وبعــد:
سنتحدث في هذه المجموعة الثانية من الآداب عن "أدب الجوار".
والجِوار بكسر الجيم مصدر جاور، يقال: جاور جواراً ومجاورة، ومن معاني الجوار المساكنة والملاصقة، وأيضاً تطلق على الاعتكاف في المسجد والمجاورة في الحرمين، ويطلق الجوار أيضاً على العهد والأمان، ومن الجوار الجار، ويطلق على معان، منها: المجاور في المسكن، والشريك في العقار أو التجارة، والزوج أو الزوجة، والضرة يطلق عليها جارة، كما جاء في حديث: (لا يغرنكِ إن كانت جارتك أوضع).
وكذلك يطلق على الحليف والناصر، وقال الشافعي رحمه الله: كل من قارب بدنه بدن صاحبه قيل له: جار، وبناءً على ذلك فإن المجاور على مقاعد الدراسة في فصل المدرسة وصفوف الجامعة يعتبر جاراً، ويدخل في حقوق الجوار.
وقال الراغب رحمه الله: الجار من يقرب مسكنه منك، وهو من الأسماء المتضايفة، فإن الجار لا يكون جاراً لغيره إلا وذلك الغير جار له، كالأخ والصديق.
والمعنى الاصطلاحي للجوار هو: الملاصقة في السكن أو نحوه، وعندما أقول: ونحوه، يدخل فيها الدكاكين والمحلات والمكاتب والشركات والمؤسسات، فصاحب المكتب جار لصاحب المكتب الذي بجانبه وهكذا.
ولاشك أن الملاصق أولى الناس بأن يطلق عليه اسم الجار، ويقال حتى للساكن معك في المدينة: جاوره فيها، كما قال الله تعالى: ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً [الأحزاب:60] ولما استعظم حق الجار عقلاً وشرعاً عبر عن كل من يعظم حقه بالجار، كما قال تعالى: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى [النساء:36] وقد تُصور من الجار معنى القرب، فقيل لمن يقرب من غيره: جاره وجاوره وتجاور معه.
ثم إن جمع جار جيران، والاسم هو الجوار، ويقال للمشارك في العقار والمقاسم: جار أيضاً.
وأما بالنسبة لحقه فإن حقه عظيم جداً، وقد قال الله سبحانه وتعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً [النساء:36].
وإذا أردنا أن نضبط الجار بالعدد؛ فإن أقرب التعريفات التي مرت معنا والتي يسندها الدليل: أربعون جاراً من كل جانب من الجوانب.
أما صاحب القربى فالقربى معروفة، وأما بالنسبة للجار الجُنُب، أي: البعيد الذي لا قرابة له، فلما ذكر جار القربى ذكر النوع الآخر من الجيران وهو الجار الذي ليس له قرابة.
والجيران عموماً ثلاثة: جار له ثلاثة حقوق، وجار له حقان، وجار له حق واحد.
فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فهو الجار صاحب القربى، فله حق القرابة وحق الجوار وحق الإسلام.
وأما الجار الذي له حقان، فجارك المسلم غير القريب، فله حقان حق الإسلام وحق الجوار.
وإذا كان لك جار كافر فله حق واحد وهو حق الجوار.
وبعض من فسر الآية أدخل في قوله تعالى: وَالْجَارِ الْجُنُبِ [النساء:36] كل من جاورك في صناعة أو دراسة أو سفر، فالذي يجلس بجوارك في مقعد الطائرة -مثلاً- أو السيارة يعتبر جاراً، والمرأة جار للرجل الزوج، والزوج جار؛ لأجل الاشتراك الحاصل والقرب الشديد الذي يكون بينهما.
أسباب ميراث الورى ثلاثه كل يفيد ربه الوراثه |
وهي نكاح وولاء ونسب ما بعدهن للمواريث سبب |
فكاد أن يكون أسباب الميراث في الورى أربعة: نكاح وولاء ونسب وجوار: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).
وقد كان الجوار في بداية الإسلام من أسباب الميراث والتعاهد والتناصر، أي: الإخوة في الدين لها دخل بالميراث، ثم نسخت بآية المواريث للقربى: وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الأنفال:75].
وقوله: (فأكثر ماءها)، ليكثر الإدام، وهو ما يؤتدم به حتى يلين الخبز ويسيغه. (وتعاهد جيرانك)، وهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم وأكد عليه، أي: بالإحسان إليهم، وفعل البر معهم، بإشراكهم في الطعام الذي طبخته، وقد جاء عند ابن أبي شيبة هذا الحديث بلفظ: (إذا طبختم لحماً؛ فأكثروا المرق؛ فإنه أوسع وأبلغ للجيران) فهذا حث على مكارم الأخلاق، وإرشاد إلى محاسنها، وقد يتأذى الجار بقتار قدر جار، وقتار القدر: ريح الطبخ، فقد يتأذى الجيران منه، فلا أقل من أن يعطوا مما شموا رائحته أو تأذوا منه، أو وصل إليهم دخانه مثلاً، وقد تتهيج عند صغارهم الشهوة إلى الطعام مما شموا من الجار، وتشتد الحسرة والألم عند الفقير الذي لا يجد مثلما عند جاره عندما يشتم رائحة طعامه، وربما يكون المجاور يتيماً أو أرملة، فتكون المشقة أعظم وتشتد الحسرة عند الصغير.
ولذلك جعل تشريكه في شيء من الطبخ نوعاً من المواساة لما اشتموا من هذه الرائحة، فلا أقبح من منع الشيء اليسير للمحتاج، أما إذا كان إرسال مرقة دون شيء يفهمه الجار على أنه استهانة به مثلاً، فلا يفعل الإنسان ما يؤدي إلى استياء جاره منه، أو شعوره بعدم التقدير له.
قال أبو ذر: (إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني وقال: إذا طبخت مرقة؛ فأكثر ماءها ثم انظر أهل بيت من جيرانك؛ فأصبهم منها بمعروف) طبعاً (منها) يعود على المرق، و(بمعروف) هذه اللفظة: إيماء إلى أن المرسَل إلى الجيران ينبغي أن يكون شيئاً نافعاً، ولو كان قليلاً، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تحقرن من المعروف شيئاً).. و( لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) متفق عليه.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال أيضاً: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟! قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه) .. (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه) هذه رواية مسلم، والبوائق هي الغوائل والشرور، ومعنى (لا يدخل الجنة) أي: لا يدخل الجنة ناجياً، إلا يصيبه شيء من العذاب، أو لا يكون أول الداخلين، فهذا المسيء إلى جاره لا تتوقع أن يكون أول الداخلين، أو من أوائل الداخلين، أو أنه يدخل دون حساب ولا عذاب، فلابد أن يصيبه شيء من جراء ما آذى جيرانه.
ونظراً لأن النساء كثيرات المكث في المنزل أكثر من الرجال، واحتكاك الجارة بجارتها أكثر من احتكاك الجار بجاره، حيث أن الرجال خروجهم من البيت أكثر من النساء، كان لابد من وصية خاصة إلى الجارات لبعضهن البعض، وهذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) متفق عليه. لما قال: (يا نساء المسلمات!) أي: يا نساء الجماعة المسلمات (لا تحقرن جارة لجارتها شيئاً من المعروف ولو فرسن شاة) وهو الشيء اليسير جداً.
فقوله: (لا يمنع) نهي أن يمنع جاره أن يغرز ولو كان في ملكه، وقوله: (أن يغرز خشبة في جداره) يعود على جدار المانع الذي يمنع، فإذا كان المقصود جداره هو فهذا لا يحتاج إلى وصية، لكن قال: (لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره) أي: جدار الجار الآخر؛ لأن ذلك شيء يسير، وينبغي أن يتسامح به ويتساهل فيه، ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه راوي الحديث: [مالي أراكم عنها] أي: عن هذه الخصلة من السماح للجار أن يغرز خشبة عندك [مالي أراكم عنها معرضين؟!] هل استغربتم الكلام، أو أعرضتم عنه بقلوبكم، أو نفرتم منه، أو لا تفعلونه في الواقع؟ [والله لأرمين بها ]، أي: بهذه السنة التي جاءت في الحديث [بين أكتافكم]، أي: سأبلغكم إياها، وألقيها على مسامعكم، وأوجعكم تقريعاً مما فيها، كما يضرب الإنسان الآخر ويرميه بالشيء بين كتفيه.
والرسول صلى الله عليه وسلم لما أوصى بهذه الوصية أراد أن يكون هناك اشتراك في المرافق، أو الشيء الذي بينك وبينه لا تمنعه الاستفادة منه، إذا أراد أن يضرب مسماراً، أو يشد حبلاً مثلاً، أو يضع جزءاً من خشب أو ساتر، ونحو ذلك من هذه الأشياء المفيدة التي تفيده ولا تضرك، فلا تمنعه من الارتفاق بها والاستفادة منها.
وهذا الحديث يمكن أن يفهم منه الوجوب، ولذلك اختلف العلماء في حكم تمكين الجار من وضع الخشب على جدار جاره، هل يجب أن يمكنه، ويأثم إذا منعه؟ قال بذلك بعض العلماء، وهما قولان للشافعي ، والإيجاب قال به أحمد وأبو ثور رحمهما الله من أصحاب الحديث، وهو ظاهر الحديث، والمعظم للسنة يقتضي أن يأخذ بهذا، وكلام أبي هريرة : [ما لي أراكم عنها معرضين؟!] ربما يدل على شيء من هذا، وكأن أبا هريرة لاحظ أنهم استغربوا الكلام، أو أنهم توقفوا عن العمل مثلاً، فقال: [ مالي أراكم عنها معرضين؟!] أي: لا تريدون هذا.
أما الإحسان فهو ينافي الإيذاء، أي: إذا قال أحسن، فواضح أنه لا تؤذي، لكن عندما قال: لا تؤذي، فقد أكد على هذا الجانب؛ لأنه يحصل أذية من الجيران لبعضهم، ولذلك أكد عليه من جهتين: الإحسان وعدم الإيذاء، لكن عدم الإيذاء لا يعني وجوب الإحسان.
والرسول صلى الله عليه وسلم لما سألته عائشة رضي الله عنها وقالت له: (يا رسول الله! إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك باباً) رواه البخاري. فالرسول صلى الله عليه وسلم لما أمر بإكرام الجار عملت عائشة رضي الله عنها، وقد كان الزاد عندهم قليلاً، ولم يكونوا على سعة من العيش، وكانت تمر أيام كثيرة لا يوقد في بيت النبي عليه الصلاة والسلام نار ولا هناك شيء يطبخ، وأرسل مرة في طلب طعام لضيفه فلم يجد إلا الماء، وأحياناً يأتي لبن من هنا أو شيء من هنا، مما يهدى إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فهم كانوا من جهة العيش ليسوا في سعة، فلما كان هذا، وربما يحضر عند عائشة القليل، والجيران كثر، قلنا: أربعون من كل جانب، فما الذي يسع هؤلاء الجيران الكثر؟ فلذلك سألته قالت: (إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك باباً) وهذا أحد الأقوال في تفسير (والجار الجنب والجار ذي القربى) على أحد الأقوال، ولكن القول الأشهر: القربى صاحب القرابة النسبية.
وقال عليه الصلاة والسلام: (خير الجيران عند الله خيرهم لجاره) رواه الترمذي وهو حديث حسن. و(خيرهم لجاره) أي: في النفع والدفع، فهو ينفعه ويدفع عنه ما يؤذيه، فهذا خير الناس وأكثرهم ثواباً، وأكرمهم منزلة عند الله سبحانه وتعالى.
فجار السوء في دار المقامة مصيبة؛ خصوصاً إذا كان بيتاً لا تجد له بديلاً، فهذا من أكبر المصائب، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم استعاذ منه، قال: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول).
إذاً: أحسن إلى جارك تكن مؤمناً.
وكذلك فإن الحسن البصري رحمه الله من شدة حق الجار كان لا يرى بأساً أن يطعم الإنسان جاره اليهودي أو النصراني من أضحيته.
وجاء الحسن بن عيسى النيسابوري إلى عبد الله بن المبارك ، فقال: الجار المجاور يأتيني، فيشكو غلامي أنه أتى إليه أمراً، والغلام ينكره، فأكره أن أضربه ولعله بريء.
أي: فإن ضربت غلامي قد يكون الغلام بريئاً، وإن سكت فقد يكون الجار صادقاً وغلامي مخطئاً مخطئ، فكيف أصنع؟
قال: إن غلامك لعله يحدث حدثاً يستوجب فيه الأدب فاحفظ عليه -الآن هذا يحتاج إلى مراقبة وأن تحسب عليه تصرفاته- فإذا شكاه جارك فأدبه على ذلك الحدث، فتكون قد أرضيت جارك وأدبته على ذلك الحدث. أي يقول: هذا الغلام الذي عندك لا يخلو أن يخطئ، وليس ضرورياً في حق الجار، بل يخطئ أي خطأ آخر، يهمل فيكسر شيئاً مثلاً؛ فأنت الآن جارك يشتكي من الغلام والغلام ينكر، وأنت لا تعلم أهذا الغلام صادق أم الجار، فماذا تعمل؟ قال: عدَّ على هذا الغلام مواقفه، فإذا جاء أمر أخطأ فيه؛ فعاقبه بعلم جارك، فيظن الجار أنك عاقبته من أجله، والغلام يعلم أن العقوبة من أجل خطئه، فما ظلمت وأرضيت الجار، وهذا تلطف في الجمع بين الحقين.
وكذلك من الحقوق: إيصال الخير إليه بكل الطرق، مثل كف الضرر عنه بكل طريقة، ثم البدء بالسلام؛ لأنك لا بد أن تلقاه على باب البيت كثيراً، هو يدخل ويخرج، وأنت تدخل وتخرج، فابدأه بالسلام، ولا تطل معه الكلام بحيث تضايقه، ولا تجمع له الزلات ثم تحاسبه عليها كما تحاسب موظفاً أو سائقاً أو خادماً عندك، وأظهر السرور بما أسره، واصفح عن زلاته، ولا تطلع على عوراته، ولا تضايقه بوضع الجذع على جداره، ولا تطرح القمامة أمام بابه، ولا تضيق عليه الطريق، ولا تقف بسيارتك أمام باب (الكراج) -كما في هذه الأيام- أو تأخذ مكان سيارته المظلل الذي أمام بيته؛ لأنه -الآن- هناك مواقف قد تكون مخصصة، كل عمارة مثلاً تخصص لكل شقة موقفاً للسيارة، أو يأخذ المكان الذي أمام البيت بالضبط، أو يسد عليه مكان الخروج، واستر ما انكشف من عوراته.
ولا تسمع كلاماً فيه بدون دليل، ولا تسمح لأحد أن يوغر صدرك عليه.
كذلك تقف السيارة -مثلاً- أمام باب الجار فتنزل منها نساؤه، والمرأة إذا نزلت لا تخلو أن تنكشف ساقها مثلاً، فغض البصر عن نساء الجيران وهن يدخلن ويخرجن، وهن ينزلن من المركبة وهن يصعدن إليها.
كذلك بعض الخادمات تخرج لرمي القمامة مشمرة.. فلابد من نصح الجار أن الخادمة التي عنده لابد أن تحتشم، وخروجها لإلقاء القمامة في البرميل لابد أن يكون بحشمة وحجاب، وإذا لم تحتشم فإنه يمنعها من الخروج، ويجعل السائق أو هو بنفسه يخرج القمامة، فإذا خرجت الخادمة غض بصره لحق الجار؛ لأن هذه خادمة الجار، وبعض الناس يقول لك: خادمة الجار ليس لها قيمة، لو أننا عبثنا معها هي سيرلانكيه. حتى وإذا كانت سيرلانكية، هل يعني هذا سقطت الحرمة؟! فمن حقوق الجار أن تحترم حتى حرمة خادمته وتقوم بالنصيحة.
وأن تتلطف مع أولاده؛ لأن من المشكلات الكبيرة أن بعض الناس يعتبر أن له الأحقية في معاقبة أولاد الجيران، فتجده يأخذ راحته في ضرب ولد الجار، كأن يكون الولد يلعب بالكرة، وهو ولد من طبيعته اللعب، فالأشياء العادية تحتمل، وإذا كان قد زودها فلا بأس أن تحتمل أنت، وإذا أصبح الأمر لا يطاق كلم أباه، لكن أن تعطي لنفسك الأحقية بضرب ولد الجار فوراً بدون إعلام ولا إخبار أبيه فهذا غير صحيح، والإنسان المطلوب منه أن يتحمل.
والآن حق الجار أن يتحمل أذاه، وليس أن يرصد له تحركاته.
جاء واحد من الإخوان، قال: يا أخي -والله- أنا لا استريح لهذا الجار، لا أجدهم إلا يحركون الستارة، وإذا نظرت لهم يغلقون الستارة طول الوقت، يكشفون الستارة وينظرون إلى مدخل البيت وإلى شبابيكه، فهذا في الحقيقة قلة دين وقلة مروءة، وضعف في الأخلاق.
فيرسل إليه الولد ويقول: لو سمحتم! لا تشغلوا هذا المنكر في البيت، فإن أذاه قد وصل إلينا، فاتقوا الله.
وأما بالنسبة للمنكرات التي في قعر بيت الجار، فهذه لها تعامل خاص، جاء عن الإمام أحمد رحمه الله في رواية محمد بن أبي حرب في الرجل يسمع المنكر في دار بعض جيرانه، قال: يأمره، فإن لم يقبل جمع عليه الجيران ويهول عليه، يقول: يا فلان! بيت فيه كذا، ويخرج منه كذا، ويدخل إليه كذا، نحن الآن في شارع وحي واحد، وهناك نساء أجنبيات من أشكال وألوان مختلفة داخلات خارجات، إما أنك ترى لك حلاً وإلا نرفع بك إلى المحكمة، فإذا صار بيت الجار موضع اشتباه يوعظ ويخوف بالله، وإذا ما اتعظ يجمع عليه الجيران ثلاثة أو أربعة أو خمسة.. ويذهبون معاً؛ لأنه قد لا يخاف من الواحد لكن يخاف من المجموعة، فإن لم؛ هدده، فيقول: سأشتكي وأرفع الأمر إلى القاضي، لأن مصلحة الجار في الحقيقة أن يكف عن المنكر، إذا أردت أن ترحمه؛ فعليك أن تسعى لمنعه من المنكر الذي يعذب بسببه في الآخرة، وتدرأ عنه عذاب الآخرة بنصيحته.
وأما بالنسبة لقضية التجسس، لو قال واحد: جاري أخاف أن يكون عنده بلاء، أريد أن أتجسس، نقول: المسلم الذي ظاهره العدالة لا يجوز التجسس عليه، لا يوجد هناك قرائن على الفساد، ولا رأيت مناظر وأشياء مريبة، فلا يجوز أن تقول: يمكن أن هناك شيئاً وأنا لا أدري، ما الذي أدخلك في الموضوع؟ لا يجوز لك أن تتجسس مطلقاً في هذا الجانب، لقول ابن مسعود رضي الله عنه: [إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به].
والآن بسبب تقارب هذه البيوت بعض الجيران عندهم أخبار الجيران كلها بالتفصيل، الخصومات التي بينه وبين زوجته بالتفصيل، والخصومات التي بين زوجة الجار والخادمة بالتفصيل، وكل الأشياء، مثلاً: افرض أن هناك غرفة يصل إليك منها الصوت، وصار عندهم كلام خاص حتى لو كان مشكلة بين الرجل وزوجته فإن عليك أن تخرج إلى غرفة أخرى لكيلا تستمع الكلام، ولو سمعت شيئاً لا تنقله في المجالس، فتقول: عندنا جارنا فلان يقول لزوجته كذا، وهي ترد عليه كذا، وتنقل الحوارات الخاصة؛ لأن هذه من أسرار البيوت في الحقيقة، فينبغي حفظ سره، وقضاء حاجات أهل الجار إذا غاب.
وكم من جيران يرمون قماماتهم أمام أبواب جيرانهم، وكم من جيران يستعيرون بعض المتاع من جيرانهم ثم لا يردونه، وكم من جيران لا أمانة لهم على أموال جيرانهم، وكم من رجل فاضل هجر داره من أجل جاره المؤذي، وربما وسط الإنسان وسائط لكي يكف الجار أذاه.
والإنسان أحياناً إذا آذاه جاره لا يستطيع أن يرد الأذى بالأذى، لكن قضية تأليب الناس الآخرين عليه كعامل ضغط -الذي سبقت الإشارة- بأن يجمع الجيران مثلاً، هذا العامل من الضغط قد نبه إليه النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قد آذاه جاره، والحديث عند أبي داود وهو حديث صحيح، أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره، قال: (اطرح متاعك على الطريق) يقول للمُؤْذَى الذي أُوذي: أنزل عفشك على الرصيف، فهذا الرجل امتثل لأمر النبي عليه الصلاة والسلام وأنزل متاعه على الرصيف، فجعل الناس يمرون به لما طرح متاعه على الطريق، ويسألونه: لماذا وضعت متاعك على الطريق؟ يقول: جاري هذا مؤذ، ولم أستطع تحمله، فجعل الناس يلعنون هذا الجار، يقولون: فعل الله به وفعل الله به، فجاء إليه جاره فقال: ارجع لا ترى مني شيئاً تكرهه.
فبعض الناس لا يخافون من الله، ولكن يخافون من الرأي العام، ومن عموم الناس، ومن ضغط المجتمع إذا اجتمع عليهم الناس، وهذا الذي نبه إليه صلى الله عليه وسلم هذا الرجل ليتخلص من أذية جاره.
وكذلك فإن الجيران يختلفون في الأحوال من جهة الصلاح وعدمه، قال ابن حجر رحمه الله: ويفترق الحال في ذلك بالنسبة للجار الصالح وغير الصالح، والذي يشمل الجميع إرادة الخير له، وموعظته بالحسنى، والدعاء له بالهداية، وترك الإضرار له، إلا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار له بالقول والفعل، والذي يخص الصالح هو جميع ما تقدم، وغير الصالح كفه عن الذي يرتكبه بالحسنى، على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعظ الكافر بعرض الإسلام عليه، ويبين محاسنه والترغيب فيه برفق، ويعظ الجار الفاسق بما يناسبه بالرفق أيضاً، ويستر عليه زللـه غيره، وينهاه برفق، فإن أفاد فيه وإلا فيهجره قاصداً تأديبه.
شراء جارتي ستراً فضول لأنني جعلتُ جفوني ما حييت لها سترا |
وما جارتي إلا كأمي وإنني لأحفظها سراً وأحفظها جهرا |
بعثت إليها أنعمي وتنعمي فلست محلاً منك وجهاً ولا شعرا |
لا أنظر إلى الوجه ولا إلى الشعر.
وقال حاتم الطائي في القديم:
ناري ونار الجار واحدة وإليه قبلي تنزل القدر |
أي: قبل ما ينزل قدري لطعامي يكون قدر الجار نزل.
ما ضر جاراًً لي أجاوره ألا يكون لبابه ستر |
حتى إذا ليس له باب لا يتضرر مني.
أغضي إذا ما جارتي برزت حتى يواري جارتي الخدر |
وقال أحمد بن علي الحراني :
والجار لا تذكر كريمة بيته واغضب لابن الجار إن هو أغضبا |
احفظ أمانته وكن عزاً له أبداً وعما ساءه متجنبا |
كن ليناً للجار واحفظ حقه كرماً ولا تك للمجاور عقربا |
وكذلك يروى أن رجلاً أراد أن يبيع داره، فلما أراد المشتري أن يشتري، قال: لا أسلمك الدار حتى تشتري مني الجوار، قال: جوار من؟ قال: جوار سعيد بن العاص. جاره أراد أن يبيع بيته، فمن غلاوة الجوار، قال: أنا أبيع بيتي وأبيع الجوار، من الذي يشتري جوار سعيد بن العاص ؟ وتزايدوا في الثمن، فقال له شخص: هل رأيت أحداً يشتري جواراً أو يبيعه؟ قال: ألا تشترون جوار من إن أسأت إليه أحسن إليّ، وإن جهلت عليه حلم عليّ، وإن أعسرت وهب لي حاجتي، فبلغ ذلك سعيد بن العاص، فبعث إليه بمائة ألف درهم.
فكان الجار يباع قبل الدار، قالت امرأة فرعون: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً [التحريم:11] عندك أولاً ثم بيتاً.
أين هؤلاء من أكثر جيران زماننا، الذي لا تكاد تهدأ أذيتهم وشتائمهم وسبهم وهجرانهم ومشاجراتهم وتقاطعهم وكيد بعضهم لبعض رجالاً ونساءً وأولاداً؟!
قال بعض من بلي بجار السوء:
ألا من يشتري جاراً نئوماً بجار لا ينام ولا ينيم |
ويلبس بالنهار ثياب نسك وشطر الليل شيطان رجيم |
يقول: أريد جاراً ينام، فأنا جاري لا ينام بل يسعى في الشر.
قال علي بن أبي طالب للعباس : ما بقي من كرم إخوانك؟ قال: الإفضال على الإخوان، وترك أذى الجيران. وقال بعضهم:
سقياً ورعياً لجيران نزلت بهم كأن دار اغترابي عندهم وطني |
إذا تأملت من أخلاقهم خلقاً علمت أنهم من حلية الزمن |
فالجيران خصوصاً في بلد الغربة، كهؤلاء الجيران الذين جاءوا من بلدان أخرى للعمل في هذه البلاد، أناس جاءوا من مصر والشام واليمن وأفريقيا وباكستان والهند ومن غيرها، فما الذي يهون عليهم المعيشة في بلد الغربة؟ إن أهم شيء -في الحقيقة- يهون عليهم لهو الجار، إذا كان جاره طيباً ظن كأنه في وطنه، كما قال هذا الرجل:
سقياً ورعياً لجيران نزلت بهم كأن دار اغترابي عندهم وطني |
كأني أصبحت في وطني، بل يمكن أحسن، وهذا بسبب هؤلاء الجيران. مما رأى من الخير أصبح مثل وطنه أو أحسن.
ولكن انظر الآن في المحكمة، يأتي بعض الناس في طرقات المحكمة، يقول: ماذا تريد؟ يقول: أريد مزكياً، يقول: وأنا أريد شاهداً، تعال أزكيك وأنت اشهد لي، سبحان الله! لا يعرفه، كيف يزكيه؟! لا يجوز، لابد أن يكون قد عايشه ورافقه وجاوره وسافر معه، وأمضى معه وقتاً طويلاً، وشاركه في مال أو في شيء، كيف يزكي شخصاً لا يعرف حقيقته؟! لا يجوز ذلك مطلقاً.
ثم من أثر الجيرة في مسألة القرض، أن الإنسان المقرض لا يجوز له أن يقبل هدية من المقترض في فترة القرض، إلا إذا جرت العادة من قبل القرض بهدايا بينهما، وذكروا مثالاً للجيران، أي: يهدونا طعاماً نهديهم طعاماً، أنا اقترضت من جاري فأهديته فيجوز أن يقبل هديتي؛ لأن بيننا علاقات سابقة في الهدايا، لكن إذا ما كانت هناك علاقات سابقة ولا جوار، فلا يجوز أن يقبل أصلاً هدية ولا أن يأخذ المقرض من المقترض هدية في وقت القرض.
هذا ما تيسر ذكره مما يتعلق بالجيران. ونسأل الله تعالى أن يجعلنا من القائمين بحقوق جيراننا، وأن يهدينا سبل السلام، ويخرجنا من الظلمات إلى النور، وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر