتُه بالحرب)، نسأل الله الهداية للجميع.

إن قسوة القلب تُذْهب الحياء والمروءة، وتشتد قسوة القلب مع كثرة المعاصي، حتى يكره الإنسان مَن يُذَكِّره وينصحه، بل حتى يحلو له سوء عمله، فلا يرى في المعصية إلا كل عقلٍ وحكمة، ولا يرى في الطاعة إلا كل غمٍ وهم، وفي هذه الحال المخيفة يُحْكَم على القلب بالموت، قال ابن مسعود رضي الله عنه: [اطلب قلبك في ثلاثة مواطن:

عند سماع القرآن. وفي مجالس الذكر. وفي أوقات الخلوة. فإن لم تجده في هذه المواطن فسل الله أن يمن عليك بقلب، فإنه لا قلب لك].

الفتاة تراجع علاقتها بربها

ويطرأ على الفتاة وهي في مسيرها إلى البيت: كيف أن الله تعالى لم يعصمها من الذنوب التي كانت مقيمةً عليها، وإنما خلى بينها وبين معاصيها، فإنه لو عصمها الله تعالى لما خرجت عن هداية الطاعة؛ لأن الله تعالى يقول وقوله الحق: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101]، فما الذي أبعدها عن عصمة الله؟! ما الذي حجز عنها تلك النعمة العظيمة؟! إنها العلاقة السيئة بالله تعالى، إنه الإصرار، والعناد، إنه إيثار شهوةٍ عابرةٍ على محبة الله وتوفيقه.

والإنسان إذا خلَّى الله بينه وبين نفسه والشيطان فلا سبيل له إلى الرشاد أبداً أبداً، أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23].

تقول: سبحان الله! لَطالَما فرحتُ بلقائي بفلان! ولَطالَما فرحتُ بخلعي للعباءة في سفرة الصيف الماضي! ولَطالَما فرحتُ بالتدخين وجلسات المُعَسل، ولَطالَما .. ولَطالَما ..! سبحان الله! كيف أفرح بالمعصية؟! هذا الذي أبعدني عن توفيقه وعصمته، هذا الذي جعلني أصير عمياء، هذا الذي جعلني أظلم نفسي وأستكبر على الحق، كيف أفرح بالمعصية؟!

وتستمر الفتاة في الإزراء على نفسها، وتوبيخها، ويحق لها ذلك، فإن الفرح بالمعصية دليل شدة الغفلة واستحكامها، إذا عصى الإنسان ربه وهو خائف، فلا يزال يملك بقيةً من إيمان، لكن إذا فرح الإنسان بمعصيته فمعناه أن الغفلة شديدة جداً.

نعم. المؤمن قد يزل ويعصي ربه، فكل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، لكن المؤمن لا يفرح بالمعصية، لماذا أقول ذلك؟

أقول ذلك؛ لأن المؤمن لا ينبغي أن تتم له لذةٌ بمعصية أبداً، ولا يكمُل بها فرحُه، بل لا يباشرها ويتلذذ بها إلا والحزن مخالطٌ لقلبه، وهي مشاعر متناقضة ومتداخلة، تدل على اضطراب النفس وعدم استقرارها، هناك صراعٌ بين الخير والشر في أعماق النفس، لذةٌ وحزنٌ في آنٍ واحد، لكن متى خَلا قلبُه من هذا الحزن، واشتد سروره بالذنب، وانشرح صدره به، فليبكِ على موت قلبه، فإنه لو كان قلبه حياً لأحزنه ارتكاب الذنب، ولَجَعَله يفكر في عاقبته، ويفكر ويسأل نفسه مرة أو مرتين: كيف يكون حاله لو تغلب على نفسه الأمارة بالسوء؟ فيفكر، ويتمنى، ويراجع، ويندم، ويلوم، ويؤنب نفسه على ضعفها وخورها واستسلامها للشهوة، فحيث لم يحس القلب بذلك واستبدل التأنيب والحزن بالفرح، فإنه قلبٌ ميت، لا حَراك له إلا بالشهوة:

وما لِجُرحٍ بميتٍ إيلامُ

فالفرح بالذنب أمرٌ مخيف! بل أشد ضرراً من مواقعة الذنب، فهو يؤدي إلى الإصرار، ومن ثَمَّ العزم على المعاودة، وهذا ذنبٌ آخر وهو من عقوبات الذنوب المفزعة، أن الذنب يجر إلى ذنبٍ آخر، وآخر، وآخر، حتى يستحكم الهلاك.

فالفرح بالمعصية يؤدي إلى الإصرار، والإصرار يؤدي إلى الهلاك، ما لم يتدارك صاحبه نفسه بثلاثة أشياء قبل فوات الأوان:

الأول: خوف لقاء الله تعالى قبل التوبة :-

ولقاء الله تعالى حتمٌ لا مهرب منه، ولا مفر، فمن يحتمل أن يلقى الله الجبار، وهو عليه غضبان؟! نسأل الله السلامة.

الثاني: الانزعاج من وضعه الدال على الجفاء والبعد عن ربه، مما جعله يستهين بمخالفته، والندم على ما فاته من الله تعالى من الحب الخاص، والإعانة، والتوفيق :-

فإن الحب، والإعانة، والتوفيق يرزقها الله عز وجل لخاصة عباده، وقد فاته ذلك.

الثالث: التشمير، والعزم على استدراك الخلل، وبذل الأسباب المؤدية إلى ذلك من استعانةٍ بالله تعالى، وسد منافذ قسوة القلب

ومن ذلك: الابتعاد عن أماكن السوء، ومواطن الشبهات، ومعالجة مرض التليفزيون المزمن بفضائياته وما تبثه من شر، وانتقاء الأصحاب الطيبين المعينين على الخير، وغيرها من الأسباب، قال سبحانه: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].

وعن ابن شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياق الموت، فبكى طويلاً وحوَّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: (يا أبتاه! أما بشَّرَك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟! أما بشَّرَك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟! قال: فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نُعِدُّه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، إني قد كنتُ على أطباقٍ ثلاثة، لقد رأيتُني وما أحدٌ أشد بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أحب إليَّ أن أكون قد استمكنتُ منه فقتلتُه، فلو مُتُّ على تلك الحال لكنتُ من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ابسط يمينك، فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضتُ يدي، قال: ما لك يا عمرو ؟! قال: قلت: أردتُ أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قلت: أن يُغْفَر لي، قال: أما علمتَ أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟! وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟! وأن الحج يهدم ما كان قبله؟! وما كان أحدٌ أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أَجَلَّ في عيني منه، وما كنتُ أطيق أن أملأ عينيَّ منه إجلالاً له، ولو سئلتُ أن أصفه ما أطقتُ؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو متُّ على تلك الحال، لرجوتُ أن أكون من أهل الجنة، ثم وَلِيْنا أشياء ما أدري ما حالي فيها، فإذا أنا مُتُّ فلا تصحبني نائحةٌ ولا نار، فإذا دفنتموني فشنُّوا عليَّ التراب شناً، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تُنْحَر جزور، ويقسَم لحمُها حتى أستأنِس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رُسُل ربي). رواه الإمام مسلم .

الفتاة تصل إلى بيتها والعبرة تخنقها

وتصل الفتاة إلى بيتها، والعَبرة تخنقها، لقد خَرَجَت من بيتها في غفلتها المعهودة؛ ولكنها رَجَعَت إليه بقلبٍ آخر، وبفكرٍ آخر، وبِهَمٍّ آخر، لقد رَجَعَت ونور الإيمان يملأ عليها أرجاء الأفق، ولكنها ما زالت تفكر: كيف سأغير من وضعي؟! كيف سأترك؟! ومن أين أبدأ؟! عسى الله أن يتوب عليَّ!

يقول الإمام ابن القيم : وهاهنا دقيقةٌ قَلَّ من يتفطن لها، إلا فقيهٌ في هذا الشأن، وهي: أن كل تائبٍ لا بد له في أول توبته من عصرةٍ وضغطةٍ في قلبه، مِن همٍ أو غمٍ أو ضيقٍ أو حزن، ولو لم يكن إلا تألمه بفراق محبوبه، فينضغط لذلك، وينعصر قلبه، ويضيق صدره، فأكثر الخلق رجعوا من التوبة ونُكِسوا على رءوسهم؛ لأجل هذه المحبة، والعارف الموفَّق يعلم أن الفرحة والسرور واللذة الحاصلة عُقَيب التوبة تكون على قدر هذه العصرة، -سبحان الله!- كلما كانت العصرة أقوى وأشد كانت الفرحة واللذة فيما بعد أكمل وأتم.

يقول: ولذلك أسبابٌ عديدة منها:

أن هذه العصرة والقبضة دليلٌ على حياة قلبه وقوة استعداده، ولو كان قلبه ميتاً واستعداده ضعيفاً لم يحصل له ذلك.

وأيضاً فإن الشيطان لص الإيمان، واللص إنما يقصد المكان المعمور، وأما المكان الخراب الذي لا يرجو أن يظفر منه بشيء فلا يقصده.

فإذا قويت المعارضات الشيطانية والعصرة، دل ذلك على أن في قلبه من الخير ما يشتد حرص الشيطان على نزعه منه. انتهى كلامه رحمه الله.

إذاً: فالمقصود أن هذا الأمر الحاصل بالتوبة، لما كان من أجلِّ الأمور وأعظمها نُصِبت عليه المعارِضات والمحن؛ ليتميز الصادق من الكاذب، وتقع الفتنة، ويحصل الابتلاء، ويتميز من يصلح ممن لا يصلح، قال تعالى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3].

ولكن البشرى أنه إذا صبر على هذه العصرة قليلاً أفضت به إلى رياض الأنس وجنات الانشراح، وإن لم يصبر لها انقلب على وجهه. والله الموفق لا إله غيره، ولا رب سواه.

كان آدم بن أبي إياس يجثو على ركبتيه في المجلس قبل أن يحدث، ويقول: والله الذي لا إله غيره، ما من أحدٍ إلا وسيخلو به ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، ويقول الله له:

ألم أكن رقيباً على قلبك إذا اشتهيتَ به ما لا يحل لك عندي؟

ألم أكن رقيباً على عينيك إذا نظرتَ بهما إلى ما لا يحل لك عندي؟

ألم أكن رقيباً على سمعك إذا أنصتَ إلى ما لا يحل لك عندي؟

ألم أكن رقيباً على يديك إذا بطشتَ بهما إلى ما لا يحل لك عندي؟

ألم أكن رقيباً على قدميك إذا سعيتَ بهما إلى ما لا يحل لك عندي؟

أستحييتَ من المخلوقين، وكنتُ أهون الناظرين إليك؟

يقول إسحاق : ليس الخائف من بكى وعصر عينيه، ولكن الخائف من ترك الأمر الذي يخاف أن يُعَذَّب عليه.

الفتاة تفر إلى ربها وتلجأ إليه

وتدخل الفتاة بيتها، ومباشرة تبحث عن مصحف فتجده، فتتناوله بكل رفق، فتسألها أمها عن حالها وهي في المطبخ، فترد عليها: الحمد لله، بخير، ثم تتجه إلى حجرتها وقد ضمت المصحف إلى صدرها، وتغلق عليها باب الغرفة، وتفتح المصحف من جديد، ولكنها ليست على وضوء، فتضع المصحف، وتنطلق فتتوضأ، ثم تعود، فتفتح المصحف من جديد، وتبحث عن تلك الآية العجيبة في شوقٍ شديدٍ وتُقَلِّب الصفحات، وتقلب، وتقلب: وجدتُها، وجدتُها، وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:102].

فتضع المصحف، وتلتحف برداءٍ لها، وتتوجه بوجهها إلى القبلة، وتشرع بالصلاة، وأي صلاة! وأي خشوع! وأي بكاء! إنها ليست صلاة الماضي، إنها صلاةٌ من نوعٍ آخر، تريد أن تقرأ الفاتحة فتخنقها العبرة، فلا تستطيع، فتبدأ بها من جديد، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ ... [الفاتحة:1-2]، فتغص بالبكاء، ثم تعود فتقرأ، وتكمل السورة، ثم تركع، ثم ترفع، ثم تسجد، حتى إذا وصلت موضع السجود وسجدت بدأت بالدعاء: يا رب! لم أفعل ما فعلتُ استهانةً بحقك، ولا جهلاً به، ولا شكَّاً بوعيدك، وإنما غلبني الهوى يا رب! وغرني بك الشيطان، ونفسي الأمارة بالسوء، وأعانني جهلي، وقد سترتَ عليَّ تفضُّلاً وتكرُّماً منك يا رب! فلك الحمد حتى ترضى.

إلهي! لا معونة لي على طاعتك إلا بتوفيقك، ولا ملجأ لي والله منك إلا إليك، اعترفتُ بذنبي، وأنا اليوم أعود إليك، وأرجوك يا رب! أن تتوب عليَّ، أرجوك يا رب! أن تتوب عليَّ.

وتظل الفتاة في خشوعها، وتبتلها إلى ربها، حتى انتهت من صلاتها بعد دعاءٍ طويل.

وابتدأت صفحةٌ جديدةٌ في حياتها، ملؤها الأمل، وختامها سعادةٌ وخلود، وهذا هو الشأن مع كل فتاةٍ نفضت غبار الغفلة عن قلبها، وبدأت تحاسب نفسها، وتعود إلى الله.

يا فتاة الإيمان! يا فتاة الصبر! يا فتاة الكرامة! يا فتاة العفة والعفاف! لقد تواتر إحسان الله إليكِ على مدى الأنفاس، وأزاح عِلَلَكِ، ومكَّنكِ من التزود إلى جنته، وبعث إليك الدليل، وأعطاكِ السمع والبصر والفؤاد، ومَنَّ عليكِ بالصحة والعافية والمال، وعرَّفكِ الخير والشر، والنافع والضار، وأرسل إليكِ رسوله، وأنزل إليكِ كتابه، ويسَّره للذكر، وأمدَّكِ بجندٍ كرام يثبتونكِ ويحرسونكِ ويحاربون أعداءكِ من شياطين الإنس والجن، ويطردونهم عنكِ، فقط يريدون منكِ أن لا تميلي إليهم، ولا تصالحيهم، وهم يكفونكِ مئونتهم، ثم تأبين إلا موالاتهم دون الله عز وجل!! ألا توالين ربك المنعم، بدلاً عنهم؟! ألا تفرين إليه؟! ألا تلجئين إليه قبل أن تنسيه وينساكِ؟! ألا تشكين إليه قسوة قلبك؟!

لَطالَما دعاكِ وما زال يدعوكِ إلى بابه، فما وقفتِ عليه ولا طرقتِه! ألا تقفين عليه وتطرقينه؟! تتمقَّتين إليه بمعاصيكِ، ومع هذا لم يؤيِّسكِ من رحمته، بل قال: متى جئتِني قبلتكِ، إن أتيتِني ليلاً قبلتكِ، وإن أتيتِني نهاراً قبلتكِ، وإن تقربتِ مني شبراً تقربتُ منكِ ذراعاً، وإن تقربتِ مني ذراعاً تقربتُ منكِ باعاً، وإن مشيتِ إليَّ هرولتُ إليكِ، ولو لقيتِني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتِني لا تشركي بي شيئاً أتيتُكِ بقرابها مغفرة، ولو بَلَغَتْ ذنوبُكِ عنان السماء ثم استغفرتِني غفرتُ لكِ، ومن أعظم مني جوداً وكرماً، عبادي يبارزونني بالعظائم وأنا أكلؤهم على فرشهم، إني والجن والأنس في نبأ عظيم، أخلق ويُعبد غيري، أرزق ويُشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليَّ صاعد، أتحبب إليهم بنِعَمي وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إليَّ بالمعاصي، وهم أفقر شيءٍ إليَّ، مَن أقْبَلَ إليَّ تلقَّيتُه من بعيد، ومن أعرض عني ناديتُه من قريب، ومن ترك لأجلي أعطيتُه فوق المزيد، أهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، وإن تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، فإني أحب التوابين، وأحب المتطهرين، أشكر اليسير من العمل، وأغفر الكثير من الزلل، رحمتي سبقت غضبي، وحِلمي سبق مؤاخذتي، وعفوي سبق عقوبتي، وأنا أرحم بعبادي من الوالدة بولدها، قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر:53-56].

لقد مَنَّ الله تعالى على تلك الفتاة بآيةٍ من كتابه: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:102]، فحاسَبَت نفسها، ففتح الله عليها، وأنار بصيرتها، فعادت إليه.

أسأل الله تعالى أن يفتح علينا من مَعين فضله، وأن يعيننا على أنفسنا، وأن يختم لنا، ولأولادنا، ولإخواننا، وللمسلمين بخير.

اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن الطاعة ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا، وأبصارنا، وقواتنا أبداً ما أبقيتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.

وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , عودة فتاة للشيخ : عبد العزيز السويدان

https://audio.islamweb.net