إسلام ويب

من أظله الشهر الكريم فقد أظلته نعمة أوجبت عليه الشكر، والناس في رمضان بين قائم وصائم ومعتكف، ولكن وصية للصائم: أن عليه بالإخلاص وضبط النفس عند الغضب، والاستفادة من الصيام في أخذ العبر، وللقائم: أن عليه حسن النية وحضور القلب عند سماع القرآن الكريم، والصبر على القيام والإمام، أما المعتكف فعليه أن يزين المسجد بالعبادة والصلاة وقراءة القرآن، وينقطع عن العباد إلى مناجاة رب العباد.

وصايا للصائمين

الحمد لله الذي فرض على عباده الصيام، وندبهم إلى التعبد له بالسجود والركوع والقيام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تبارك اسمه ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الهادي والداعي بإذن ربه إلى دار السلام صلى الله عليه وعلى آله ومن سار على نهجه واستقام.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

أيها الإخوة: حديثنا في هذه الليلة المباركة عن شهر رمضان، وما أدراك ما شهر رمضان! شهر البر والإحسان! شهرٌ أوله رحمة وإحسان، وأوسطه عفو من الله وغفران، وآخره فكاك وعتق من الجحيم والنيران، شهرٌ تمنى النبي صلى الله عليه وسلم لقاءه، إذ قال في دعائه صلوات الله وسلامه عليه: (اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان)، فقبل لقائه هو في حنين إلى لقائه، كيف وهو شهر الجهاد والصبر! شهر الطاعة والشكر! شهر الإنابة والذكر! لذلك فإن المؤمن ما ودَّعه إلا وقلبه يحترق ألماً لفراقه ووداعه، وما انصرف شهر رمضان عن عبد صالح أعطاه حقه وقدره إلا ترك انصرافه في نفسه شجناً وحنيناً وحزناً لا يعلمه إلا الله.

كم دخله بعيد من الله فقربه إليه! كم دخله مسيءٌ فتاب الله عليه فيه! كم دخله محروم فأعطاه الله!

شهرٌ وأي شهر! لذلك إخواني فإن المؤمنين في شوق وحنين إلى لقائه، كان الأخيار من سلف هذه الأمة الصالحة البرة المباركة يتمنون لقاء شهر رمضان، ويدعون الله تبارك وتعالى وصوله وبلوغه.

ولي في هذا الشهر ثلاث وصايا، الوصية الأولى: للصائمين، الوصية الثانية: للقائمين، والوصية الثالثة: للمعتكفين.

تذكر نعمة الله عليك بحضور شهر رمضان

أما الصائمون، فوصية من الأعماق، تتحقق بها هذه العبادة الشريفة المباركة التي جعلها الله عز وجل ركناً من أركان الإسلام، إذا قدم عليك شهر رمضان فوضعت أول قدمٍ على أعتابه، فإنه حريٌ بك أن تتذكر نعمة من الله تبارك وتعالى أسداها، ومنةً إليك أولاها، هذه النعمة أن كتب لك الحياة إلى بلوغ شهر رمضان، فكم من قلوب حنّت واشتاقت للقاء رمضان انقطع بها القدر، وانقطع لها الأثر، فهي اليوم في الأعماق، وتحت التراب والثرى، كانت تتمنى لقاءه، فإذا وضعت -رحمك الله- القدم على أعتاب شهر رمضان فالهج بالثناء على الله تبارك وتعالى، وقل بلسان الحال والمقال: اللهم لك الحمد أن بلغتني شهر رمضان لا أحصي ثناءً عليك جلَّ شأنك، حتى إذا تمكنت هذه النعمة من قلبك فعرفتها واعترفت لربها بها، عندها تأذَّن الله لك بالمزيد، فكانت بداية الشكر بداية لأن تصاب برحمة الله، فما شكر عبدٌ نعمة إلا بارك الله له فيها، ويتحرك قلب المؤمن بالشكر الصادق، فيخرج من لسانه الشكر بقلب موقن لمعناه، إذا تذكر الأمة المحرومة التي حال بينها وبين الصيام الألم، يتذكر إخواناً له على الأسرِّة البيضاء منعتهم الأسقام والعلل، وحالت بينهم وبين الصيام والقيام، فإذا رأيت العافية ونظرت إلى جسدك وأنت ترفل بنعمة الصحة الغالية فعندها تذكر منة الله تبارك وتعالى عليك، واحمد الله تبارك وتعالى على الوصول والبلوغ، واسأله أن يعينك على الطاعة والإنابة إليه سبحانه وتعالى.

عقد النية على صلاح القلب

أما الأمر الثاني لك أيها الصائم وأنت في بداية شهر رمضان: عقد النية على صلاح القول والعمل.

فما عزم عبدٌ على طاعة من الطاعات ونوى في قلبه أن يؤديها فحال بينه وبينها حائل إلا بلغه الله أجرها، فليكن من بداية الشهر نية بينك وبين الله على المسير إلى الله تبارك وتعالى، والتقرب إليه جل شأنه بطاعته وذكره وشكره وإعطاء الصيام والقيام حقه، فهذا أمرٌ ينبغي على الصائم -وهو في بداية صيامه- أن يستلهمه ويتذكره، فكم من أقوام طرقوا أبواب رمضان ثم اخترمتهم المنايا قبل بلوغ آخره، فأدركهم آخره ولم يدركوه، تمنوه ولم يبلغوه، ولم يبلغوا ما تمنوه، لذلك كتبت لهم الحسنات التي كانوا يطمعون في أدائها من رب البريات.

اجتناب الرفث والجهل والصخب

أما الأمر الثالث الذي ينبغي على الصائم أن يستلهمه: فوصية نبوية تذكر بحق هذه العبادة الجليلة تذكر القلوب الصادقة المؤمنة التي تعرف العبادة الخالصة لوجه الله عز وجل، وصية نبوية تعرفنا بحقيقة هذه العبادة الجليلة، وتذكرنا بما ينبغي أن يكون عليه الصائم في صيامه: يقول عليه الصلاة والسلام كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة : (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم! إني صائم! إني صائم!) .

يذكرنا عليه الصلاة والسلام بأن الصيام لا يقف عند الإمساك عن الشراب والطعام فحسب، بل هناك صيام بالإحجام عن الكلام الذي لا يرضي الملك العلام، فإذا جاءت بواعث الشرور وحرّكها أهلها في موقف من المواقف، وأنت قد جعت لوجه الله وظمئت لوجهه في يوم صيامك، فحرّك تلك الأشجان من نفسك غضب تريد أن تنتقم به بكلامٍ لا يرضي الله تذكر وذكَّر النفس بما أنت فيه من هذه العبادة الجليلة، وقل: إني صائم! إني صائم، فالصائم ليس خليقاً به أن يرتكب لغط الكلام أو رفثه الذي لا يرضي الله عز وجل.

قال بعض العلماء: ليقل إني صائم بصوت يسمعه من يخاطبه، وقيل: فليقل إني صائم في قرارة قلبه؛ حتى يكبح جماح نفسه عن أن تقول الخنا أو تسترسل مع أهل الشرور والغي والهوى، فليذكر العبد نفسه بالصيام إذا انبعثت أسباب الشرور.

استلهام العبر من الشهر الكريم

أما الأمر الرابع للصائم الذي وفقَّه الله لبلوغ شهر رمضان، فهي: استلهام العبر من هذا الشهر المبارك.

فكم في شهر رمضان من مواقف تذكر قلوب المؤمنين! وتنبهها من الغفلة وتقودها إلى رب العالمين! أول ما يتذكره الإنسان إذا جاعت أحشاؤه وظمئت أمعاؤه، هو تذكر ذلك اليوم الذي يشتد حره، ويعظم ظمؤه! وهو في يوم يسير يجد الجهد من دقائق وساعات يسيرة، بعدها يصيب البغية وما لذ من الشراب والطعام، ولكن من الذي له ساق إذا وقف في المحشر! ومن الذي يكف عنه الظمأ إذا اصطفت قدمه بين يدي الله تبارك وتعالى! فما ظمئ مؤمن صائم إلا تذكَّر بالظمأ ظمأ يوم القيامة، وتذكر الظمأ الذي لو شاء الله أن لا يطعم شراباً بعده ما طعم، لذلك ففي يوم الصيام تذكير بيوم القيام.

وأما العبرة الثانية للصائمين: فإن الجوع والظمأ يعود العبد على الصبر والجهاد والكفاح في طاعة رب العباد، يهيئ هذه النفس على الصبر والمصابرة والمثابرة والمرابطة في محبة الله تبارك وتعالى.

العبرة الثالثة: الصيام طريق للإخلاص، يغذِّي القلوب بالإخلاص لله تبارك وتعالى، أليس الصائم قادراً -بإذن ربه- أن يصيب ما شاء من طعامه وشرابه؟ ولكن يعلم أن الله يسمعه ويراه، وأنه مطّلع عليه، فعندها تتحرك في النفس بواعث الإخلاص، ولذلك قال بعض العلماء في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: يقول الله تعالى: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأن أجزي به) فإن أصدق عبادة وأخلصها هي عبادة الصيام، فقوله تعالى: (فإنه لي) أي: إنه يقع خالصاً له سبحانه وتعالى.

العبرة الرابعة التي يجنيها عبد الله المؤمن في يوم صيامه: أن يتذكر بذلك الصيام إخواناً له في الدين والإسلام، يتذكر أحشاءً ظامئة، ويتذكر الضعفة والمساكين والبائسين والمحرومين، يذكره الصيام بمن لا يستطيع الشراب والطعام، فيبعث في النفس بواعث الخير، ويحرك فيها المسير في طريق الجود والسخاء والمنح والعطاء علَّه أن يفوز برحمة الله ورضوانه، فعندها لا يتمالك الصائم إذا سمع عن أخٍ له في الإسلام أنه أصابه الجوع والظمأ حتى تتحرك نفسه لكي يغيثه بإذن الله من جوعه وظمئه، فكم من ساق -سقى لوجه الله- سقاه الله يوم الظمأ شربة لا يظمأ بعدها أبداً! وكم من صائم تذكَّر الجائع فأطعمه لوجه الله فوقاه الله شر يوم القيامة! إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان:9-11] فالصيام يحرّك الأخيار الكرام إلى الجود والسخاء.. إلى التضحية والفداء.. إلى بذل الأكف في طاعة الله ومحبته، فتسخو اليد لكي تفوز برضوان الله تبارك وتعالى.

وصايا للقائمين

أما الوصية الثانية فإلى القائمين في شهر رمضان، وصايا يضعها كل قائم يرجو رحمة الله في قيامه:

الإخلاص لله في القيام

أول ما يوصى به من أراد قيام ليالي رمضان: الإخلاص لوجه الله في قيام شهر رمضان، قال صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) (من قام رمضان إيماناً) أي: أنه مصدق بوعد الله ووعيده، (واحتساباً) أي: رجاءً في رحمة الله عز وجل، (غفر له ما تقدم من ذنبه).

إذا خرجت من الدار لكي تعمر المسجد بقيام رمضان فاخرج وليس في قلبك إلا الله فاخرج بنية ترجو بها رحمة الله عز وجل، إذا خرجت بهذه النية لم تُرفع لك قدم إلا رفعت بها درجات، ولم توضع لك قدم إلا حُطَّ عنك بها آصار وسيئات، اخرج بهذه النية الصادقة، لا رياءً ولا سمعة، ولو خيَّرت بين أن يراك الناس وبين أن لا يروك، لاخترت أنك وحيد خالٍ بقيامك لا يراك إلا الله، اخرج وأنت ترجو رحمة الله، فكم من قدم أخلصت في القيام بين يدي الملك العلام أوجب الله لها بذلك القيام دار السلام! فإن الله تبارك وتعالى يصيب عبده برحمته على قدر إخلاصه في عبادته، فليجاهد العبد نفسه في إخلاص النية لله، والمحروم من حرم الإخلاص في قيامه، فكم من أقدام انتصبت في جوف الليل تتعبد الله بالقيام، ما كان لها حظ إلا التعب والنصب، نسأل الله السلامة والعافية.

فالله الله أن يُحرم العبد بسبب فتنة -يرجو بها نظرة العباد- رحمة رب العباد! فما الذي يجني العبد من النظرات؟! وما الذي يأخذه العبد من البريات؟! لا يغني أحد عن أحد من الله شيئاً، حرّك النفس للإخلاص في القيام، وقل إني أرجو رحمة الملك العلام، فإذا خرجت من دارك تذكرت بخروجك أنك في الحشر بحاجة إلى هذه الخطوات، فإذا قمت في قيامك تذكرت حاجتك إلى هذه الركعات والسجدات إذا طوي عليك قبرك، وأُقفل عليك لحدك، لذلك ينبغي للمؤمن أن يجاهد نفسه بالإخلاص في قيامه، ومن خرج من بيته مخلصاً لوجه الله في القيام أذاقه الله حلاوة القرآن، فتجد عنده الخضوع والخشوع والإنابة لله تبارك وتعالى، وما خرج مخلص لله في خروجه إلا نال التوفيق في عبادته.

التفكر في آيات القرآن

أما الأمر الثاني إليك يا قائم رمضان: أن تتفكر في آيات القرآن.. وأن تتأثر بهذه العظات البالغات.. تذكر من الذي يناديك! تذكر من هذا كلامه! تذكر هذه النداءات وما انطوت عليه من الخيرات لك في الدين والدنيا والآخرة! واستجمع الفؤاد وعش مع هذه الآيات في عظاتها! عش مع أهل الجنة في نعيمهم وسرورهم حتى تتحرك النفس إلى الجنان، وعش مع أهل النار في جحيمهم وسعيرهم فإن هذا يزكي الفؤاد حال تذكرهما، ويكسبه الرقة والخوف من رب العباد، فما تفكر عبدٌ في آيات القرآن إلا تذكر: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17] كن ذلك المدكر! فكم من أناس وقفوا! وكم من أناس بين يدي الله انتصبوا! تفكروا في آيات القرآن فخرجوا بعظات بالغات! وكم من آيات تفكر فيها العبد بقيت في قلبه ما شاء الله أن تبقى! تفكروا في القرآن فكم نحن عنه بعيدون! كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1] يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُور [يونس:57] فاعرض القلب على مائدة القرآن، فإن كنت كما قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم فاحمد الله تبارك وتعالى، إذا وجدت هذه الآيات التي اشتملت على الواجبات قد حققتها فالهج بالثناء على الله تبارك وتعالى، وإن وجدت التقصير والبعد عن هذه الآيات فحفز النفس للكمال، وذكرها التقصير في حق الكبير المتعال، القرآن ما نزل لكي يتلى فلا يتذكر التالي، ويُسمع فلا يتذكر السامع، كم من قائم سمع الآيات فكانت عليه حجة يوم يقوم العباد لرب العالمين!

فالله الله أن تسمع في القرآن عظات لا تلقي لها بالاً، ولا تحسن الاستجابة لنداءاته، ولا التفكير في آياته، ولا التأثر بعظاته، والمحروم من حرم ذلك، فوالله ثم والله إن الشقاء كل الشقاء أن يحرم العبد التذكر بالقرآن، وإنه والله لمن السعادة كل السعادة أن يكون العبد متأثراً بالقرآن، كم من أقوام قاموا في رمضان فحرّكوا النفوس للتأثر بآيات القرآن! ما خرج رمضان إلا وهم خاشعون، كم من أناس أخذوا من رمضان ثمرات كان منها الخشوع في الصلوات والتأثر لآيات القرآن!

أيها القائم بين يدي الله تفكر! كم تمر علينا شهور وأيام وليالٍ لا نقرأ القرآن إلا قليلاً! فهذه فرصة، هذه نعمة، هذا موقف، هذا موسم يهيئ العبد للتفكر في القرآن.

عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون إذا كان رمضان، وكان أجود ما يكون إذا لقيه جبريل، وكان يلقاه جبريل في رمضان كل ليلة فيدارسه القرآن، فإذا لقيه كان أجود بالخير من الريح المرسلة) .

قال بعض العلماء: التأثر بالقرآن والجلوس في حلقه والتفكر في آياته من أعظم الأسباب التي تحرك العبد إلى طاعة ربه، فإذا لقيه جبريل (كان أجود بالخير من الريح المرسلة) قال بعض العلماء: قوله (أجود بالخير) خيران: خير الحس وهو السخاء والجود، وخير المعنى وهو بذل العلم وتذكير العباد وهدايتهم وإرشادهم للخير.

هذه مدرسة تذكر العباد بالإقبال على الله في قيام رمضان، لذلك ينبغي لك أيها القائم أن تتذكر بهذا القيام ما يدعوك إلى محبة الله ورحمته.

إياك والملل في طاعة الله تبارك وتعالى

الأمر الثالث لك أيها القائم: إياك والضجر! إياك والسآمة! إياك والملل في طاعة الله تبارك وتعالى! إذا انتصبت لك القدمان واستحضرت الجنان في طاعة الملك الديان عندها لا تبالي أطال الوقت أم قصر، فكم من أناس يشكون طولاً من الأئمة ويضجرون لآيات يسيرة تتلى عليهم ويملون! وقد يغتابون والعياذ بالله، فيبوء العبد بالإثم والوزر والإصر، كم يطول قيامنا في شهوات من حياتنا ما شكونا ولا مللنا، ألما قام العبد بين يدي ربه.. ألما قام العبد بين يدي سيده.. ألما تشرف بالوقوف بين يدي الله يشكو الضجر والملل والسآمة من الوقوف بين يدي الله! من نحن الفقراء؟! من نحن الأذلاء حتى نقف بين يدي الله؟! من نحن؟! لولا أن الله تفضل علينا وتكرم فأذن لنا أن نقف بين يديه نناديه.. نناجيه.. نقرأ آياته.. نتفكر في عظاته ومع هذا كله نعرض عنه ونتأثر ونضجر، سبحان الله! كم من إمام أطال القيام فقرب خطواتك إلى الجنان!

كم من إمام نفرت عنه لطول قراءته وعظيم الآيات التي يتلوها في قيامه يقربك إلى الجنة شعرت أو لم تشعر!

وكم من إمام بحثت عنه ولهثت وراءه لقصر قيامه قد باعد بينك وبين المسير إلى الجنان!

فالله الله أن تحرم النفس هذا الخير وأن تكون على نفسك بخيلاً! فمن دلائل الحرمان والعياذ بالله الضجر لآيات القرآن!

كان الصحابة رضي الله عنهم إذا قام الواحد منهم في صلاته أطال قيامه، وغفل حتى عن أشياء من حوائجه التي هو بحاجة إلى قضائها، إذا دخل الصلاة نسي الدنيا وما فيها، وأقبل على الله تبارك وتعالى، فطابت الأيام والليالي لما قويت الصلاة والصلة بالله عز وجل، والعكس بالعكس! فإن الله لا يعبأ بمن لا يبالي به جلَّ شأنه، ومن لم يعظم ما عظم الله ولم يجلَّ شعائر الله فالله لا يبالي به، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، وأعظم شعيرة في الإسلام هي الصلاة وهي الصلة بين العبد وربه، فالله أن تضجر أو تملَّ من طاعة الله تبارك وتعالى.

التأثر والبكاء أو التباكي عند سماع القرآن

ومن الوصايا للقائمين: التأثر والبكاء ومحاولة البكاء أو التباكي لآيات القرآن، وليكن ذلك بإخلاص، فكم من أقوام دمعت عيونهم، وكان ذلك الدمع لا يراد به وجه الله، ولا يقصد به مرضاة الله فخابوا وخسروا، فليكن الإنسان مجاهداً في بكائه أن يخلص لوجه ربه، أن يدمع لوجه الله، فكم من عين دمعت غُسل بدمعها ذنوب رؤيت! وكم من عين سحّت بالبكاء من خشية الله حرّم الله على صاحبها النار!

فهذه مواقف يسيرة ولكنها عند الله جليلة، فليجاهد العبد في قيامه.

وصايا للمعتكفين

أما الوصية الثالثة، فإلى المعتكفين.. إلى أهل الاعتكاف.. إلى الذين هجروا البيوت والدعة والسرور؛ لكي يأووا إلى بيوت الله.. إلى الذين أرادوا قضاء أفضل أيام الشهر ولياليه.. إليهم وصية من الأعماق ملؤها الأشواق أن يهدى العبد إلى الكريم الخلاق، وصية إلى المعتكف:

أن يكون الاعتكاف خالصاً لله

أولاً: أن يخلص لله في اعتكافه ويكون كل مراده أن يخرج من ذلك المعتكف والله راضٍ عنه.

إذا خرجت إلى الاعتكاف خرجت بنية خالصة لوجه الله عز وجل، ولو كان بيدك أن لا يطلع أحد ولا يعلم بأنك اعتكفت شيئاً من رمضان لفعلت، فأين الشباب؟! أين أولئك الذين يتحدثون بالاعتكاف ويتباهون به والعياذ بالله، والعجب كل العجب أن الشاب يخبرك باعتكافه من أول رمضان، ويقول: إذا جاء العشر فأنا معتكف! فأخلص لله واهتد بالسلف الصالح، وغيب ما بينك وبين الله عز وجل، فذلك أسلم لدينك وأكمل لطاعة ربك، اعتكف وأنت ترجو رحمة الله عز وجل، فإن هجران البيوت والإيواء إلى بيوت الله وعمارتها بالاعتكاف يقع عند الله عز وجل بمكان، فاتق الله في اعتكافك، ولتكن مخلصاً في خروجك لوجه ربك.

مراعاة تقديم الفرائض على النوافل

أما الأمر الثاني: فقدم الفرض على النفل، ولا تقدم النفل على الفرض، هيئ الأسباب لمرضاة الله، فإن الله لا يطاع من حيث يعصى، فإذا تعارض الاعتكاف وبر الوالدين وحقوق الأبناء والبنات أو تعريض الزوجات إلى المحرمات فقدِّم ما أمرك الله بتقديمه، والله يبلغك بالنية الثواب، فالمعامَلُ كريم سبحانه وتعالى، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: (ما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إليَّ مما افترضته عليه)، فإذا كان الوالد يدعوك لبره والوالدة تدعوك لبرها، فقدم برهما على الاعتكاف، فالقرب من الوالدين أفضل من الاعتكاف ولو كان الاعتكاف في ليالي العشر.

ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جاءه رجل فقال: (يا رسول الله! إني قدمت من اليمن أبايعك على الهجرة وعلى الجهاد)، يريد أن يعيش في ظل النبي صلى الله عليه وسلم، ويجاهد تحت سنانه وسيفه، ومع ذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أحية أمك؟ قال: نعم، قال: الزم رجلها، فإن الجنة ثم -أي هناك- الزم رجلها فإن الجنة ثم!) .

فيا من تريد الجنان! ويا من تريد الفوز برحمة الرحمن! بر الوالدين، أحسن إليهما وعش في كنفهما، كلاماً ليناً وقولاً كريماً تفوز فيه برحمة الله، فما بال كثير من الشباب قد عزف عن هدي الصواب فخرج عاقاً لوالديه؟! فالله لا يطاع من حيث يعصى، ولذلك قد يجد كثير من الشباب حرمان التوفيق في الاعتكاف فتقسو القلوب من القرآن، وتصبح في ضنك من العيش لا يعلمه إلا الله؛ والسيئة سببٌ في ذلك، فلذلك قدم الواجب، وقدم ما أمرك الله بتقديمه، واعتبر فرض الله على غيره.

خذوا زينتكم عند كل مسجد استغلال الوقت بالطاعات وترك إضاعة الأوقات

وأما الأمر الثالث: إذا دخلت رحمك الله إلى بيوت الله فادخلها وأعطها حقها وقدرها من العبادة والإنابة، واستغل الوقت في محبة الله، واصرفه في طاعته ومرضاته، تذكر أنك سافرت عن الأب والأم والأخ والأخت! وأنك هجرت مجالس الأقارب وفارقت الأحباب ترجو رحمة الله عز وجل غريباً عن أهلك! غريباً عن إخوانك وخلانك وجيرانك، وذلك من أجل عمارة الوقت في طاعة الله، فكيف يصرف في قيل وقال؟! كيف يصرف في تلك المجالس التي تعقد في المساجد!! ضحك ولعب وسخرية واستهزاء؟! فلو جلس هؤلاء المعتكفون في بيوتهم لكان خيراً لهم؛ لما في ذلك من الإضرار بأنفسهم وبغيرهم، فكم من عابد ما قرت عينه بالعبادة لوجود أمثال هؤلاء من صياح ولغط وغير ذلك! وقد يصل الأمر إلى الخصومة والعياذ بالله، ما هذا الاعتكاف؟! أين اعتكاف السلف الصالح رحمهم الله؟!! لقد رأيت رجالاً صالحين -وأنا في معقد الصبا- إذا دخلوا معتكفهم في حرم المدينة مشى الرجل لا يجاوز بصره موضع قدميه، وإذا جئت إليه وقد توارى بذلك الكساء قائماً يصلي، فحينها تتلذذ وأنت تسمعه يتلو القرآن ويبكي من خشية الله، وكنا صغاراً نأتي إليهم بين تلك اللحف التي قد وضعوها بمثابة القباب، تسمع الواحد منهم يقول: أستغفر الله، وهو مليء بالنشيج والبكاء، فكانت كلماتهم والله ألذَّ إلينا من كثير.

أين الصادقون؟! أين المعتكفون الذين إذا جنَّ الليل تعفرت جباههم بالسجود؟! تعفرت بالقيام بين يدي الله عز وجل وحسن طاعته والإنابة إليه؟! ذهبت حلاوة العبادة والاعتكاف! وضاعت الأوقات في قيل وقال! وغير ذلك من فضول الكلام، فليهتد العبد بهدي السلف الصالح.

كان مسلم بن يسار رجلاً من خيار السلف الصالح، وكان رجلاً إذا قام في صلاته لم يلتفت إلى شيءٍ ألبتة. أُثر عنه رحمه الله أنه قام في مسجده فصلى في الضحى، وكان الناس يتبايعون في السوق، فسقط جانب المسجد ولم يعلم به مسلم رحمه الله، وجاء الناس سراعاً من السوق يخافون أنه هلك تحت تلك الأنقاض فوجدوه قائماً يصلي ما شعر بسقوطه إلا بعد السلام. أين أولئك الرجال؟!! أين أهل العبادة؟!! أين أهل الخشوع والخضوع؟!! أين تلك الأقدام الصادقة في موقفها، والسواعد المنيبة لربها، والقلوب المستشعرة لعظمة القهار سبحانه وتعالى؟!!

فكم من أناس وقفوا تلك المواقف الكريمة في معتكفهم فأصابوا من الخير ما لا يعلمه إلا الله!

الاعتكاف مدرسة تهيئ العبد للخلوة بذكر الله عز وجل، وإلا لماذا تُركت البيوت -ما تُركت البيوت التي فيها الحقوق والواجبات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في معتكفه يشد مئزره، ويوقظ أهله، ويعتكف تلك العشر- ما ذلك إلا لعظيم فضل العبادة في المساجد، ولذلك قال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2] قال: هي العشر الأواخر من رمضان، أقسم الله عز وجل في كتابه بها؛ لكي ينبه على عظيم شأنها.

فلنكن صادقين في اعتكافنا، وإذا كان ولا بد -وأراد الإنسان أن يعتكف مع أناس- فليجعل له مقاماً يخلو فيه بربه.

المعتكف تذكر ماضياً فرَّط فيه في جنب الله، وتذكر مستقبلاً لا يدري ما غيبته الأقدار، فدخل إلى المعتكف يبكي على ماضٍ فرط فيه في جنب الله، ومستقبل لا يدري كيف حاله ولا مصيره ومآله! ألهاه حاله عن الناس.. ألهاه حاله عن قيل وقال، وإضاعة العمر فيما لا يرضي الله عز وجل.

فهذه وصية إلى المعتكفين، ووصية لنا أجمعين، إذا دخلنا المساجد أن نعطيها حقها وقدرها.

فالصيام والقيام مطية لمرضاة الملك العلام، فـ: (من صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) لذلك أحبتي في الله، لنتهيأ لهذا الشهر، ولنعد له العدة صادقين في قبوله والإقبال عليه.

اللهم رب شعبان ورمضان ورب الشهور كلها نسألك أن تبلغنا رمضان، اللهم بارك لنا فيما بقي من شعبان، اللهم بلغنا رمضان.

اللهم إنا نسألك شهراً يرضيك عنا، اللهم إن كتبت لنا فيه الحياة فنسألك أن تجعلنا أحظ العباد عندك في الرحمة والمغفرة والعتق من النار، اللهم إنا نسألك الفوز بالعتق من النار.

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى إن كنت تعلم أنا إليك ماضون، وإليك مسافرون مرتحلون أن تبلغنا أجر رمضان قبل بلوغه.

اللهم ونسألك أن ترحمنا برحمتك الواسعة، وأن تذكرنا في تلك الظلمة وذلك الحشر العظيم برحمتك يا أرحم الراحمين!

اللهم إنا نسألك شهراً يرضيك عنا، اللهم إنا نعوذ بك أن نكون ممن رغم أنفه فدخل عليه شهر رمضان فلم يغفر له، اللهم إنا نعوذ بك أن نكون ممن رغم أنفه فدخل شهر رمضان وخرج ولم يغفر له.

اللهم ارحم موتى المسلمين الذين كانوا يؤملون العيش معنا، اللهم ارحم موتى المسلمين أجمعين، إنك ولي ذلك والقادر عليه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , وصايا للصائمين والقائمين للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

https://audio.islamweb.net