أما بعد فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
معاشر المؤمنين! جرى الحديث من فوق هذا المنبر في جمعٍ ماضية عن منهج أهل السنة في الإصلاح، ومنهج أهل السنة في معالجة الأوضاع وإنكار المنكرات والمحافظة على بيضة الأمة، والعناية بالمجتمع حتى لا تزل قدمٌ بعد ثبوتها، أو يخطئ أحدٌ بقصد الإصلاح، فيكون كمن رام نفعاً فضر من غير قصدٍ، ومن البر ما يكون عقوقاً، وأول مواضيع هذا المنهج ما سبق الحديث حوله في خطبة كان عنوانها (الجور بالقول) ثم لحقه خطبتان الأولى بعنوان: (عندما يختل الأمن) والثانية: (دور الحاكم والمحكوم في الأمن) وهذه الخطبة الأخيرة في هذا الموضوع.
أيها الأحبة! تعلمون أن منهج أهل السنة والجماعة قائمٌ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قائمٌ على الغيرة لله ورسوله، والنصيحة لله ورسوله وكتابه وأئمة المسلمين وعامتهم قائمٌ على تقدير المصالح، فربما ارتكبت أدنى المفاسد لدفع أعلاها، وربما فوتت أدنى المصالح لتحقيق ما هو أعظم منها، والحديث اليوم عن صورٍ من التاريخ، اجتهد فيها المجتهدون، وكان بعضهم لا شك مريداً وجه الله والدار الآخرة، لأجل الإصلاح وإنكار المنكر، وقطع الشر ودابره، ولكن يبقى منهج أهل السنة والجماعة هو المنهج الذي ينبغي لزومه في كل منشطٍ ومكره، وفي كل عسرٍ ويسر، وفي كل صغيرٍ وكبير إذ أن الخروج عن المنهج مهما كان صلاح الخارجين عنه، ومهما كان قصدهم وتأويلهم في ذلك، سواء علموا أنهم في خروج عن المنهج أم لم يعلموا، سواءً اجتهدوا فأصابوا أو أخطئوا، المهم أن ندرك أن الالتزام بهذا المنهج يحفظ للأمة مصالح عديدة، وإن الإخلال بتطبيقه أو بمفرداته ربما أدى وأفضى بالأمة إلى هلاكٍ وعاقبة لا تحمد، أيها الأحبة، على مر عصور التاريخ بعد انقضاء زمن النبوة على نبينا أفضل الصلاة والسلام، ثم تبعه بعد ذلك منهج الخلافة الراشدة، تولى خلافة الأمة بعد رسول صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق ، ثم عمر بن الخطاب ، وقتل إمام المسلمين شهيداً في المحراب، بفتنةٍ سبأية يهودية، ثم تلا الأمر وتولاه بعد ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه، الذي بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة على فتنة تصيبه، ثم تولى الأمر بعد ذلك علي بن أبي طالب ، وكان شهيداً من شهداء أهل الجنة، ثم تعاقبت بعد ذلك على أمم المسلمين خلافاتٌ وقياداتٌ وإماراتٌ متعددة، كان فيها من الفتن بين المسلمين أنفسهم، كان فيها من القتال بين المسلمين أنفسهم، الأمر الذي ما حمدت عاقبته بكلام أئمة السلف وليس بكلام المتأخرين في هذا العصر.
أيها الأحبة! الجواب في ذلك جليٌ واضح، فالذين أحسنوا المقاصد، وصلحت نواياهم كانت ذكريات الخلافة الراشدة بما فيها من العدل والأمن والطمأنينة وشوكة الدين وغلبة المعروف ماثلةً بين أعين كثيرٍ من المسلمين، كانوا يتمنون أن تعود الأمور كما كانت عليه، وليس هذا بأماني من أراد، فقد ورد في كل عامٍ ترذلون وتنقصون ولا تزيدون.
إن الحنين دائماً إلى النماذج الراشدة، مستمرٌ، إن الحنين دائماً مستمرٌ إلى صور الأمن الذي لا يكدره فزع، والعدل الذي لا يشوبه ظلم، والعطاء الذي لا تقطعه منّة، ولكن سنة الله في العباد وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:118-119].
أيها الأحبة! حينما اختل المنهج الشرعي أصيب المسلمون بخيبة أملٍ كبيرة وبمرارة ومعاناةٍ شديدة، حينما بلغ الأمر إلى إماراتٍ ربما أنكر المسلمون منها أموراً كثيرة.
فعلى سبيل المثال: في زمن الدولة الأموية لما حلت الخلافة ونزلت إلى بلاط يزيد بن معاوية ، حل في قلوب الناس ما حل، ومن الذين خرجوا ولم يرضوا بواقعهم، ولم يرضوا بإماراتهم ومجتمعاتهم، أقوامٌ رأوا ظلماً أو نوعاً منه أو أنواعا، فقصدوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتهدوا في إصلاح ما فسد لا يريدون إلا الخير والإصلاح، ولكن كانت العاقبة وخيمة سيئة عليهم وعلى مجتمعاتهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصدهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالذين خرجوا بـالحرة وبـدير الجماجم على يزيد والحجاج وغيرهما، فالخروج على الولاة كان منذ زمنٍ قديم إما من أقوامٍ رأوا ظلماً وعدواناً أو منكراً فأرادوا تغييره، أو أقوامٍ يرون أن لهم في الخلافة حظاً ونصيباً فيريدون أن يعود الأمر إليهم، وبالجملة فالخارجون على الولاة إما خوارج أو محاربون أو البغاة، وهم الذين يخرجون على الإمام العادل طلباً للملك والإمامة بتأويلٍ سائغٍ أو غير سائغ، فيسمون بغاة. حتى وإن خرجوا بتأويلٍ سائغ يسمون بغاة، وإن خرجوا بتأويلٍ غير سائغٍ فيسمون بغاة، ومن الذين خرجوا أقوامٌ أهل عدلٍ خرجوا على أئمة جور، كما قال الحافظ ابن حجر : قسمٌ خرجوا غضباً للدين من أجل جور الولاة، ومن أجل ترك عملهم بالسنة فهؤلاء أهل حقٍ، ومنهم الحسين بن علي وأهل المدينة بـالحرة والقراء الذين خرجوا على الحجاج، وإن التاريخ لناطقٌ شاهدٌ بما حل بهؤلاء رضي الله عنهم وجمعنا بهم في الجنة.
واستقر الحسين في مكة وبدأ الناس يفدون إليه ويلتفون حوله ويعظمونه، وبدأت الرسائل ترد عليه من العراق ، من الكوفة ، يدعونه إليهم لينصروه ويحاربوا به الدولة اليزيدية، وكأن هذه الكتب لاقت أذناً صاغية من الحسين ، كانت الولاية لـمعاوية ثم تولى الأمر بعد معاوية يزيد، وكان يزيد غير مرضيٍ في نظر الكثير من التابعين والصحابة رضوان الله عليهم.
الحاصل أن الرسائل وردت إلى الحسين رضي الله من الكوفة يدعونه لنصرته ومقاتلة يزيد ، وكأن هذه الكتب لاقت أذناً صاغية من الحسين ، فأرسل مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى الكوفة لأخذ البيعة له قبل وصوله، وبالفعل وصل مسلم بن عقيل إلى الكوفة وبدأ يأخذ البيعة للحسين ، وبايعه ثمانية عشر ألفاً من الرجال الأشداء الأقوياء ذوي الشوكة والسلاح والآلة، فكتب مسلم إلى الحسين: أن اقدم إلينا فقد بايعنا لك ثمانية عشر ألفاً، وفي ذلك الوقت كان يزيد بن معاوية قد ولى عبيد الله بن زياد على الكوفة فقتل عبيد الله بن زياد -والي يزيد - قتل مسلم بن عقيل بن أبي طالب -رحمه الله- وفي ذلك الوقت كان الحسين في الطريق إلى العراق، ففوجئ الحسين بجيش عبيد الله بن زياد يمنعه من الدخول إلى الكوفة ، بل أصر عبيد الله بن زياد يفاوض ويحاور الحسين ويأمره أن يسلم نفسه أسيراً إلى ابن زياد لتسليمه إلى يزيد بن معاوية ، وهكذا نشبت على أرض كربلاء معركة غير متكافئة وقاتل الحسين بجيشه الصغير قتالاً شديداً، وكان الحسين رضي الله عنه رجلاً مغواراً شجاعاً ما أقبل على ميمنة إلا فلها، وما أقبل على ميسرة إلا كسرها، وما أقبل على جمعٍ إلا شتته وأباد خضراءه ولكن سنة الله غالبة في كل حال.
اتفق أهل المدينة على الثورة وأمروا عليهم الأمراء، وأخرج أهل المدينة واليهم عثمان فقتلوه، وأخرجوا جميع بني أمية من المدينة، وعندما علم الخليفة يزيد بما حصل قرر على الفور مهاجمة المدينة وإرجاعها خاضعة إلى طاعته، فجهز جيشاً عدته عشرة آلاف جندي وجعل أميرهم مسلم بن عقبة المري، يسميه أهل السنة مسرف بن عقبة لأنه أسرف في الدماء، وأسرف في استباحة رقاب القراء، وأسرف في استباحة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
طلب يزيد بن معاوية من أميره الذي بعثه لإخضاع المدينة ، طلب من مسلم بن عقبة أن يدعو أهل المدينة ثلاثة أيام فإن رجعوا إلى الطاعة تركهم وإلا فليقاتلهم، ثم طلب منه أن يستبيح المدينة ثلاثة أيام، وقال له: إذا قدمت المدينة فمن عاقك عن دخولها أو نصب لك حرباً فالسيف السيف لا تُبْقِ منهم، أجهز على جريحهم، واقتل مدبرهم وإياك أن تبقي عليهم، هذه من الفتن التي ربما سعى الواحد فيها بكلمة وهو لا يدري، أو بخطوة وهو لا يدري، وقد جاءنا في منهج نبينا صلى الله عليه وسلم حال الفتن أن من كان ماشياً فليقف، ومن كان واقفاً فليقعد ومن كان قاعداً فليضطجع هروباً وبعداً ونأياً عن مثل هذه الفتن، قدم مسلم بن عقبة، بل مسرف بن عقبة، لثلاثٍ بقين من ذي الحجة سنة 63 هجرية فاقتتل الناس ساعة والنساء والصبيان يصيحون وينوحون على قتلاهم، وجعل مسرف بن عقبة يقول من جاء برأسٍ فله كذا وكذا، ومن جاء بأسيرٍ فله كذا وكذا، وجعل يغري أقواماً لا دين لهم، فقتلوهم إلا قليلاً وقتلوا ما لا يحصى ولا يعد، واستبيحت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، حصل فيها من المآسي والفظائع وجالت الخيل في المدينة يقتلون وينتهبون والخيل تجول في كل جهة قتلاً ونهبا، حتى لم يبق من الناس أحدٌ يرفع سيفاً أو يرمي بسهمٍ أو يلوح بنبلٍ، وقد نقل الواقدي عن عبد الملك بن جعفر قال: سألت الزهري كم بلغ القتلى يوم الحرة قال: أما من قريش والأنصار ومهاجرة العرب ووجهاء الناس فسبع مائة قتيل، وأما سائر من قتلوا غير هؤلاء فقد بلغوا عشرة آلاف، عشرة آلاف وسبعمائة قتيل في فتنة كان باعثها رضوان الله، كان قصدها وجه الله، كان باعثها الغيرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهي متى؟ عام ثلاثة وستين للهجرة، يعني بعد موت النبي بثلاثة وخمسين سنة، وقتل الحسين قبلها بأقل من ذلك، فما بالنا في هذا الزمان بعد موت نبينا، أو من هجرة نبينا (1414هـ) إن الأمر جدُّ خطير يا عباد الله، ولأجل ذا نعيد ونزيد ونكرر ونقول لجميع الشباب خاصة، ولجميع أهل الخير والآمرين وذوي الغيرة الذين ما علمنا في قلوبهم إلا حب الله ورسوله، وما علمنا في قلوبهم إلا الغيرة على دين الله وكتابه وسنة نبيه نقول:
من الضرورة أن نستحضر هذه الحوادث، وأن نتذكر تلك الوقائع حتى لا يجرفنا الحماس أو تمضي بنا العاطفة إلى أمرٍ لا نحمد عاقبته، ولو بكلامٍ نقوله في مجلسٍ بمجرد الحديث وتبادل الآراء في تلك الوقعة التي استباح بها مسرف بن عقبة المري مدينة رسول الله أصيب نساءٌ وصبيان بالقتل، وقتل جماعة من وجوه قريش والأنصار وخيار الناس من الصحابة وأبنائهم، عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يروي قائلاً: قتل يوم الحرة ثمانون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق بعد ذلك بدري، وعن ابن وهب بن مالك قال: قتل يوم الحرة سبعمائة رجل من حملة القرآن، من حملة كتاب الله جل وعلا، وعلق شيخ الإسلام ابن تيمية على وقعة الحرة فقال عن يزيد : وهذه من كبائره ولهذا قيل لـأحمد بن حنبل رحمه الله أتكتب الحديث عن يزيد قال: لا، ولا كرامة أوليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل، وقال ابن كثير : وقد وقع في هذه الأيام الثلاثة من المفاسد العظيمة ما لا يحد ولا يوصف، ومما لا شك فيه أن من قام على يزيد بن معاوية لو كانوا يعلمون أن الأمور ستئول وتفضي إلى ما آلت إليه من قتل بعض الصحابة والقراء ووجهاء المهاجرين والأنصار؛ ما رفعوا سيفاً وما أشاروا بنبلٍ أبداً .
لله درها من أمٍ شجاعة مغوارة تعلّم وتغرس في أبنائها الشجاعة، ولكن تأويل ابن الزبير أو ما كان من ابن الزبير رضي الله عنه ما كان محمود العاقبة فيما جرى له رضي الله عنه وأرضاه وجمعنا به في الجنة.
عبد الله بن الزبير لما حصل ما حصل من شأنه ثم صلبه الحجاج عليه من الله ما يستحق، جاءت أسماء وهي كفيفة قد عمي بصرها تتحسس ولدها مصلوباً فقالت: أما آن لهذا الفارس أن يترجل، تشير وتصور أنه ما زال على حصانه بطلاً مغواراً، فلما علم الحجاج بمقولتها أمر بأن ينـزل ابن الزبير من الخشبة ثم أرسل الحجاج إلى أسماء أن تأتي إليه فقالت: والله لا آتيه! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يكون في هذه الأمة كذابٌ ومبير) فأما الكذاب فعرفناه، وأما المبير فلا نراه إلا الحجاج، فلما سمع بمقولتها جاء إليها قال: سمعت يا أم أنك تقولين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكون في هذه الأمة كذابٌ ومبير) فأما الكذاب فـمسيلمة وقد عرف، وأما المبير فعرفناه فما هو إلا الحجاج، قال: نعم أنا مبير المنافقين، قالت: كذبت قال: الحجاج يا أم إن ابنك ألحد في بيت الله، والله يقول: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].
أيها الأحبة! إن ما قيل وما سطر لا يمكن أن نسمح أن يُنال فيه من عبد الله بن الزبير بكلمة ولو صغيرة أو كبيرة، ولكن ابن الزبير لو علم رضي الله عنه واستقبل من أمره ما استدبر ما كان ليقدم على هذا، ولكن لله الأمر من قبل ومن بعد.
عندما جاء نعي يزيد بن معاوية ، لما مات يزيد سنة أربعٍ وستين قام ابن الزبير فدعا إلى نفسه وبايعه أكثر الناس وحكم الحجاز واليمن ومصر والعراق وخراسان وبعض الشام ، ولكن لم يستوثق له الأمر ومن ثم لم يعده بعض العلماء في الخلفاء وعد دولته زمن فرقة، فإن مروان قد غلب على الشام ثم مصر وجرت أمورٌ طويلة وحروبٌ مزعجة، وجرت موقعة مرج راهط وقتل ألوفٌ من العرب وقتل الضحاك ، واستفحل وعظم أمر مروان إلى أن غلب مروان على الشام ، وسار في جيشٍ عرمرم فأخذ مصر واستعمل عليها ولده عبد العزيز بن مروان ، ثم دهمه الموت فقام بعده ولده الخليفة عبد الملك بن مروان فغلب عبد الملك على العراق مع الشام، ثم بعث عبد الملك الحجاج بن يوسف إلى ابن الزبير رضي الله عنه وأرضاه، بعث الحجاج إلى ابن الزبير فحاصر ابن الزبير في مكة ونصب المجانيق على جبل أبي قبيس، وعلى جبل قعيقعان فكان الأمر العجيب الخطير يا عباد الله.
المجانيق تضرب في وسط بيت الله، المجانيق تقصف جدران الكعبة، فلم يكن أحدٌ يقدر على أن يطوف بالبيت من شدة قصف المنجنيق، من شدة تلك الفتنة، فأسند ابن الزبير ألواحاً من الساج على البيت وألقى عليها الفرش والقطائف، فكان إذا وقع حجرٌ وقع عليها ونبا عن البيت وكان الناس يطوفون دون الألواح واستمر حصار الحجاج لـابن الزبير في مكة ثمانية أشهر وسبع عشرة ليلة وبيت الله يضرب بالمنجنيق، في تلك الفتنة القديمة، وانتهت تلك المأساة بقتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ووالديه وأرضاه.
عن المنذر بن جهم قال: رأيت ابن الزبير يوم قتل وقد خذله من كان معه خذلاناً شديداً؛ جعلوا يتسللون ويهربون إلى الحجاج ، وهكذا شأن الذين يسيرون في الدهماء والغوغاء، أو إذا خرج خارجٌ أو زعم زاعمٌ أن سيخرج تكاثر الناس حوله، فإذا انكشف الأمر وكشفت الحرب عن ساق:
ستعلم حين ينكشف الغبارُ أخيلٍ تحت رجلك أم حمار |
حينما تشتد الأمور ما أقل من يصمد ويثبت، ولذا فلكل من ظن أن الكثرة هي سبيل للتغيير أو الإصلاح فليعلم أن الكثرة لا تغني شيئاً ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولكن أكثر الناس لا يفقهون.
عن المنذر بن جهم قال: رأيت ابن الزبير لما قتل وقد خذله من كان معه خذلاناً شديدا وجعلوا يتسللون إلى الحجاج، وجعل الحجاج يصيح: أيها الناس! علامَ تقتلون أنفسكم؟ من خرج إلينا من ابن الزبير فهو آمنٌ عندنا، لكم عهد الله وميثاقه، ورب هذه البنية ورب هذا البيت لا أغدر بكم ولا حاجة لنا في دمائكم، قال: فقام الناس يتركون ابن الزبير ويتسللون أكثر من نحو عشرة آلاف قال: فلقد رأيت ابن الزبير وحيداً ما معه أحد.
وعن إسحاق بن أبي إسحاق قال: حضرت قتل ابن الزبير وجعلت الجيوش تدخل على ابن الزبير من أبواب المسجد فكان كلما دخل قومٌ من باب حمل عليهم وحده حتى يخرجهم، يقتل من يقتل ويجرح من يجرح ويطرد من يطرد وكان ابن الزبير شجاعاً شجاعاً شجاعاً ربما ضرب الرجل ضرب بصاحبه فقتلهما جميعاً، وربما اخترط بسيفه رجلين في ضربة واحدة، لم يكن له مثيلٌ في الشجاعة، إلا من فاقه من الصحابة وأشجع القوم صلى الله عليه وسلم، قال: فكان كلما دخل عليه قوم حمل عليهم حتى أخرجهم، فبينما هو على تلك الحال إذا وقعت شرفة من شرفات المسجد على رأسه فصرعته وسقط وهو يتمثل
أسماء يا أسماء لا تبكيني |
لم يبق إلا حسبي وديني |
وصارمٌ قد لان في يميني |
يعلق الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء على ذلك فيقول: فيا ليت ابن الزبير كف عن القتال لما رأى الغلبة، بل ليته لا التجئ إلى البيت ولا أحوج أولئك الظلمة والحجاج لا بارك الله فيه، إلى انتهاك حرمة بيت الله وأمنه، فنعوذ بالله من الفتنة الصماء، هذا من كلام الذهبي في سير أعلام النبلاء .
وقال ابن أبي الدنيا في كتاب الخلفاء : صلبوا ابن الزبير منكسا، وأخرج مسلم في صحيحه أن عبد الله بن عمر بن الخطاب مر على عبد الله بن الزبير وهو مصلوبٌ فقال: السلام عليك أبا خبيب السلام عليك أبا خبيب السلام عليك أبا خبيب ، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله إن كنت ما علمت صواماً قواماً وصولاً للرحم، أما والله لأمة أنت أشرها لأمة خير.
الله أكبر هذا كلام عبد الله بن عمر وقف على ابن الزبير رضي الله عنه وهو مصلوب فيقول: أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، يعني أنهاك أن تطلب البيعة لنفسك، وآمرك أن تسمع لمن أعطاه المسلمون البيعة.
رجعوا إلى سجستان الموقع الذي خططوا فيه للثورة والخروج، وأسرف الحجاج في قتل الناس فلم يقدر على أسيرٍ أو على أحدٍ اشترك في المعركة إلا قتله، وقتل كثيراً من العلماء قتل المحدث العالم الجليل ابن أبي ليلى ، وقتل سعيد بن جبير رحمهم الله، وقد نقل أن الحجاج قتل يوم الزاوية أحد عشر ألفاً ما استبقى منهم إلا واحداً، كان ولده في كتاب الحجاج ، ونقل أيضاً أن الحجاج قتل أربعة آلاف في موقعة مسكن وعن هيجان بن حسان أنه قال: بلغ ما قتل الحجاج صبراً مائة وعشرين أو مائة وثلاثين ألفاً، هذه نهاية هذه الحركة كنهاية ما سبقها.
فقاتل زيد والقلة الذين معه قتال الأبطال فهزموا أهل الشام عدة مرات، ولكن رماة السهام تكاثروا عليه فقتل رحمه الله، ثم صلب وعلق على الخشبة، وانتهت هذه الحركة بأقصر وقتٍ ممكن.
يقول الحافظ الذهبي رحمه الله معلقاً على خروج زيد ، خرج متأولاً وقتل شهيداً ويا ليته لم يخرج.
ما هي نتائج تلك الحركات التي خرجت متأولة إنكار المنكر؟ ورفع الظلم، متأولة قصد الله ورسوله والدار الآخرة؟ كان نتائج ذلك أن حصل بين المسلمين فُرقة عظيمة وفتنٌ أليمة، وقتلٌ بين المسلمين، وإراقة وسفكٌ للدماء، ورءوسٌ قطعت، وأعراضٌ هتكت، وحقوقٌ ضاعت، وأناسٌ تشردت، وسبلٌ اختلت، ومصالح انقطعت، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولو لم يكن إلا أن أعداء الإسلام من الروم والنصارى، كانوا يرون تلك الفرص التي افتتن بها المسلمون فرصاً ذهبية، لجمع الجموع وإعداد العدد لضرب دولة الإسلام لكفى بذلك فساداً.
وقال ابن القيم الجوزية رحمه الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكار المنكر من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار بالخروج على الولاة، فإنه أساس كل شرٍ وفتنة إلى آخر الدهر، ويقول ابن القيم: وقد استأذن الصحابة رضوان الله عليهم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما أقاموا الصلاة، وقال صلى الله عليه وسلم: (من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يداً من طاعة) ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار من إضاعة وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه.
ويقول العلامة المعلمي اليماني رحمه الله: وقد جرب المسلمون الخروج فلم يروا منه إلا الشر، خرج الناس على عثمان يرون أنهم إنما يريدون الحق فكان عاقبة الأمر أن قتل ثم خرج أهل الجمل يرى رءسائهم ومعظمهم أنهم إنما يطلبون الحق، فقتل علي وحصلت الفتنة، ثم اضطر الحسين بن علي إلى ما اضطر إليه، نعم، علي بن الحسين خدعه أهل العراق ، الذين تعجب من أنهم يبكون عليه ويقيمون المناحة والصياح عليه، هم الذين وعدوه واستخرجوه فلما خرج خذلوه، فكان أن وقع فيما ليس بحسبانه.
قال المعلمي اليماني: ثم اضطر الحسين بن علي إلى ما اضطر إليه فكانت تلك المأساة، ثم خرج أهل المدينة على يزيد بن معاوية فكانت وقعة الحرة ، ثم خرج القراء على الحجاج مع ابن الأشعث فماذا كان، كان ما تعلمون، ثم كانت قضية زيد بن علي ، وعرض عليه من عرض أن ينصروه شريطة أن يتبرأ من أبي بكر وعمر فخذلوه قتلهم الله فكان ما كان.
أيها الأحبة في الله! إن هذا الكلام لا يعني سكوتاً على منكر ولا تركاً للدعوة إلى الله، إن هذا الكلام يصب في قالبه وفي مواقعه وفي مواضعه وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فما لنا عذرٌ في تركه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وفي رواية (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) إن بعض الناس يفهمون فهماً سقيماً من هذا الكلام، ويقولون ما دام الأمر هكذا وهذه مخاطر الخروج، ثم يستنتج أن إنكار المنكرات يفضي إلى الخروج وهذا فهمٌ عليلٌ سقيمٌ بهيم، إن إنكار المنكر هو حياة الأمة، إن الحسبة هي قلب الأمة، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ضمان بقاء الأمة، فلا نفهمن هذا من هذا.
والواجب علينا أن نشتغل بالدعوة إلى الله جل وعلا، إني أعجب من رجلٍ أو شابٍ أو صغير أو كبيرٍ أو ذكرٍ أو أنثى يسمع هذا الكلام فإذا سمع بمنكرٍ قال: اسكت! عليك نفسك فالزم ولا تحدث فتنة! وإنما يعني هذا الكلام أن نجتهد في طاعة ونصيحة، واجتهادٍ على حفظ شوكة أمة ووحدة صفٍ واجتماعِ شملٍ؛ مع إنكار منكرٍ وأمرٍ بمعروف ودعوة إلى الله جل وعلا، قد يرى البعض أن هذا يعني أن تشتغل بمدرستك أو بيتك وعملك ولا عليك من واقعك، لا. إنما سمعته يدعوك أن تهتم بواقعك، فتدعو إلى الله بكل وسيلة من شريطٍ نافع، أو كتابٍ أو رسالة نافعة، أو موعظة حسنة، أو جدالٍ بالتي هي أحسن، بكل وسيلة مشروعة من وسائل الدعوة إلى الله.
إن هذا الكلام -أكرر وأحذر- لا يعني ترك الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، ولكن الأمر والنهي بحسب من يوجه إليهم، فإن كان لفردٍ فخذه على انفراد، وإن كان لمجموعة فخذهم بخير طريقة، وإن كان لأميرٍ أو والٍ فاقصده في بيته، فاقصده في مكتبه، فاقصده في مكانه، وكن صريحاً جريئاً قوياً ولا يضرك لو خرجت قتيلاً (سيد الشهداء
أسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يدمر أعداء الدين، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، عضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المسلمين! لقد فضلنا الله على سائر الأمم يوم أن كنا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ [آل عمران:110] ووصف الله المؤمنين بقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71] ويقول صلى الله عليه وسلم: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدِ السفيه، أو ليوشكن الله أن يعمكم بعقابٍ أو بعذاب، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم) وإن ترك الأمر وترك النهي عن المنكر لمن شر بلاءٍ ابتليت به الأمة، فطائفة يتأولون في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأنه من الحكمة، والله لا حكمة في ترك الأمر بالمعروف، ولا حكمة في ترك النهي عن المنكر، وربما فهم القوم أفهاماً أو فهوماً أخرى، والحاصل أن من أراد صلاح مجتمعه ومن أراد اجتماع شمله، ومن أراد وحدة صفه، ومن أراد قوة شوكته، ومن أراد تدفق الأرزاق إلى بلاده وأمته فعليه بالأمر بالمعروف لأنه من دلائل التقوى وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ [الأعراف:96].
فيا معاشر المؤمنين! من واجبنا أن نعتني بهذا وأن نجتهد في الدعوة إلى الله.
إن من الناس من فهمه سقيم، إما دعه يقول ما شاء كيفما شاء، بأي طريقة شاء سواءً أنتجت وفاقاً أو فتنة أو فيسكت البتة، وليس هذا بصحيح، فليس كل ما يعلم يقال؛ وليس السامعون يتحملون كل ما يسمع.
فيا خبيراً على الأسرار مطلعـاً اصمت ففي الصمت منجاة من الزلل |
قد رشحوك لأمرٍ لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ |
علينا أن نعبد الناس لله، أن نوجه الناس إلى بيوتهم التي فيها من الملاهي ما الله به عليم، علينا أن نوجه الناس إلى منكراتٍ في كل صباحٍ ومساء، من تبرجٍ أو سفورٍ أو لهوٍ أو بطالٍ، أو رؤية صورٍ ومجلات ومشاهداتٍ لا ترضي الله، علينا أن نناصح كل مجلة وكل جريدة، وكل مسئول بالخطاب الرقيق، وبالمقابلة المؤدبة، فإن في هذا خيرٌ عظيم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجمع شملنا، ولا تفرح علينا عدواً ولا تشمت بنا حاسداً، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، ربنا لا تذر لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته ولا ديناً إلا قضيته، ولا مرضاً إلا شفيته، ولا معوقاً إلا أطلقته، ولا أسيراً إلا فككته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا متزوجاً إلا ذرية صالحة وهبته، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم انصر المسلمين في فلسطين ، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم احفظهم من دعايات اليهود وكيدهم، اللهم احفظ نسائهم وأبنائهم وذرياتهم، اللهم رد المسجد الأقصى إلى أيدي المسلمين يا رب العالمين، اللهم انصر المسلمين في البوسنة والهرسك، وفي رومو وفي الفليبين، وفي سائر البقاع، اللهم اجمع شملهم في سائر البقاع، اللهم انصرهم في طاجكستان ، واجمع شملهم في أفغانستان يا رب العالمين، وأقم الصلاة، وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر