أيها الإخوة إن موضوعاً كموضوع: كيف تسأل أهل العلم؟ أو آداب المستفتي، من الموضوعات المهمة التي يحتاج إليها المسلم دائماً، لأن المسلم لا بد أن يتعرض في حياته لمواقف كثيرة يحتاج إلى السؤال عنها، وإلى حوادث وحالات لا يعلم حكمها، ولا بد امتثالاً لقول الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الانبياء:7] أن يسأل أهل العلم، لأن هذا فريضة قد أمر الله بها فقال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الانبياء:7].
وموضوع الفتوى والمفتي والمستفتي من الموضوعات الخطيرة والحساسة التي أفرد لها العلماء الكتب، وصنفوا فيها الرسائل، وتكلموا عنها بكتب أصول الفقه، وموضوع الفتوى موضوع خطير، كيف وقد قال الله عز وجل: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل:116].
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوقون الفتيا، كما قال أحد السلف: لقد رأيت ثلاثمائة من أصحاب بدر ما فيهم أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتيا، وقال ابن أبي ليلى : أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يسأل أحدهم عن المسألة فيرد هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول، هذا المنصب الخطير، منصب الفتيا الذي ضاع اليوم بين المسلمين، منصب الفتيا الذي ملأه في كثير من بلدان العالم الإسلامي أناس من الجهلة، أو من أصحاب الهوى الذين لا يخافون الله عز وجل، من الذين يبيعون الدين بالدرهم والدينار، هؤلاء الذين تورط بهم الناس ورطة كبيرة، فتشعبت الأقوال، وتاه الناس ما بين هؤلاء الجهلة، وسلم من خلق الله من أهل العلم أناس قليلون ونفر معدودون يصلحون للفتيا يلجأ إليهم المخلصون، وهم الذين يعصمون من الهلكة والوقوع في الهاوية، هؤلاء الذين ينبغي على المسلم أن يلجأ إليهم.
إن منصب التوقيع عن رب العالمين منصب خطير، والمفتي في الحقيقة يوقع عن رب العالمين، الله يفتي: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ [النساء:176] فالمفتي إذاً ينوب عن الله في إخبار الناس بأحكام الله، فهو يوقع عن الله، يوقع بالنيابة عن الله، ولذلك صار فمنصبه جد خطير.
سئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل: ألا تستحي من قولك: لا أدري، وأنت فقيه أهل العراق ؟ قال: لكن الملائكة لم تستح حين قالت: لا علم لنا إلا ما علمتنا، وهذا الإمام مالك رحمه الله تعالى، سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال: في اثنتين وثلاثين منها لا أدري، يقول له السائل: بماذا أرجع للناس، وماذا أقول لهم؟ قال: قل لهم يقول الإمام مالك : إنه لا يدري.
هذا دين إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5].. إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [الطارق:13-14] ولقد شدد رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أفتوا رجلاً من أصحابه بغير علم، لما أصاب رجلاً شجة في سفر وأصيب بجنابة، فسألهم قالوا: لا بد لك من الاغتسال، فاغتسل فمات، فقال عليه الصلاة والسلام: (قتلوه قتلهم الله) دعا عليهم وقال: (ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال) العي والجهل شفاؤه بالسؤال.
ولقد كان الأمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم سؤال أهل العلم، جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال: يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً عند هذا -اثنان مخاصمان- كان خادماً عند هذا، فزنا بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، أعطيته فدية لقاء ما أفسد ولدي من زوجته، أعطيته مائة شاة ووليدة، ثم إني سألت أهل العلم، فقالوا: إنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، الرسول عليه الصلاة والسلام قضى بكتاب الله، قال: (الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام).
فإذاً الصحابة كانوا يسألون أهل العلم، الذين يخبرونهم بالفتوى الصحيحة، ومن هذا المنطلق نقول في مقدمة هذا الدرس: كيف تسأل أهل العلم؟
نقول يا أيها الإخوة! سنتحدث إن شاء الله عن مسائل أصولية تتعلق بالسائل والمستفتي، وآداب السؤال، والمفتي، وملاحظات على الأسئلة بالهاتف، وأسئلة النساء، وبعض الأسئلة التي فيها أخطاء نلقي عليها بعض الضوء، ولن نتحدث في هذه الليلة أكثر عن خطورة منصب الفتيا ولا عن خطورة القول على الله بغير علم، ولا عن عمل المفتي، وماذا يجب على المفتي؟ هذا أمر طويل جداً، ونحن يهمنا الآن المستفتي أو السائل، فنقول أيها الأخوة:
أولاً: يجب على المسلم إذا نزلت به حادثة لا يعلم حكمها، أن يسأل أهل العلم امتثالاً لقول الله سبحانه وتعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7] هذا أمر واجب، هذا من صميم الدين، يجب عليه أن يسأل.
ثانياً: يجب على المستفتي أن يتحرى وينتقى الأعلم والأورع لسؤاله، فلا يسأل جاهلاً، ولا صاحب هوى، ولا يجوز للعامي سؤال كل من تظاهر بالعلم، أو وضع في منصب من قبل جاهل، أو فاسق عينه في هذا المنصب، ولا يجوز أن يسأل كل من تصدى للتدريس، أو قال للناس: اسألوني، وإنما يجب عليه أن يتحرى، وأن يبحث وأن ينتقي من يسأله الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً [الفرقان:59] [ إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم ] فإذاً لا بد من البحث عن أهل العلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) لا بد من اختيار الأوثق، أنت إذا عرض لك مرض، قضية جسدك وذكر لك طبيبان، فماذا تفعل؟ تسأل من تثق بعلمه في الطب، تذهب إلى الأظهر والأكثر خبرة.
التواتر بين الناس والاستفاضة بأن فلاناً أهل للفتوى، والمقصود بالناس العقلاء العارفون، وليس عوام الناس الذين يُلبس عليهم في بعض البلاد، ففي بعض البلاد يُلبس على بعض العامة؛ يقول لك آلاف من الناس: فلان هذا المفتي، اسأل فلاناً، وهذا ملبس عليهم فيه، فمن تواتر بين الثقات العارفين واستفاض بين الناس بأنه أهل للفتوى وعالم فهو الذي يسأل.
الطريقة الثانية: تزكية العلماء العدول الثقات لفلان بعينه أنه أهل للفتوى، فيقصد ويسأل.
الطريقة الثالثة: إذا تعدد المفتون في بلد، فماذا يجب على الشخص؟ هل يجب عليه أن يعرف الأعلم ليسأله، أو يسأل أي واحد منهم، مادام أنه صالح للفتيا؟ قال بعض أهل العلم: لا يجب على العامي البحث عن الأعلم مادام الجميع أهلاً للفتوى، وإنما يسأل من يتيسر منهم، خصوصاً أنه عسير على العامة معرفة وتمييز من هو الأعلم، فكيف سوف يعرفون؟ الذي ليس عنده موازين فكيف يميز؟ فهذا يقلد شيخاً يثق به، صالحاً للفتوى، يسأله فيقلده، ولما ضل الناس في مسألة التحري، نفذت عندنا أمور مهلكة، وقضايا مضحكة، وأضرب لكم مثالين مما سمعت في هذه المنطقة:
رجل ظاهر من امرأته، قال لها: أنت علي كظهر أمي، ما حكمه في كتاب الله؟ عليه عتق رقبة، ثم صيام شهرين متتابعين، ثم إطعام ستين مسكيناً، إذا لم يستطع بالترتيب، هذا الرجل ذهب إلى إمام مسجد، الناس الآن من المآسي والمصائب الموجودة عندنا أن الناس لا يميزون في السؤال، ذهب إلى إمام مسجد، قال له كذا، قال: اجلس! قل ورائي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، وقرأ هذا الإمام آيات سورة المجادلة، وآية الظهار في سورة المجادلة، والشخص الآخر يقرأ وراءه، بعدما انتهى من القراءة، قال: خلاص انتهى، اذهب ما عليك شيء، انظر كيف حل المسألة؟ مع أن المفروض أن يقول: اسمع حكم الله في المسألة، ثم يقول: سمعت حكم الله اذهب ونفذ، لكن هذا قرأ له الآيات، قال اقرأها ورائي، فلما قرأها قال: اذهب، لا شيء عليك.
مثال آخر واقعي: رجل وطئ امرأته في نهار رمضان، ما حكم الله في المسألة؟ عتق رقبة، فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين، المسألة فيها تغليظ، القضية قضية عقوبة، ليست المسألة مسألة هزل، فإن لم يستطع، يطعم ستين مسكيناً، ذهب إلى واحد، يسأل من هب ودب، أقرب شخص أو إمام مسجد لا يخاف الله، قال: أنا فعلت كذا وكذا، قال: هذه بسيطة، عليك إطعام ستين مسكين، ثلاثين عليك وثلاثين على زوجتك، وحتى الستين ليست عليه، لكن قسمها بالنصف، قال:عليك ثلاثين وعلى زوجتك ثلاثين.
وأمثلة هذا كثيرة جداً، هناك أناس يحلون ما حرم الله، وهناك أناس يحلون ما علم حرمته من الدين بالضرورة مثل الربا وغيره، هناك أناس يحلون نكاح المتعة، وهناك أناس يحلون أشياء كثيرة جداً من الحرام الذي أجمعت عليه الأمة، وعلم في الضرورة أنه حرام، لكن من الناس من لا يخاف الله، ويتجرأ، وليس عنده أدنى مانع من أن يعطي الناس الأريح، وأن يفتي بالرخص الضالة الكاذبة، ويجعل دين الله ملعبة، وبعضهم يزعم أن هذا وسيلة للدعوة أن نرخص للناس، ونخفف على الناس، فيكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى علماء الأمة، ويعطي الناس أحكاماً ما أنزل الله بها من سلطان، أو يوجب على الناس أشياء لا تجب عليهم، يأتي واحد في الحج يسأل جاهلاً، يقول له: فعلت كذا، فيقول: هذه فيها دم، وهذه فيها دم، وهذه فيها دم، خمسة دماء، ستة دماء، وربما ولا واحد منها فيه دم، فإذاً قضية إيجاب ما لا يجب على الناس حرم أيضاً، فقضية تحليل الحرام أو تحريم الحلال، وقضية إيجاب ما لا يجب، كله ليس من دين الله ولا من شرعه.
واحد يعلم أن الأمر في الباطن حقيقة خلاف ما أفتى المفتي، لشكه فيه، أو لجهله، فلا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك، فلو أن رجلين ذهبا إلى قاض، واحد محق وواحد مبطل، لكن الذي على الباطل، ألحن وأقدر على التعبير والإقناع، فأقنع القاضي، فحكم له القاضي، هل حكم القاضي يجعل المال حلالا له؟!! لا، لا يجعل المال حلالاً له، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ومن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار) ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه الحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي، أو محاباته في فتواه، أو عدم تقيده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف في الفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بالفتوى، وسكون النفس إليه.
فإذا كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي، فعليه أن يسأل الثاني والثالث حتى تحصل له الطمأنينة، فإذاً المثل العام الذي يقول بعض الناس "ضع بينك وبين النار شيخاً" أو "ضعها في رقبة عالم واخرج منها سالم"، أي: اسأل واحداً، وإذا أفتاك فامش عليها، فإذا كان العامي (الشخص السائل) يعلم أنه ليس بأهل، أو أنه لم يفهم السؤال، أو أنه أخفى عليه أشياء، وأفتى المفتي بناء على الجزء المقدم إليه، فلا يجوز للعامي أن يعمل بهذه الفتوى، لكن لو وضح القضية، وأجاب عنها العالم الثقة، فلا يصح أن يخرج عنها بدون شيء شرعي يجب عليه أن يلتزم مادام سأل وعرف الجواب، يجب أن يلتزم ولا يتهرب، لكن إذا كان يعلم أن الأمر الذي أفتى به المفتي بحلاف الحق، فلا يجوز له أن يقول: والله مادام فلان قد أفتى فيها، إذاً فقد برئت ذمتي وعهدتي، لا يجوز له ذلك.
أنت في سفر أو في مكان ما وجدت عالماً، ماذا تفعل؟
قال: الصواب أنه يجب عليه أن يتقي الله ما استطاع، ويتحرى الحق بجهده ومعرفة مثله، وقد نصب الله على الحق أمارات كثيرة، ولا بد أن تكون الفطر مائلة إلى الحق، ولا بد أن تكون هناك أمارات في المسألة تدل على أن الحق كذا وكذا، إذاً هنا في هذه الحالة إذا ما وجد يتحرى، يتقي الله ما استطاع، ويعمل بما ظهر لديه، ويستغفر الله، ويتوب إلى الله، ويسأل الله أن يلهمه الصواب، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، ويعمل، ثم بعد ذلك يسأل إذا وجد الشيخ أو المفتي، فإذا كان يجب عليه استدراك شيء استدركه.
إذا حصلت له حادثة، فسأل فأفتي، ثم حصلت له الحادثة مرة أخرى، هل يلزمه تجديد السؤال؟ لاحتمال أن رأي المفتي قد تغير مثلاً، الصحيح أنه لا يلزمه، والأصل استمرار الفتوى على ما هي عليه.
ثامناً: ويجوز للمستفتي، صاحب المسألة أن يستفتي بنفسه، وهذا الأصل، أو أن يقلد ثقة يقبل خبره، فيقول له: اسأل لي العالم، ينتقي واحداً عاقلاً، يحسن النقل، يحسن الإيضاح، يحفظ، يضبط، ويقول اسأل لي العالم، وله أن يأخذ بالجواب الذي جاء عن طريق هذا الشخص.
إذا سمع العامي أكثر من فتوى في المسألة، فماذا يفعل؟ الجواب: بعض العلماء قال: ياخذ بالأغلظ وبعضهم قال: يأخذ بالأخف، وبعضهم قال: يسأل ثالثاً يرجح له، لكن الصواب، والله أعلم كما ذكر بعض أهل العلم أنه يتحرى الأعلم والأوثق فيقلده، وهذا في الغالب ليس بمتعين.
ولذلك أعطيكم مثالاً في بعض كتب مناسك الحج التي توزع وتباع بين الحجاج، يعطيك مثلاً يقول: محظورات الإحرام: الشيء الفلاني عند أبي حنيفة مثلاً جائز، عند مالك كراهة، عند أحمد مكروه، عند الشافعي مثلاً محرم ونحو ذلك، فعنده جدول للمذاهب الأربعة، يأتي يفتح الكتاب ويقول: نأخذ هذه المرة بـأبي حنيفة ، مثلاً المسألة التي بعدها شيء آخر، يقول: هنا والله مذهب الشافعي أسهل نأخذ به، ولهذا الذين يطبعون هذه الكتب ويبيعونها للعامة، ماذا يصلون إليه في الحقيقة؟ ومن من الحجاج الآن متمذهب بمذهب بحيث أنه الآن يقلد صاحب المذهب؟ قليل، ثم ما صحة هذا النقل، وهذه الكتب؟
وننتقل بعد هذه المسائل الأصولية، للمفتي إلى قضية الأدب في سؤال المستفتي أو كيف تسأل أهل العلم من جهة الأدب في طرح بالسؤال؟
وكذلك لا يسأله وهو في حالة ضجر، أو هم، وغير ذلك مما يشغل القلب، والعلماء تكلموا في الكتب عن قضية رقعة الاستفتاء، فقالوا: ينبغي أن يكون الخط واضحاً، وأن يضع فيها كل المعلومات وأن يجعل فيها فراغاً للكتابة، بعض الناس يعطي الشيخ ورقة، السؤال يملأ الورقة، وأين يكتب الجواب؟ يأتي بورقة أخرى!
فحتى الرقعة التي فيها الفتوى تكلموا في وصفها، وكيف ينبغي أن تكون، المهم الشاهد بلغ الأدب عند بعضهم أنه كان يدفع الرقعة إلى المفتي منشورة مفتوحة، ولا يحوجه إلى فتحها، ويأخذها من يده إذا أفتى مباشرة، مفتوحة حتى لا يحوجه إلى طيها.
ولا يصلح أن يستعمل الجفاء بأن يناديه باسمه كما ذكرنا أو يقول: يا أخ، يا هيه، أنت أنت يا فلان، أنت، كما يقع لبعضهم، وإنما يناديه بلقب حسن، ويقرن ذلك بالدعاء، كأن يقول: غفر الله لك، أو أحسن الله أليك، أو أحسن الله عملك، أو رضي الله عنك، أو أثابك الله، أو وفقك الله، أو نفع الله بعلمك، وحتى يأتي بكلمة مواساة، أرجو ألا أشق عليك، عسى ألا أشق عليك، ما حكم كذا؟
بعض الناس يود الشيخ ألا يسأله أبداً من سوء أدبه ولو كان الشيخ مرتاحاً، وبعضهم يود الشيخ أن يسأله زيادة، ولو كان الشيخ متعباً مما يرى من حسن أدبه، بعض الناس من أرباب الشوارع، إذا خطر بباله أن يسأل المسألة ينتقل بقلة أدبه من الشارع إلى خطابه للشيخ، ولا يتخلصون من لكنة الشوارع، فإذا سأل الشيخ وأجابه؛ قال: أنت متأكد، واحد يسأل عالماً كبيراً، يقول: أنت متأكد من هذا الكلام، أكيد.. سبحان الله! يعني حتى الأعراب لما جاء أحدهم قال: يا بن عبد المطلب، قال: لبيك نعم، قال: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد عليَّ في نفسك، هذا كان أسلوب الأعرابي، جاء من الصحراء، لكن قال: فلا تجد عليَّ في نفسك، قال: آلله، وهؤلاء يقولون في زماننا كلاماً فيه من الرعونة وقلة الأدب شيئاً عجيباً، أو مثلاً إذا جاء يشرح له القضية، فأجابه الشيخ قال: كذا، قال: لا، لا، ما فهمت سؤالي، ركز يا شيخ، ما فهمت السؤال، انتبه معي يا شيخ، وبعض الناس من طريقته في الشرح، أنه يجعل المخاطب، أي: يتكلم بضمير المخاطب، فمثلاً يقول: افرض يا شيخ أنك فعلت كذا وكذا ماذا يكون الجواب؟ وقد يكون فعلت كذا وكذا، قد يكون طامة من الطامات، فمثلاً قد يقول: مثلاً يا شيخ أنت زنيت والمرأة التي زنيت بها كذا وكذا، كيف؟ أو يقول مثلاً يا شيخ أنت تعمل في شركة، من قبل عشر سنوات مثلاً يدك امتدت إلى الخزينة وسرقت مثلاً، وأنت الآن لا تدري كم سرقت، فكيف تفعل الآن؟ فهذه عبارات فاحشة، وسوء أدب ما بعده سوء، وكما قلت لكم أيها الإخوة: وبعض العبارت تصطك منها المسامع يود لو أنه أغلق الهاتف، وأنه صرفه عن وجهه، من سوء أدبه، والعلماء تكلموا في آداب المفتي، كيف يكون صدره واسعاً، وكيف يستقبل، وكيف يتغاضى ويتجاوز، لكن المستفتي يجب أن يكون مؤدباً في السؤال، إذا أراد أحدهم أن يسأل وجيهاً، أو وزيراً، أو عظيماً، تأدب غاية التأدب، حتى إذا أراد أن يسأل مديراً في دائرة، يقول: لو سمحت لي، ويكون صدرك واسعاً، وإذا جاء يسأل شيخاً أو عالماً، أعطاه من هذه الكلمات العجيبة.
لذلك واحد كان يقول لـإياس القاضي ، قال: أنا أكره فيك ثلاثاً: أنك تحكم قبل أن تفهم، مع أن إياس من أذكياء العالم، كيف يحكم؟ هو يتوهم الخصم أنه يحكم قبل أن يفهم، لكنه فهم.
وكذلك لا بد للمستفتي إذا أراد أن يستفتي في مسألة فيها حرج أن يقدم بين يدي الاستفتاء بعبارات تدل على تحرجه، وأنه لا يريد الفحش بالكلام، فبعض الناس يقول: مثلاً، إن الله لا يستحي من الحق، يا شيخ ما حكم كذا؟ أو لا حياء في الدين ماحكم كذا؟ أو أريد أن أسألك عن مسألة لكني متحرج فيها، ولكن لا بد من السؤال، ويعطيه السؤال، وبعض الناس لا يبالي بذلك ويذكر توصيفات وأشياء تتعلق بالعورات، تتعلق بأمور من هذا القبيل بدون أي تقديم ولا يظهر للشيخ تحرج السائل، بل يظهر له قلة أدبه في السؤال.
فإذاً لا بد من شيء من التقديم؛ لا مؤاخذة ما معنى كذا وكذا؟ لكن رأينا في المجالس أناساً يقولون: يا شيخ ما معنى "حتى تذوق عسيلتها؟" طريقتهم واضحة أنهم يريدون الفحش، وقد يكون عارفاً للجواب، لكن هذا موجود في المجتمع، ثم إنه ينبغي على المستفتي إذا أحسَّ أن الشيخ يريد بجوابه إبعاده عن الموضوع وصرفه عنه، وهو يقول: لا، لا إما أنك تقول لي حرام حتى أتركه، أو أنك تقول أنه ليس بحرام، فأحياناً بعض المشايخ يتورع أو تكون المسألة من المشتبهات، أو من المكروهات، هذا كثير جداً فيقول الشيخ مثلاً: لا أنصح بهذا، أرى أن تترك ذلك، أرى أن تترك هذا الشيء، فيقول: لا، لا، حدد حرام أم لا؟ لماذا؟ لأن هذا السائل ما عنده شيء اسمه (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) ولا عنده "اتق الشبهات أبداً" ولا عنده شيء اسمه (فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام).
الشيخ يريد أن يعلمك ترك الشبهات، يريد أن يعلمك أن هذا خلاف الأولى لا تفعل، فتجد هذا يلزم، وأحياناً يقول: لا يجوز أم حرام؟ أي حتى بعضهم لا يفهم لا يجوز، يأثم لو فعل، فيريد كلمة حرام، يريد كلمة حرام بالنص، فيفوت مقصد من مقاصد الشيخ في الإجابة، وكذلك من آفات المستفتين، أن بعضهم يتبرع بالسؤال عن شخص آخر، فيقول لواحد من الناس أنا أسأل لك، ويذهب بمعلومات غير كافية للشيخ، فيسأل الشيخ، فإذا استفصل منه الشيخ، قال: والله لا أدري، ليس عندي علم، إذاً الفتوى كلها تتوقف على هذا الأمر، كما قال أحد السلف لسائل من هذا النوع: ليتك إذ دريت دريت أنا، لو أنك أعلمتني بالشيء الناقص، لأعلمتك بالجواب.
صفحة طويلة أو ثلاث صفحات يمكن أن تختصرها بسطر أو سطر ونصف، فبعض الناس يعيشون بين وسوسة، أن يقول للشيخ: اسمع قصتي من أولها، وأنه لا بد أن يذكر كل شيء، بعض الناس يقول: الجزئية هذه قد تكون مهمة لا بد أن نقول للشيخ كل شيء بالتفصيل، ولكن هل يوجد فرق عند الشيخ أن اسم الولد سعيد أو عمرو أو زيد؟ هل يوجد فرق في أن حادثة الغرق صارت في أمريكا ، أو في الهند مثلاً؟ هناك فرق أن الولد مات فوراً أو مات بعد ساعات؟ لكن كثيراً من السائلين لا يفكرون في المعلومات المهمة في الفتوى، والمعلومات غير الممهة، ثم يريد بعد ذلك من الشيخ أن يتسع صدره لكل التفاصيل، وأنه لا بد أن يستمع للقصة، وإذا الشيخ لم يستمع لكل القصة، وقال: اختصر وعجل وهات النهاية، قال: لماذا المشايخ لا يعطون فرصة للواحد كي يتكلم؟ لماذا يتكبر هؤلاء المشايخ على الخلق؟ وهكذا، ولا يفكر أن هذا الشيخ وراءه أناس كثيرون يريدون أن يسألوا وأنه ليس هو الذي على حسابه تهدر أوقات الشيخ.
ولذلك بعض المفتين الحاذقين الأذكياء، يقول للسائل: إذا كان الواقع كما ذكرت فالجواب كذا، إذا كانت المسألة كما صورتها، فالجواب كذا، إن كان ما تقوله حقاً فالجواب كذا، هذا جيد من المفتي أن يفعل ذلك، لينبه السائل، لأنك إذا حذفت معلومات أو غيرت، أو بدلت السؤال، فهذا لا يغنيك شيئاً، الجواب هذا ما ينطبق على المسألة الحقيقية.
السلام عليكم.
وعليكم السلام.
والله يا شيخ نسيت السؤال!! إذاً اكتب السؤال، ثم اطرحه.
فوجئت بردك يا شيخ ونسيت كل الأسئلة، كان عندي مائة سؤال، لكن كلما أتصل يقال: مشغول، وفي الأخير لما وجدتك ضاعت كل الأسئلة.
أو لحظة يا شيخ واحد يدق الباب، يا شيخ الخط الثاني يشتغل، لحظة يا شيخ الولد يلعب بالتلفون، لحظة يا شيخ الزوجة تتكلم، أنت هيئ مكاناً، ثم لو طرأ طارئ لعله يعذرك، لكن لا بد أن تهيء مكاناً وأن تجهز نفسك، تضع ورقة الأسئلة أمامك، بعض الأحيان واحد يتصل على الشيخ، ثم يقول: لحظة يا شيخ أبحث عن ورقة الأسئلة، ضاعت بين الأوراق، فإذاً لا بد من الإعداد والتجهيز، لأن الآن هذا لعالم، سؤال العالم يجب أن يحترم ويوقر، ويحفظ وقته، وتحفظ أنت ماء وجهك أيضاً، ولا تجلب لنفسك الكلام الذي لا داعي له.
كذلك من الأمور القبيحة جداً، وأشرنا إليه ونعيد التأكيد عليها: سعي بعض السائلين من أصحاب النوايا السيئة إلى أن يصادم كلام المفتين بعضهم لبعض، فيقول بعد أن يجيب الشيخ: لكن الشيخ الفلاني قال بخلاف قولك، أو قال غير كذا مثلاً، فهذا قلنا ليس من الأدب، وما تقصد؟ هل تريد أن تحرجه؟ لماذا اتصلت أصلاً؟ ما هو الباعث لك على العمل؟
ومن الأمور التي ينبغي أن يحذر منها كذلك: صياغة السؤال بطريقة تقود الشيخ للإجابة التي يريدها السائل، وعدم التجرد في طرح السؤال، بعض الأحيان تقرأ أسئلة ما بقي إلا أن الشيخ يبصم عليها، أو يضع ختمه فقط، ولذلك لا بد أن يتجرد السائل أثناء الكتابة، ولا يكتب أو لا يتكلم بشيء كأنه يملي على الشيخ الجواب، يقول: يا شيخ ما حكم كذا وكذا وأنت تعلم يا شيخ أن هذا منهي عنه، فما هو الحكم؟ فماذا تقصد إذاً؟
ومن الأمور الحساسة الخطيرة أيضاً: ما يعمد إليه بعض الناس المتخاصمين في مسألة شرعية، فيتخاصمون في المسألة كل واحد يقول هذه حكمها كذا والآخر يقول: حكمها كذا، ثم يتحاكمون إلى شيخ، كل واحد يزين الواقعة حسب ما يوافق القول الذي قال به، يزين الواقعة والحادثة ويكيفها لا بحسب ما حدثت كما هي الأمانة، وإنما بحسب ما قاله هو لصحابه واختلفا عليه، وكثير من الناس يحصل بينهم في مجلس شيء، فيتحدى بضهم بعضاً، ثم يتصلون بالشيخ، فلا بد إذاً من التجرد، ولا يصح أن تجعل كلام الشيخ انتصاراً لنفسك، وإنما تجعل كلام الشيخ لتنتصر للحق، فكثير من الناس يريد من الشيخ أن يوافق قوله، ولو قال الشيخ بخلافه لقال: لكن يا شيخ انظر في المسألة، كأنه يريد أن يوافق الشيخ قوله، حتى لا يرجع إلى الناس بجواب يحرج به، فإذاً ما هو هدفنا؟ البحث عن الحق، وليس إفحام الناس؟ هدفنا أن نبحث عن الحق، لا أن نظهر بمظهر أننا انتصرنا في المعركة والكلام.
يا شيخ! من هو أول شهيد في الإسلام؟! يا شيخ من هي أول سرية خرجت؟! يا شيخ! كم مرة ذكر العسل في القرآن؟! ثم افرض أن السؤال شرعي وإسلامي، سؤال المسابقة موضوع للناس لكي يبحثوا بأنفسهم، وليس لكي يتصل ليمليه الأسئلة صح خطأ، وهذا شيء يفعله ضعفاء النفوس، يفعله أناس لا يقيمون وزناً لأوقات أهل العلم، ولا للمشايخ، ولأنفسهم هم أيضاً، ولذلك قال لي بعض العلماء: أي سؤال أحس أنه سؤال مسابقات لا أجيب عليه، أقول: ابحث أنت، مطلوب منك أن تبحث أنت، ممكن أن نعذر طالباً صغيراً، فسأل سؤالاً، دعه يعتاد سؤال العلماء، أو سؤال المشايخ، أو سؤال طلبة العلم، بل نشجعه ولو كان سؤال مسابقة، لكن واحد كبير، إنسان في جامعة، واحد ناضج بلغ من السن مرحلة لا بأس بها، يأتي يسأل الشيخ سؤال مسابقة.
ومن الأمور المهمة كذلك: عدم السؤال عن الغرائب، وعما لا ينتفع ولا يعمل به، وعن الفرضيات التي لم تحدث، هذا كلام ذكره أهل العلم في كتبهم، وما لم يكن؛ سؤال الفرضيات، قال المروزي رحمه الله: قال أبو عبد الله - الإمام أحمد - سألني رجل مرة عن يأجوج ومأجوج أمسلمون هم؟ فقلت له: أأحكمت العلم حتى تسأل عن ذا؟ وقال أحمد بن القطيعي : دخلت على أبي عبد الله ، يعني: الإمام أحمد فقلت: أتوضأ بماء النورة؟ نورة خالطت الماء أتوضأ به؟ فقال: ما أحب ذلك، فقلت أتوضأ بماء الباقلاء؟ قال: ما أحب ذلك، قال: ثم قمت فتعلق بثوبي، وقال: ماذا تقول إذا دخلت المسجد؟ فسكت، فقال: ماذا تقول إذا خرجت من المسجد؟ فسكت، فقال: اذهب فتعلم هذه، قبل أن تسأل عن الوضوء بماء الباقلاء، تعلم دعاء دخول المسجد والخروج من المسجد، وهؤلاء التلاميذ تعلموا وأصبحوا جهابذة، بفضل هذه التربية.
عن ابن عباس قال: (ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله صلى الله وعليه وسلم، ما سألوا إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، وماكان يسألون إلا عما ينفعهم) فكر قبل السؤال هل هذا السؤال يفيدك أم لا، ينفعك أم لا، سؤال عملي أم افتراضي لا يحصل إلا نادراً جداً؟
الأول: إذا كان متوقعاً حصوله، فالسؤال جيد، وإذا كان غير متوقع حصوله، فالسؤال مذموم، ويدخل في حديث النبي صلى الله وعليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ويدخل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كره لكم القيل والقال وكثرة السؤال) وأنه كره النبي صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، وهكذا.
ومن الأمور كذلك: عدم السؤال عن الأغلوطات، وسوء القصد في الأسئلة، وكذلك السؤال عما لا ينبغي السؤال فيه، خذ مثالاً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه ، عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه: (أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة، قال: عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها- صاحبها- فأدها إليه، فقال: يا رسول الله: فضالة الغنم؟ قال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب، قال: يا رسول الله: فضالة الأبل؟ قال فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه، وفي رواية: أحمر وجهه، ثم قال: مالك ولها؟! معها حذاؤها وسقاؤها حتى يلقاها ربها).
مالك ولها؟ هناك أحد يسأل عن ضالة الإبل التي تستطيع أن تدافع عن نفسها، وتصبر على مر الوقت، وعلى العطش وعلى الجوع حتى يلقاها ربها، فإذاً هذا السؤال لا داعي له، لذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال مالك؟ قال رجل للشعبي: إني خبأت لك مسائل، فقال الشعبي رحمه الله: أخبئها لإبليس، حتى تلقاه فتسأله عنها.
وعند البخاري عن يوسف بن ماهر أن رجلاً عراقياً قال لـعائشة : أي الكفن خير؟ قالت: ويحك وما يضرك.
وكان إسماعيل بن أبي خالد من أحسن الناس خلقاً، فلم يزالوا به حتى ساء خلقه، أي يكون الشيخ مثلاً هادئ الطبع، حسن الخلق، واسع الصدر، فمن كثرة ما يشغله الناس ويضيقون عليه، ويزيدون ويشددون، ويكثرون في الأسئلة، يتغير خلقه فعلاً من الوقت، يتغير خلقه، كان أبو معاوية -ذكره أهل العلم في كتبهم، ونقوله لتوضيح القضية- كان أبو معاوية يحدثنا يوماً بحديث الأعمش عن زر رضي الله عنه، وكان ثم أهل الباتوجة، وأهل الباتوجة الظاهر أنهم ناس لا يعلقون جيداً، فجعلوا يردون: عن الأعمش عن مَن؟ يقول: عن زر، من هو؟ زر؟ قال: عن إبليس، فلما رآهم لا يفهمون، قال: إن إبليس من الضجر.
وجاء رجل إلى يحيى بن سعيد يسأله أحاديث وطول عليه، فقال له يحيى في النهاية: ما أراك إلا خيراً مني ولكنك ثقيل، أنت حريص لكنك ثقيل دم، أنت ثقيل.
وحضرت ذات مرة مجلس عالم كبير من العلماء، فسأله رجل فأضجر الشيخ، الشيخ يقول: تعال لي غداً، يقول: أنا مستعجل وأنا مسافر، قال: تعال غداً، فقال: أنا لا أستطيع، قال: تعال بعد شهر، تعال بعد شهرين، فزاد الرجل، فقال الشيخ: تعال بعد يوم القيامة، تعرف يوم القيامة تعال بعد يوم القيامة، فإذاً الناس إذا لم يراعوا العلماء والمشايخ، هذا من هنا وهذا من هنا، وهذا في الهاتف، وهذا الشخص، وهذا جاء، النفس لها حدود، ولها قدرة في التحمل، والواحد منا نحن السائلين يأتي ليسأل بكامل عافية، يأتي شبعان نوم وأكل وراحة، وجاء للشيخ مجهزاً نفسه، والشيخ عنده أسئلة وناس وأوراق، ويأتي ليبرز الآن ماعنده من أشياء، فينبغي أن تراعي أن هذا الشيخ كثر عليه الناس، أن هذا الشيخ حاله يحتاج إلى شفقة، ما وجدت المكان ولا الزمن المناسب، اذهب يا أخي، عد مرة أخرى، اكتف بسؤال واحد، أجل الباقي.
وقال ابن عيينة : ضمني أبي إلى معمر ، وكان معمر رحمه الله يجيء إلى الزهري يسمع منه، فأمسك له دابته، كان في مقتبل العمر صغيراً، أبوه وضعه مع معمر ، حتى يتعلم من معمر، ومعمر يذهب إلى شيخه، وهو الزهري فيسأله؟ إذا ذهب معمر إلى الزهري ، أمسك ابن عيينة بدابة معمر ، كان ابن عيينة صغيراً، قال: فجئت يوماً فدخل معمر على الزهري وأنا ماسك دابة معمر في الخارج، فقلت لإنسان: أمسك الدابة، فدخلت وإذا مشيخة قريش حوله -حول الزهري - فقلت له: يا أبا بكر كيف حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (بئس الطعام طعام الأغنياء) قال فصاحوا بي- الناس- فقال هو: تعال، ليس هكذا عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شر الطعام طعام الوليمة، يدعى إليه الأغنياء ويترك الفقراء، ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله) فإذاً الواحد لا يحفظ كلمتين من حديث، أو طرف مسألة، ويأتي إلى الشيخ يجادله بها.
وبعض السائلين عندهم آفة استعراض العضلات عند العلماء، يبحث مسألة ويقرأ فيها ويطلع، ثم يتصل بشيخه، ما استغلق عليه شيء ليسأل عنه، ولا يوجد شيء غريب يسأل عنه، ولا يريد أن يسأل عن الراجح بين قولين، لا، وإنما ليذكر للشيخ تفاصيل البحث الذي عمله، ويقول: يا شيخ ما حكم كذا؟ الشيخ الآن ما يتذكر كل التفاصيل، كمن بحث الآن، الذي قرأ الآن في الكتب ليس مثله مثل الشيخ الذي هو بعيد عهد بالمسألة، فيقول: يا شيخ! ما حكم كذا؟ فيقول الجواب الفلاني، يقول: لكن الكلام الفلاني قال في كتاب الفلاني كذا، ولكن هذه دليلها كذا، ولكن فأنت لماذا تسأل؟ نعود دائماً نكرر على الناس نقول لماذا تسأل؟ استعراض عضلات (من تعلم العلم ليجاري به العلماء، ويماري به السفهاء، ويصرف به وجوه الناس إليه، كبه الله في النار).
وبعضهم يأتي بسؤال يلف به على المشايخ، لمجرد أن يقول في المجالس: سألت الشيخ فلان قال كذا، سألت الشيخ فلان فقال كذا، يفتخر بأنه جمع أقوال المشايخ، أين الإخلاص يا أيها السائل؟ أين الإخلاص يا طالب العلم؟ ولذلك المقصود من السؤال حقيقة هو الاسترشاد وطلب الفائدة، وليس استكشاف المسئول، وحب الاستطلاع، وإحراج المشايخ بالأسئلة، وفرد العضلات.
وأعطيكم مثالاً للسؤال عن أشياء غير مناسبة، وفيها شيء من الإزراء، هذا يقول سؤال: سمعت أنك أخذت عمرة، فهل أنت حلقت أوقصرت نرجو منك أن تكشف غطاء رأسك لنا، لنراه؟
ما معنى هذا؟ ما هي فائدته؟ أنت تعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أنه دعى للمحلقين ثلاثاً ودعى للمقصرين واحدة، أنت تعلم الحكم الشرعي، فتأتي تسأل وتقول: اكشف لنا شعرك نراه أمام الناس، أو كذلك أن يُسأل الشيخ في قضية ما له علاقة بها أبداً.
وهذه أسئلة وردت في محاضرة شرعية، السؤال: ما هو القولون العصبي؟ وما أسبابه؟ وما هو العلاج اللازم له؟ وهل يمكن الشفاء منه؟
سؤال آخر: امرأة أخذت بالغلط دم مصاب بفيروس الكبد الوبائي وهي امرأة متزوجة، هل هذا يؤثر على الأطفال الذين تنجبهم فيما بعد؟
سؤال آخر: لو أخذت المرأة إبرة من الحصبة الألمانية، وبعدها اكتشفت أنها حامل في الشهر الثالث ماذا الذي يتوقع من خطورته؟
سؤال: حدث لي التهاب اللوزتين فوصف لي الطبيب دواء معيناً، وقال عندي بؤرة صديدية، وبلغ ثم داومت يومين على الدواء وبعد ذلك انقطعت عنه، وأحسست بالشفاء مع العلم أن هذا مضاد حيوي، هل يؤثر هذا على القلب أم لا؟
فإذاً كونك تسأل شيخاً عن سؤال طبي، أو هندسي أو فلكي، ليس له فيه اطلاع، هذا أيضاً من إساءة الأدب.
استخدام الهاتف في السؤال، لاشك أن الهاتف أيها الإخوة من نعم الله سبحانه وتعالى، والسؤال بالهاتف أمر قيضه الله سبحانه وتعالى لنا، لكي نستفيد منه، ومن أعظم ما يستخدم به الهاتف، إن لم يكن هو أعظم الأشياء على الإطلاق، لقد كان الناس يرحلون مسافات طويلة، ويسافرون ويتغربون، ويتركون الأوطان والأهل والأولاد من أجل مسألة أو حديث وجمع العلم، وأنت بإمكانك الآن استخدام الهاتف الذي يقرب لك المسافات، والذي يكون لك بمثابة الاستئذان على بيت الشيخ أو العالم لتسأله، وينبغي أن نراعي في قضية استخدام الهاتف أو السؤال أموراً منها:
أولاً: عدم الاتصال في الأوقات المزعجة، بعض العلماء أو المشايخ قد يفصل الهاتف، وتنتهي القضية، وإذا جاء وقت الأسئلة وضعه، لكن بعضهم قد لا يفعل ذلك، ليس عنده إلا هاتف واحد، يبقيه للأشياء الطارئة والمستعجلة، فيأتي واحد الساعة واحدة ليلاً أو الثانية ليلاً يتصل ويقول: عندي شيء أقلقني وما عرفت كيف أنام ولا بد أن أسأل، طيب هل من البر بأهل العلم أن تفعل ذلك؟
ثانياً: نوم المشايخ، لماذا لا يردون على الهاتف؟ ولا يفكر السائل في ظروف الشيخ، وأحواله، وأهله، وقراءته، وراحته، وأكله وشربه، وملاعبة أولاده، ولا يفكر فيمن يسأل من الناس بعده، وإنما يقول: كل واحد يفترض نفسه صاحب الحق، وأن الشيخ مخطئ إذا لم يرد عليه.
ومن الأمور كذلك التي ننتبه لها في السؤال بالهاتف: الاستغراق بالسؤال عن الأحوال، والحلال والعيال ونحو ذلك، أما السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ولا بد من السلام، والاستفتاح بشيء حسن قصير من دعاء مثلاً أن تقول بارك الله في علمك، نفع الله بك يا شيخ، ما حكم كذا؟ أحسن الله عملك يا شيخ، ما حكم كذا؟ لا مؤاخذة يا شيخ على هذا الاتصال، ماحكم كذا؟ هذا شيء بسيط لا يأخذ وقتاً، لكن لو أن كل سائل يريد أن يسأل الشيخ عن حاله، وصحته وأولاده وبيته وحلاله، لو أن كل واحد يأخذ ولو نصف دقيقة، فلو كان يتصل على الشيخ مائة رجل في اليوم، فكم يكون ضاع من وقته، وكم من سؤال أهدر لأناس يتصلون من مسافات بعيدة على العلماء ليفتوهم.
وأقول لكم: بعض الأشياء التي استفدتها بنفسي سؤال أهل العلم، وعلى رأسهم سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز نفع الله بعلمه وزاده أجراً، وأحسن عمله، ورفعه في الدارين آمين، وجدت أن من الأشياء المفيدة: اختيار الوقت المناسب، وهو أول وقت الاتصال بالشيخ، فإذا كان الشيخ مثلاً يجلس بعد المغرب مثلاً بنصف ساعة إلى العشاء، فالحرص على الاتصال في أول الوقت، عندما يكون ذهن الشيخ صافياً ولا يكون قد اتصل به أناس كثيرون، لا بد تراعي أن الناس اتصلو قبلك، فعندما تكون من أوائل المتصلين، يكون الشيخ قد جاء من راحة، فيكون أفرغ لك وأحسن، وهذه مسألة تحتاج إلى دقة وضبط في وقت الاتصال.
ومسألة التلطف والاختصار كما قلت لكم في مسألة إلقاء السلام، ودعاء قصير جداً، ثم يتبعه بسؤال واضح، وأنا أحرص أن أكتب عندي الأسئلة في دفتر، كل الأسئلة التي أسأل عنها في المسجد وليس عندي علم بها أكتبها في دفتر أولاً بأول، فإذا جاء وقت الاتصال وضعت الدفتر أمامي ثم بدأت في الأسئلة، وأعرف أن الشيخ مثلاً يعاملني بثلاثة أسئلة كل مرة، فلا أزيد على ذلك، فلا أزيد على هذه الثلاثة، وكذلك لا بد من مراعاة نفسية الشيخ، فأنت تسمع وتنتظر أحياناً يرد عليك، تسمع نقاشاً حاداً في قضية شخص ملح، أناس ما عندهم أدب مثلاً، فلو أنك استعملت كلمة واحدة في التخفيف عن الشيخ قبل سؤاله فيكون أمراً حسناً.
ثم أيها الإخوة: الصبر على الشيء، أحياناً الواحد يتصل ربما ثلث ساعة ربما نصف ساعة لكي تلتقط الخط، ثم لا تلقط الخط إلا أذان العشاء عند الشيخ، فقد يقول لك الشيخ مثلاً: وقت الأسئلة انتهى اتصل غداً، طبعاً الإنسان قد يتبرم ويضيق، أنا الآن متصل أنا جالس على الهاتف ثلث ساعة أتصل، وربما تجلس على الخط عشر دقائق وتتكلم من منطقة خارجية، ثم إلى أن يفرغ من مناقشاته، ثم يقول لك: أذن العشاء اتصل غداً، فينبغي الصبر والفسحة في الصدر، وبعض السلف قالوا له: فلان -هذا العالم- صعب، كيف استطعت أن تدخل عليه؟ قال: إني تملقته حتى دخلت عليه، وصار يرحب بي، ويسمع كلامي، وتعلمت كذلك ألا أقول للشيخ يوجد سؤال طويل اسمح لي آخذ من وقتك عشر دقائق، هذه مقدمات قاتلة بالنسبة للشيخ، فاختصر السؤال واعرضه.
ثم أيها الإخوة هناك مشايخ مشغولون، تسألهم سؤالاً محدداً، الجواب نعم أو لا، وهناك مشايخ أفرغ، تسألهم عن الدليل، وهناك مشايخ أفرغ تسألهم عن إشكالات الدليل، مثلاً قد يكون الشخص المتفرغ ليس عالماً كبيراً جداً، لكنه طالب علم متمكن، فيفيدك في الأدلة، وخلاف العلماء، وفي الراجح، وأن تراعي أيضاً ولا تكون أنانياً، تراعي أن هناك أناساً ينتظرون دورهم في السؤال، لا تنزل السماعة إلا وهناك أناس كثيرون يتصلون، وقد تكون عندهم قضايا أهم من القضايا التي تعرضها أنت، والقضية أن إحساس بعض الناس بمشكلته أكبر من إحساسه بوقت غيره.
أولاً: السؤال بقدر الحاجة، وربما لو سأل عنها رجل لكان أفضل في بعض الأحيان، وأحياناً تحتاج أن تشرح مشكلتها بنفسها، فلا بأس أن تشرح.
ثانياً: لا داعي للمقدمات، هي تسأل الآن رجلاً أجنبياً كيف حالك! وعساك بخير! كيف الأولاد؟ وكيف الصحة؟ هذا ليس مجال أن تسأل امرأة رجلاً أجنبياً.
ثالثاً: عدم الإطالة والإعادة التي لا داعي لها، كما يكثر في أسئلة النساء.
رابعاً: عدم الخضوع في القول، وعدم التكسر، وعدم الميوعة في الكلام، وقد تكون بعض النساء تعودت على هذا، ما يصلح أن تخاطب شيخاً وما زال رجلاً أجنبياً، وقال الله عز وجل: وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً [الأحزاب:32] ولا يصلح أبداً أن تأتي امرأة وتقول لشيخ أو لطالب علم حتى من الشباب: إني أحبك في الله، هذه من مفاتيح الشيطان ومن أبواب إبليس.
وكذلك أخيراً: عدم التبسط وإزالة الكلفة مع الشيخ، يعني: تتكلم وكأنها تكلم زوجها، أو تكلم أخاها، أو تلكم أباها مثلاً، فتتبسط وترفع الكلفة، ويقل الأدب، فهذه بعض النصائح.
قالت: ما عندي نقود.
تبيعين واحدة منها، وتخرجين الزكاة.
قالت: آسفة كله زينة.
وأحياناً يأتيك سؤال لا تعرف كيف وصل عقله إلى هذا الحد، يقول رجل: أنا اعتمرت لنفسي فحلقت شعري، ثم خرجت للتنعيم، ثم أحرمت واعتمرت لأبي، فما وجدت شيئاً أحلقه، فنتفت من لحيتي، فهل هذه فكرة وجيهة؟ اسأل عندك في الحرم قد تجد ناساً من أهل العلم.
ويقول آخر: وضعت الساعة لأتسحر ووضعتها خطأ، أخرتها ساعة، وقمت على الساعة مسرعاً في البيت وجهزت طعاماً من الثلاجة، وضعته على الطاولة ووضعت الساعة أمامي وجلست آكل آكل، ولم يؤذن، ثم قلت: لماذا المؤذنون كلهم نائمون اليوم؟ يقول: قمت وفي فمي لقمة، فتحت الستارة وإذا بالنور ظهر لي، نور النهار، فتورطت باللقمة التي في فمي، ماذا أفعل؟ فأخذت كوباً من الماء وبلعتها.
لو سامحناه في موضوع اللقمة هذه التي في فيه، إذاً كوب الماء الذي أخذه.
أو بعضهم يسأل بأسلوب يقول: توضأت بدون أن أغسل أحد الأعضاء وصليت، ثم وسوس لي الشيطان أن صلاتي غير صحيحة، كيف هذا؟ عدم غسل أحد الأعضاء يعني أن الوضوء باطل، كيف وسوس لك الشيطان أن صلاتك غير صحيحة، لا هذا ليس من الشيطان، هذا من الملك الذي دفعك للتفكير بهذا.
ومن أشد ما يؤلم أحياناً أن إنساناً يسألك عن مسألة، وهناك من هو أعلم منك يستطيع أن يسأله، بل خذوا هذه القصة، الآن مثلاً أنا أحاول أن أجيب على الأسئلة، وأحسن أحوالي أن أنقل فتاوى العلماء، لا أملك قدرة على الفتوى، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه، أحسن أحوالي أن أنقل فتوى عالم أعرفه في المسألة إلى شخص، يأتيك أحد يسأل: السلام عليكم، أنا أكلمك من الرياض ، ما حكم كذا وكذا؟ تقول: الحكم كذا، لكن يا أخي لماذا لا تسأل الشيخ عبد العزيز ، يقول: أنا سألته لكن أحببت أن أتأكد.
سبحان الله! فعلاً الناس لا يعرفون قدر العلماء، تتأكد من الأدنى على الأعلى! وممن لا يقارن! تتأكد عن فتوى العالم، هذا شيء مذهل أن الناس لا يعرفون قدر علمائهم.
وختاماً أسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكم التوفيق والسداد والإخلاص في القول والعمل، وحسن التعلم وحسن السؤال، إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر