يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار.
تكلمنا في الخطبة قبل الماضية عن بعض أبواب الخير التي فيها أجر عظيم يجهلها أو يهملها كثير من المسلمين، وكنا نُريد إكمال تلك الخطبة بخطبةٍ أٌخرى كما فعلنا في المنكرات التي استهان بها الناس، وقطعنا بين ذلك، وهذه خطبة عن حكم مشاركة الكفار في أعيادهم لمناسبة تلك الخطبة في ذلك التاريخ، ومعلوم ما شاهدناه أيها الاخوة! من مشاركة كثير من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها للكفرة، وشاهدنا بأعيننا ما أخبرنا عنه صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمة من أنها ستتبع سنن من كان قبلها حذو القذة بالقذة.
بل وجدنا بعض أبناء المسلمين يتحمسون لأعياد الكفار أكثر من تحمس الكفار أنفسهم، وأشرنا إلى أن الأعياد التي ابتدعها الكفرة كلها محرمة في دين الله وإن كان ظاهرها الخير والفائدة، فمثلاً: لا يجوز الاحتفال معهم ولو كان الاحتفال بعيد ميلاد المسيح، كما لا يجوز لنا أن نحتفل بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أن نعمل بدعاً وموالد، وكذلك لا يجوز الاحتفال بسائر الأعياد، كعيد الأم أو عيد الأب، أو الطفولة، أو المعلم، أو عيد الوطن، أو عيد الثورة أو عيد العمال، أو عيد الربيع ... إلى آخر هذه البدع التي جاءتنا من الكفرة.
وقد آلمني قصة نقلها إليَّ بعض الإخوان، فقال: إن رجلاً من المسلمين دخل على أٌمه قبل فترةٍ من الزمن، فقالت له: أين هديتي؟ فقال لها: وأية هدية؟ فقالت: ألا تعلم بأن اليوم عيد الأم، وهذا فلان صاحبك أو قريبك قد أهدى لأمه هدية بهذه المناسبة، فلماذا لا تهدي إلي؟! تغلغلت البدع حتى عند بعض العجائز، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأولئك الكفرة المجرمون يبرون بأمهاتهم يوماً من السنة ويعقونهن بقية الأيام، فأي برٍ هذا؟! وديننا يأمرنا أن نبر أمهاتنا وآباءنا كل يوم وساعة، فأيهما أعظم؟
وتحويل البر وسائر الأنواع من الخيرات إلى مناسبات معينة يحتفل بها في السنة ثم تُنسى هذه الأمور في بقية السنة، فهذا ليس من العقل والدين في شيء.
وهذه سنة ضائعة؛ إذ قلما يُسافر أناسٌ في هذا الزمان سفراً نيتهم فيه زيارة إخوانهم في الله في الأماكن الأخرى، وهذا أمر لو تحقق لساعد في إقامة العلاقات والروابط بين المسلمين، ولو تناءت ديارهم، وتباعدت أقطارهم، وعندما يُسافر المسلم بمشقة السفر ليزور أخاً له في الله، فإنه يُدلل على قيام أركان الأخوة الإيمانية في قلبه.
فانظر الآن كم من إخوانك المسلمين يتعرضون للغيبة ونهش اللحوم في المجالس أمامك وأنت تسمع! ثم قل لي بربك: ماذا فعلت أمام هذا الهجوم من هؤلاء آكلي لحوم البشر كما شبههم الله عز وجل؟! هل قمت بحق الدفاع عن أخيك المسلم -على الأقل- حتى يُكتب لك هذا الأجر؟! وزد على ذلك حتى لا تكون ساكتاً في هذا المجال، والساكت عن الحق شيطان أخرس.
ثم إننا قد استسهلنا -أيها الاخوة- غيبة إخواننا المسلمين في المجالس حتى كانت هذه الانتقادات والغيبات ديدن الكثيرين في مجالسهم بحيث لا يستطيعون الانفكاك عنها، ولو كان من عقلاءِ عبادِ الله من يقوم في المجالس ويعظهم، ويقول: يا فلان! أمسك عليك لسانك لمَا حصل هذا الاستشراء الشيطاني لهذه الغيبات للمسلمين في المجالس، وإنك تجد أن المغتاب يأتي إلى المجلس فيشترك هو ومن اغتابه قبل قليل في غيبة شخصٍ ثالث ... وهكذا.
وإننا لنسمع أن فلاناً مرض ثم قام من مرضه ولم يره أحد، أو عاده نفرٌ يسير من أقربائه، زوروا مرضاكم! وادعوا لهم عند حضوركم فرشهم، فإن الملائكة تؤمن والله يستجيب، وقد يُشفى من مرض خبيث ببركة دعائك أنت يا أيها الأخ المسلم.
ولا تصطحب معك ورداً ولا تشابه الكفرة، بل سن في زيارة المرضى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو بحاجةٍ شديدة إلى دعائك وسؤالك واهتمامك وليس إلى باقات وردك.
أنتم يا من تسألون: مات الأب ماذا نفعل له من القرب؟أخبرنا ماذا نفعل له من الطاعات؟ إحدى الأشياء التي تستطيعون فعلها أن تصلوا إخوان آبائكم وزملاءهم وأصدقاءهم بعد أن يُولي الأب.
وأيضاً لا يعني هذا أن نترك التزين لمجالس العلم والوعظ والخطب في المساجد! كلا. بل هذه هي السنة، ولكن انظر اليوم إلى حجم المصروفات التي ينفقها الناس على ثيابهم، وكم تبلع الأسواق التجارية ومحلات الملابس من أموال المسلمين، والملابس التي تجدد كل موسم بدون حاجة بل لمجرد أن الموضة قد بطلت كما يزعمون! لتعلم بعد ذلك كم من الأموال تذهب هدراً والمسلمون في أقطار الأرض يحتاجون إليها.
وفي حديث آخر مرسل صحيح رواه محمد بن نصر المروزي في كتاب تعظيم قدر الصلاة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام الرجل يتوضأ ليلاً أو نهاراً فأحسن الوضوء واستن، ثم قام فصلَّى، أطاف به الملك ودنا منه حتى يضع فاه على فيه، فما يقرأ إلا في فيه، وإذا لم يستن أطاف به ولا يضع فاه على فيه) فانظروا! إلى فائدة هذا السواك في قيام الليل كيف أجلَّ الله صاحبه بإرسال هذا الملك المخصص لهذا الغرض؟!
فهذا إخلاص النية في إتيان المساجد لشهود صلاة الجماعة، ونحن نهدي هذا الحديث إلى المتأخرين عن الصلوات الذين لا يحتسبون أجراً ولا ثواباً اللهم إلا العادة في الخروج، ونهديه كذلك إلى الذي إذا تأخرت إقامة الصلاة شيئاً فإنهم يتململون في مجالسهم، ويتلفتون يميناً وشمالاً، وينظرون في ساعاتهم كأن خطباً جللاً ومصيبةً حلَّت بهم، ينتظرون متى يخرجون؟ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:50-51] مع أن جلوسهم في المسجد ينتظرون الصلاة له أجر كأنهم في الصلاة، بل كأنهم من القانتين، فهل ترى بعد ذلك سيستعجلون وليس وراءهم حاجة تلجئهم إلى الاستعجال.
وورد: سبحان الله خمساً وعشرين، والحمد لله خمساً وعشرين، ولا إله إلا الله خمساً وعشرين، والله أكبر خمساً وعشرين، فهذه مائة.
وورد كيفية ثالثة: سبحان الله عشراً، والحمد لله عشراً، والله أكبر عشراً، فهذه كيفية أخرى، فتنوعت الكيفيات، وإن كان الأكثر التسبيح ثلاثاً وثلاثين كما هو واضح من الروايات.
ثم ذكر عليه الصلاة والسلام الخصلة الثانية .. (ويكبر أربعاً وثلاثين إذا أخذ مضجعه، ويحمد ثلاثاً وثلاثين، ويسبح ثلاثاً وثلاثين) فصار المجموع مائة: أربعة وثلاثون تكبيرة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وثلاث وثلاثون تسبيحة قبل النوم، فتلك مائة باللسان، وألف في الميزان، فأيكم يعمل في الليلة ألفين وخمسمائة سيئة، يقول عليه الصلاة والسلام: (أيكم يعمل ألفين وخمسمائة سيئة في اليوم) أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22] ألفين وخمسمائة حسنة بهذه الأذكار بعد كل صلاة وقبل النوم، حديث صحيح.
وأقول أيها الإخوة: أرجو أن تعتبروا أن هذا الكلام الذي تسمعونه وكأنكم تقرءونه من كتاب، فإن مسئوليتي والله عظيمة، وأنا لا أرى أنني أقوم بهذه الأمور ثم أنصحكم بها، بل إنني أتواصى وإياكم -إن شاء الله- بالحق والصبر، فاعتبروها كأنكم تقرءونها في كتاب.
الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، سبحانه وتعالى جلَّ شأنه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الذي هدى الله به الناس وأرسله رحمةً للعالمين، فبيَّن لنا أبواب الخير وأمرنا أن نلجها، وبيَّن لنا أبواب الشر وحذَّرنا من ولوجها.
قال صلى الله عليه وسلم: (أحب الناس إلى الله أنفعهم) من الأعمال -أيها الإخوة- ما يقتصر نفعه على الشخص، ومنها ما يعم اثنين أو ثلاثة، ومن الأعمال ما يعم نفعها خلقاً كثيراً من الناس، فكلما كانت المنفعة لعباد الله أكثر كلما كان أجرك أكثر.
ويقول: (.. وأحب الأعمال إلى الله -عز وجل- سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً) بعض الناس يذبحون للضيوف، لكنه قد لا يعزم إلا كبار القوم ويترك الضعفاء والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (شر الطعام طعام الوليمة يُدعى إليها الأغنياء، ويترك الضعفاء والفقراء)، وأيضاً تجد الأغنياء عندما يذبحون قد لا يدور في بالهم النية الحسنة بإطعام الناس الطعام، وإنما العادات تقتضي ذلك، ولا يدور في باله الأجر المترتب على إطعام الطعام وهذه غفلة عظيمة، يقول: (ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهراً) هذا الأجر وزد على ذلك ما تنشئه هذه الأعمال في نفس الأخ المسلم الآخر.
ذكر لي أحدهم قال: رأيت رجلاً قد تغير عليه إطار سيارته في الطريق. وهو واقف يؤشر للسيارات، فنزلت إليه فأخذت هذا الإطار وليس عنده إطار احتياطي، ثم أخذنا الإطار بسيارتي، وذهبنا إلى الورشة البعيدة وأصلحناه ورجعنا إلى السيارة، وركّبت له الإطار وهو قائم لا يتحرك، ثيابه ناصعة البياض وصاحبنا قد اتسخت ثيابه، يقول: هذا الرجل كان مندهشاً طيلة الوقت، كيف؟!
السبب في عدم المشاركة أنه مندهش، كيف أقف؟ ثم آخذه إلى المكان البعيد ثم أرجعه ثم اشتغل له بنفسي؟! فانتهزتها فرصةً لأدعو الرجل إلى الله وأذكره، وإذا به يقول: إن لي ولداً متديناً مثلك، لكني في الحقيقة أقوم عليه وأنتقده وأظن أنه يضيع نفسه ودراسته بهذا التدين، والآن من تصرفك بانت لي حقيقة الأمر.
وهذا -أيها الإخوة- من فوائد مساعدة الناس، أن يقوم المستقيمون بتقديم الخدمات للناس، عسى الله أن يهدي الله بهم هذه الفرق والطوائف.
وقال عليه الصلاة والسلام: (.. ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل).
قال صلى الله عليه وسلم: (اتق الله! ولا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وأن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط) كم يأخذ من الوقت إذا أتى إنسان بشيءٍ فارغ فتملأ له ثم تملأ لنفسك؟ لا شيء! لكن لا تحقرن من المعروف شيئاً، فقد تكون هذه مرجحةً لكفة حسناتك يوم القيامة.
وقال عليه الصلاة والسلام: (أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلن قلبك، وتدرك حاجتك) مسح رأس اليتيم عمل يلين القلب، فإذا رأيت -أيها المسلم- يتيماً فامسح على رأسه، ومن مات أبوه ولم يبلغ سن الحُلم فإنه يتيم، فامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، فإن الله يلين قلبك، ويأجرك على هذا أجراً عظيماً.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من كَظَم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء) أي: غضب وكظم الغضب، وتوقف ولم ينتقم، دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يٌخيره من الحور العين يُزوجه منها ما شاء.
أبواب الخير كثيرة، ولكن أين الوالجون؟
أبواب الخير أجورها كثيرة ولكن من الذي يعمل؟
ومن رحمة الله أن عدَّد لنا أبواب الخيرات، وضاعف الحسنات، ولكن أيها الإخوة! نحن في كسل وخمول، انشغال بالمعاصي، وغفلة عن الخيرات.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يُحبب إلينا الإيمان وأن يزينه في قلوبنا، وأن يكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأن يجعلنا من الراشدين.
اللهم ليِّن قلوبنا وثبتها يا مقلب القلوب، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً، اللهم انصر إخواننا المسلمين في كل مكان، اللهم أهلك اليهود وأعداء الدين، اللهم واجعلهم غنيمةً للمسلمين، اللهم قنا شر أنفسنا، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر