أما بعد:
فيا عباد الله.. اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
معاشر المؤمنين.. تحدثنا في الخطبة قبل الماضية عن العدل والإنصاف في النظر والحكم على الأشخاص والمجتمعات والهيئات والذوات، ومر بنا الحديث عن خطورة العجلة وإطلاق اللسان في الأمور قبل إدراكها وسبر أغوارها، وأن السلامة من الهوى مظنة الحكم بالعدل والحق، وإذا أعمل الرجل عقله ولبه ونبذ تقليد الرجال بغير دليل وبات جريئاً في السؤال لإدراك أبعاد الأمور دون هز الرءوس عند أدنى المسلمات، والاكتفاء بذلك عن التحقيق والتنقيب للوصول إلى حقائق الأمور وجوهرها.
والكلام اليوم بعون الله تعالى في تتمة هذا الأمر، فاعلموا يا عباد الله أن من أسباب الجور في الحكم ومن أسباب قلة التوفيق إلى العدل: أن يفترض الناظر العصمة في مجتمعه وأفراده ومن حوله، والهيئات والمؤسسات العاملة فيه، وبمعنى آخر: ألا يتصور حدوث الخطأ والزلل من قبيله وقرينه ومن حوله، متناسياً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)ولو صح أن العصمة موجودة في البشر، وأن من حولك لا يخطئون، وأن من صلح لا يمكن أن يحدث منه الزلل والخطيئة، لو صح ذلك، فما منزلة ومكانة آيات التوبة والمغفرة والأحاديث الواردة في ذلك؟ أليس ورود هذه الآيات دليل صريح على أن في المؤمنين من يعصي ويستغفر، ويزل ويتوب، ويخطئ وينيب؟
أيها الأحبة.. فأما الزلة والخطيئة فمعفو عنها بالتوبة والاستغفار، ومعفو عنها بالحسنات الماحية للسيئات، قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] وأما الخطأ الصادر عن اجتهاد أراد صاحبه الحق فلم يوفق إليه؛ فذاك معفو عنه، وأما من عرف خطأه وضلاله، لفساد منهجه وخبث طويته وإصراره على ذلك؛ فذاك الذي ينبغي مناصحته وأمره ونهيه بالسبل والوسائل الشرعية المفضية إلى تحصيل المقصود بالمعروف دون حدوث المنكر، أو زيادة في حجم المنكر، وبالجملة فإن قليل السيئات مغفور مع كثير الحسنات، وحسبك ألا معصوم إلا نبي فيما يبلغ عن ربه، وكفى المرء نبلاً أن تعد زلاته، وصدق القائل:
إذا أنت لم تصبر مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه |
فعش واحداً أو صل أخاك فإنه مقارف ذنب مرة أو مجانبه |
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه |
قال ابن الأثير الجزري رحمه الله: وإنما السيد من عدت سقطاته، وأخذت غلطاته، فهي الدنيا لا يكمل فيها شيء.
ويقول ابن القيم رحمه الله: وكيف يعصم من الخطأ من خلق ظلوماً جهولاً؟ لكن من عدت غلطاته أقرب إلى الصواب ممن عدت إصاباته.
واعلموا أيها الأحبة أن مما يوقع في الجور وسوء الحكم والفهم أن ينظر الواحد بعين لا ترى إلا المساوئ دون المحاسن..
شر الورى بمساوئ الناس مشتغل مثل الذباب يراعي موقع الخلل |
إن من لا يرى إلا المساوئ دون المحاسن إن ذلك مما يوقع في الجور وسوء الفهم، وإن مما يوقع في المداهنة والنفاق وفساد التصور، ألا يرى الواحد إلا المحاسن دون المساوئ، وكل هذين خطأ:
فلا تكن فيها مفرطاً أو مفرَّطاً كلا طرفي قصد الأمور ذميم |
فإما أن ترى راضين مُسلِّمين لا يظنون أن في الإمكان خيراً مما كان أو مما يرون أو يسمعون، أو ترى ساخطين لا يرون أن فيما يرون ويسمعون شيئاً من الخير أو الصواب، ولو رأوا خيراً أولوه، ولو رأوا صواباً على شر حملوه، وهم كما قال القائل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا |
أيها الأحبة.. هؤلاء الذين تجرءوا على ذات الله إن ذلك كله لم يمنع من العدل الإلهي أن يذكر فيهم طائفة إذا ائتمنوا بقنطار -بجبل من الذهب- أدوه، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك، فالله جل وعلا يذم اليهود من حيث العموم، ونحن نقرأ في الفاتحة: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] فاليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون، ولكنه في الوقت ذاته يبين ربنا جل وعلا بأن بعضهم يلتزم بأداء الأمانة ولا يخونها؛ ولهذا قال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أي: بغضاء وكراهية قوم عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8] واسمعوا هذه الصحاح التي نقلت عن بني إسرائيل، الذين ذكر من شأنهم ما ذكر من تركهم الأمر والنهي والتلاهي، وذكر ما ذكر فيهم من اللعنة: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة:78] فهم بالعموم وبالجملة قد ذكروا في معرض الذم والتثريب على سوء فعلهم، ولكن لا يمنع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر أن فيهم من إذا اؤتمن أدى الأمانة، ومن إذا اقترض أدى ما عليه، ورد في صحيح البخاري حديث طويل في رجل من بني إسرائيل استقرض من صاحب له ألف دينار إلى أجل مسمى، فلما جاء الأجل، وأراد ذلك الرجل أن يؤدي القرض ويؤدي الدين، التمس مركباً يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركباً، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار، وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها ورمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو يلتمس مراراً مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه، ينظر لعل مركباً قد جاء بماله -أي أن الذي أقرض ذلك الرجل خرج ينتظر غريمه، لعله يأتي بالدين- فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطباً، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه وأتى بالألف دينار فقال: والله ما زلت جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركباً قبل الذي جئت به. قال الآخر: فإن الله قد أدى عنك، بعثت بالخشب، فانصرف بالألف دينار راشداً.
وإن كان يوجد في أهل الكتاب من له عقل وصدق وأمانة قد لا توجد في بعض المنتسبين إلى الإسلام كما قال تعالى في الآية التي ذكرناها آنفاً: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران:75].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان اسمه عبد الله ، وكان يلقب "حماراً" وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله) فهذا الصحابي الجليل رضي الله عنه زلت قدمه وتكرر شرب الخمر منه، ولكن هذا لا يعني فساده بالكلية، بل فيه من الصفات الحميدة الأخرى ما يوجب محبته وموالاته، فيعرف للمحسن إحسانه وللمسيء إساءته إتماماً للعدل والإنصاف.
ولا يجوز بحال أن يغلب جانب النظر إلى المعصية دون النظر إلى بقية الحسنات والفضائل، وهذا حد فاصل بين أهل السنة والخوارج، إذ أن أهل السنة يحبون الرجل من وجه ويبغضونه من وجوه، أو يحبونه من وجوه ويبغضونه من وجه، وقد يجتمع في الواحد حب وبغض في آن واحد، قال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه لما جاءه الشيطان يحثو ويسرق من مال الصدقة وذكره وعلمه آية الكرسي لتحفظه من الشيطان قال: (أما إنه صدقك وهو كذوب) فالنبي صلى الله عليه وسلم أثبت الصدق للشيطان، الذي ديدنه الكذب في تلك الحالة، فلم يمنع ذلك من تقبل الخير الذي دل عليه.
قال سعيد بن المسيب : ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، لكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله.
وقال محمد بن سيرين : ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوء ما تعلم وتكتم خيره.
وقال عبد الله بن الزبير الحميدي : كان أحمد بن حنبل قد أقام عندنا بـمكة على سفيان بن عيينة ، فقال لي ذات يوم: هاهنا رجل من قريش له بيان ومعرفة، فقلت له: فمن هو؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي . وكان أحمد قد جالسه بـالعراق ، فلم يزل بي حتى اجترني إليه، وكان الشافعي قبالة الميزاب، فجلسنا إليه ودارت مسائل، فلما قمنا؛ قال لي أحمد بن حنبل : كيف رأيت الرجل؟ فجعلت أتتبع ما أخطأ فيه وكان ذلك مني بالقرشية -أي من الحسد- فقال لي أحمد بن حنبل : فأنت لا ترضى أن يكون رجل من قريش يكون له هذه المعرفة وهذا البيان -أو نحو هذا القول-؟ تمر مائة مسألة يخطئ خمساً أو عشراً، اترك ما أخطأ وخذ ما أصاب؟
فإذا ظهر هذا وتبين لكم أيها الأحبة علمنا أن تصيد الأخطاء وتتبع العثرات والبحث عن الهفوات، كل ذلك مع التغافل عن الحسنات، دليل على فساد القصد وسوء الطوية، ورحم الله الشعبي إذ يقول: لو أصبت تسعاً وتسعين وأخطأت واحدة لأخذوا الواحدة وتركوا التسعة والتسعين..!
وإن من ينظر بعين الاعتدال، يدعوه اعتداله إذا رأى الخطأ ألا يقنط ولا ييئس من الإصلاح، بل يتوجه لما يرى من الاستجابة ويدأب في العمل للإصلاح إلى جانب ما رآه من الخير والصواب.
يكفي اللبيب إشارة مرموزة وسواه يدعى بالنداء العالي |
فيا أحبابنا.. إن بلادنا بلاد عقيدة وفكرة، وهي وليدة منهج ودعوة، تلكم دعوة الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وتبناها وعاضده فيها المؤسس الأول محمد بن سعود رحمه الله، فإذا كانت تلك الدعوة السلفية قد أنتجت دولة وجمعت شمل أمة؛ أفترون تلك الدعوة السلفية عقيمة لا تلد منهج إصلاح للدعوة أو توجيه للأمة؟ أم ترون أننا بحاجة إلى استيراد مناهج الدعوة يميناً ويساراً من البلاد المجاورة؟
ألا لست بهذا وفي هذا المقام أنتقد مناهج الدعوة في البلاد الأخرى، ومع ذلك لا أدعي لها الكمال والعصمة، بل لها وعليها، وفينا ما لنا وما علينا، وفينا على اختلاف مستوياتنا أخطاء وإصابات وسيئات وحسنات، ولكن لا يستطيع أحد أن يلزمنا بالدعوة على طريقة تلك المناهج الدعوية الموجودة في البلاد المجاورة.. وهذه المسألة مهمة جداً.
وإني والله أقول هذا الكلام، وأدين الله جل وعلا به، وما قلته تملقاً ولا تقرباً لأحد، لكني تأملت سيرة ذلك الإمام الجهبذ العلامة، الذي اجتمعت عليه قلوب الأمة شرقاً ومغرباً، وما علمت مبغضاً له إلا هو أقرب إلى الشر من الخير سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ، رأيت رجلاً لم تستطع جماعة أن تحتويه، ولم يستطع منهج أن يجعله تحت ظله، ومع ذلك لم تستغن جماعة من الجماعات عن علمه ورأيه وفتواه وفكره، وطول خبرته وبصير علمه.
فيا معاشر المؤمنين.. إذا أدركنا ذلك وجدنا أننا بحاجة إلى التوازن، وبحاجة إلى الهدوء، وقد يفهم البعض أن الكلام عن الحكمة والتوازن أن نطأطئ الرءوس عن المنكرات، وأن نسكت عن الخطيئات.. لا والله، ليس هذا من الحكمة وليس هذا من التوازن، إن التوازن: أن ترى الخير فتذكره وتشكره، وأن ترى الشر فتنكره، ولكن بالأسلوب الذي لا يفضي إلى منكر أكبر أو يفوت معروفاً موجوداً.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فيا عباد الله.. اتقوا الله حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة.. إننا نعلم أن من الناس من لا يعجبه مثل هذا القول، ولكن لنعلم جيداً أن الله جل وعلا قد جعل وظيفة الأنبياء ومن ورثهم أن يقودوا الناس إلى الهدى، لا أن يسمعوا الناس ما يشتهون، فتجد من الناس من يقول: نسمع من فلان ما نشتهي، ونسمع من فلان كذا، ونسمع من فلان كذا، وفلان على حظه من الخير إن وفق إلى الخير، وعلى حظه من الأجر إن اجتهد فأخطأ فله أجر، وإن اجتهد فأصاب خيراً فله أجران، وعلى حظه من الإثم إن أراد شيئاً ظاهره أمر وباطنه غيره.
أيها الأحبة في الله.. إن من واجبات العدل في مجتمعنا أن ننظر إلى ما نحن فيه من خير فننميه، وأن نتأمل ما نحن فيه من شر أو خطأ أو نقيصة فنتعاون ونتناصح على إزالته وعلى إصلاحه، وأن يكون هذا دأبنا وديدننا وحرصنا، كما نحرص على أرزاقنا وأنفسنا وأموالنا وذرياتنا، وإني أعجب -أيها الإخوة- من أناس يوم أن يروا حسنة من الحسنات من أناس قد ضل منهجهم أو غاب الوضوح في رأيهم، وجدتهم يطنطنون بها ويذكرونها، وشكراً لهم على ذكر الحسنة في مكانها، ولكن ينبغي ألا تكون الحسنة بمعزل عن ذكر تلك الخطيئة والسيئة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى غيره، فتجد من ينظر بعين فيها هوىً وميل، يحرص أن يئول كل زلة، وأن يستر كل خطيئة، وأن يبعد عن مناقشة كل أمر، فلا تراه يذكر إلا ما يشتهي الناس، أو ما تشتهي الأمة.
إن الله جل وعلا قال: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:105] فالدليل والنص والآية والحديث تجر الناس إلى التصور الصحيح وإلى الفهم السليم، لا أن يسمع الناس ما يشتهون، لا أن يقولوا ما يريدون، وقد حصل لي في أزمة الخليج محاورات كثيرة مع أناس منهم من رفع الصوت، ومنهم من خفضه، ومنهم من اغتاب، ومنهم من ذكر، والله إني أسأل الله أن يغفر لهم، ولكني قلت: لن أقول ما يشتهي الناس، وإنما أقول ما بلغه عقلي بعد اهتداء بهدي من الله وكلام رسول الله، وبعد إدراك لما رآه علماء الأمة، فإن كانت الآية والحديث دلالتها قطعية، فالصغار والكبار لا يجوز لهم أن يحيدوا عنها قيد أنملة، وإن كانت دلالة الدليل ظنية فليس اجتهاد فلان بأولى من علان، وإذا وضعت اجتهادين: اجتهاد من عاصر أمماً عديدة وعاصر دولاً عدة وسبر الأمور، وشابت شيبته في الإسلام، وعرف عنه الهدى والتقى والصلاح والعفاف والبعد عن مصالح الدنيا، أفترون من العقل أن أترك اجتهاده لعلمه وحلمه وورعه وصلاحه لاجتهاد غيره؟ حينئذ إذا اتبعت الحق بما شرح صدرك إليه فلا يضيرك من خالفك، صغيراً كان أم كبيراً، المهم أن يكون قصدك ما يرضي الله جل وعلا، المهم إذا وقفت يوم القيامة بين يدي الله وقيل لك: لماذا قلت كذا وكذا؟ تقول: هذا خير يا رب شرح صدري إليه، أو شرحت صدري إليه على دليل من الكتاب والسنة وفهم علماء الأمة الذين أرشد الله إليهم فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] وقول الله: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ [النساء:83].
ومن يثني الأصاغر عن مراد إذا جلس الأكابر في الزوايا |
وإنّ ترفع الوضعاء يوماً على الرفعاء من أقسى البلايا |
إن العدل كل العدل في منهج نعيشه أن نرد الأمور صغيرها وكبيرها إلى علمائنا الأجلاء، وكبار علمائنا الصالحين ممثلين في سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ومحمد بن صالح بن عثيمين ، ومن وافقهم ونهج نهجهم، والجميع على هدي من النبي صلى الله عليه وسلم، نحسبهم كذلك ونسأل الله لهم ذلك.
وأما ما سوى ذلك أيها الأحبة، فدعونا من بنيات الطرق، وإن الحجة واضحة، والمحجة بينة..
عطاينا سحائب مرسلات ولكن ما وجدنا السائلينا |
وكل طريقنا نور ونور ولكن ما رأينا السالكينا |
أيها الإخوة.. عجبت ذات يوم وكنت حينها في باكستان، أيام الجهاد في بيشاور ، فجلست مع شبيبة أخذوا يتكلمون، لا حديث لهم إلا في الحكام وفي الذوات وفي العلماء، فقلت: يا عباد الله.. ألا تدعوننا ننام هذه الليلة سلمنا من غيبة أعراض وهيئات وذوات. فتطاول البعض منهم إلى حد التكفير، وقال: فلان كافر، وفلان فيه، وفلان كفر. فقلت: يا سبحان الله! إنك يوم القيامة إن لم تتكلم في واحد من هؤلاء لن يسألك الله عنهم، ولن يحاسبك الله لماذا لم تتكلم في فلان وعلان، لكن إن تكلمت في أعراضهم فزللت في ذواتهم وهيئاتهم ستحاسب عن كل صغيرة مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
المهم أنهم تكلموا وتحدثوا وهاجوا وماجوا، واضطرب الحديث واختلف حتى باتوا في حيص بيص، فقلت لهم -وهم من أجناس مختلفة- قلت: يا إخواننا.. مثلاً لو قلت لك في مصر ، أو سوريا أو في تونس أو في الجزائر لو قلت لك: إن هيئة أنشئت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقلت لك: إن قراراً صدر بفصل البنين عن البنات، وقلت لك: إن الدكاكين والحوانيت تغلق وقت الصلاة، وقلت لك: إن القاتل يقتل والسارق تقطع يده، والزاني المحصن يرجم، وقاطع الطريق يقتل، وإن هناك محاكم شرعية، وقلت لك أيضاً: لا تجد باراً مرخصاً أو حانوتاً للزنا مقنناً، وقلت لك وقلت لك من هذه الأمور، أنها عادت إلى بلادك وحكم بها ألا ترى في تصورك أو ظنك أنها خلافة راشدة عادت من جديد؟ قال بعضهم: والله بلى. قلت: إذاً فما بالكم تسلطتم علينا في مجتمعنا، ولا هم لكم إلا بلادنا، أنتم كذا وأنتم أذناب، وأنتم عملاء، وأنتم منافقون، وأنتم مداهنون؛ والمصيبة -أيها الأحبة- أن هذه الشنشنة الأخزمية نسمعها لا أقول في كثير من الأحيان، بل في بعض الأحيان من أناس لم يخبروا حقيقة الأمر، بل في زغرد أيام مؤتمر حقوق الإنسان في البوسنة والهرسك قابلت رجلاً من المشهورين، وأخذت أتحدث معه فقليلاً حتى نزل في مجتمعنا وأصبح لا يتكلم عنا إلا بالسيئات، فقلت له: هل يوجد في بلادكم كذا؟ هل يوجد كذا؟ هل يوجد مثل ذلك؟ فقال: لا. قلت: يا أخي الحبيب.. إن كان ولابد فانظر إلى مجتمعنا بالحسنات والسيئات، ثم إني أسألك الآن عن البلاد التي سميت الآن بلاداً إسلامية، أو وصل الإسلاميون فيها إلى الحكم سددهم الله وأعانهم وثبتهم، هل هدموا القبور والأضرحة؟ هل منعوا التوسل بالأولياء؟ هل منعت المزارات؟ هل ألغي الشرك الأكبر الذي هو أكبر من الربا الذي تحدثني عنه؟ نعم والله ما مررت ببنك إلا وأنا بدلاً من أقرأ بنك كذا، إلا أقرأ في المقابل لوحة اسمها لعنة الله ورسوله على كذا وكذا؛ لأن الله جل وعلا قال: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279] وقال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه) نعم ننظر إلى مجتمعنا بحسناته وسيئاته، بأخطائه وصوابه، بما فيه من الخير وما فيه من الشر، ولكن أن نعطي العقول غيرنا ثم ننصب من أنفسنا أعداءً لحكامنا، أو أن نرى أننا نخالف كبار العلماء منا، فإذا جاءت المسألة الفلانية قلنا: قال ابن باز وقال ابن عثيمين ، وإذا جاءت الأخرى قلنا: لا، قال فلان وعلان..؟ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85] أفنسمع لهذا تارة ونترك ذاك تارة، أم جعل العلماء للحيض والنفاس والصوم والصلاة والزكاة، وجعل غيرهم لأمور السياسة والاقتصاد وغيرها؟ إن العلماء هم العلماء، في السياسة والاقتصاد والطهارة والحج والصلاة والزكاة، وإن التفريق الذي نراه من البعض إنما هو شر ونذير شؤم وخطر على الأمة، وإن نهايته أن يفترق الناس إلى مدارات ثلاثة: مدار الحكام، ومدار العلماء، ومدار الدعاة. وهذا خطر عظيم، لا نسمح ولا نرضى ولا يجوز شرعاً أن يوجد، بل لا حلف في الإسلام، ولا يجوز أن يقوم هذا ليكون نواةً لمجموعات أو أحزاب، إذ أن البلاد أمة، والمجتمع أمة، هي أمة واحدة، منهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات، فمن أحب هذا ورضيه وسأل عنه وناقش العلماء فيه؛ فإنه على خير، ومن أعرض عنه ولم ير إلا ما يشتهي أو ما ردد؛ فله من ذلك ماله وعليه من ذلك ما عليه.
اللهم رب جبرائيل وميكائيل ورب كل شيء ومليكه، فاطر السماوات والأرض، أنت ولينا في الدنيا والآخرة، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
أسأل الله أن يجمعنا وإياكم في الجنة، وأن يصلح لنا ولكم النية والذرية، وأن يعصمنا من الهوى والنفاق والرياء، ونسأله سبحانه أن يصلح شبابنا وعلماءنا وحكامنا ودعاتنا، وأن يجمع شملنا.
يا حي يا قيوم.. اللهم صل على محمد وآله وصحبه. وأقم الصلاة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر