إسلام ويب

لقد كان في قصصهم عبرة [2]للشيخ : سعد البريك

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تحدث الشيخ -حفظه الله- عن الظروف التي اكتنفت ولادة موسى عليه السلام وكيف أن الله رده إلى أمه لترضعه بثمن على ذلك. وقد استعرض شيئاً من عبر هذه القصة، مبيناً أن الله لا يعجزه شيء، وأن نصره لجنده لا يتخلف، وأن الحق مهما عُذِّب أهله فإنهم ينصرون نصراً يذل الله به كل أعدائهم ومناوئيهم.

    1.   

    ولادة موسى ونشأته عند فرعون

    الحمد لله معز المؤمنين، ومذل الطغاة والمتجبرين، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأثني عليه الخير كله، نشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك من يفجره، هو الذي أنشأنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، ومنَّ علينا بالتوحيد، وفضلنا على كثيرٍ من الأمم تفضيلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، أنتم اليوم في يوم مبارك من شهر الله المحرم، وهذا الشهر من الأشهر المخصوصة بالفضائل التي امتنَّ الله بها على أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث أضاف الله هذا الشهر إلى نفسه، يقول صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل) فأضافه على نفسه بقوله: (شهر الله المحرم) وهذه الإضافة لا تكون إلا لخاصة مخلوقات الله لشرفها وعلو منزلتها، فهذا الشهر مفتاح السنة، وفيه نصر الله نبيه وكليمه موسى عليه السلام على إمام الكفر وقائد الإلحاد فرعون الذي طغى وعلا في الأرض، وقال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعـات:24] والذي تجبر وأدبر وتولى عن آيات الله وحجج الأنبياء، يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4] وما أكثر الفراعنة في هذا الزمان!

    وكان الذي يحمله على تعذيب بني إسرائيل وإهلاكهم، واستحياء -أي: استبقاء- نسائهم، وإهلاك الذكور منهم هو علمه بأنه سيخرج من ذرية إبراهيم عليه السلام غلامٌ سيكون هلاك مُلْك مصر ومَلِكِها على يديه، وشاع هذا وانتشر بين القبط، وتحدث به بنو إسرائيل، وعند ذلك فزع فرعون، وطاش ذعراً وخوفاً، وأمر بقتل أبناء بني إسرائيل حذراً من وجود هذا الغلام بينهم، وأنى له ذلك، ولن يغني حذرٌ من قدر.

    لما حملت أم موسى به خافت أن يعلم بحملها، ولم تكن تظهر عليها علامات الحمل، فيا عجباً من آيات الله ومعجزاته، ولكن أكثر الناس عن تدبر آيات الله غافلون، علامةٌ عجيبةٌ لا يظهر عليها علامات الحمل، فلما ولدت به ضاقت به ذرعاً، فألهمها الله أن تتخذ له تابوتاً، وكانت دارها على نهر النيل، وكانت ترضع ابنها، فإذا خشيت من أحد وضعته في التابوت فأرسلته إلى البحر، وفي التابوت حبل تمسكه به، فأرسلته ذات يوم، وقضت إرادة الله أن يذهب التابوت ولا يعود، وذهب فيه ولدها مع النيل، فمر على دار فرعون، فالتقطه آل فرعون، الذين يذبحون الأبناء، التقطه الذين يقتلون كل ذكر من أبناء بني إسرائيل، فلما جاءوا به ووضعوه بين يدي امرأة فرعون، وفتحت هذا التابوت، رأت وجهاً يتلألأ نوراً، فوقع حبه في قلبها.

    فلما جاء فرعون ورآه أمر بذبحه، وقال: اذبحوه، أو اقتلوه، فدافعت عنه تلك المرأة، فقالت: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا [القصص:9] ولقد نفع الله زوجة فرعون به، وحقق الله ما رجته من النفع، فهداها الله به وأسكنها جنته بسببه.

    فلما أرادوا الغذاء لهذا الرضيع والوليد، وقد حرم الله عليه المراضع من قبل، وجدوه لا يقبل ثدياً، فحاروا في أمره حيرةً عظيمةً، فأرسلوه إلى السوق يبحثون له عن مرضعة يقبل ثديها، فرأته أخته ولم تظهر أنها تعرفه، بل قالت: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12] فذهبوا به إلى منـزلهم، فأخذته أمه، فلما أرضعته التقم ثديها، وأقبل على درها، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً، وأجروا لها أجرة من النفقة والكسوة، وجمع الله شملها بولدها بقوله جل وعلا: فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [القصص:13].

    1.   

    إرسال موسى ومحاجته لفرعون

    ثم نشأ موسى عليه السلام في كنف الله ورعايته في بيت فرعون يتغذى أحسن الغذاء، ويلبس أطيب اللباس، ولما بلغ أشده واستوى، آتاه الله النبوة، وقدر أنه رأى ذات يوم رجلين أحدهما من شيعته والآخر من أعدائه القبط، فاستغاث الذي هو من بني إسرائيل بموسى، فنصره على عدوه بضربة مات القبطي على إثرها، وعند ذلك أدرك موسى أنه أساء، فاستغفر ربه، فغفر له، ثم خاف من فرعون وملئه بعد حادثة القبطي هذه، فخرج من مصر إلى مدين ، فوصل إليها وتزوج فيها، ثم سار بأهله إلى أرض مصر ، وبينما هو في الطريق أكرمه الله برسالته، وبعثه إلى فرعون، فبلغه رسالة ربه، ولكنه عصى وتكبر وعاند، فأقام موسى عليه الحجج والبراهين، ولكنه لم يقبل شيئاً من ذلك، بل أنكر واستنكر قائلاً: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23] وقال لأهل مصر: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وقال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24].

    فرار موسى ومن معه

    بعد أن عدل فرعون إلى استعمال القوة لصد الدعوة، وصد صوت الحق، أمر الله نبيه موسى عليه السلام أن يخرج بمن معه من المسلمين إلى بلاد الشام، فخرج بهم ليلاً، فلما علم فرعون بخروجهم، غضب وجمع جنوده، وسار في طلبهم، فأدركهم عند طلوع الشمس، وقد انتهوا إلى البحر: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61] لأن العدو خلفهم والبحر أمامهم، والجبال عن يمينهم وشمالهم وهي شاهقة عالية، فقال لهم موسى عليه السلام، قال لهم الرسول الصادق: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] وتقدم إلى البحر وأمواجه تتلاطم، وهو يقول: هاهنا أمرت، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر، فلما ضربه انفلق وصار اثني عشر طريقاً، فانفلق وصار كل فرق كالطود العظيم، على عدد أسباط بني إسرائيل، وصار البحر يبساً لا ماء فيه، فسلكه موسى بمن معه، فلما جاوزوه وخرج آخر رجل من رجال موسى دخله فرعون وجنوده، وعندما تكاملوا أوحى الله إلى هذه الأمواج أن تتلاطم، وإلى هذا الماء أن يعلو، وإلى ذلك اليابس أن يتفتت سائلاً، فأطبق الله عليهم البحر بما فيه، وأغرقهم أجمعين، وبنو إسرائيل ينظرون إليهم، هكذا نصر الله رسوله وكليمه ومن معه من المؤمنين، وأهلك فرعون ومن معه من الكافرين، هذا حدث عظيم من أعظم أحداث التاريخ التي ثبتت وجاءت في شرعنا، ونقلت إلينا نقلاً صحيحاً، لم يتعرضها تحريف ولا تبديل، فيها العجب والعبرة والذكرى، ولكن أين المعتبرون؟!

    سنة الله فيمن ينصره

    عباد الله: تأملوا هذه الواقعة العظيمة، وتأملوا هذه المعجزة الإلهية الكريمة؛ يوم أن تخلفت أسباب الحياة وامتنعت الأمور المادية أجرى الله خوارق العادات، وقلب القوانين على رأسها لتسخر لهذا النبي وأتباعه، وإنها سنة الله جل وعلا الذي شرع الشريعة وأرسل الرسول، وأنزل الكتاب، وأمر بالدين الحنيف، إن الله هو الذي خلق هذا الكون، وهو الذي أوجد ما فيه من اليابسات والكائنات، والسائلات والجمادات، فهو الذي يصرفها لعباده المؤمنين، وهو الذي خلقهم وأمرهم بالجهاد، فسخر لهم هذه الأمور.

    إن الذي جعل النار المحرقة برداً وسلاماً على إبراهيم هو الذي جعل هذا الماء يابساً لموسى، فاعتبروا من ذلك يا عباد الله، واعلموا أن الله جل وعلا لا يعجزه شيء، وأن نصره لا يتخلف عن جنوده المؤمنين، فالله جل وعلا وعدهم بالنصر بقوله: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160].. إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].

    1.   

    السنة في صيام عاشوراء

    معاشر المؤمنين: هذا اليوم العظيم الذي وقع فيه ذلك الحدث في اليوم العاشر من شهر محرم، وهو يوم عاشوراء، قد صامه موسى شكراً لله عز وجل، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وجد اليهود يصومونه، فقال لهم: (ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً لله، فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بموسى وأولى بموسى منكم فصامه صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه) رواه البخاري ومسلم.

    ويستحب صيام يوم قبله، أو بعده لما رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صام عاشوراء، قيل له: إن اليهود والنصارى يعظمون هذا اليوم، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا كان العام المقبل، صمنا اليوم العاشر والتاسع إن شاء الله)، وفي مسند أحمد رضي الله عنه وأرضاه: (صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، صوموا يوماً قبله، أو يوماً بعده).

    وصيام هذا اليوم بساعاته القليلة، بلحظاته المحدودة فيه أجر عظيم، فلقد روى الإمام مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: (يكفر السنة الماضية) فمن يبخل على نفسه بتبييض صفحاته، وتبييض صحائف أعماله؟ من يبخل على نفسه أن يعود سجل أعماله أبيض باستهلال عام جديد، وبداية عام مشرق، أن يكون بذلك اليوم الذي يصومه قد كفر صغائر الذنوب والسيئات التي اقترفها في العام الماضي، وليعلم العباد أن صيام يوم عاشوراء يكفر الصغائر من الذنوب، أما الكبائر- مع فضل الله وسعة رحمته- فإنها تحتاج إلى توبة.

    عباد الله: لو تأملنا يوم عاشوراء، لوجدنا الناس على مذاهب شتى فيه، أما الرافضة -عليهم من الله ما يستحقون- فهم يقضون ليلته ضرباً في أبدانهم، وجلداً بالسياط على أنفسهم، ما هذا الذي يفعلونه؟! وأي شريعة شرعت لهم ذلك؟

    إنما هو من ذوات أنفسهم، فهم يتقربون إلى الله بغير ما شرع، فإن ذلك مردود عليهم، وإن كانوا يعدونه عملاً صالحاً، فسيجدونه هباءً منثوراً.

    عجباً لأولئك الذين يبكون ويتباكون، يضربون أنفسهم لمقتل الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ورضي الله عن صحابة نبيه أجمعين، يقول أحد الصحابة: [عجباً لكم يا أهل العراق تقتلون الحسين، وتبكون ليلة قتله!] وجاء إلى ابن عمر رجل يسأله عن دم البعوضة إذا وقع على الثوب هل ينجسه، قال: ويحكم ألا ينجسكم دم الحسين وتسألون عن دم البعوضة ونجاسته.

    إن أولئك الذين يعظمون هذا اليوم بأمور لم يشرعها الله، ولم يسنها رسوله صلى الله عليه وسلم إنما هم في ضلال ووبال عظيم، فالحمد لله الذي هدانا وقد ضل كثيرٌ من العالمين، واليهود وغيرهم فيمن يتمسك منهم قد يعظمون هذا اليوم، ولكن هذا اليوم بدليله وببقائه وثباته لدليل وشاهد على تكذيبهم وتحريفهم، إذ أن الشرائع جاءت بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فلِمَ لا يؤمنون؟ وإذا كانوا يقولون إنهم على دين موسى، فدين موسى هو اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لما وجد في يد عمر بن الخطاب قطعة من التوراة مكتوباً في ورق، غضب وقال: (والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) فيا عجباً من أولئك المصرين على العناد والإلحاد، فالحمد لله الذي فضلنا على كثيرٍ من خلقه تفضيلاً، وهدانا إلى أمورٍ ضل عنها كثيرٌ من العالمين.

    بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    درس للدعاة من قصة موسى عليه السلام

    الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه وعن الند وعن المثيل وعن النظير لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] كل ذلك تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.

    عباد الله: إن المتأمل لقصة موسى مع فرعون، إن المتأمل لقصة نبي الله الكليم مع فرعون الطاغية الجبار الأثيم، ليرى فيها دروساً ومواعظ وعبراً للدعاة، الذين يتأملون ويستذكرون ويعلمون أن الله جل وعلا يوم أن شرع الشرائع، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، وشرف العباد بالدين الحنيف، وأكرمهم بالدعوة إليه, والمجاهدة والصبر على الأذى فيه، يعلمون أن في هذه القصة أملاً يرتجى، وبشارة عظيمة للذين يدعون إلى الله على بصيرة، ذلك أن الله جل وعلا يسخر الأمور ويدبرها حينما يجد دعاة صادقين ربانيين متجردين عن المطامع والأهواء والشهوات.

    وإننا لنعجب عجباً عظيماً يوم أن كان الطاغية فرعون يبحث عن أبناء بني إسرائيل يقتلهم، وتقدر مشيئة الله جل وعلا أن ينشأ النبي في قعر بيت فرعون، أعجوبةٌ عظيمةٌ ذلك الذي رآه فرعون في منامه، وسمع به، وترددت الأقاويل في زمانه أن ذلك الغلام الذي سيخرج، وسيكون على يده هلاك ملك مصر وملكها، ينشأ ذلك الغلام في بيت فرعون، ويتغذى في بيته، ويترعرع في داره، ويستظل بسماء قصره، ومع ذلك يكرمه الله جل وعلا بالنبوة والرسالة، وهل بعد حفظ الله حفظ؟

    يوم أن يوحي إلى أمه أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ [طـه:39] أي شيء بعد الهلاك في البحار، بعد الأمواج المتلاطمة، ومع ذلك يحفظه الله جل وعلا بهذا التابوت، ويذهب به بقدر الله ومشيئته إلى بيت الطاغية، ويتربى وينشأ فيه.

    وإذا العناية لاحظتك عيونها     نم فالمخاوف كلهن أمانُ

    اتق الله يا بن آدم، ونم في أي مكان شئت بين السماء والأرض، من يحفظه الله فلن يتعرض له أحد بسوء.

    هذه معجزةٌ ربانيةٌ من الله، ودرسٌ للدعاة، إذ مهما عظم الباطل، وعلا هديره، فإن الله جل وعلا لا بد أن يجعل هذا الباطل جفاء، ويبقى ما ينفع الناس، فالله جل وعلا قد ضرب ذلك مثلاً وعبرةً للدعاة المؤمنين الصادقين ألا يخافوا، وألا يهابوا من كيد الجبابرة والطواغيت، وأنتم الآن يا عباد الله ترون في معظم أصقاع المعمورة أن المسلمين يعذبون، وأن المسلمين يقتلون، وأن الدعاة يعذبون ويشردون وينفون ويطردون، ومع ذلك فإن الله جل وعلا ناصر دينه، أما كيد البشر، فهو كيد ضعيف لا يستطيعون بجميع ما أوتوا أن يصلوا إلى قلب مؤمن في إيمانه ويقينه، يقول أحدهم يوم أن عذبوه وجلدوه، لما أن أكرهوه على الفواحش، وأرادوا به كل سوء ومكروه، لا لشيء إلا لأنه دعا إلى الله على بصيرة، قال:

    تالله ما الدعوات تهـزم بالأذى     أبداً وفي التاريخ برُّ يميني

    ضع في يدي القيد ألهب أضلعي     بالسوط ضع عنقي على السكينِ

    لن تستطيع حصار فكري ساعةً     أو رد إيماني وصد يقيني

    فالنور في قلبي وقلبي في يدي     ربي وربي حافظي ومعيني

    إن من استقام على دينٍ صحيح ودعوة إلى الله صادقة متجردة عن الأهواء والمطامع والشهوات، لا بد أن ينصره الله جل وعلا كما نصر موسى، ونصر الأنبياء، وأهلك أعداء الأنبياء بالريح العقيم، والضفادع والطوفان، والجراد والقمل والدم، آيات الله جل وعلا وجنوده لا يعلمها إلا هو إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40] ولكن أين المؤمنون؟ أين الدعاة الصادقون الذين من أجلهم تخرق العادات، وتتخلف القوانين ويحقق الله على أيديهم النصر العظيم؟

    نسأل الله جل وعلا أن يكون إشراق نور الإسلام من جديد في أرض المعمورة من قلب هذه البلاد التي أشرقت فيها أنوار النبوة، ولمعت فيها بروق تجديد العقيدة، نسأل الله جل وعلا أن يعود لها هذا العز دائماً أبداً، وأن يحفظها من كل سوء ومكروه.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بولاة أمورنا سوءاً، وأراد بعلمائنا فتنةً، وأراد بشبابنا ضلالاً، فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه، وأدر عليه دائرة السوء.

    ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا واعف عنا واغفر لنا وارحمنا.

    اللهم اختم بالسعادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى جناتك مصيرنا ومآلنا، اللهم أحينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة النبيين والصديقين والشهداء.

    اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا حيران إلا دللته، ولا مأسوراً إلا فككت أسره، ولا أيماً إلا زوجته، برحمتك يا أرحم الراحمين!

    اللهم وفق إمام المسلمين لما تحب وترضى، اللهم قرب له من علمت به خيراً له ولأمته، وأبعد واطرد عنه من علمت به شراً له ولأمته، اللهم وفقنا لما تحب وترضى.

    ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.

    اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.

    إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

    اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمدٍ صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين!

    اللهم اغفر لموتى المسلمين، اللهم اغفر لموتى المسلمين، اللهم اغفر لموتى المسلمين، اللهم وسع لهم في قبورهم، اللهم افسح لهم مد أبصارهم، اللهم افتح لهم أبواباً إلى الجنان والنعيم.

    إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768033940