يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102], يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1], يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:
فمع الدرس الأخير من دروس سورة الحجرات، سورة التربية والأخلاق, وبعد أن عشنا مع هذه القواعد التشريعية العظيمة التي أرستها السورة لبناء مجتمع إسلامي كريم؛ نستطيع أن نسجل باطمئنان كامل أن هذه الصورة التي لا تتجاوز ثماني عشرة آية تكاد أن تستقل بوضع منهج متكامل لبناء مجتمع إسلامي كريم سليم العقيدة, نقي القلب، نظيف المشاعر, عف اللسان، مهذب الأخلاق .. إنه مجتمع مثالي بكل ما تحمله هذه الكلمة من تصورات .. مجتمع له أدب مع الله, ومع رسول الله, ومع نفسه, ومع غيره .. مجتمع رباه الإسلام بهدي القرآن على يد من كان خلقه القرآن؛ فقد رباه الله ليربي به الدنيا صلى الله عليه وسلم.
وتختم السورة الجليلة العظيمة الكريمة بوضع لبنة التمام في هذا البناء العظيم, وفي هذا الصرح الشامخ المهيب؛ وذلك ببيان الحقيقة الكبرى، ألا وهي حقيقة الإيمان، وذلك من خلال الحوار الذي دار بين أعراب بني أسد وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلقد ذكر جمهور المفسرين أن هؤلاء وفدوا المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة مجدبة، وكانوا يمنون بذلك على رسول الله عليه الصلاة والسلام, ويقولون: يا محمد أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، وجئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، فأعطنا من الصدقات فإن لنا حقاً عليك, يمنون بذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآيات: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات:14] وكما في الآية التي هي قبل أواخر السورة: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17].
ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل, فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه, ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه, ليس الإيمان كلمة تقال باللسان, ليس الإيمان زعماً يدعى, ولكن الإيمان حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء: لا تقولوا آمنا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا، أي: استسلمنا وأذعنا وانقدنا خوفاً من القتل والسبـي: وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] أي: لم يستحكم الإيمان بعد في قلوبكم.
مسألة جليلة زلت فيها الأقدام، وضلت فيها الأفهام، إلا من رحم الله جل وعلا, نسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وبدايةً -نضرع إليه- قبل أن نشرع بالتفصيل لهذه المسألة وما يتعلق بها من مسائل أخرى, نضرع إلى الله أن يرزقنا الصواب والتوفيق والسداد لمعرفة الفرق بين الإسلام والإيمان!
أولاً: اعلموا أن دين الله عز وجل الذي أنزل به كتبه, وبعث به رسله ورضيه لأهل سماواته وأرضه هو الإسلام: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ [آل عمران:19] وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
هذا الإسلام العظيم قولٌ وعمل, قول باللسان وبالقلب، وعمل باللسان وبالقلب، وبالجوارح.
أولاً: قول اللسان, وهو النطق بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم, والأدلة على ذلك من القرآن والسنة كثيرة -ولله الحمد والمنة- كما في قول الله جل وعلا في سورة البقرة: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ... [البقرة:136]، وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ... [فصلت:30] إلى آخر الآية.
وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى), هذا عن قول اللسان.
ثانياً: قول القلب: وهو التصديق والإيقان وعدم الشك كما في الآية التي معنا في سورة الحجرات: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15] وكما في قول الله جل وعلا: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر:33] وكما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار) هذا عن قول القلب.
ثالثاً: عمل اللسان والجوارح معاً: كتلاوة القرآن، وذكر الله جل وعلا، والتسبيح، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والجهاد، وسائر الطاعات التي لا تؤدى إلا بالجوارح والأعضاء, كما في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41-42] وكما في قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج:77-78] هذا عن عمل اللسان والجوارح.
رابعاً: عمل القلب: وهو النية، والإخلاص، والتوكل، والإنابة، والانقياد، والمحبة، والتفويض، والرجاء إلى آخر الأعمال التي لا تؤدى إلا بالقلب. هذا هو عمل القلب.
وبالجملة: فإن القلب هو الأصل، وهو الملك، ولو استقام هذا الملك لاستقامت الجنود والرعايا, وإذا صلح القلب صلح البدن كله، وإذا فسد القلب فسد البدن كله, كما في حديث النعمان بن بشير الذي رواه البخاري ومسلم وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).
إذاً: الإسلام قول وعمل، قول باللسان وبالقلب، وعمل باللسان وبالقلب وبالجوارح.
أعيروني القلوب والأسماع! فإن هذا الباب من أهم أبواب عقيدة السلف -أهل السنة والجماعة- وهي: الفرق بين الإسلام والإيمان، أقول: إن هذا الباب قد ضلت فيه الأفهام وقد زلت فيه الأقدام.
الفرق بين الإسلام والإيمان:
أولاً: الإسلام:
الإسلام لغة: هو الانقياد والإذعان, وإذا أطلق في الشريعة فله حالتان:
الحالة الأولى: إذا أطلق لفظ الإسلام مفرداً دون أن يقترن بلفظ الإيمان فإن الإسلام حينئذٍ يراد به الدين كله؛ أصوله وفروعه من الاعتقادات والأقوال والأفعال, والأدلة على ذلك كثيرة من القرآن والسنة، منها قول الله جل وعلا: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] وقوله سبحانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] ومنها قول الله جل وعلا: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85] وقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208].
هذا هو الإسلام الذي إذا أطلق وحده فإنه يراد به الدين كله, وفي الحديث الذي يوضح ذلك المعنى أوضح بيان .. وهو الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده والطبراني في الكبير , وقال الإمام الهيثمي في المجمع رجاله ثقات، من حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله ما الإسلام؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (أن يسلم قلبك لله، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك, فقال الرجل: وأي الإسلام أفضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الإيمان, قال: وما الإيمان؟ قال: تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت).
وهذه هي الحالة الأولى لمرتبة الإسلام.
الحالة الثانية: إذا أطلق لفظ الإسلام مع لفظ الإيمان، فإن الإسلام في هذه الحالة يراد به الأقوال والأعمال الظاهرة, كما في الآية في سورة الحجرات في قول الله تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً [الحجرات:14] ويوضح ذلك أيضاً أوضح بيان الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقات رهطاً وأنا جالس عنده وترك النبي رجلاً -وقد وضحت الأحاديث الأخرى هذا الرجل وسمته وهو رجل من المهاجرين يقال له:
ويوضح ذلك أيضاً أوضح بيان حديث جبريل عليه السلام، والذي رواه مسلم وغيره من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبريل لما جاء وسأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا محمد: أخبرني عن الإسلام؟ قال صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً, قال: صدقت -يقول
وهكذا أيها الأحباب: يتضح لنا أن الإسلام إذا أطلق مع الإيمان فإن الإسلام في هذه الحالة يراد به الأعمال والأقوال الظاهرة: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14].
وهذه هي الحالة الثانية لمرتبة الإسلام.
إذاً: عرفنا الآن الإسلام إذا أطلق مفرداً, وعرفنا الإسلام إذا قرن بالإيمان, الإسلام إذا قرن بالإيمان فيراد بالإسلام حينئذٍ الأقوال والأعمال الظاهرة.
أولاً: الإيمان لغة: هو التصديق, كما قال إخوة يوسف لأبيهم: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف:17] أي: وما أنت بمصدق لنا.
أما إذا أطلق الإيمان في الشريعة فله -أيضاً- حالتان:
وكما في قول الله جل وعلا: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة:257] ويوضح ذلك المعنى أوضح بيان حديث وفد عبد القيس الذي رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، لما وفَدَ وفْد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم الرسول بالإيمان، وقال لهم: (أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم, قال عليه الصلاة والسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمساً من المغنم).
هذه هي أركان الإسلام التي حفظناها يبينها النبي صلى الله عليه وسلم ويجعلها أركاناً للإيمان في هذا الحديث؛ لأن الإيمان أطلق وحده دون أن يقترن بذكر الإسلام، فهو حينئذٍ يراد به أيضاً الدين كله؛ أصوله وفروعه من الاعتقادات والأقوال والأفعال, ويوضح ذلك -أيضاً- أوضح بيان الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وستون شعبة، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).
وهكذا أيها الأحباب: اعلموا جيداً أن هذا هو الذي قصده سلفنا الصالح حينما يذكرون في كتبهم: إن الإيمان اعتقاد وقول وعمل, وأن الأعمال تدخل جميعها تحت مسمى الإيمان, ولقد أنكر علماء أهل السنة والجماعة إنكاراً شديداً على من أخرج الأعمال من مسمى الإيمان، وهذا هو الذي أراده الإمام البخاري رحمه الله في الصحيح، حيث بوب في صحيحه أبواباً تحت هذا العنوان .. باب أمور الإيمان .. ثم قال: باب الصلاة من الإيمان .. باب الحياء من الإيمان, باب اتباع الجنائز من الإيمان, باب حب الرسول من الإيمان.. وهكذا.
فإن علماء السلف أنكروا إنكاراً شديداً على من أخرج الأعمال من مسمى الإيمان, فإذا قرأت لعالم من علماء السلف كـأبي حنيفة مثلاً، الذي لم يُفهَم قوله أنه يقول: بأن الإيمان اعتقاد وقول وعمل, فاعلم علم اليقين بأنهم يدخلون جميع الأعمال في مسمى الإيمان، والإيمان يقصد به في هذه الحالة الدين كله، أصوله وفروعه من الاعتقادات والأقوال والأفعال.
وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يرسل إلى الأمصار ويقول: [إن الإيمان فرائض وشرائع، فمن استكملها فقد استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان] رواه البخاري تعليقاً.
هكذا أيها الأحباب إذا أطلق لفظ الإيمان وحده، دون أن يقترن بلفظ الإسلام، فإن الإيمان في هذه الحالة يراد به الدين كله.
هذه هي الحالة الأولى لمرتبة الإيمان.
ويوضح ذلك أيضاً أوضح بيان الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في دعاء الجنازة وقال: (اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام, ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان).
وهكذا -أيها الأحباب- إذا ذكر لفظ الإيمان مع الإسلام؛ فإن الإسلام يراد به الأعمال الظاهرة، والإيمان يراد به الأعمال الباطنة.
وهكذا أستطيع أن أقول بأنني لخصت لكم مذهب أهل السنة والجماعة وأقوال سلفنا الصالح في هذه المسألة العظيمة، التي خالف بها أهل السنة والجماعة جميع الفرق التي فرطت غاية التفريط، من أمثال الخوارج والكراميّة والمعتزلة والأشاعرة والمرجئة وغيرهم, ومذهب أهل السنة هو الحق وهو المذهب الوسط بوسطية هذه الأمة, نسأل الله أن يتوفانا وإياكم عليه.
ثالثاً: أيها الأحباب! من هذه المسائل:أن الإيمان يزيد وينقص.
يزيد الإيمان بالطاعات، وينقص بالذنوب والزلات, هذا أصل عظيم من أصول مذهب أهل السنة والجماعة ، كما قال ربنا جل وعلا في قوله تعالى: لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4] وكما قال ربنا جل وعلا في سورة الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] والآيات في ذلك كثيرة ولله والحمد والمنة.
ويوضح هذا الأصل أوضح بيان الحديث الذي رواه مسلم من حديث حنظلة الأسيدي رضي الله عنه، وهو من كُتَّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال حنظلة : لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال: كيف أنت يا حنظلة ؟ فقال حنظلة : نافق حنظلة يا أبا بكر , قال: سبحان الله! ما تقول؟! فقال حنظلة : يا أبا بكر: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا نراها رأي العين, فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً, قال أبو بكر: والله إنا لنلقى مثل هذا, يقول حنظلة: فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: (وما ذاك؟ فقال
وهكذا يوضح هذا الحديث توضيحاً لا لبس فيه ولا غموض أن الإيمان يزيد بالطاعات وفي وقت الطاعات، وينقص بالذنوب والزلات, نسأل الله أن يزيد إيماننا وإيمانكم بالطاعات إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير!
والمقصود: أن أهل الإيمان يتفاوتون فيما بينهم بحسب درجة الإيمان في قلوبهم؛ فأعلاهم منزلة أولو العزم من الرسل، وأدناهم المخلطون من أهل التوحيد الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً, وبين هاتين الدرجتين من الدرجات ما الله جل وعلا به عليم, فإن أهل الإيمان يتفاضلون ويتفاوتون.
بل إنهم ليتفاضلون ويتفاوتون في العمل الواحد، وفي المكان الواحد، والوقت الواحد، انظروا مثلاً إلى صلاة الجماعة في مسجد واحد، وفي وقت واحد، وخلف إمام واحد، وبين هؤلاء من الدرجات كما بين السماء والأرض، كما قال إمامنا ابن القيم رحمه الله تعالى:
فهذا -مثلاً- يرى الصلاة قرة عين؛ يتمنى أن لو طالت الصلاة, وآخر يحس أنه في أضيق سجن -والعياذ بالله- ويتمنى أن لو انتهت الصلاة كلمح البصر, وآخر من نفس الجماعة، ومن نفس الصفوف تخرج صلاته منيرة مضيئة حتى تفضي إلى عرش الرحمن جل وعلا، وآخر تخرج صلاته مظلمة كظلمة القبر والعياذ بالله, وآخر يقف بجسده في الصلاة وقلبه يهيم في كل واد؛ حتى لا يدري أقرأ الفاتحة جالساً أم قرأ التشهد قائماً, وآخر يقف في الصلاة وهو يفكر هنا وهناك ولا حول ولا قوة إلا بالله، وآخر يأتي الصلاة نفاقاً ورياءً والعياذ بالله, والكل يقف في مسجد واحد، وفي فرض واحد، وخلف إمام واحد، وبينهم من التفاوت والدرجات ما الله جل وعلا به عليم, وعلى هذا التفاوت يموت الناس, وعلى هذا القدر يبعثون، وعلى هذا القدر يكونون في العرق في يوم الموقف, وعلى هذا القدر تقسم الأنوار على الصراط, وعلى هذا القدر يتسابقون إلى الجنات, بل وعلى هذا القدر من الإيمان تكون مقاعدهم من رب الأرض والسماوات في يوم المزيد: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:4] هذه قاعدة هامة من قواعد أهل السنة والجماعة.
وأستطيع أن أقول: بأننا والحمد لله جل وعلا وبتوفيق منه وفضل قد وفينا هذا الباب في قوله تبارك وتعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ الحجرات:14].
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
أيها الأحباب: هكذا تعرفنا على الفرق بين الإسلام والإيمان، وعلى بعض المسائل التي تتعلق بهذا المبحث وهذا الباب، وهي من أهم معتقد سلفنا الصالح، ومن أهم معتقد مذهب أهل السنة والجماعة, نسأل الله جل وعلا أن يتوفانا وإياكم عليه، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير!
ولما أخبر الله الأعراب بأن الإيمان لم يستحكم بعد من قلوبهم، جاءوا مرة ثانية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلفون ويقسمون بالله إنهم من المؤمنين الصادقين، فرد الله جل وعلا عليهم، وقال: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ [الحجرات:16]؛ قل أتخبرون الله بما في قلوبكم، والله جل وعلا يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ [الحجرات:16-17].
إن الفضل لله جل وعلا الذي منَّ عليكم بالإيمان والإسلام من غير اختيار منكم ومن غير إرادة: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) والحديث رواه البخاري من حديث أبي هريرة بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17], والله لو شكرتم الله الليل والنهار فلن تكافئوا هذه النعمة أبداً، نعمة الإيمان ونعمة الإسلام: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34] وصدق من قال:
ومما زادني شرفاً وفخرا وكدت بأخصمي أطأ الثريا |
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا |
بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحجرات:17-18].
أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، أن يرزقنا وإياكم إيماناً صادقاً، اللهم اجعلنا من المؤمنين الصادقين, اللهم ارزقنا لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وجسداً على البلاء صابراً, اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع, ومن دعوة لا يستجاب لها, اللهم قيِّض لأمة التوحيد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه وأنت على كل شيء قدير.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين, اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك, اللهم وفق ولاة الأمر لما تحبه وترضاه.
هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد كما أمركم الله جل وعلا بذلك فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صلَّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
هذا وما كان من توفيق فمن الله جل وعلا وحده، وما كان من خطأ أو سهوٍ أو زللٍ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء, وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في النار، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر