أما بعد:
فقد ذكرنا في الدرس الماضي طائفة من أحكام العطاس وآدابه، وسوف نتم الكلام عن موضوع العطاس وندخل في أدب التثاؤب والجشاء، وكذلك البصاق والتفل والنخاعة والنخامة إذا كان الوقت متسعاً.
ندخل في تتمة الكلام عن موضوع العطاس، ونذكر النقطة التي أشار إليها أحد الإخوة، ونتكلم عنها في هذه الليلة، ماذا كان يعتقد العرب في العطاس؟
قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة : ومما كان الجاهلية يتطيرون به ويتشاءمون منه العطاس، كما يتشاءمون بالبوارح والسوانح -هذه من أنواع الطيور التي كانوا يتطيرون بها، وأتى ببعض الأبيات تدل على تشاؤم أهل الجاهلية من العطاس- قال: وكانوا إذا عطس من يحبونه قالوا له: عمراً وشبابة، وإذا عطس من يكرهونه، قالوا له: وراً وقحابة، والوري: داءٌ يصيب الكبد فيفسدها، والقحاب: السعال وزناً ومعنى، فكأنهم يدعون عليه بالداء الذي يصيب كبده وبالسعال، فكان الرجل إذا سمع عطاساً فتشاءم به يقول: بك لا بي، أي: أسأل الله أن يجعل شؤم عطاسك بك أنت لا بي أنا، وكان تشاؤمهم في العطسة الشديدة أشد، كما يحكى عن بعض الملوك أن مسامراً له عطس عطسةً شديدة راعته -أي: أخافته- فغضب الملك، فقال سميره: والله ما تعمدت ذلك، ولكن هذا عطاسي، فقال: والله لئن لم تأتني بما يشهد لك بذلك لأقتلنك، فقال: أخرجني إلى الناس لعلي أجد من يشهد لي، فأخرج وقد وكل به الأعوان، فوجد رجلاً، فقال: ناشدتك بالله إن كنت سمعت عطاسي يوماً فلعلك تشهد لي به عند الملك، فقال: نعم. أنا أشهد لك، فنهض معه فقال: أيها الملك! أنا أشهد أن هذا الرجل يوماً عطس فطار ضرس من أضراسه، فقال له الملك: عد إلى حديثك ومجلسك.
يقول ابن القيم رحمه الله فلما جاء الله بالإسلام وأبطل برسوله ما كان عليه الجاهلية الطغاة من الضلال والآثام، نهى أمته عن التشاؤم والتطير، وشرع لهم أن يجعلوا مكان الدعاء على العاطس بالمكروه دعاءً له بالرحمة -أي: إذا كان أهل الجاهلية يقولون: بك لا بي، إذا عطس، وأيضاً يدعون عليه بالداء والمرض والسعال، فجاء الله عز وجل بهذا الشرع المطهر الذي فيه الدعاء للعاطس بالرحمة، وحمد العاطس الله عز وجل بعد العطاس.
ولما كان الدعاء على العاطس نوعاً من الظلم والبغي جُعل الدعاء له بلفظ الرحمة المنافي للظلم، وأُمر العاطس أن يدعو لسامعه ومشمته بالمغفرة والهداية وإصلاح البال، فيقول: يغفر الله لنا ولكم، أو يهديكم الله ويصلح بالكم، فأما الدعاء بالهداية فلمّا أنه اهتدى إلى طاعة الرسول، ورغب عما كان عليه الجاهلية فدعا له ليثبته الله عليها ويهديه إليها.
لما قال هذا العاطس: الحمد لله، فقال له المشمت: يرحمك الله، فيقول: يهديكم الله ويصلح بالكم.
وكذلك الدعاء بإصلاح البال وهي كلمة جامعة لصلاح شأنه كله وهي من باب الخيرات، ولما دعا لأخيه بالرحمة فناسب أن يجازيه بالدعاء له بإصلاح البال، أما الدعاء بالمغفرة فجاء بلفظ يشمل العاطس والمشمت، فيقول: يغفر الله لنا ولكم، ليتحصل من مجموع دعوى العاطس والمشمت لهما المغفرة والرحمة معاً، وهو تأسٍ أيضاً بآدم عليه السلام.
هذا بالنسبة لما كان عليه أهل الجاهلية، وما جاء الله به في هذا الدين من إبطال ذلك وإبداله بالأمر الحسن.
أما بالنسبة لحديث: (من سبق العاطس بالحمد أمن من الشوص واللوص والعلوص) فهو ضعيف، ولذلك لا يسبق العاطس بالحمد؛ لأنه قال: من سبق العاطس بالحمد، فإذاً: العاطس يترك حتى يحمد الله سبحانه وتعالى، وهذا الشوص وجعٌ في البطن والضرس، والعلوص وجعٌ في التخمة ووجعٌ في البطن، واللوص: وجعٌ في الأذن، أنواع من الأوجاع.
وقل للفتى عوفيت بعد ثلاثةٍ وللطفل بورك فيك وأمره يحمدِ |
وعوفيت بعد ثلاثة، أي: بعد ثلاث مرات، يدعى له بالعافية، يقال له: عوفيت، ليس في هذا حديث صحيح، لكن بما أنه أخبر أنه مزكوم، فالمناسب أن يُدعى له بالعافية، بعد تشميته ثلاث مرات، فإذا عطس الرابعة يقال له: عوفيت، وقال شيخ الإسلام وهو منصوص الإمام أحمد : إن عطس ثانياً وحمد شمته، وثالثاً شمته، ورابعاً دعا له بالعافية، ولا يشمت للرابعة إلا إذا لم يكن شمته قبلها ثلاثاً، فالاعتبار بفعل التشميت لا بعدد العطسات، هذا كلام صاحب الإقناع وشارح الإقناع، أن العبرة بالتشميت لا بعدد العطسات، فلو عطس شخص ثلاث مرات متوالية، ثم قال: الحمد لله، فشمته، ثم عطس رابعة فشمته، ثم عطس خامسة فشمته، كم عطسة عطس؟ خمس، كم مرة شمته؟ ثلاثاً.
إذاً: في العطسة السادسة تقول له: عوفيت، فقال: إذاً العبرة بفعل التشميت لا بعدد العطسات، فلو عطس أكثر من ثلاث متواليات شمته بعدها إذا لم يتقدم تشميت، ويقال له: عافاك الله؛ لأنه مزكوم أو به داء.
وقال مهنا للإمام أحمد : أي شيء مذهبك في العاطس يشمت إلى ثلاث مرار؟ فقال: إلى قول عمرو بن العاص قال: العاطس بمنزلة الخاطب، يشمت إلى ثلاث، فما زاد فهو داء في الرأس.
وتقدمت الأحاديث في هذا الأمر، وهناك مسألة، وهي: إذا دعا للعاطس بالعافية فهل يقول العاطس شيئاً؟
قال السفاريني رحمه الله في غذاء الألباب شرح منظومة الآداب: "لم أرَ لأحدٍ من الأصحاب ولا غيرهم في أن الداعي للعاطس بالعافية، هل يستحق جواباً أم لا".
ولعله يجيب بقوله: عافانا الله وإياك، أي: لو قلت له: عوفيت بعدما عطس وشمته المرة الثالثة، عطس الرابعة، فقلت له: عوفيت، فيقول: عافانا الله وإياك، وهو مأخوذٌ من قول ابن عمر رضي الله عنهما.
وهل يكون مستحباً أو واجباً أو مباحاً؟
لم أر من تعرض لشيءٍ من ذلك، والذي يظهر إن قلنا: الدعاء له بالعافية مستحب فالإجابة كذلك، إذا قلنا: عوفيت أو عافاك الله مستحب، فالإجابة بقول: عافانا الله وإياك، أو وإياك مثلاً: ونحو ذلك من الألفاظ الطيبة أنه مستحب كذلك، وإن قلنا: واجبٌ فكذلك الإجابة والله ولي الإنابة.
وقل للفتى عوفيت بعد ثلاثةٍ وللطفل بورك فيك وأمره يحمد |
يعني: مره أن يحمد الله.
قال ابن العربي: لا يذكره وهذا جهلٌ من فاعله. وقال النووي: أخطأ من زعم ذلك، بل يذكره؛ لأنه مرويٌ عن النخعي، وهو من التعاون على البر والتقوى، فقال ابن القيم بعد ذلك: وظاهر السنة يقوي قول ابن العربي ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشمت الذي لم يحمد الله، ولم يذكره، وهذا تعزيرٌ له وحرمانه لتركه الدعاء، لما حرم نفسه بتركه الحمد، فنسي الله تعالى، فصرف قلوب المؤمنين وألسنتهم عن تشميته والدعاء له، ولو كان تذكيره سنة لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بفعلها وتعليمها والإعانة عليها، هذا رأي ابن القيم رحمه الله تعالى في المسألة.
وذكر في شرح الإقناع ما يؤيد أنه ينبغي تذكير من نسي حمد الله، قال المروذي: أن رجلاً عطس عند أبي عبد الله -الإمام أحمد رضي الله عنه ورحمه- فلم يحمد الله، فانتظره أبو عبد الله أن يحمد الله فيشمته، فلما أراد أن يقوم، قال له أبو عبد الله: كيف تقول إذا عطست؟ قال: أقول: الحمد لله، فقال له أبو عبد الله : يرحمك الله.
قال في الآداب: وهذا يؤيد ما سبق. أي: من كون بعض الأصحاب كان يذكر خبر من سبق العاطس بالحمد أمن الشوص ونحوه ويعلمه الناس، قال: وهو متجه.
فالمسألة فيها قولان: هل يذكر أو لا؟ ولكل من ذهب إلى أحد المذهبين له رأي.
إذاً: التثاؤب من الشيطان، والشيطان يدخل مع التثاؤب إلى جوف الشخص، ويضحك من العبد المتثائب، أما بالنسبة للتثاؤب فأصله من ثئب فهو مثئوب، إذاً: مرد التثاؤب إلى الكسل، ومأخوذ منه.
إذاً: وضع اليد على الفم جاء هذا في حديث مسلم: (إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه) أما بالنسبة لقوله عليه الصلاة والسلام: (التثاؤب من الشيطان) أي: أن الشيطان يحب التثاؤب، وهو مبعث التثاؤب، وكل فعلٍ مكروه ينسبه الشرع إلى الشيطان؛ لأنه واسطته، والتثاؤب من امتلاء البطن، وينشأ عنه التكاسل، وذلك بواسطة الشيطان، وأضيف التثاؤب إلى الشيطان -كما يقول النووي رحمه الله- لأنه يدعو إلى الشهوات، إذ يكون عن ثقل البدن واسترخائه وامتلائه، والمراد: التحذير من السبب الذي يتولد منه التثاؤب وهو التوسع في الأكل.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع ) هل المقصود: إذا تثاءب يرده بعد انتهاء التثاؤب؟
الجواب: لا. هذا أسلوب تستعمله العرب، إذا تثاءب أحدكم، أي: إذا شرع فيه، إذا بدأ فيه ( فليرده ما استطاع ) يأخذ في أسباب رده، وقيل: إن المقصود إذا تثاءب أي: إذا أراد أن يتثاءب، مثل: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل:98] أي: إذا أردت قراءة القرآن، إذا أردت أن تشرع فيها، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان)، وفي رواية: (فإذا قال: آه)، وفي رواية: (فإذا قال: ها -مرة بتقديم الهاء ومرة بتأخيرها- ضحك منه الشيطان)، وفي رواية: ( فإن الشيطان يدخل ) يدخل مع التثاؤب، وورد في رواية ضعيفة لـابن ماجة : (فليضع يده على فيه ولا يعوي، فإن الشيطان يضحك منه) أي: شبَّه الصوت بعواء الكلب، ولكن هذه الرواية لم تثبت.
الجواب: أما رواية الصحيحين فأكثرها عامة، ليس فيها تقييد بالصلاة، وورد في بعض الروايات تقييده بحال الصلاة، فهناك احتمال أن يحمل المطلق على المقيد، ونقول: الكظم والتغطية والمجاهدة والحبس هو في الصلاة، أو أن نقول: إنه عامٌ، ولكنه في الصلاة يكون أوكد، ولعل هذا هو الأقوى والله أعلم، فإن الشيطان في الصلاة له غرضٌ قوي في التشويش على المصلي، وهناك قاعدة أصولية يذكرها بعض أهل العلم، وهي: أن المطلق إنما يحمل على المقيد في الأمر لا في النهي، وموضوعنا الآن في حديث التثاؤب أمر، وبناءً على ذلك قاعدة حمل المطلق على المقيد لا تنطبق، لأنه هنا قال: ( إذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع؛ فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان) وقال هنا: (فليرده منكم ما استطاع، فإن أحدكم إذا قال: ها، ضحك منه الشيطان) فاللام هنا لا شك أنها لام الأمر، فقال بعضهم: إن المطلق إنما يحمل على المقيد في الأمر لا في النهي، وهذا ظاهره أنه يقيد هاهنا، لكن ابن حجر رحمه الله ذكر في الفتح أن هناك ما يؤيد كراهته مطلقاً وهو كونه من الشيطان، أي: إذا كان التثاؤب من الشيطان هل هناك فرقٌ بين الصلاة وخارج الصلاة؟
حديث كون التثاؤب من الشيطان هل يعني: أنك تجاهده في الصلاة وخارج الصلاة لا تجاهده؟ ما هو الفرق إذا كان كلاهما من الشيطان؟
لكن في حال الصلاة هو أشد، قال ابن العربي رحمه الله: ينبغي كظم التثاؤب في كل حالة، وإنما خص الصلاة؛ لأنها أولى الأحوال بدفعه، ولا شك أن التثاؤب فيه خروج عن اعتدال الهيئة، وفيه اعوجاجٌ للخلقة، والمتثائب إذا أفرط في التثاؤب ربما شابه الكلب، ويرفع رأسه فيه أيضاً، وبذلك يُعلم أن الشيطان إذا دفع العبد إلى التثاؤب فإنه يصيره في وضعٍ كريه، فإن الإنسان لو قدر له أن يرى حاله أمام المرآة وهو يتثاءب لرأى منظراً كريهاً بشعاً، فالشيطان من كيده أنه يدفع للتثاؤب، وهو هيئة كريهة وبشعة، وهو أيضاً يدخل مع التثاؤب، وظاهر الحديث الدخول الحقيقي.
فإن قال قائل: إنه يجري من ابن آدم مجرى الدم؟
فنقول: إذا كان ذاكراً لله يتمكن منه، لكنه إذا تثاءب في تلك الحالة ولم يرده، تمكن الشيطان من الدخول فيه حقيقةً، ولا يمنع أن يدخل فيه وهو يسير منه أو يجري منه مجرى الدم.
والقضايا الغيبية، لا تحكم فيها بالعقول، ونقول: هذا داخل فكيف يدخل؟ وهذا خارج... هذه قضايا مردها إلى الله تبارك وتعالى، فهو يعلم كيفية ذلك.
أي: شخص استطاع أن يجاهد نفسه بألا ينفتح فمه عند التثاؤب، فنقول: يغطيه احتياطاً؛ لأن التثاؤب فيه رغبة قوية في فتح الفم، فاحتياطاً يغطي فمه بيده، أما إذا انفتح فتتأكد التغطية.
هل يلزم وضع اليد بالذات، أو يمكن أن يضع ثوبه؟
لو وضع طرف الغترة أو غطاء الرأس، أو الكم، أو منديل مثلاً، فنقول: المقصود هو التغطية، وليس الشرط أن تكون في اليد، لكن إذا كان لا يستطيع أن يغطي إلا باليد تعينت اليد، مثل ألا يكون عنده شيءٌ قريبٌ يغطي به ونحو ذلك، وتتأكد التغطية في حال الصلاة أيضاً، كما تتأكد مجاهدة التثاؤب في حال الصلاة.
هل إذا تثاءب يستخدم في التغطية باليد اليمنى أو اليسرى؟
الجواب: ليس هناك -والله أعلم- نصٌ في هذه المسألة، ولكن قال بعضهم: يغطي فمه بيده اليسرى؛ لأن مبعثه من الشيطان، وذكر السفاريني رحمه الله كلاماً عن أحد شيوخه، لكن ليس فيه دليل، يقول: قال لي شيخنا التغلبي فسح الله له في قبره: إن غطيت فمك في التثاؤب بيدك اليسرى فبظاهرها، وإن كان بيدك اليمنى فبباطنها.
وهذا التفريق ربما لا دليل عليه، لكن هذا من مراعاة المعنى وليس من مراعاة الدليل، يقول: "والحكمة من ذلك؛ لأن اليسرى لما خبث ولا أخبث من الشيطان، وإذا وضع اليمنى فبباطنها؛ لأنه أبلغ في الغطاء" تحكم بالتغطية بباطن اليد أكثر من الظاهر إذا قلبها.
قال: "واليسرى مُعدَّة لدفع الشيطان، وإذا غطى بظهر اليسرى فببطنها معدٌ للدفع، أي: أن هذا الذي يدفع به، فيجعل الظاهر على الفم والباطن كأنه للدفع، وهذا لم يذكر فيه دليلاً، فالمسألة واسعة إن شاء الله إذا غطى باليمنى أو باليسرى، لكن فيه معنى إذا قلنا: إنه باليسرى لأجل أنه من الشيطان.
وقال بعضهم: "يكره التثاؤب مطلقاً سواءً كان مع الناس أو لوحده"، أي: يقاوم التثاؤب حتى لو كان منفرداً، "ومما يعين على دفع التثاؤب: الإقلال من الطعام والشراب".
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح : ومن الخصائص النبوية ما أخرجه ابن أبي شيبة والبخاري في التاريخ من مرسل يزيد بن الأصم -إذاً هذا مرسل- قال: (ما تثاءب النبي صلى الله عليه وسلم قط)، وأخرج الخطابي من طريق مسلمة بن عبد الملك بن مروان قال: (ما تثاءب نبيٌ قط) ومسلمة أدرك بعض الصحابة وهو صدوق.
إذاً: هو تابعي، ويؤيد ذلك ما ثبت أن التثاؤب من الشيطان، فإذاً أتى بروايتين مرسلتين، وقالوا: ويؤيد ذلك أن التثاؤب من الشيطان، وجاء في الشفاء لـابن سبع: (أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتمطى لأنه من الشيطان) والله أعلم.
هذا بالنسبة لما يتعلق بموضوع التثاؤب.
وأما حديث أبي جحيفة وله عنه طرق:
الأولى: عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: (أكلت خبز بر بلحم سمينٍ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فتجشأت، فقال: احبس أو اكفف جشاءك..... ) الحديث، وزاد قال: (فما أكل
وكذلك من القصص التي وردت، حديث سلمان يرويه عطية بن عامر الجهني قال: سمعت سلمان وأُكِرَه على طعامٍ يأكله، فقال: حسبي، أي: عزموا عليه أن يأكل ويزيد، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أكثر الناس شبعاً في الدنيا، أطولهم جوعاً يوم القيامة).
بعدما ذكر الشيخ طرق الحديث قال في آخره: وجملة القول: أن الحديث قد جاء من طرق عمن ذكرنا من الصحابة، وهي وإن كانت مفرداتها -أي: كل طريق بمفرده- لا تخلو من ضعفٍ، فإن بعضها ليس ضعفها شديداً، ولذلك فإني أرى أنه يرتقي بمجموعها إلى درجة الحسن على أقل الأحوال، والله سبحانه وتعالى أعلم.
على كظم التجشؤ ورده، وهذا فيه أيضاً الإقلال من الطعام، وكذلك تغطية الفم، وحبس الصوت، وكف الرائحة التي تخرج؛ لأن التجشؤ بالذات إذا أكل ثوماً أو بصلاً وتجشأ في المسجد بين المصلين، فإن فيه تنفيرٌ وإيذاءٌ لعباد الله المصلين، وكثيرٌ من الناس يتساهلون في هذا، ولا يبالون به، ويفعلونه في مجامع الناس، ويصدر أقوى ما لديه من الأصوات، وكأنه يرى من الصحة إخراج التجشؤ بأعلى صوت ممكن، ولا يبالي بتغطية فمه ولا بغير ذلك، وإنما يتجشأ بحضرة الناس أو وهم جلوس، أو في حلقة علم، أو في الصلاة، أو في اجتماع الناس، بدون مبالاة، وهذا من قلة الأدب أن يفعل ذلك بحضرة الناس، وخصوصاً أن التجشؤ غالباً يكون مصحوباً برائحة كريهة، خصوصاً عند أكل الثوم أو البصل أو الكراث.
ليس هناك دليلٌ في الموضوع والله أعلم، وقال ابن مفلح رحمه الله: ولا يجيب المجشئ بشيءٍ، فإن قال: الحمد لله، قيل له: هنيئاً مريئاً، أو هنَّاك الله وأمراك، ذكره في الرعاية الكبرى، وكذا ابن عقيل ، وقال: لا نعرف فيه سنة، بل هو عادةٌ موضوعة، وذكر أن بعض الأطباء قالوا في علاج التجشؤ: ينفع فيه الكراويا أو الصعتر، أو النعناع مضغاً أو شرباً، أو الكندر مضغاً أو شرباً.
أما بالنسبة للبصاق فالأصل أن ماء فم الإنسان طاهر ما لم ينجسه نجس، أما ما يتعلق بالبصاق من الأحكام، فإنها كثيرة؛ فمن ذلك: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في عددٍ من الأحاديث، ولنذكر بعضها (إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى) قاله النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى نخامة في جدار المسجد فتناول حصاة فحكها ثم قال.. الحديث رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم، وكذلك جاء عند أبي داود وهو حديث صحيح: (التفل في المسجد خطيئة وكفارته أن يواريه)، وجاء أيضاً عند أبي داود من حديث أبي سعيد وهو حديث حسن: (أيسر أحدكم أن يُبصق في وجهه؟ إن أحدكم إذا استقبل القبلة إنما يستقبل ربه عز وجل، والملك عن يمينه، فلا يتفل عن يمينه ولا في قبلته، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه، فإن عجل به أمرٌ فليتفل هكذا) أي: في ثوبه، وروى النسائي والحاكم والبيهقي وغيرهم وهو حديث حسن: (إذا صليت فلا تبصق بين يديك ولا عن يمينك، ولكن ابصق تلقاء شمالك إن كان فارغاً، وإلا فتحت قدميك وادلكه) وأحاديث البزاق أخرجها الإمام البخاري رحمه الله في الصحيح ، وقال: باب حك البصاق باليد من المسجد، وجاء في حديث أنس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامةً في المسجد فحكها).
أما النووي رحمه الله فإن رأيه المنع في كل حالة، داخل الصلاة وخارجها، سواءً كان في مسجد أو غيره، وجاء عن مالك أنه قال: لا بأس به خارج الصلاة، وقال ابن حجر : يشهد للمنع عن ابن مسعود أنه كره أن يبصق عن يمينه وليس في صلاة، عندنا الآن جهتين منهي عن البصق فيها: جهة القبلة والجهة اليمنى، هل هذا خاص بالصلاة؟ وإلا لو أن إنساناً يمشي في الشارع لا يبصق في اتجاه القبلة ولا يبصق عن يمينه.
قال ابن حجر رحمه الله: ويشهد للمنع ما رواه عبد الرزاق وغيره، عن ابن مسعود: [أنه كره أن يبصق عن يمينه وليس في صلاة]، وعن معاذ بن جبل قال: [ما بصقت عن يميني منذ أسلمت] وعن عمر بن عبد العزيز أنه نهى أبناءه عنه مطلقاً، فالذين قالوا: إنه مخصوص بحالة الصلاة، قالوا: إنه قال في حديث أبي هريرة : (فإن عن يمينه ملكاً) فإذا قلنا: إن الملك هذا غير الكاتب والحافظ؛ لأن هناك ملكاً يكتب، وملائكة تحفظ، فيظهر عند ذلك اختصاصه بحال الصلاة، أي: هناك ملك غير الحافظ، ملك في الصلاة يكون عن يمين المصلي، فغير الصلاة لا يكون فيها، إذاً: يجوز أن يبصق خارج الصلاة عن يمينه، هؤلاء الذين قالوا: إن العلة وجود ملك -فهموا الحديث- في الصلاة عن يمين المصلي.
والقاضي عياض رأيه أن النهي عن البصاق عن اليمين في الصلاة إنما هو مع إمكان غيره، فإن تعذر فله ذلك، أي: إذا لم يتمكن أن يبصق في جهة أخرى غير اليمين، ولذلك قال ابن حجر : لا يظهر وجود التعذر مع وجود الثوب الذي هو لابسه، فإنه يمكن مثلاً أن يأخذ طرف الثوب ويبصق فيه عن الجهة اليسرى مثلاً، وإذا كان عن يساره أحد -طبعاً المساجد من قديم كان فيها تراب وحصى- فإذا كان في المسجد تراب وأراد أن يبصق يبصق عن يساره تحت قدمه اليسرى ويدلكها بالتراب وتنتهي، لكن الآن المساجد ليست مفروشة لا بالحصى ولا بالتراب ولا بالرمل، فإذاً: لو بصق ستكون في السجاد فيحصل تلويث وتقذير للمسجد. إذاً: ما هو الحل؟
أن يخرج منديلاً فيبصق فيه أو يبصق في طرف الثوب إذا احتاج لذلك، فقد يكون فيه علة حيث يجتمع البلغم ونحو ذلك ويسد مجرى التنفس ولا يستطيع القراءة ولابد من إخراجه، فإذا احتاج إلى البصاق، فماذا يفعل؟
يبصق عن يساره في ثوبه، أو في منديل، أما البصاق على الأرض تحت القدم اليسرى هذا محله إذا كان في مكانٍ فيه رملٌ أو تراب أو نحوه بصق تحت قدمه اليسرى ودلك ذلك حتى يذهب أثرها، كما إذا كان يصلي في أرضٍ مكشوفة في الرمل.
وبالنسبة للنخامة والبصاق، والنخامة والنخاعة: شيءٌ ينزل من الأنف إلى الحلق، والأخرى شيء يصعد من الصدر إلى الحلق، فهذا الفرق بينهما، فحكمها حكم البصاق، لكنها أشد من جهة أنها لعابٌ فيه شيءٌ مخلوط به مما يتقذر به بزيادة.. البلغم والنخامة والنخاعة أشد من مجرد البصاق، لكن حكمها حكمه، أي: قضية اليمين والشمال ونحو ذلك حكمها حكمه، أي: إذا أراد أن يمتخط في الصلاة فأخرج منديلاً يلتفت إلى اليسار ويمتخط.
هنا قال بعضهم: إنما تكون خطيئة إذا لم يدفن، أما إذا دفنت فلا تكون خطيئة، لكن هذا لعله ليس هو الأقوى؛ لأن مجرد فعله في المسجد لوحده فيه ما فيه، لكن قال ابن حجر رحمه الله تعالى يستدل برواية أحمد بإسنادٍ حسن، من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعاً: (من تنخم في المسجد فليغير نخامته أن تصيب جلد مؤمنٍ أو ثوبه فتؤذيه) قال: وأوضح منه في المقصود ما رواه أحمد والطبراني بإسناد حسن، من حديث أبي أمامة مرفوعاً: (من تنخع -من النخاعة- في المسجد فلم يدفنه فسيئة، وإن دفنه فحسنة) فلم يجعله سيئة إلا بقيد عدم الدفن، وفي حديث مسلم مرفوعاً قال: (ووجدت في مساوئ أعمال أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن) فهذا يدل على رأي القائلين بأنها تكون خطيئة إذا لم تدفن، فإذا دفنت لم تعد خطيئة ولا تكتب خطيئة.
وذَكَر قصة لطيفة: روى سعيد بن منصور، عن أبي عبيدة بن الجراح، أنه تنخم في مسجد ليلةً فنسي أن يدفنها حتى رجع إلى منزله، فأخذ شعلة من نار، ثم جاء فطلبها حتى دفنها، ثم قال: [الحمد لله الذي لم يكتب عليَّ خطيئة الليلة] فدل على أن الخطيئة تختص بمن تركها لا بمن دفنها؛ لأن هذا تراب لو ألقى عليه ما ألقاه ثم دفنه زال المحذور، والعلة المذكورة في الحديث: إيذاء المؤمن، فإذا دفنها زالت العلة.
إذاً: هناك من العلماء من يقول: لا يلقيها في المسجد أصلاً، وهناك من يقول: إذا دفنها فلا حرج في إلقائها، وكذلك لو جعلها في ثوب فهو جائز حتى لو كان في مسجد.
وعند أبي داود من حديث عبد الله بن الشخير: (أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فبصق تحت قدمه اليسرى ثم دلكه بنعله) إسناده صحيح، والظاهر أن ذلك كان في المسجد فيؤيد ما تقدم.
وتوسط بعضهم، فحمل الجواز على ما إذا كان له عذرٌ، كأن لم يتمكن من خروج المسجد، أي: لو كنت في المسجد واحتجت إلى إخراجها فاخرج إلى خارج المسجد وألقها، لكن لو كنت في الصلاة ولا تتمكن من الخروج خارج المسجد فماذا تفعل؟ فعند ذلك يجوز إلقاؤها في المسجد، لكن بدون تقذير أو تجعلها في منديل.. ونحو ذلك. قال ابن حجر رحمه الله: وهو تفصيلٌ حسن، والله أعلم.
وينبغي أن يفصل أيضاً بين من بدأ بمعالجة الدفن قبل الفعل كمن حفر أولاً ثم بصق وأورى، وبين من بصق أولاً بنية أن يدفن مثلاً، فأيهما أحسن؟ الذي يهيئ المكان قبل أن يبصق فيه كحفرٍ ثم يدفنه فيه أولى من إبرازها ثم دفنها.
وقال الجمهور: يدفنها في تراب المسجد أو رمله أو حصبائه، هذا أيضاً بناءً على أن المساجد مفروشة بالتراب أو الحصباء.
وأورد كذلك البخاري رحمه الله في باب دفن النخامة في المسجد حديث أبي هريرة: (إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يبصق أمامه، فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكاً، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنها) هذا بالنسبة لاستدلاله بالحديث على كونه في المسجد، وقال في حديث: (إذا بدره البزاق فليأخذ بطرف ثوبه) عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة فحكها بيده، ورئي منه كراهية، وقال: إن أحدكم إذا قام في صلاته، فإنما يناجي ربه، فلا يبزقن في قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدمه، ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه ورد بعضه على بعض، قال: أو يفعل هكذا) يعني: النبي صلى الله عليه وسلم أخذ طرف الثوب فبصق فيه ورد بعضه على بعض، كأنه أغلقه عليه ومسحه بحيث أنه لا ينتقل إلى شيءٍ آخر، ثم قال: (أو يفعل هكذا) فإذا عرض البصاق فهذا الإرشاد إلى ما يفعل، هكذا تكون الطريقة.
الحديث فيه إزالة هذه الأشياء من المسجد وتفقد الإمام أحوال المسجد، وإزالة الأذى منه، وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم، واستدلوا بالحديث على أن خروج الصوت مثل النحنحة والنفخ في الصلاة لا يبطلها، ولكن بعضهم قال: إذا خرج منه أحرف هجاء أكثر من حرفين تبطل الصلاة؛ لأنه صار كلاماً عندهم، ولكن المسألة في قضية التعبد إذا تعمد أن يتكلم في الصلاة بكلام أجنبي بطلت وإلا فلا؛ لأنه إذا تنخم خرج حرف الخاء على سبيل المثال.
هذا ما سنقف عنده في هذا الموضع، وبقي أشياء يسيرة في البصاق والنخامة والنخاعة نتكلم عليها إن شاء الله تعالى.والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر