إسلام ويب

أعظم زاد للسائر إلى الله عز وجل اليقين بالله، فهو المثبت على صراط الله حتى يلقى العبد ربه، فإذا ادلهمت الخطوب، واحلولك الظلام، وعبست في وجهك الأيام، تصدى لذلك اليقين بالله، فصار الحزن فرحاً، والضيق سعة، والعسر يسراً. فأعظم باليقين للمؤمن من دواء، وأنعم به من شفاء.

فضل الذكر والذاكرين

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، ومن فطر القلوب على المحبة واليقين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته والتابعين، ومن سار على نهجهم المبارك إلى يوم الدين.

أما بعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إخواني في الله! أحمد الله تبارك وتعالى أن جمعني بكم في هذا البيت المبارك من بيوت الله، وبعد هذه الفريضة من فرائض الله، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل التفرق من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.

أيها الأحبة في الله! ما أطيب المجالس إذا طُيبت بذكر الله، وما أطيب الساعات واللحظات إذا عُمرت بطاعة الله، وما الذي يأخذه العبد من هذه الدنيا غير مجلس جلسه لذكر الله أو خصلة طاعة بينه وبين الله، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعمر مجالسنا ومجالسكم بذكره، والإنابة إليه وحبه وشكره.

وفي المؤمن وفاء لربه وحب لخالقه، فما ذكِّر بالله إلا انشرح صدره، ولا ذُكر الله عنده إلا اطمأن قلبه، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] ، ولذلك كان بعض العلماء رحمهم الله يقولون: إذا أراد الإنسان أن يعرف مقدار إيمانه بالله، فلينظر إلى حال قلبه إذا جلس في مجالس ذكر الله، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل دلائل الإيمان في تلك المجالس تفوح من ذكره وشكره.

أيها الأحبة في الله! وأطيب ما تطيب به المجالس أن يعرف العبد ربه، فالحديث عن الله حديث يحرِّك القلوب إلى الله، ويشوِّق أرواح المؤمنين إلى حب الله، وما ذكِّر مؤمن بالله إلا تعلق قلبه بالله، ولذلك قلوب المؤمنين موصوفة بالهجرة إلى رب العالمين، فقوالبها في الأرض ولكنها في السماء، فلا تنظر إلى آية من آيات الله إلا ذكرت الله، وكم نثر الله عز وجل في هذا الوجود من الشواهد والدلائل التي تدل على أنه الواحد المعبود! وكم نثر الله عز وجل في هذه الأرض وهذه السماوات من عبرٍ وحجج وآيات شهدت بأنه فاطر الكائنات!

الحديث عن الله هو أجلُّ الأحاديث وأطيبها عند الله، الحديث عن الله يطيب لكل مؤمن يؤمن بلقاء الله، وكلما عرف العبد ربه هابه وخافه، وكلما اقترب الإنسان من الله أحبه واشتاق إليه، وكم غرس الله في قلوب المؤمنين من حبه، والتعلق به، تبارك إله الأولين والآخرين.

حديثنا اليوم عن خصلة من خصال المؤمنين، وخلة لعباد الله المحسنين، خلة قامت لها السماوات والأرض، وشهدت بها سماوات الله وأرضه، ألا وهي (اليقين بالله)، فكل ما في هذا الكون ليله ونهاره، صباحه ومساؤه، يذكرك فيقول لك بلسان الحال والمقال: لا إله إلا الله.

ما أظلم الليل إلا وذكرك بمن أظلمه، ولا أضاء النهار إلا وذكرك بمن أضاءه، ولا جاءت ظلمة الليل تغطي ضياء الشمس، وتلألأت -في ظلامه- كواكبه إلا قالت بلسان الحال والمقال: لا إله إلا الله. يقبل الليل على النهار فلا يختلط الليل بالنهار، ولا يختلط منه عشيٌ بإبكار، تبارك الله الواحد القهار، كل ما في هذا الكون يقودك إلى اليقين، حتى تتعلق بإله الأولين والآخرين، وصدق الله عز وجل إذ يقول في كتابه المبين: وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ [الذاريات:20].

الأنبياء واليقين

اليقين هو خُلق أنبياء الله وعباده الصالحين، رفع الله به درجاتهم، وكفَّر به خطيئاتهم، وأوجب لهم الحب منه والرضوان، والصفح من لدنه والغفران، إنه اليقين بالله الذي وقف معه نبي الله آدم أبو البشرية جمعاء، وقف عليه الصلاة والسلام في موقف أليم إذ أحس بالذنب في حق ربه الكريم، وقد بدت له سوءته، فطفق هو وزوجه يخصفان عليهما من ورق الجنة، وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121] ، فجاءه اليقين بالله فنادى ربه وناجاه، فغفر الله ذنبه، وستر عيبه وكفَّر خطيئته، هذا اليقين الذي دخل به يونس بن متى عليه السلام بطن الحوت في ظلمات ثلاث، لا يراه إلا الله، ولا يطلع على خبيئة قلبه من الآلام والحسرات سوى الله، فناداه وناجاه، وتقرب إليه جل في علاه، فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] ، فناداه بهذا النداء وكله يقين بأن الله سيرحمه، وناجاه بهذه النجوى وكله يقين بأن الله سيلطف به، فأخرجه الله من الظلمات إلى رحمة فاطر الأرض والسماوات، هذا اليقين الذي وقف به أيوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد أصابه الضر والبلوى، وعظُمت عليه الشكوى، فنادى ربه جل وعلا، فناداه وناجاه بقلب لا يعرف أحداً سواه، ففرج الله عز وجل كربه، ونفسَّ همه وغمه، ورد عليه ما افتقده.

هذا اليقين الذي وقف به الأنبياء والمرسلون في أشد الشدائد، وأعظم المكائد، فكان الله عز وجل بهم رحيماً، وبحالهم عليماً، ففرج عنهم الخطوب، وأزال عنهم الهموم والكروب.

وقف موسى عليه الصلاة والسلام البحر أمامه والعدو وراءه ومعه أمة خرجت ذليلة لله، مستجيبة لأمر الله، فوقف أمام البحر فلما قال له بنو إسرائيل: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61] قال واليقين معمور به قلبه ومليءٌ به فؤاده: قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] ، كلا؛ لا أُدرك ولا أُهان ومعي الواحد الديان، ففي طرفة عين تنزلت أوامر الله أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ [الشعراء:63] وإذا بتلك الأمواج المتلاطمة العظيمة تنقلب في طرفة عين إلى أرض يابسة، وإذا به على أرض لا يخاف دركاً فيها ولا يخشى، قال الله عز وجل: قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:61-63] ، سبحان الله! بحر عظيم؛ وفي طرفة عين تنقلب أمواجه إلى صفحة لا يجد فيها رذاذ الماء، ويضرب لهذه الأمة المستضعفة الموقنة بالله جل وعلا طريقاً في ذلك البحر لا يخاف دركاً ولا يخشى، كل ذلك باليقين بالله.

اليقين أعظم زاد

سار الصالحون على نهج الأنبياء­، واتبع آثارهم عباد الله المهتدون، فما نزلت بهم خطوب، ولا أحاطت بهم كروب، إلا عاذوا بالله علام الغيوب، والمؤمن في كل زمان ومكان يحتاج إلى هذا اليقين بالله، تحتاجه إذا عظمت منك الذنوب، وعظمت منك الإساءة في حق الله، تحتاجه وأنت مع أهلك وولدك، وتحتاجه وأنت مع عدوك، وصديقك، ولذلك كان لزاماً على كل من يحب الله أن لا يمسي ويصبح وفي قلبه غير الله، وإذا أراد الله أن يحبك وأن يصطفيك ويجتبيك ألهمك أن يكون قلبك متعلقاً به جل جلاله، إذا أردت أن يحبك الله كمال المحبة، فلا تمسينّ ولا تصبحنّ وفي قلبك غير الله وحده، تدور أحزانك وتدور أفراحك مع الله، وجميع شُعب قلبك منيبة إليه، فكم في عباد الله من أناس ملئوا قلوبهم بحب الله واليقين به، فكان الله معهم، ومن ذكر الله ذكره الله، ومن ذكره الله فالأمن له كل الأمن.

لذلك كان من منازل العبودية ودلائل الإنابة إلى الله أن توقن بالله الذي لا إله إلا هو، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: واليقين من منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]. فمن قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فإن الله يمتحنه باليقين.

ذكروا عن رجل من أهل العلم أنه كتب كتاباً في تفسير القرآن العظيم، وكان فقيراً، فخرج إلى إخوانه وخلانه من العلماء يستشيرهم، فأشاروا عليه برجل عنده المال والثراء، فقالوا له: اذهب إلى فلان يعطك المال فتنسخه، فاستأجر رحمه الله سفينة، وخرج في البحر حتى إذا مشى وأراد ذلك الثري ليعينه بالمال، فسخَّر الله له رجلاً يمشي على شاطئ البحر، فأمر قائد السفينة أن يركبه معه، فلما ركب الرجل معه سأل العالم وقال له: من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان، قال: المفسِّر؟ قال: نعم، قال: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: إني ذاهب إلى فلان، أريد منه أن يساعدني في نسخ كتابي. فقال له الرجل: بلغني أنك فسَّرت القرآن؟ قال: نعم، قال: سبحان الله! ماذا قلت في تفسير قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]؟ ففسر العالم الآية، وفهم مراد الرجل، فقال لقائد السفينة: الآن ترجع بي إلى بيتي، فرجع رحمه الله إلى بيته وكله يقين بالله عز وجل أن الله سيسد فقره، وأن الله سييسر أمره، فما مضت إلا ثلاثة أيام وإذا برجل يقرع الباب، فلما فتح الباب، قال له: إني رسول فلان إليك، بلغه أن عندك تفسيراً للقرآن يحب أن يراه، فأعطاه ذلك الكتاب الذي خرج من أجل أن يعرضه عليه، فرجع الرسول بالكتاب، فنظر فيه ذلك الثري فأعجبه، فأمر أن يوضع في كفة وأن يصب الذهب في كفة وأن يُبعث بذلك إلى الإمام. ما وثق أحدٌ بالله فخيبه الله، ولا أيقن عبد بالله جل جلاله إلا كان الله له، فكم من أمور نزلت بالإنسان وخطوب أحاطت به ولم يجد غير الله مجيباً ولا مفرجاً.

فاليقين بالله هو حلاوة الإيمان، وألذُّ ما تكون الساعة إذا عُمرت القلوب باليقين بالله عز وجل لذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يعمرون القلوب باليقين.

وقد قرر العلماء رحمهم الله: أن الله يبتلي الإنسان باليقين في موضعين: أحدهما: وجود الحاجة، وثانيهما: وجود الغنى، ولذلك قال بعض العلماء: إذا أردت اليقين فكن أفقر الخلق إلى الله، مع أن الله أغنى ما يكون عنك. فاجعل فقرك إلى الله، فإنه يسد فقرك ويسد حاجتك وعوزك، ولذلك ما عُمر قلب إنسان في أية مصيبة أو أية نازلة بالله إلا كفاه الله، ترى المؤمن يفقد سمعه ويفقد بصره، ويفقد قدمه، ويفقد ماله، وتقول له: كيف أنت؟ يقول: الحمد لله في نعمة من الله، من اليقين الذي عُمر في تلك القلوب.. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعمر قلوبنا وقلوبكم باليقين به، وأن يجعلنا وإياكم من أهل اليقين.

التوبة واليقين

أحبتي في الله! أول موقف من مواقف اليقين: موقف التوبة الصادقة، ولذلك ما من إنسان كثرت ذنوبه وأراد أن ينيب إلى الله إلا امتحنه الله باليقين، وكلما عظمت ذنوب الإنسان ينبغي أن يقف بيقين أعظم منها بالله الرحمن.

ولذلك ذكروا عن رجل أنه كان كثير الذنوب، كثير الخطايا والعيوب، فجاءه رجل يذكره بالله، وكان هذا الرجل كثير النصح له، فلما أكثر عليه نصحه ذات يوم قال له: إن الله لا يغفر لك، فاستفاق من غفلته وانتبه من منامه، وقال له وهو على يقين بالله: سأريك كيف يغفر الله لي ذنبي، فخرج إلى التنعيم فأحرم بالعمرة تائباً إلى الله فطاف بالبيت فخرَّ ميتاً بين الركن والمقام.

فما أيقن الإنسان بالله عز وجل وخيبه الله سبحانه، ولو أنه جاء إلى الله بذنوبٍ بلغت عنان السماء وقلبه عامر باليقين بالله ما خيبه الله، قتل رجل مائة نفس، آخرها عابد من العبّاد، فلما قتله جاء إلى رجل من أعلم أهل الأرض في زمانه، وقال له: هل لي من توبة، فإني قتلت مائة نفس؟ فقال له ذلك العالم: وما الذي يمنعك من التوبة.. ثم أمره أن يخرج إلى قوم صالحين، وأن يهاجر إلى الله رب العالمين، فخرج من قرية السوء إلى تلك القرية الصالحة، فأدركه الموت في الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: إنه جاء تائباً إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه قد قتل مائة نفس فأرسل الله إليهم ملكاً فأمرهم أن قيسوا ما بين القريتين -عزت عند الله خطواته إليه في آخر حياته، تائباً إلى الله عز وجل، ونظر الله إلى قلبه وهو معمور باليقين- فأوحى الله إلى قرية الصالحين أن تقاربي، وإلى قرية السوء أن تباعدي. وإن دلّ هذا فإنما يدل على أنه ما أيقن أحد بالله فخيبه الله.

فخير ما يوصى به الإنسان من منازل اليقين أن يقوي يقينه بالتوبة إلى الله، وما أكثر عبدٌ التوبة والإنابة إلى الله إلا تحاتت ذنوبه فازداد إيمانه وقوي يقينه.

اليقين عند المصيبة

الحالة الثانية التي يظهر فيها يقين الإنسان: إذا نزلت به المصيبة، ولذلك يصاب المؤمن في نفسه، ويصاب في أهله، ويصاب في ولده، وتأتيك تلك الساعة، يأتيك ذاك الخبر المزعج المؤلم على قلبك وفؤادك، فتُخبر بابن فقدته، أو ابنة أو أب أو أم أو صديق عزيز عليك وفيٌّ لديك، فتقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وقلبك كله يقين أن الخلف والعوض من الله رب العالمين، فسرعان ما يكون من الله لطفه، وسرعان ما يكون من الله عطفه.

فما ألذ اليقين، إذا نزلت المصائب بعباد الله المؤمنين، والله! ما أُصيب إنسان في نفسه أو في أهله وولده أو في ماله أو في أي شيءٍ عزيز عليه واعتقد في قلبه أن الله يعوضه إلا عوضه الله عز وجل، فيجب ألا يكون في قلب الإنسان مثقال ذرة من سوء الظن بالله، ولذلك الشيطان أحرص ما يكون في مثل هذه المواقف، وتجد المؤمن إذا أصابته المصيبة يأتيه الشيطان من كل حدب وصوب لكي يخيب ظنه بالله، يقول له: لو كنت مؤمناً ما ابتلاك الله بفقد ولدك، ولو كنت مؤمناً ما ابتلاك الله بفقد ابنتك، ولو كنت مؤمناً! ما ابتلاك الله بفقد مالك، ولو كنت.. ولو كنت.. ولكن ما أحسن عبد ظنه بالله فخيبه الله أبداً، إياك أن يدخل إلى قلبك مثقال ذرة من سوء الظن بالله عز وجل، فلعلك عندما تفقد المال تخرج منك كلمة تثني بها على الله فيحبك الله حباً لا يسخط عليك بعده، وقد يرفعك الله بهذه الكلمة إلى درجة لا تبلغها بكثير صلاة ولا صيام.

ذكر رجل أنه في ذات يوم من الأيام دخل على أبيه وهو في هم وغم، فلما نظر إليه سأله، فإذا به قد أصابه دين، يقول هذا الرجل -وكان من عباد الله الصالحين، ومن الشباب الأخيار-: فكان دين والدي بمقدار عشرة آلاف أو خمسة عشر ألفاً، وكان مالي عشرون ألف تعبت عليها حياتي وأنا أجمع هذا المال؛ لكي أبني مستقبلي، فلما نظرت إلى ما أصاب أبي ذكرت وصية الله بالوالدين، وذكرت وصية الله بالإحسان إليهما، فقلت في نفسي: لو أنني أعطيته هذا المال الذي أملكه، فجاءني الشيطان وقال لي: تعبك ومالك ومستقبلك يضيع في هذه اللحظة، يقول: فأصبحت في صراع هل أعطيه أو لا أعطيه! فقررت أن أعطيه، قال: فذهبت فأخذت المال وكلي يقين بأن الله سيعوضني عني، فوضعت الخمسة عشر ألفاً بين يديه، وأنا على يقين بأن الله لا يخيبني، يقول: فلما وضعتها بين يديه فاضت عيناه بالدمع وقال: أسأل الله العظيم أن يفتح لك أبواب فضله، يقول: فقمت من عنده، وما مضت إلا أيام قليلة فدُعيت إلى مناسبة فيها رجل من الأثرياء، وكان يبحث عن رجل يقوم على أمواله، فقال الرجل الذي استضافه: لن تجد أصلح من هذا الرجل الذي أمامك، يقول: فأخذني وكيلاً على ماله، وكانت أول صفقة لي من ذلك المال في أول بيعة مائتا ألف ريال، فرحمة الله عز وجل ولم يخيبه سبحانه.

ولربما أن الإنسان قد يصاب بفقد البصر، فيسترجع ويحمد الله عز وجل، فيعوضه الله إيماناً في قلبه، ويقيناً بربه، وقد جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واشتكت إليه ما تجده من فقد عقلها والمس الذي أصيبت به في نفسها، فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك، قالت: أصبر ولي الجنة) فكانت امرأة مبشرة بالجنة وهي تمشي على وجه الأرض، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول لأصحابه: (هل أريكم امرأة من أهل الجنة؟ انظروا إلى هذه المرأة السوداء) رضي الله عنها وأرضاها.

ما أيقن أحد بالله عز وجل فخيبه الله سبحانه وتعالى، فاليقين بالله هو حلاوة الإيمان.

دلائل اليقين

عدم صرف الحب والخوف لغير الله

إن اليقين بالله له دلائل، وهذه الدلائل تجدها في نفسك، وتجدها في قلبك، ومن أعظمها: أنك لا تمسي ولا وتصبح وفي قلبك أحد أحب إليك من الله، فإذا أمسيت وأصبحت وأخوف ما يكون في قلبك هو الله، وأحب ما يكون في قلبك هو الله فاعلم أن الله قد أعطاك اليقين، فلا تمسي ولا تصبح وفي قلبك حب لغير الله أكثر من حبك لله، وتمسي وتصبح وليس في قلبك خوف من أحد إلا الله جل وعلا.

لذلك ما انصرفت شعبة من شعب المحبة والخوف إلى أحد غير الله إلا نقص يقين الإنسان، ولذلك قد يصيبك الله عز وجل ببلية لا قدَّر الله، فتصاب في نفسك، فتضيق عليك الأرض بما رحبت، حتى إذا بلغ بك الأمر غايته فاعلم أن اليقين عند الضيق، ولذلك كان يقول بعض العلماء: (كلما اشتد البلاء كان اليقين أكمل في الإنسان، وكان الفرج قريباً).

قد ذكر الله في ذلك قصتين، القصة الأولى: الثلاثة الذين خلفوا، فقال سبحانه وتعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ [التوبة:118] وهذا من بلاغة القرآن: ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ [التوبة:118] ؛ لأن الإنسان قد تكون نفسه ضيقة ولكن الأرض واسعة عليه، وقد تكون الأرض ضيقة عليه ولكن نفسه واسعة، فقد تجد أعداءه كثيرين، أو تجد البلايا تحيط به في أمواله وأهله وأولاده، ولكن نفسه منشرحة وقلبه متسع ويقينه بالله عظيم، فهذا ضيق الخارج، ولكنه منشرح الداخل، وقد يكون ضيقاً في داخله موسّعاً في خارجه، فتجده من أغنى الناس ولكن في داخل قلبه من الأمراض النفسية والضيق والكبت والهم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، نسأل الله السلامة والعافية، إذاً الضيق إما من الخارج وإما من الداخل، فالله أشار إلى هؤلاء الثلاثة جاءهم الضيق من الناحيتين: ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ [التوبة:118] لكن: وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ [التوبة:118] لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، فجاءهم الفرج.

فكلما اشتدت عليك المصائب وأحاطت بك الديون والغموم والهموم فاعلم أن الله قريب منك، ولذلك انظر إلى الكفار عبدة الأصنام يعبدون غير الله عز وجل ويستغيثون ويستجيرون بغيره، فإذا أصابهم الضر قالوا: لا إله إلا الله، فكشف عنهم وفرَّج الله كربهم.

فكلما قوي يقين الإنسان واشتدت عليه المصائب والمصاعب والمتاعب فليعلم أن الفرج قريب .. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعمر قلوبنا وقلوبكم باليقين به، وأن يجعلنا وإياكم من أهل اليقين الذين أوجب لهم درجات النعيم.

جعل الإنسان الآخرة نصب عينيه

الدليل الثاني على دلائل اليقين: فهو أن يجعل الإنسان الآخرة نصب عينيه.

فكما أن اليقين يكون بالفرج، يكون كذلك بيقين الإنسان أنه إلى الله صائر، وأنه منقلب بين الجنادل في الحفائر، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحركون القلوب باليقين بالآخرة، ولقد ذكر الله عز وجل في كتابه أن من أيقن بالآخرة صحت عبادته وكملت زهادته، فقال جل ذكره: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:45-46].

التعلق بغير الله ينافي اليقين

أيها الأحبة في الله! الكلمة الأخيرة عن اليقين كلمة تقطع قلوب المؤمنين، كلمة تدل على بعدنا عن الله وطول غربتنا عن داعي الله وجهلنا بعظمة الله عز وجل، فكم من أناس بيننا إذا نزلت بهم الشدائد وأحاطت بهم الهموم والغموم تعلقوا بغير الله والعياذ بالله! وكم من أناس بيننا يقولون: لا إله إلا الله؛ ولكن يعظمون الأسباب ويحبونها أشد من حبهم لله، فكم من مريض أصابه المرض ظن أن طبيبه يداويه وأنه يعافيه ويشفيه، فنقص الإيمان من قلبه على قدر ما فات من يقينه، وكم من مديونٍ ظن أن عبداً يفك دينه ويقضي حاجته فخيب الله ظنه وقطع رجاءه، فأصبح فقيراً صفر اليدين من اليقين به جل جلاله.

لذلك لا يليق بالإنسان أن يعلق رجاءه بغير الله، والله تبارك وتعالى إذا امتحن الإنسان باليقين فتعلق بغير الله، فإن الله تبارك وتعالى يمكر به، ومن مواطن المكر بالإنسان أن يصرف قلبه لغير الله عز وجل، ولذلك تجد بعض من يستعين بالسحرة وبالمشعوذين -والعياذ بالله- يمهلهم الله جل جلاله، ويستدرجهم بتفريج الخطوب والكروب حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، والله ثم إنه -والله- إذا أراد الله بك الضر فلن ينجيك منه أحدٌ سواه، ولذلك استحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكل مؤمن إذا وضع خده ليسلم نفسه للموتة الصغرى أن يقول الدعاء المأثور: (اللهم إني أسلمت نفسي إليك، وألجأت ظهري إليك، وفوضت أمري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك) .

فلا يظن الإنسان أن أحداً ينجيه من الله عز وجل، ولذلك أول ما يفكر فيه الإنسان إذا نزلت به المصيبة أو حلّت به بلية أن يتجه إلى الله وحده لا شريك له.

وقف إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع تلك المرأة الضعيفة، مع صبي ضعيف في وادٍ، -أمره الله بالهجرة إليه- غير ذي زرع، لا أنيس به ولا جليس، فكان صلوات الله وسلامه عليه مستجيباً لأمر ربه مسلَّماً لخالقه كما وصفه الله في كتابه، فجاءته تلك المرأة الضعيفة وتعلّقت به بعد أن حطَّ رحالها وتركها وصبيها، فقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟ فأعرض عنها عليه الصلاة والسلام كأنه يقول لها: أنت تعلمين لمن أدعك .. فمضى إلى الوادي، فجرت وراءه وقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟ فنظر إليها ثم أعرض عنها، ثم في المرة الثالثة، تعلقت به وقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟ فقال: لله، قالت: إذاً لا يخيبنا الله، فوقع ما وقع لها ولصبيها فاستغاثت بالله عز وجل واستجارت في شربة ماء لها ولطفلها، ففجّر الله عز وجل الماء من تحت قدم صبيها. فمن أيقن بالله عز وجل في أي شدة أو أي خطب فإن الله لا يضيعه.

فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه وصفاته أن يرزقنا وإياكم حلاوة اليقين، وأن يرزقنا وإياكم كمال الإيمان بالله رب العالمين.

اللهم إنا نسألك يقيناً لا يخالطه شك، ونسألك إيماناً لا يخالطه شرك، ونسألك الصدق في حبك والشوق إلى لقائك، إنك ولي ذلك والقادر عليه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

المعصية واليقين

السؤال: كيف يكون المسلم على يقين دائم بالله إذا كان يذهب بعض الأوقات لفعل المعاصي، والعياذ بالله؟

الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فإنه ينبغي للمؤمن أن يحسن الظن بالله عز وجل، ومهما فعل من المعاصي فليعلم أن الله لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة، ولذلك قال الله تعالى في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي) فينبغي على الإنسان إذا اقترف الذنوب والمعاصي أن يحسن الظن بالله جل جلاله، وأن يصدق في التوبة، فإنه من صدق مع الله صدق الله معه.

فخير ما يوصى به الإنسان إذا كثرت ذنوبه أن يكثر التوبة، صحيح أنك إذا أذنبت نقص اليقين في القلب، والعياذ بالله، وكل ذنب بين الإنسان وبين الله ينقص اليقين، وبقدر الذنب والجريمة ينقص ذلك اليقين، ولذلك خير علاج لمن بلي بالذنوب أن يكثر من الاستغفار، ومن أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية.

فأوصيك -أخي في الله- أن تكثر التوبة والاستغفار، والله تعالى أعلم.

تذبذب اليقين

السؤال: أنا رجل يرتفع يقيني بالله عز وجل تارة، ويقل أخرى، وهكذا دائماً تكون حالتي، وأنا رجل شيخ ممن يقوم الليل، ولكني لا أحس بحلاوة ما أفعل، ولا أبكي من خشية الله جل وعلا، فأرشدنا إلى سبب ذلك، بارك الله فيك؟

الجواب: أما ما ذكرت من اختلاف قلبك بالإقبال والإدبار، فهذا من حكمة الله عز وجل بالعباد، فالقلوب لها إقبال وإدبار، فإذا أقبل قلبك على الله فاستكثر من خصال الخير، فجد واجتهد في الطاعات، وإذا أدبرت نفسك عن الله فاحفظ فرائض الله، وسأوصيك بأمور:

أولها: أن تتفقد نفسك، فإن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم، فلعلّ ذنباً بينك وبين الله حال بينك وبين القبول من الله، ولعلّ ذنباً بينك وبين الله حرمك اليقين بالله، فأول ما يفكر فيه الموفق أن ينظر كيف حاله مع الذنوب، فإن وجد ذنباً استغفر الله وتاب منه، وعقد العزم على عدم الرجوع إليه.

وأما ما ذكرته من قيام الليل وعدم وجود الخشوع، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فإن قيام الليل من أهم الأسباب التي تعين على خشوع القلوب، ومن قام الليل ولم يجد لقيامه خشوعاً فليبك على نفسه وليطرَّح بباب ربه وليستعذ بالله من قسوة قلبه، وليعلم أن بينه وبين الله حائلاً، إما ذنباً من عقوق أو معصية أو قطيعة رحم أو أكل مالٍ ظلماً أو هتك ستر الله أو نحو ذلك من المعاصي، فأول ما يفكر فيه أن يتفقد نفسه، وأن يحاول قدر استطاعته أن يتوب إلى الله، فإن الله تعالى يقول: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46]، وكان العلماء رحمهم الله إذا أعيتهم المسألة وأصبحت شديدة عليهم أكثروا من الاستغفار، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: (إن كانت المسألة ليستغلق عليَّ فهمها -فيما معنى كلامه- فلا أزال أستغفر الله حتى أبلغ ألف مرة ثم يفتح عليَّ فيها). فعليك أن تكثر من الاستغفار، فإذا قمت في الليل فاجعل ليلك مطية للاستغفار، فإن الله يرحم من يستغفره، ويلطف به: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح:10]، فنسأل الله العظيم أن يعافينا وإياكم من هذا البلاء، وأن يرزقنا وإياكم اللذة في مناجاته وذكره. والله تعالى أعلم.

كيف تنال محبة الله عز وجل

السؤال: ما هي السبل الموصلة إلى محبة الله جل وعلا؟

الجواب: أعظم السبل وأجلها: كتاب الله عز وجل.

فمن أكثر تلاوة القرآن والتدبر في آياته فإنه سرعان ما يحب الله عز وجل، والله ما وجدت محبة الله في قلب الإنسان بشيء مثل التلذذ بكلام الله عز وجل، ولما كان الصحابة رضوان الله عليهم مع القرآن في الليل والنهار وجدوا حلاوته ووجدوا لذة المحبة لله عز وجل.

الأمر الثاني الذي يعين على حب الله: أن تحب الله من نعمه، وأن تنظر في صباحك ومسائك ما ترفل فيه من النعم.

انظر إلى هذه النعم المغدقة عليك في الصباح والمساء، يقول الأطباء: إن قلب الإنسان فيه نسبة من مادة لو زادت (1%) أو نقصت (1%) لسقط ميتاً من ساعته، فما هذا اللطف وما هذه الرحمة وما هذا العطف من الله عز وجل، فانظر إلى نعمة الله عليك، تمر على العباد فترى فيهم المريض، ترى فيهم المبتلى، والفقير والضعيف، والله عز وجل أغناك وكفاك وآتاك الصحة والعافية ومنَّاك، فكيف لا تحبه وأنت ترفل في نعمه؟!!

سبحان الله! ولله المثل الأعلى، لو أن واحداً منا في يوم من الأيام احتاج إلى أمر بسيط من أمور الدنيا، فجاء رجل فقضى لك هذه الحاجة بعد أن ضاقت عليك الأرض، وأصبحت في شدة ماذا يكون؟ يأسرك بهذا المعروف، حتى إن بعضنا إذا جاء يجلس مع أولاده أول ما يتكلم يقول: فلان فعل معي كذا وكذا جزاه الله خيراً، إذا جلس مع جماعته: فلان فعل معي كذا وكذا جزاه الله خيراً، لكن هل جلست مع أولادك يوماً من الأيام تقول: كنت فقيراً فأغناني الله، وكنت ضعيفاً فقوَّاني الله، وكنت مريضاً فشفاني الله، هل أحد منا فعل هذا؟! فعليك أن تحب الله من هذه النعم التي ترفل فيها صباحاً ومساءً، فالبصر مثلاً، لو تعلم ما فيه من اللطف والرحمة من الله، إذ نوَّر لك هذا البصر لأحببت الله صدق المحبة.

فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ممن أحب الله صدق المحبة، وأن يورثنا هذه المحبة التي تعلقنا به وحده لا شريك له.

ولله المثل الأعلى، فكم تحب وتكن لوالديك من عطف وبر فإنه لا يأتي مثقال ذرة من عطف الله وبره بك.

فلذلك خير ما يوصى به الإنسان أن ينظر إلى نعم الله التي يرفل فيها صباح مساء، فإذا دخلت إلى بيتك تقول: الحمد لله إذا أكلت، الحمد لله إذا شربت، الحمد لله إذا قمت وإذا وقفت تقول: الحمد لله، وتتذكر من لا يستطيع الوقوف، إذا جلست تقول: الحمد لله وتتذكر من لا يستطيع الجلوس، إذا نمت تقول: الحمد لله الذي كفاني يومي حينما تتذكر المهموم والمغموم والمحروم، والله عز وجل أعطاك ما أعطاك، فتقول: يا رب لك الحمد، فتحبه صدق المحبة وتتعلق به جل جلاله.

العقل، من الذي حفظ لك نور العقل؟ من الذي حفظ لك نعمة العقل؟ وأنت ترى من فقد العقل ومن يعيش الآلام النفسية حائراً في فهمه وعقله، والله صان لك هذه النعمة.

فلذلك النعم تقود وتدل على محبة الله.

أيضاً: إجلال الله.

فإنك إذا نظرت إلى ملكوت الله وآياته المنثورة في الكون تحبه، فالشمس سخرها لك، والقمر والنجوم والأرض وكل خيرات هذه الأرض أغدقها الله عز وجل عليك، الطعام يقاد إليك على أمواج البحار، ولو شاء الله أن تلتقمه البحار لالتقمته، ويقاد إليك بين السماء والأرض بالطائرات من فجاج بعيدة، كتب الله لك رزق هذا الطعام الذي تطعم، فكيف لا تحبه؟!

تقاد إليك الثمرات من المزارع والبساتين، وكتب الله أن عبدي فلاناً يطعمها في الساعة الفلانية واللحظة الفلانية، كل ذلك لماذا؟ من أجل أن تحبه، فكيف لا تحبه؟!

يقود إليك هذه النعم والمنن والآلاء كي تقود قلبك وقالبك إليه جل جلاله، فلا ترفل بنعمة إلا ولسانك يلهج من صميم قلبك: اللهم لك الحمد الذي أنت أهله.

ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا نحصي ثناءً عليك) أي: لا نستطيع أن نشكرك حق شكرك، ولا نستطيع أن نذكرك حق ذكرك، بماذا؟ بهذه النعم.

فنسأل الله العظيم أن يحيي قلوبنا وقلوبكم بهذا كله، وأن يرزقنا وإياكم حبه الصادق. والله تعالى أعلم.

وسيلة دفع الوساوس الشيطانية

السؤال: تأتيني الكثير من الوساوس والشبهات في العقيدة، وفي اليقين بالله، وفي اليوم الآخر، وفي الإيمان، ويأتيني الشيطان ويصور لي ذات الله عز وجل والعياذ بالله، ويجعلني أتفكر في ذاته، فما نصيحتكم لي حفظكم الله؟

الجواب: خسئ عدو الله، وكلما تجده في نفسك من الوساوس المردية والخواطر المهلكة فاعلم أنها من الشيطان، وما العلاج؟ يلتفت عن يساره ويقول بيقين كامل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وأول ما أوصيك به أن تعوذ بالله جل جلاله وتفر إليه من هذه الوساوس.

وأذكر أن رجلاً كان قلبه مبتلىً بهذه الوساوس والعياذ بالله! وأكثر من الشكوى، فقلت له: يا أخي! أتشتكي إلي وأنا عبد ضعيف وعندك العلاج! قال: كيف؟ قلت: يا أخي اعرض أمرك على الله، وإن من أغرب ما وجدت من الهموم والمصائب التي يصاب بها الموسوس -والعياذ بالله- ما وجدت في هذا الرجل، فشاء الله عز وجل، أن قلت له: يا أخي! ما يمنعك أن تعتمر، وتطّرح بين يدي الله عز وجل وتبكي وتناجي الله عز وجل في عمرتك، وتقبل على الله، فالله إذا نظر إليك وأنت مقبل إليه فإنه سيفرج عنك ما أنت فيه، فأقبل على الله، وشاء الله عز وجل أن لقيته بعد شهر، وإذا بذلك الوجه قد تغير، قد أسفر وأنور، إي والله الذي لا إله إلا هو! فقلت: ما الخبر؟ فتبسم وقال لي: جزاك الله كل خير، قال لي: أُبشرك، ذهبت لاعتمر، وكان هذا في يوم الخميس فاعتمرت في سحر الجمعة، وتضرَّعت إلى الله عز وجل، يقول: والله! إني عند المقام وأنا في ركعتي الطواف أبتهل إلى الله عز وجل، وبمجرد أن سلمت كأنني غُسلت بماء، وما كأن بي شيئاً وإلى ساعتي هذه ولا أجد شيئاً مما كان.

وكان أحد الإخوة مبتلىً -والعياذ بالله- في نفسه، وبلغ به من الضر ما الله به عليم، وفي هذه السنة أذكر أنه حج، وكنت -والله- أرثي لحاله، وكان معه بعض الأخيار يشفق عليه، فشاء الله عز وجل أنني لقيته بعد الحج، وإذا بالوجه قد تغيّر والحال قد تغيّر، فقال لي: أبشرك يا شيخ! الذي كنت أجده الحمد لله لا أجد منه الآن شيئاً، قلت: كيف؟ قال: سبحان الله العظيم! في يوم عرفة ذكرت ما أنا فيه وذكرت قوله -عليه الصلاة والسلام-: (أن تعبد الله كأنك تراه) يقول: ذكرت همومي وغمومي، وحصل عندي يقين أنه لا ينجيني إلا الله وحده لا شريك له، يقول: فبكيت وتضرعت، يقول: سبحان الله! وإذا بجسمي له حرارة عجيبة، يقول: وإذا بها لحظة واحدة كأن لم يكن بي من بأس.

فمن أيقن بالله، كفاه الله والمشكلة أننا ما قدرنا الله حق قدره، وما عظّمنا الله حق تعظيمه، فهذا الكون بآثاره ودلائله وشواهده كان بكلمة (كن) فكان، إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النحل:77]، ولربما يسلط الله عليك هذه الوساوس؛ لكي يمتحن إيمانك، يأتيك الخبيث ويقول لك: من هو الله الذي تعبده؟ ومن هو الله الذي تفعل لأجله؟ فقل له: اخسأ عدو الله، ويكون عندك يقين بأن وسوسته لا قيمة لها، والمشكلة أن البعض يأتيه الوسواس -والعياذ بالله- فيعظم أمر الوسواس، لكن أنت انظر إليه محتقراً له؛ لأن الله وصف الباطل بأنه لا جذور له: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ [إبراهيم:26] كماذا؟ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ [إبراهيم:26] فكل الوساوس تدفعها كلمة واحدة، ما هي؟ أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، كلمة تخرج من القلب وليس كلمة هكذا يقولها، بل وهو يحس أنه لا ينجي من هذا الكرب إلا الله وحده لا شريك له.

فنسأل الله العظيم أن يرزقنا هذا اليقين، وأن يعجل لك بالفرج من لدنه، إنه هو أرحم الراحمين. والله تعالى أعلم.

خطورة الذهاب إلى السحرة

السؤال: ما هي نصيحتك لمن يذهب إلى السحرة والمشعوذين والعياذ بالله؟

الجواب: أعوذ بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، إذا صرف الله قلب الإنسان في أي مصيبة، إلى أحد سواه فليعلم أن الله قد خذله، فإذا أصبت بمصيبة ووجدت شعبة من شعب قلبك تنصرف إلى أي شيء من دون الله فاعلم أن الإيمان ناقص، ولذلك إذا نزلت بك مصيبة -ولو كان عندك قدرة على دفعها- فليكن عندك يقين أنه لا حول لك ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإياك أن تعتمد على مالك أو على قوتك أو على قدرتك، ولكن اعتمد على الله وحده لا شريك له، فكيف بالسحرة والمشعوذين؟!! والله! لن يغنوا عنك من الله مثقال ذرة من خردل، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يشفيك، وهو الذي يعافيك، وهو الذي يهمُّك وهو الذي يزيل همّك، وهو الذي يغمُّك وهو الذي يزيل غمك، فاعتقد ذلك في الله وحده لا شريك له.

أما السحرة فإنهم لا يضرون أحداً إلا بإذن الله، وكم من ساحر خيب الله ظنه، وقطع سحره، وجعله وبالاً عليه، فكن قوي اليقين بالله عز وجل، سبحان الله! يذهبون إلى السحرة والمشعوذين ويخسرون الأموال والأوقات ويعلقون القلوب بمن لا يسمن ولا يغني من جوع، وكل الأمر يقف عند لحظة واحدة يدعو فيها ربه ويستغيث بالله جل جلاله فيفرج عنه، ثم يتركون الله الذي بيده النفع والضر ويستغيثون بمن عداه! نسأل الله السلامة والعافية، فنعوذ بالله العظيم رب العرش الكريم من هذا البلاء.

والله! ما حضر الموت إنساناً يعتقد أن الساحر ينجيه من عذاب الله أو ينجيه من همه وغمه من دون الله إلا كان مشركاً والعياذ بالله! خرج من الدنيا والجنة عليه حرام، فمن نواقض لا إله إلا الله أن تعتقد النفع والضر فيمن عدا الله، ولو كان الإنسان من أصلح عباد الله فإنه لا يسمن ولا يغني من جوع، فكن قوي اليقين بأنه لا ينجيك من الله إلا الله، فلا أحد يغني عن أحد من الله شيئاً.

أذكر ذات مرة رجلاً نحسبه من الصالحين، كان عنده في مزرعته رجل ساحر، ولم يكن يعلم بأنه ساحر، فكان هذا الساحر يسهر الليل ويفعل بعض الأفعال المريبة، فانتبه له بعض العمّال الذين معه، فأخبروا صاحب المزرعة، فجاء إلى هذا الساحر واكتشف أمره، فقال له: لن تبق عندي لحظة واحدة، فقال له الساحر: سأضرك، قال: لو علمت أنك تضر وتنفع من دون الله ما أخرجتك من مزرعتي، وبيني وبينك الله الذي لا رب سواه، خرج هذا الساحر، يقول الأخ: الحقيقة أصابني بعض الخوف من هذا الساحر، يقول: وشاء الله عز وجل أنني تلك الليلة جلست أتضرع إلى الله، يقول: وما جاءني النوم، وأنا أقوم وأصلي، والله إنها لعبرة، ففي فجر ذلك اليوم صلى الفجر وذهب إلى دراسته، يقول: فمررت بحي وإذا بالناس مجتمعة، في السكة والطريق، ما بكم؟ يقولون: حادث، يقول: ليس من عادتي أنزل وأرى الحوادث، وأنا ذاهب إلى الدراسة، يقول: فنزلت وإذا بصاحبي قد ضُرب على الأرض والدم يسيل من أذنه ومن أنفه ميتاً على الأرض، ما أحد يغني عن أحد من الله شيئاً، ولكن المشكلة أننا ما قدرنا الله حق قدره، ولا عظمنا الله حق تعظيمه، ولا التجأنا إلى الله حق اللجأ.

فليكن الإنسان على يقين بأنه لا ينفعه ولا يضره أحد من دون الله: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعراف:188] .

فنسأل الله العظيم أن يصرف قلوبنا وقلوبكم إليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والله تعالى أعلم.

معنى حديث: (أنا عند ظن عبدي بي)

السؤال: يذنب البعض ذنوباً كثيرة فإذا نُصح استشهد بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي) فكيف يكون الرد على هؤلاء، جزاكم الله خيراً؟

الجواب: لو أحسن الظن بالله ما عصى الله عز وجل، وقوله عليه الصلاة والسلام: يقول الله تعالى: (أنا عند حسن ظن عبدي بي) ، هذا في سكرات الموت، فمن حضرته سكرات الموت وتخبطته الشياطين عند الموت فأحسن ظنه بالله كان له من الله فوق ما يرجو ويأمل.

ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل من عباد الله الصالحين، ذكره وسمَّاه وقد نسيت اسمه الآن، يقول: كان رجلاً كثير الخوف من الله عز وجل، حتى يقولون: إنه لما مرض مرض الموت أُخذ -أكرمكم الله- بوله إلى الأطباء، وكان الأطباء يعرفون بعض الأمراض بألوان البول، فلما رآه الطبيب قال: هذا المريض قطّع الخوف كبده، أو مزق الخوف كبده، وهذا من كثرة خوفه من الله عز وجل، فتوفي هذا الرجل الصالح، يقول فرؤي بعد الممات، كما حكى شيخ الإسلام ذلك، رؤي بعد مماته، فقيل: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه، فقال: ما هذا يا عبدي ألم يبلغك أني أنا الغفور الرحيم؟!! أي: لماذا تخافني هذا الخوف وقد بلغك أني أنا الغفور الرحيم؟

وذكر أيضاً بعض العلماء: عن رجل من أهل العلم أنه توفي، وكان هذا العالم يتساهل في بعض الأمور، وكانت عنده زلات بينه وبين الله عز وجل، يقول: فكان يحسن الظن بالله عز وجل، فلما حضره الموت، يقول: أحسن الظن بالله تبارك وتعالى وكان عند موته يكثر من الاستغفار والتوبة ويسترحم ويستعطف الله عز وجل عليه، فشاء الله سبحانه وتعالى أن يُتوفى، فرؤي بعد مماته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه، وقال: يا عبدي ألم تفعل كذا وكذا؟ قال: يا رب! ما هكذا بلغنا عنك، -هو عالم من أهل العلم- قال: وما بلغك عني؟ قال: بلغني عنك أن رحمتك تسبق عذابك، قال: قد غفرت لك ذنبك.

فحسن الظن بالله عز وجل من الأمور المطلوبة، لكن ينبغي أن يقرن حسن الظن بالخوف، والله جعل أهل النجاة على جناحين، إذا كُسر أحدهما فإن الإنسان على عطب وهلاك، الخوف والرجاء، قال تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16]، أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9]، وما ذكر الله الجنة إلا أتبعها بالنار، وما ذكر النار إلا أتبعها بالجنة، حتى نكون على جناحي السلامة، ولذلك الخوف والرجاء كحافتي الطريق، إن بالغ في الخوف رده إلى الرجاء، وإن بالغ في الرجاء رده إلى الخوف، فمن غلب رجاؤه فإنه على هلاك، كمن يفعل المعاصي ويقول: إن الله غفور رحيم، فهذا يُخشى عليه أن يمكر الله به، وأن يستدرجه من حيث لا يحتسب، ولكن يقول: إن الله غفور رحيم، اللهم إني ظلمت نفسي، ويبكي ويندم ويظهر لله عز وجل الخوف، فإن هذا من كمال الأدب مع الله، وأيضاً إذا قوي خوفه يقرن بذلك حسن الظن بالله تعالى. والله تعالى أعلم.

علاج العجب والغرور

السؤال: ما هو السبيل إلى طرد خاطر العجب من القلب؟

الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فإن العجب داء قاتل ما بُلي به إنسان إلا هان عند الله عز وجل، ولذلك ذكر الله عز وجل في كتابه أنه أهلك من ظلم، وأخبر أن سبب هلاكهم هو الغرور، فلذلك ينبغي للإنسان ألا يغتر، فإذا أنعم الله عليك بالمال فاكسر نفسك للكبير المتعال، وإذا أنعم الله عليك بالصحة فتذكر منّة الله عز وجل عليك بها، وأثن على الله عز وجل بما هو أهله، ولذلك كان أنبياء الله ورسله أعرف الناس بالله، وكان الواحد منهم إذا أعطاه الله نعمة خاف ألا يقوم بشكرها، فإذا كان عندك ذكاء أو فهم أو مال أو غنى أو جاه أو غير ذلك فلا تغتر، فكم من إنسان اغتر بماله فأتلفه الله بذلك المال، وكم من إنسان اغتر بصحته فمكر الله عز وجل به وجعل عاقبته من صحته التي اغتر بها وبالاً عظيماً، ألا ترى الرجل الشجاع يغتر بشجاعته حتى يسلط الله عليه من هو أقوى منه فيعاديه ويظن أن شجاعته تنقذه فتهلكه تلك الشجاعة، إياك أن تغتر، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكمل الأمة إيماناً يظهر لله عز وجل الفاقة والحاجة، وكان يقول: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)، فلا تغتر بذكاء ولا بفهم ولا بحول ولا بقوة.

ولذلك ذكروا عن الإمام الماوردي رحمه الله -وهو إمام من أئمة العلم- له كتاب ثلاثون مجلداً في خلاف العلماء في الفقه دخل يوماً من الأيام المسجد وحدثته نفسه.. فقال: هل هنا مسألة في الفقه لا أعرفها؟ فاغتر بنفسه، فدخل إلى الدرس، فلما جلس بين طلابه، أرسل الله إليه امرأة معها صبية قد قاربت البلوغ فجاءت ووقفت على ذلك العالم الجليل فقالت له: يا شيخ! هنا مسألة في الحيض، فسألته عن مسألة من حيض هذه الصبية يقول: وإذا بي لا أحسن من الفقه شيئاً، فخذله الله، وحرمه فضله؛ لأنه اعتقد أن الفضل له، وظن أن ذكاءه وفهمه هو الذي ينجيه أو يعوِّل عليه، فأرسل الله إليه هذه المسألة البسيطة من مسائل الطهارة، يقول: فلم أدر لها جواباً، فأصبح الطلاب لما رأوا الشيخ أصابه الدهش لم يستطع أن يجيب، مندهشين وما استطاع أحدهم أن يقول: يا أمة الله! جواب المسألة كذا وكذا، فلما يئست المرأة من الجواب انصرفت، فلقت طالباً من طلابه المبتدئين، كان في بداية دخوله للمسجد، قالت له: أصلحك الله صبية أصابها من الحيض كذا وكذا، فما الحكم؟ قال: الحكم كذا وكذا، قالت له: أنت خير من هذا الذي جلس.

فالإنسان إذا اتكل على حوله وقوته وذكائه خذله الله عز وجل وأذكر عن بعض الصالحين أنه قال: دخلت إلى اختبار إحدى المواد وكنت أظن أنه لا أفهم مني، وليس هناك مسألة في هذه المادة إلا وسأجيب عليها، يقول: فلما وضعت الورقة بين يدي وإذا بي لا أحسن من المادة حرفاً واحداً، يقول: فأصابني من الرعب ما الله به عليم، يقول: والله! إني في شدة البرد أتفصد عرقاً مما أصابني، يقول: فلما وجدت ما وجدت علمت أنني أُتيت من قبل نفسي، فاستغفرت الله وتبت إليه، وفي لحظة واحدة كأن لم يكن بي بأس، فشرح الله صدري وأجبت في خلال نصف ساعة عن الأجوبة كلها.

فالإنسان إذا اغتر بنفسه فليعلم أن الله سيمتحنه، ولذلك انظر! ما من غني يغتر بماله إلا سلّط الله عليه مصيبة في المال.. وما من عالم يغتر بذكائه إلا سلّط الله عليه حرمان التوفيق في علمه، وما من مهتدٍ يغتر بهدايته إلا سلب الخشوع وسلب الإنابة إلى الله، فالمهم أنه لابد أن يبتلى؛ لأنه يظن أن الفضل له.

ولذلك كان السلف رحمهم الله يخافون من الغرور، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يدخل ويحمل الحطب على ظهره أمام الناس في سوق الكوفة وهو أمير الكوفة رضي الله عنه وأرضاه؛ لكي يكسر نفسه، ولما أصاب الغرور عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه- حمل الحطب على ظهره؛ لكي يهين نفسه.

فلا ينبغي للإنسان أن يغتر بحوله وقوته، ولكن ينبغي عليه أن يتعلق بحول الله وقوته، ولذلك من الدعاء المأثور ومن ذكر الله الذي هو كنز من كنوز الجنة: (لا حول ولا قوة إلا بالله) .

والوقفة الأخيرة مع الغرور، بأي شيء تغتر والأمور بعواقبها؟! هل أحد كشف لك عن الغيب فتعلم أن هذا الصلاح عاقبته حسن الخاتمة؟!! بل تأمل ذلك الذي كفر نعمة الله عز وجل واغتر بعلمه، فسلبه الله سبحانه وتعالى نعمه فانسلخ من آياته وكان من الغاوين والعياذ بالله! وكذلك أمية بن أبي الصلت لما كان آية في الفهم والعلم والذكاء، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنه حسده واغتر بنفسه فكان من الهالكين والعياذ بالله! ما الذي يدعو الإنسان إلى الغرور وهو لا يضمن العاقبة؟!

الأمر الثاني: إذا قمت في الصلاة وأعجبك القيام أو أعجبك من نفسك الصيام، فتذكر أن العبرة بالقبول، فهل تعلم أن الله قبل طاعتك؟!! وهل تعلم أن الله قبل عبادتك؟!!

فهذا أمر من الأهمية بمكان: علاج الغرور أن تنظر إلى العاقبة.

أيضاً مما يكسر الغرور في النفس: إذا أعطاك الله نعمة المال أوصيك أن تزور الفقراء. وإذا أعطاك الله نعمة الصحة أوصيك أن تزور المرضى، تزور المستشفيات ولو يوماً واحداً، حتى ترى المريض الذي يتأوه من قدمه فتقول: الحمد لله الذي عافاني في قدمي، والذي يتأوه من سمعه وبصره فتعلم أن الصحة لا تغني عنك من الله شيئاً، وتجد الرجل من أشد ما يكون عافية وقوة وفي طرفة عين يبتليه الله بالبلاء فيصير من أضعف عباد الله عز وجل، وتجده ذليلاً حتى في كلامه إذا تكلم.

فلذلك ينبغي للإنسان أن يسلم الأمر لله، وأن يعتقد صدق الاعتقاد أنه لا حول ولا قوة إلا بالله. والله تعالى أعلم.

ثمرات الحب في الله

السؤال: ما هي الثمرات التي يجنيها العبد عندما يحب أخاه في الله سبحانه وتعالى؟

الجواب: أما الثمرات فاعلم حفظك الله أنك إذا وجدت قلبك يتجه إلى الصالحين ويرتاح للصالحين فأول ثمرة: أن هذا دليل على الإيمان؛ لأنه لا يحب المؤمن إلا مؤمنٌ، ولا يحب الصالحين إلا صالح، ولا يطمع في مجالس الصالحين إلا موفق، فاحمد نعمة الله عز وجل على ذلك، هذا أول دليل على الإيمان، ولذلك كان من كمال الإيمان، الحب في الله والبغض في الله .. وذاق حلاوة الإيمان من أحب في الله ووالى في الله وعادى في الله.

أما الأمر الثاني: إذا أحببت في الله فمن ثمرات المحبة أن تجني من أخيك صلاحه، فإن كان أفضل منك اقتديت به، وإن كان مثلك نافسته، وإن كان دونك دعوته، هذه من ثمرات الحب في الله تكون قريباً من إخوانك، ولذلك تجد الشباب الصالحين يحرصون على هذه الثلاث الأحوال: إن وجدوا من هو فوقهم تمثلوا به، وإن وجدوا من هو مثلهم نافسوه، وإن وجدوا من هو دونهم دعوه إلى الزيادة فتجدهم أقرب ما يكونون إلى طاعة الله عز وجل، وما فقدنا لذة الأخوة في الله إلا حينما أصبحت مجالسنا معطلة من ذكر الله، وأصبحنا نحب في الله ولا يتشبه بعضنا ببعض في الصلاح وفي العفة وفي الخير وفي الاستقامة، إذا قلت لأحد: إني أحبك في الله وكان أفضل منك حاول أن تكون مثله، وأن تتأسى به، سواءً في كلامه أو في أفعاله، أو غير ذلك من الخصال التي وفقه الله إليها من الصلاح.

الأمر الثاني: ما تجنيه في آخرتك: فإن الله تبارك وتعالى أخبرنا على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن هذه المحبة من أعمال القلوب، وأنها بينك وبين الله عز وجل فإذا قدمت عليه يوم القيامة، أظلك بها يوم لا ظل إلا ظله .. ولذلك فاعلم أن أمور الدنيا الخفية التي لا يعلمها إلا الله عز وجل يأبى الله يوم القيامة إلا أن يظهرها أمام العيان: أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [العاديات:9-10] ، فانكشف ما في قلبك أنك تحب أخاك في الله فأبى الله إلا أن يظهرك أمام الناس؛ لكي تظل في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

ولذلك أوصي إخواني بالحب في الله، وهذه المحبة ينبغي علينا أن نؤدي حقوقها، فلا تغتب أحداً، ومن الغيبة التي بلينا بها الآن قول البعض: شباب الصحوة فيهم.. شباب الصحوة يفعلون.. شباب الصحوة يقولون.. شباب الصحوة كذا وكذا، يا أخي هؤلاء إخوانك في الله! هؤلاء أقوام يحبون الله ورسوله! واحمد الله عز وجل أن الله متعك بزمان ترى فيه الصلاح في الشباب، فينبغي علينا أن نحفظ حقوق الأخوة في الله، وأننا مهما سمعنا من بعضنا من الأخطاء والنقائص ينبغي أن يكمِّل بعضنا نقص بعض، وأن يشد بعضنا من أزر بعض، وأن يكون فينا الحب الذي يرضي الله ورسوله، وأن نكون إخوة في الله كما أمر الله، ولذلك تجد الأخوة في الله على مراتب من أعلاها: من كان يسد من أخيه الخلة، ويستر له العورة، ويحرص على جمع القلوب وائتلافها، فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.

ولذلك أوصي بتحقيق الأخوة التي ترضي الله، فإنها خالدة باقية إلى لقاء الله، كما أخبر الله بقوله: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] ، ولذلك أبى الله إلا أن يبقي أخوة الإسلام حتى بعد الوفاة، (وإذا مات فاتبعه) فجعل من سنن المرسلين تشييع الموتى وتشييع الجنائز، يُوضع الإنسان جثة بين إخوانه كلهم يقول: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، كل ذلك من أجل ماذا؟ من أجل الأخوة في الله، كلهم يشفعون ويدعون، حتى إذا قام الأربعون غفر الله عز وجل ذنبه، كما ثبت في الحديث الصحيح، ولا يقف الأمر عند هذا، ويذهبون معه حتى يوضع في القبر، ويأبون أن ينصرفوا من القبر حتى يقول قائلهم: اللهم ثبته عند السؤال؛ لأن أشد ما يكون في القبر عند أول لحظة وهي لحظة السؤال، فكان هذا من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (استغفروا لأخيكم)، لأخيكم!! انظروا كيف! (واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل) ، كأنك أنت الذي تعيش هذه الحالة وتعاني هذا الكرب، وجعل الله لك فيها من الأجور قيراطين وغير ذلك من الفضل، فنسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم حب المؤمنين.

وأختم هذه الكلمة بمناسبة المحبة في الله بواجب الائتلاف على طاعة الله عز وجل، وأنه ينبغي على كل واحد منا إذا قام من هذا المجلس حق عليه أن يحب إخوانه في الله، وأن نذكر هذه العروة التي جمعت بيننا، وأن لا تفرق بيننا الأقاويل ولا التراهات ولا الشائعات، وينبغي أن تُقبل قلوبنا على محبة فاطر الأرض والسماوات.

والله إنه لمن نعم الله أن تحدث الفتن بين بعض الأخيار؛ ولكي يظهر الله المعادن البريئة، لكي يظهر الله بعض القلوب البريئة التي تحب لإخوانها ما تحب لنفسها، وتتألم وتتأوه لأي شيء يحدث لهم.

فنسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم صدق المحبة فيه، وأن يغرس في قلوبنا وقلوبكم حب المؤمنين والائتلاف على طاعة رب العالمين. والله تعالى أعلم.

بين الجد والمزاح

السؤال: لي صديق كثير المزح كثير الضحك قليل النصيحة لي، وإذا ذكرته بالله جل وعلا فهو يكثر من المزح ولا يتقبل مني ذلك، فكيف السبيل إلى الخلاص من هذا الداء العضال؟

الجواب: أما المزاح فهو يكون بقدر، والله عز وجل جعل شريعتنا شريعة رحمة، لا شريعة عنت ولا حرج، فإذا أراد الإنسان أن يمزح فليمزح بقدر، ولذلك شبه العلماء المزح بالملح الذي تضعه في الطعام، فإذا كثر الملح فسد الطعام، وإذا كان طعاماً بدون ملح لم يكن للطعام طعم، الحياة هكذا، لابد من وجود المزح لكن بقدر، وقد صوّر الشاعر ذلك بقوله:

أفد طبعك المكدود بالجد راحةًويَجِمَّ وعلله بشيءٍ من المزح

ولكن إذا أعطيته المزح فليكن بمقدار ما تعطي الطعام من الملح

فينبغي علينا أن نعلم أن المزح ينبغي أن يكون بقدر، وكان بعض العلماء يقولون: إن من دلائل صلاح الإنسان وخيريته وجود الطرفة فيه؛ لأن أهل الصلاح فيهم تواضع، والمزح يدل على نوع من التواضع، إذا كان بقدر، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: (والله! لئن وليتموها علياً ليحملنَّكم على السنة، وفيه دعابة). وهذه الدعابة موجودة في الأخيار، ومن قرأ تراجم العلماء وسير الصلحاء وجد هذا موجوداً فيهم؛ ولكنهم كانوا إذا جاءت الطرفة فتحوا لها قلوبهم ولكن بقدر، وإذا جاءت الشدة وجاءت المحنة وجاء الجد شمَّروا عن ساعد الجد.

فاقبل من أخيك أن يمزح، ولكن إذا جاء وقد الجد ووقت ذكر الله عز وجل فلا تقبل أن يسخر ويمزح، ولذلك كان الإمام محمد بن سيرين يمازح أصحابه؛ وكان إماماً من أئمة التابعين، كان يقال عنه سيد من سادات التابعين، وأوصى أنس بن مالك رضي الله عنه الصحابي الجليل أن يغسله محمد بن سيرين ، هذا الإمام الجليل، يقول أحد جيرانه: كان إذا جن عليه الليل سُمع بكاؤه من القرآن من بيته، وإذا أصبحنا سمعنا الضحك من الغرف. فكان يمزح مع أصحابه حتى يسمع ضحكه، رحمة الله عليه.

لأن أهل الصلاح دائماً قلوبهم سليمة، لكن من كان عنده الكبر والغرور فلا يمزح، وتجد الذي عنده نوع من الترفع على الناس ما عنده طرفة، وقلَّ أن تراه يبتسم، ولذلك ينبغي للإنسان أن يكون وسطاً، فلا إفراط ولا تفريط.

وأما ما ذكرته من كونه يمزح أثناء الجد، فهذا يدل على موت قلبه والعياذ بالله! فإذا وجدت الرجل تذكره بالله فيتبسم ويضحك ولا يقيم لآيات الله وزناً، فمثل هذا حري به أن يبكي على قلبه -نسأل الله أن يعافينا وإياكم من موت القلوب- فقد كان السلف الصالح رحمهم الله من حياة قلوبهم إذا قيل للواحد منهم: اتق الله! يبكي، فكيف بهذا يضحك أو يمزح؟!! ولذلك إياك أن تجلس مجلس موعظة وتسمع الموعظة وتحدثك نفسك بأي طرفة؛ لأن ذلك فيه استخفاف بما عظَّم الله، ولذلك كانوا يقولون: (ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أجبن عند اللقاء، ولا أكثر عند الطمع، فأنزل الله فيهم قرآناً يتلى إلى يوم القيامة: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66]) وفي قراءة واحدة وهي قراءة حفص : إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً [التوبة:66] ، ولكن في بقية القراءات: (إِن يُعْفَ) حتى العفو يعني جعله بمثابة الاستبعاد لهم (إِن يُعْفَ عن طائفة منكم نعذب طائفة) ولذلك قال الناظم:

لـعاصم

قراءة لغيرها مخالفة إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة

فالمقصود: أنه لا ينبغي للإنسان إذا حضر وقت الجد والتذكير بالله أن يمزح، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجلس مع أصحابه بعد صلاة الفجر فيتحدثون بشئون الجاهلية فيتبسم صلوات الله وسلامه عليه، وجلس ذات يوم فذكر الجنة، وقصَّ عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في صحيح البخاري: (أن رجلاً يشتاق إلى الزرع في الجنة فيقول: أريد أن أزرع، وإذا به في لحظة واحدة قد جمع له الحب، وفي لحظة واحدة قد اخضر، وفي لحظة واحدة قد جنى ثمره، فإذا به قائم بين يديه -هذا غرس الجنة- فلما أبى؛ لأنه يحب الزرع فقال رجل من قريش: أما هذا فلن يكون إلا أنصارياً -لأن قريشاً ليس عندهم زراعة- فضحك صلوات الله وسلامه عليه) قال: هذا الذي يحب الزرع في الجنة لن يكون إلا واحداً من الأنصار، رضي الله عنهم وأرضاهم.

المقصود: أنه ينبغي للإنسان أن يعلل نفسه بالطرفة، والقلوب لها إقبال وإدبار، وإذا استدامت الموعظة فقد تمل، ولذلك قال بعض الصحابة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة؛ مخافة السآمة والملل). والله تعالى أعلم.

عصاة الموحدين

السؤال: عندما أقوم بدعوة بعض الشباب إلى الله والعودة إلى الله، يقول محتجاً بالقدر: أنا من عصاة الموحدين، فماذا نرد على هؤلاء، جزاكم الله خيراً؟

الجواب: أقول كلمة واحدة: هل تضمن أن تموت على التوحيد؟ إذا كان حرم الله العبد التوفيق باستجابة داعيه على معصية من المعاصي، فلا يُؤمن -والعياذ بالله- أن يأتي يوم من الأيام وقد سلب الإيمان من قلبه؛ لأن الشيطان يستدرجه، فمعصية تلو معصية حتى يسلب -والعياذ بالله الإيمان- فلا يأمن مكر الله، ولذلك ينبغي للإنسان ألا يقول هذه الكلمة، ولكن يقول: أنا المسيء وأنا المذنب، اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، فلا ينبغي للإنسان أن يحتج بالقدر، ولا يحتج بعصاة الموحدين.

وأما عصاة الموحدين، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن منهم من يتغمده الله برحمته ويدخله الجنة دون سبق عذاب ولا حساب، كما في حديث ابن عمر في الصحيحين: (يوقفه فيقر بذنوبه، فيقول: يا عبدي! سترتها عليك في الدنيا وهأنا أسترها عليك اليوم) . نسأل الله أن يسترنا وإياكم بستره.

وأما القسم الثاني منهم: فيشاء الله بعدله أن يدخلهم النار، واللحظة الواحدة من النار تطيش معها العقول، فإن (أهون أهل النار عذاباً، من وضع في ضحضاح من النار يغلي منه دماغه، يظن أنه أشد الناس عذاباً في النار) فالشاهد: أنهم يتقلبون في عذاب النار على قدر ما عصوا الله عز وجل، وقد تكون زنية واحدة تردي الإنسان في عذاب الله عز وجل بما ينسى معه نعيم الدنيا وما كان فيها من سرور، ولكن نسأل الله أن يلطف بنا وبكم وأن يعصمنا وإياكم بعصمته.

وأما الأمر الذي ينبغي أن ننبه عليه: أنه لا ينبغي لأحد أن يحتج بالقدر ولا بالشفاعة، فيقول: أنا من عصاة الموحدين، فإن ذلك لا يأمن على صاحبه أن يستدرجه الله فيختم له بخاتمة السوء والعياذ بالله! والله تعالى أعلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , اليقين بالله للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

https://audio.islamweb.net