أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فالعاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى في محكم كتابه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً [مريم:51].
معاشر المؤمنين: ذكر الله قصة موسى مع فرعون في سور كثيرةٍ من القرآن الكريم، وقصة هذا النبي الكريم -عليه وعلى نبينا أتم الصلاة والتسليم- مع فرعون الطاغية العنيد تتكرر وتبرز في كل زمان ومكان، وفي كل وقت وحين، لأنها تصور حقيقةً واقعةً، إنها تصور الصراع بين الحق والباطل، إنها تصور الصراع بين أولياء الرحمن وجند الشيطان منذ فجر الوجود وميلاد البشرية.
ولد موسى عليه السلام في عهد الطاغية الأكبر فرعون الذي ادعى الربوبية وأعلن التمرد والعصيان، وزعم أن لا إله ولا رب سواه، وذاق بنو إسرائيل من أذى فرعون ومن شره ما لم يذوقوه من قبل ولا من بعد إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4].
لقد رأى فرعون في منامه رؤيا أفزعته، فاهتم لها واغتم بها، رأى ناراً قد أقبلت من بيت المقدس حتى وصلت إلى بلاد مصر وأحاطت بدورها وبيوتها، فأحرقتها وأحرقت القبط، وتركت بني إسرائيل دون أذى، فدعا فرعون الكهنة والسحرة والمنجمين، وسألهم عن هذه الرؤيا، فعبروها قائلين: إنه سيولد في بني إسرائيل غلام يكون سبب هلاك أهل مصر على يديه، ويكون ذهاب ملكك يا فرعون على يديه، وسيخرجك وقومك من بلدك، ويبدل دينك، وقد أظلك زمانه الذي يولد فيه.
عند ذلك طار صواب فرعون، وجُنَّ جنونه، فأمر بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل، أما الإناث فلم يأمر بقتلهن، بل أمر بتركهن لأجل الخدمة والتسخير؛ يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم.
وفي أثناء شدة هذا العذاب ولد موسى عليه السلام، كانت ولادته خطباً أليماً بالنسبة لأمه، ولما قرب وقت الوضع، وبدأت آلام المخاض، حزنت أمه حُزناً شديداً، واشتد همها وغمها، وأوحى الله إليها إلهاماً ألا تخاف ولا تحزن، لما سبق في علم الله أن هذا المولود سيكون له شأن عظيم، فولدته أمه خفية عن القابلات، وقذف الله في قلبها السكينة، وأمرها أن ترضعه حتى إذا خافت عليه فلتصنع له تابوتاً من الخشب، ثم تضعه فيه، وتربط التابوت بحبل لئلَّا تذهب به الأمواج، ثم تلقيه في البحر، وفعلت ذلك ثقةً بوحي الله وإلهامه: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7].
وفي ذات يوم انفلت رباط التابوت، فذهب الماء بالتابوت، وفيه الوليد الرضيع الرقيق موسى عليه السلام، ذهبت الأمواج بالتابوت، تُرى إلى أي مكان سترحل الأمواج بهذا الرضيع وهذا الوليد؟
سترحل به إلى من هو أشد الناس بغضاً لبني إسرائيل، وأشدهم كراهيةً لأبنائهم، ذهب التابوت بموسى إلى بيت فرعون في ساعة كان الجواري يغتسلن ويستقين فيها، فأبصرن هذا التابوت، فأخذنه من الماء، وظنن أن فيه مالاً، فحملنه على عادتهن، وذهبن به إلى سيدتهن آسية زوجة فرعون، فلما فتحت التابوت، وجدت فيه هذا الغلام، فلما رأته،ألقى الله محبته في قلبها.
فلما جاء فرعون ورأى الغلام طار عقله وأراد قتله، وطلب الذباحين ليذبحوه، فالتمست آسية زوج فرعون منه أن يتركه لها، لأنها لا تلد: وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً [القصص:9] فقال لها فرعون: بل هو قرت عين لك أنت، أما أنا فلا حاجة لي فيه.
وما زالت آسية زوجة فرعون تبحث له عن مرضع حتى رأته أخت موسى، وقد كانت ترقبه من بعيد، فجاءت إلى آسية امرأة فرعون، وعرضت عليها أن تأتي بامرأة مرضعة أمينة ناصحة تتعهد بهذا الرضيع، وتعتني به مقابل أجرة لها، فقالت لها امرأة فرعون: ائتيني بها، فإن قبل ثديها أكرمتها بأي مال أرادت، فانطلقت أخت الرضيع إلى أمه، وأخبرتها الخبر، فلما رأت ولدها كادت أن تبدي به، أي: كادت أن تقول: هذا ولدي، لولا أن ثبتها الله حتى لا يشعر آل فرعون بأن هذه هي أمه، فلما وضعته في حجرها، التقم ثديها، وأخذ يرضع بنهم ولذة حتى ارتوى وملأ جنبيه.
ففرحت آسية فرحاً عظيماً، وطلبت من أم موسى -وهي لا تعلم أنها أمه- أن تمكث في القصر عندها لترضع هذا الغلام، ووعدتها بأن تعطيها أنواع المال والهدايا، وأن تكرمها بأنواع الإكرام، فأظهرت أم موسى العفة، وقالت: إن طابت نفسك أن تعطينيه، فأذهب به إلى بيتي، وأتعهده بالعطف والرعاية كما أتعهد ولدي، وأنا لا أستطيع أن أدع بيتي وأولادي من أجل هذا الغلام، تقول أم موسى وهي تعلم أنه ولدها: لا أستطيع أن أدع بيتي وأولادي من أجل هذا الغلام، فرضيت آسية أن تدفعه إليها على أن تأتي به في كل فترة لتراه وترضعه عندها.
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ [القصص:11-13] بعد أن أمرت أن تلقيه في البحر : فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص:13].
ثم أصبح موسى خائفاً يترقب، فجاءه رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه، فأخبر موسى الخبر، وأمره أن يخرج من أرض مصر، لأن القوم يبحثون عنه، ويريدون قتله، فخرج موسى وتوجه إلى أرض مدين، ودعا ربه أن ينجيه من القوم الظالمين.
وفي أرض مدين أقام موسى، وتزوج بابنة شعيب عليه السلام، ورعى له الغنم فيها عشر سنين، وبعد ذلك حنَّ قلب موسى إلى أرض مصر، وفي طريقه إليها في ليلة مظلمة باردة تاه موسى عن الطريق: فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طـه:10-14] وهكذا نبئ موسى وكلمه ربه، وتوجه إلى فرعون بأمر ربه اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى [النازعات:17-25].
وبعد مضي هذه المدة وموسى يدعو فرعون ويخاطبه بخطابٍ لين، ويدعوه بدعوة وموعظة رقيقة إلا أنه لم يستجب، حتى إذا اشتد الأمر وبلغ أشده، ووصل الأمر بينهم إلى القتل والقتال، لما رأى فشل سحرته، ولما رأى فشل تدجيله وتطبيله، لما رأى فشل ذلك كله، لم يجد إلا أسلوب الجبابرة والطواغيت المعاندين، أسلوب القتل، أسلوب التشريد والإبعاد، فأتبعوهم مشرقين فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61] لما ذهبوا ولم يبق من أمامهم إلا البحر، وفرعون وقومه من خلفهم قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:61-63] وعبر عليه موسى ومن معه من بني إسرائيل وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ [الشعراء:64-66] لما رأى فرعون ومن معه أن البحر أصبح يبساً، وعبر عليه موسى ومن معه لحقوا بهم يريدون أن يعبروا على البحر، لكنها سنة الله جل وعلا، يريد الله أن يغيرها، وأن يبدلها، وأن يعكس قانونها ونظامها لأوليائه وعباده وأنبيائه، أما الكافرون الجاحدون الظالمون فليسوا بأهل أن تغير لأجلهم سنة واحدة، أو أدنى ظاهرة في هذا الكون، فلما عبر موسى ومن معه، عاد البحر كما كان أمواجاً تتلاطم، ومياه تغرق من عليها، ثم أدرك فرعون الغرق: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ [يونس:90] لم يقل آمنت أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، انظروا العناد والجبروت والتجبر والطغيان حتى في آخر ساعات العذاب، وفي آخر ساعات الهلاك لم يقل آمنت أنه لا إله إلا الله، بل قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ [يونس:90-91] ليس ينفعك الإيمان في هذه اللحظة، ولا ينفعك قولك في هذه اللحظة وأنت من المفسدين الضالين المتجبرين المعاندين.
عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه) متفق عليه.
وعن أبي قتادة رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: (يكفر السنة الماضية) رواه مسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لئن بقيت إلى قابل، لأصومن التاسع والعاشر) رواه مسلم.
معاشر المؤمنين: هذه قصة طويلة نهايتها في اليوم المبارك الذي هو يوم عاشوراء، أعز الله فيه عباده، وأعز فيه دعاة دينه، وأعز فيه جنده المخلصين، وأهلك فيه الطغاة والمعاندين والمتجبرين، ذلك يوم عظيم، وهو يوافق يوم الخميس من الأسبوع القادم، فصوموا هذا اليوم يا عباد الله، ومروا أبناءكم ومن دونكم بصيامه، واشكروا نعمة الله جل وعلا، وتذكروا فضل الله عليكم وعلى عباده المسلمين أجمعين.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار؛ عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين: لو تأملنا هذه القصة الجليلة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في مواضع متعددة من كتابه الكريم، لوجدنا فيها جملة لا تعد ولا تحصى من الدروس والمواعظ والآيات والعبر إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
هذه القصة لو لم يأت فيها إلا البشارة للدعاة المخلصين، لو لم يكن فيها إلا البشرى للذين يقومون بالدعوة إلى الله في كل مكان، وأن الله سبحانه وتعالى ينصرهم مهما أظلم الليل، ومهما ادلهمت الخطوب، ومهما تكالبت قوى الطغيان، ومهما تجمع أعوان الشر، فإن الله سبحانه وتعالى ينصر دعاة دينه، وينصر المصلحين المخلصين العاملين بكتابه وسنة نبيه إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر:51] النصر للدعاة المخلصين المصلحين في الدنيا والآخرة، والفوز لهم في الدنيا والآخرة، والفلاح لهم في الدنيا والآخرة.
تأملوا وتدبروا هذه العبرة العظيمة: ذلك الطاغية الذي أمر القابلات أن يخبرنه بأي مولود يولد في بني إسرائيل حتى يقتله، وحتى لا يبقى في بني إسرائيل باقية من الذكور، يأبى الله سبحانه وتعالى إلا أن يتربى ويترعرع وينشأ نبيه الكريم في بيت الطاغية فرعون، ينشأ الداعية في بيت الطاغية ويترعرع ويمشي في أرض قصره وجنانه وحدائقه، ثم بعد ذلك يأمره الله سبحانه وتعالى، ويكلفه بنبوءته، ثم يعود إلى فرعون شامخ الرأس معتزاً، رافعاً رأسه بما أوحى الله إليه، آمراً إياه بما أمره الله ببلاغه أن يهتدي، وأن يؤمن، وأن يخلي بينه وبين بني إسرائيل، وبين الناس أجمعين أن يلحقوه وأن يتبعوا دينه، لكن ذلك الطاغية يأبى ويعاند، فيأبى الله سبحانه وتعالى إلا أن يجعل هلاكه في أعظم آية للناس أجمعين، يقول الله سبحانه وتعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:92].
إنها لآية عظيمة في فرعون، إنه لدرس عظيم لجميع الدعاة أمام الطغاة.
إذاً يا عباد الله: إنها لبشارة لجميع المسلمين في كل مكان، إنها لبشارة للدعاة في كثير من الدول المجاورة والبعيدة، الذين يلقون ألوان الأسى والعذاب والتشريد، يرون الإهانة في زوجاتهم، وفي بناتهم، ويرون القتل في أبنائهم، ويرون المضايقة والتشريد عن بلدانهم، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ولا حاكمية، ولا قيادة، ولا أمر، ولا نصر، ولا عزة، ولا انقياد إلا لله، ولا تطبيق إلا لحكم الله، ولا انقياد إلا لشريعة الله، هذه كلمة لا تعرف إلا في هذه البلاد، وهذا نظام لا يعرف إلا في هذه البلاد الطيبة.
نسأل الله أن يديمه علينا، وأن يديم العز لنا ولولاة أمورنا وعلمائنا، كي نبقى سعداء راضين بما قسم الله لنا، شاكرين له على ما أنعم به علينا من هذا العز والتمكين.
إنها لعبرة عظيمة، إن حفظ الله جل وعلا لعظيم.
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمانُ |
أي عناية أعظم من أن يوضع طفل لا يملك شيئاً في تابوت صغير، ثم يلقى في البحر، فيحفظه الله بحفظه، ويكلؤه برعايته، تذهب به الأمواج المتلاطمة في البحار المليئة بالحيتان، والمليئة بكل شر وأذى حتى يصل إلى بيت الطغاة، فيترعرع وينشأ فيه، ويقذف الله تلك المحبة في قلب زوجة فرعون لهذا النبي الكريم؟!
معاشر المؤمنين: إن الله لينصر الذين ينصرون دينه، وسنن الله لا تتغير ولا تتبدل، إذا علم الله منا إخلاصاً، وعلم منا انقياداً، وعلم منا إرادةً لوجهه الكريم، ولم يكن في نياتنا أدنى طمع في مال، أو منصب، أو جاه.
إن الله سبحانه وتعالى لينصر كل قائم لله بحق، ويجعل القلوب تفتح أبوابها لكلامه، ويجعل الأفئدة والجوارح تتطاير وتبادر لكي تنفذ ما أراد.
إنا -معاشر المؤمنين- أتينا من إخلاصنا، وبلينا من ذات أنفسنا، فقدنا الإخلاص وفقدنا إرادة وجه الله خالصاً في كل دقيق وجليل، ومن أجل ذلك فعلى قدر إخلاصنا تأتي النتائج في الدعوة، على قدر إرادتنا وجه الله تأتي النتائج وتأتي الثمرات في كل عمل نعمله.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من المخلصين الذين يريدون وجهه الكريم، اللهم سخر لنا ولولاة أمرنا ولإمام المسلمين ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرض بقدرتك، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم من أراد ولاة أمرنا بفتنة، وأراد علماءنا بمكيدة، وأراد شبابنا بضلال، وأراد نساءنا بتبرج وسفور، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين! اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك.
اللهم عليك بالشعوبيين الفرس الذين لا يؤمنون بكتابك كاملاً، ولا يصدقون بنبوة نبيك، ويسبون صحابته، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واهلكهم بدداً، ولا تبق فيهم أحداً، اللهم أهلك زروعهم وضروعهم، اللهم اجعلهم غنيمةً باردةً للمسلمين، اللهم قرب هلاكهم، اللهم قرب هلاكهم، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك يا من أمرك بين الكاف والنون!
اللهم أحينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء، اللهم ارزقنا توبةً قبل الموت، وراحةً عند الموت، ولذةً وأنساً ونعيماً في القبور بعد الموت، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا حيران إلا دللته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا غائباً إلا رددته.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم جنبنا ما يسخطك، واعصمنا مما يغضبك، اللهم خذ بأيدينا إلى مرضاتك.
ربنا لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك، اللهم عليك توكلنا، وإليك أنبنا، ولك أسلمنا، وبك خاصمنا، ولك توجهنا، فلا تكلنا إلى أنفسنا، ولا إلى ما عندنا، وبارك لنا فيما آتيتنا.
اللهم ارزقنا الاستدراك قبل الفوات، والاستعداد قبل الممات، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم اجزهم عنا خير الجزاء، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم، واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم أعنا على ما أعنتهم عليه، اللهم نور على أهل القبور قبورهم، اللهم افسح لهم اللحود مد أبصارهم، اللهم افتح لهم أبواباً إلى النعيم والجنان.
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمدٍ صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين!
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على نعمه التي لا تستطيعون شكرها، واشكروه على آلائه التي لا تقدرون حصرها يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر