الجواب: السائل أخطأ مرتين: المرة الأولى حينما لم يسق لفظ الآية على صوابه، والمرة الأخرى حينما أدخل في الحديث ما ليس فيه، حيث ذكر السائل قوله: يستغفر أو يستغفران، أي: الجريدة، فبالتالي أشكل على السائل الحديث مع الآية، لكنه ليس في الحديث إطلاقاً أنه يستغفر أو يسبح حتى نتوهم التعارض بين الآية وبين الحديث، ولكن فيما يبدو لي أنه قام في ذهن السائل المعنى السائد في أذهان عامة الناس، والقصة الصحيحة المروية في صحيحي البخاري ومسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: (أما إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبير، أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستنزه من البول. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بجريدة من نخيل فشقها شقين، ووضع كل شق على قبر، فقالوا: لماذا يا رسول الله؟ قال: لعل الله أن يخفف عنهما العذاب ما دام الغصنان رطبين)، فليس في الحديث التسبيح أو عدمه حتى يتعارض مع الآية، ولكن الناس قام في أذهانهم أن سبب تخفيف العذاب عن القبرين إنما هو تسبيح الغصنين ما داما رطبين، فأشكل هذا المعنى الذي هو سائد في أذهان الناس وليس صحيحاً، أشكل على السائل؛ لأن الحديث قيد التخفيف بما دام الغصنان رطبين، فمفهومه أنهما إذا يبسا لم يعودا يسبحان الله، والله تعالى يقول: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44] من هنا جاء الإشكال على السائل، لكن الحقيقة أن الحديث لا يعني مطلقاً أن الغصن يسبح، ليس في الحديث ذكر التسبيح، لا تصريحاً ولا تلميحاً، وبعض الناس توهم أن سبب تخفيف العذاب عن المقبورين إنما هو الرطوبة القائمة في الغصنين، فإذا ذهبت ذهب تخفيف العذاب عنهما، فلا إشكال إذاً، فالآية على إطلاقها: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] سواء كان حجراً أو كان شجراً، وسواء كان هذا الشجر رطباً أو كان يابساً، فالآية على إطلاقها، فهنا يرد السؤال: ما السر في تخفيف العذاب عن الرجلين المقبورين؟ وما السر في قوله عليه السلام: (ما لم ييبسا)؟
الجواب: جاء في حديث آخر، وهذا الحديث الذي سقناه آنفاً هو من حديث ابن عباس في صحيحي البخاري ومسلم، فجاء الحديث في صحيح مسلم وحده من رواية جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الحادثة أو فيما يشبهها لما أمر بوضع الغصن، وسئل عن السبب قال: (إن الله تبارك وتعالى قبل شفاعتي في أن يخفف عنهما العذاب ما دام الغصن رطباً) فإذاً: سبب تخفيف العذاب هو شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاؤه للمقبور، والرطوبة ليست سبباً لتخفيف العذاب، وإنما علامة لمدة تخفيف العذاب، هذا معنى الحديث.. تخفيف العذاب سببه شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاؤه للمقبور، والرطوبة القائمة في الغصن هي علامة ما بقيت على تخفيف العذاب، فإذا ما ذهبت هذه الرطوبة وأصبح الغصن يابساً عاد العذاب إلى المقبور.
هذا هو السر والسبب في تخفيف العذاب عن الميت في هذا الحديث، وليس السر هو أن الغصن ما دام رطباً يسبح الله وما دام يابساً لا يسبح الله، حين ذاك يتعارض هذا مع الآية، فليس في الحديث شيء من ذلك مطلقاً، فالآية على عمومها وعلى إطلاقها، كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] .
الجواب: أنا أرجو من السائل بصورة خاصة والمستمعات بصورة عامة أن ينتبهن لقول عمر ؛ لأن هذا هو بيت القصيد إذا أردنا أن نفهم هذه القصة فهماً صحيحاً.
عمر يقول: (يا رسول الله! إنك لتنادي أجساداً لا أرواح فيها) ما معنى كلام عمر؟ كأنه يريد أن يقول ولكن لا يجرؤ أن يقول إلا بكلام لطيف ولطيف جداً، يقول: يا رسول الله! نحن تعلمنا منك أن الأموات لا يسمعون، أنت الذي أنزل إليك وبلغت ما أنزل عليك: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:22] ..إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [النمل:80] فما بالك يا رسول الله! الآن في هذه الساعة تنادي أجساداً لا أرواح فيها؟
فهل قال رسول الله لـعمر : أخطأت؟ أنا ما قلت لك هكذا، أو ما بلغتك شيئاً من هذا؟ بل أقره على قوله: (إنك لتنادي أجساداً لا أرواح فيها) ولكنه أجابه وأفهمه شيئاً ما كان عمر ليفهمه لولا بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا) كأنه يقول عليه الصلاة والسلام: أنا الذي قلته يا عمر هو حق وصواب، وفعلاً أنا بلغتك أن الموتى لا يسمعون، ولكن الله تبارك وتعالى أحيا هؤلاء حتى سمعوا النداء وفهموا التبكيت والإنكار، ولو استطاعوا أن يجيبوا لقالوا: نعم. إنا وجدنا ما وعدتنا حقاً، ولكن ولات حين مندم، ولات حين مناص! -يقول الرسول-: (ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا).
إذاً: قصة قليب بدر تؤكد ما سبق ذكره من أن الموتى لا يسمعون، ولكن في الوقت نفسه هذه القصة تعطينا تنبيهاً عظيماً، وهو أن المسلم لا يجوز أن يجمد على المعتاد من الأمور، ومن العادات، ومن السنن التي يمكن أن نسميها بالسنن الكونية، أي: إذا كان من سنة الله عز وجل أن الموتى لا يسمعون، فلا ينبغي أن يضيق عقله عن أن يؤمن بأن الله عز وجل قادر على أن يسمع الموتى الذين من طبيعتهم أنهم لا يسمعون، هذه هي الفائدة والنكتة من قصة قليب بدر.
أي: إن الله عز وجل قادر على إسماع الموتى الذين عادة لا يسمعون، كما أن الله عز وجل قادر على أن يمكن النبي صلى الله عليه وسلم من أن يصعد إلى السماوات العلا، حيث لا يستطيع إنسان في الدنيا أن يصعد هذا الصعود؛ لأنه خلاف سنة الكون، فالله عز وجل خلق الإنسان وخلق له قدرات محدودة النطاق، فهو يبصر ويسمع ويمشي ويرفع، ولكن بنسب محدودة، هو ينظر مسافة مثلاً (كم)، لكن لا يستطيع أن ينظر إلى مائة (كم) فضلاً عن أكثر من ذلك، يرفع خمسين (كجم) مائة (كجم) مائتين (كجم) بعد تمارين عديدة، لكن لا يستطيع أن يرفع ألف (كجم) -مثلاً-؛ لأن هذه حدود الطاقة البشرية التي طبع الله البشر عليها، ولكن الله عز وجل بقدرته يستطيع أن يمكن إنساناً أن يرفع ألف (كجم) باليد الواحدة؛ لأن الله على كل شيء قدير، وعلى هذا جاءت قاعدة معجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء هو من باب خرق العادة، أما السنن فلا تساعد على ذلك.
كذلك جماعة قليب بدر من الكفار هم على اعتبار الأموات لا يسمعون، ولكن الله أسمعهم، لذلك قالها صريحة أحد رواة هذا الحديث وهو قتادة، حيث قال: [أحياهم الله له عليه السلام] أي: ما سمعوا وهم موتى، وإنما أحياهم الله عز وجل فسمعوا قوله عليه السلام ومناداته إياهم.
إذاً: قصة قليب بدر تؤكد أن الموتى لا يسمعون كما قال ربنا تبارك وتعالى.
وهنا ملاحظة: ومن الفقه الدقيق لما قال عمر: (يا رسول الله! إنك لتنادي أجساداً لا أرواح فيها) وسكت الرسول على ذلك، معناه: أن سكوته إقرار، لكن من جهة أخرى أفهم عمر أن هنا أمراً خارقاً للعادة؛ أي: أن هؤلاء سمعوا مثلما أنتم تسمعون، لكن أنتم أحياء تسمعون بطبيعتكم، فهؤلاء أموات لا يسمعون بطبيعتهم، ولكن الله أحياهم فسمعوا، فخضع عمر .
يشبه هذه القصة تماماً من حيث أن الرسول أقر الصحابي على ما قال من الإنكار، ولكن علمه ما لم يكن يعلم، مثل هذا قصة أبي بكر الصديق :، حينما دخل ذات يوم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجىً -مغطى- كأنه نائم، وعنده جاريتان من الأنصار تغنيان، تضربان عليه بدف، فلما دخل أبو بكر الصديق قال: (أمزمار الشيطان في بيت رسول الله؟!) -ينكر الغناء الصادر من الجاريتين في بيت الرسول، والرسول حاضر- فرفع عليه الصلاة والسلام رأسه وقال: دعهما يا أبا بكر، فإن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا) هذا تماماً على ميزان قول عمر، ورد الرسول عليه، فكما أن الرسول ما أنكر على عمر قوله: (إنك لتنادي أجساداً لا أرواح فيها) كذلك لم ينكر على أبي بكر الصديق قوله: (أمزمار الشيطان في بيت رسول الله) ولكن علمه ما لم يكن يعلم، كأنه عليه الصلاة والسلام قال لـأبي بكر : إن هذا الذي تقوله حق، هذا مزمار الشيطان؛ الغناء هو مزمار الشيطان، لكن هنا استثناء بمناسبة العيد، لذلك قال: (دعهما فإن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا).
إذا أردنا أن نأخذ فقهاً من مجموع إنكار عمر وتعليم الرسول إياه، تكون النتيجة: الأموات لا يسمعون إلا إذا أحياهم الله معجزة للنبي فيسمعون.
وإذا أردنا أن نأخذ فقهاً من إنكار أبي بكر الصديق وإقرار الرسول لهذا الإنكار، مع تعليمه إياه ما لم يكن يعلم من قبل، نخرج بالنتيجة الآتية: الغناء بالدف مزمار الشيطان إلا في يوم العيد، هذا الاستثناء هو الذي لم يكن يعلمه أبو بكر الصديق من قبل فعله الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً: قصة قليب بدر لا تنافي حقيقة أن الموتى لا يسمعون.
وعن محمد بن جحش قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على
فهل هناك تعارض بين الحديثين؟ أو هل يُفهم من الحديث الأول أن الفخذ ليس بعورة؛ لأنه لو كان عورة ما كشفه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟
الجواب: لو لم يكن في الباب الحديث الثاني لكان الحديث الأول يدل على أن فخذ الرجل بالنسبة للرجل ليس بعورة، ولكن ما دام أنه قد جاء هذا الحديث الثاني وأحاديث في معناه كثيرة تصرح بأن الفخذ عورة؛ فحينذاك لا يؤخذ الحكم من الحديث الأول الذي فيه أن الرسول كشف عن فخذه في حضرة أبي بكر و عمر، وإنما يؤخذ الحكم من الحديث الثاني.
والسبب: أن هناك قاعدة فقهية تقول: إذا تعارض حديثان، وكان أحدهما من قوله عليه السلام كحديث معمر هذا، والآخر من فعله عليه الصلاة والسلام كحديث عائشة، ففي هذه الحالة يقدم القول على الفعل. هذه قاعدة أصولية من تفقه بها فُتحَ عليه فقه كبير جداً، واستطاع التوفيق بين أحاديث كثيرة، وهي: القول مقدم على الفعل عند التعارض.
والقول في ذلك: إن القول الصادر من الرسول عليه السلام الموجه إلى الأمة هو شريعة عامة، أما الفعل الذي يفعله هو فيمكن أن يكون شريعة عامة حينما لا يوجد معارض له، ويمكن أن يكون أمراً خاصاً به عليه الصلاة والسلام.
ومن المعلوم أيضاً عند العلماء قولهم: الدليل إذا طرأ عليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
فهذا الفعل، أي فعله عليه الصلاة والسلام، يمكن أن يكون شريعة عامة، ويمكن أن يكون حكماً خاصاً به عليه الصلاة والسلام، ويمكن أن يكون هذا الشيء الذي فعله الرسول عليه الصلاة والسلام لعذر، فما دام أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أسباباً كثيرة تجعل هذا الفعل ليس شريعة عامة، وقد جاء قوله عليه السلام بما يخالفه؛ حينذاك القول مقدم على الفعل، ولهذا أمثلة كثيرة جداً.
مثلاً: من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يواصل الصيام، يواصل صوم النهار مع الليل والليل مع النهار وهكذا، فرآه أصحابه فواصلوا معه الصيام ولم يفطروا، وإنما أربعة وعشرين ساعة، وثمانية وأربعين ساعة .. وهكذا يتضاعف الرقم، فواصل الصحابة معه حتى ضعفوا! لم يستطيعوا أن يتابعوا الوصال في الصيام، فنهاهم الرسول عليه الصلاة والسلام عن أن يوصلوا الصيام، فقالوا: (يا رسول الله! إنك لتواصل، فقال عليه الصلاة والسلام: إني لست كهيئتكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني) إني لست كهيئتكم؛ لست كمثلكم، عندي طاقة وعندي قدرة ربانية، الله عز وجل يمكنني بها من مواصلة الصيام والاستمرار فيه، وأنتم لستم مثلي، فلا تواصلوا.
فهنا نأخذ الحكمة من القاعدة السابقة، أن الرسول عليه السلام قد يفعل الفعل وهو خاص به، فما دام أنه نهى عن شيء وهو فعله فنحن لا نفعله؛ لأن فعله خاص به، وقوله شريعة عامة للمسلمين جميعاً.
كذلك من الأمثلة المشهورة عند جميع الناس: أن الرسول عليه السلام مات وتحته تسع نسوة، بينما جاء في الحديث الصحيح: أن رجلاً في الجاهلية كان متزوجاً تسعاً، فلما أسلم جاء إلى الرسول عليه السلام فذكر له ذلك، فقال له: (أمسك منهن أربعاً وطلق سائرهن) ما قال له: أنت متزوج كذا؛ لأنه يعرف أن له خصوصياته.
إذاً: إذا اختلف القول من الرسول عليه السلام مع فعله فالقول مقدم على الفعل.
فحديث عائشة هنا لا يعارض حديث معمر : (غط فخذيك؛ فإن الفخذين عورة) فهو المعتمد في هذه المسألة، وليس حديث عائشة ؛ لأنه فعل من الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا يمكن أن يكون قبل تحريم كشف الفخذ، ويمكن أن يكون خصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الاعتماد على قوله عليه السلام في هذه الحادثة وليس على فعله.
الجواب: لأنه يسأل وليس له حق السؤال، ومعنى يسأل يشحذ، يأتي يطلب من الرسول عليه الصلاة والسلام مالاً وهو قوي، كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح: (لا صدقة لغني ولا لذي مرة قوي) لغني واضح، ولذي مرة، أي: قوة، قوي، أي: قوي الخلق، ليس بناقص ولا ضرير ولا مقطوع اليد أو الرجل، فهذا لا صدقة له، ولا يجوز له أن يسأل ولا أن يُتصدق، عليه إلا إذا كان فقيراً أو إذا كان عاجزاً، فحينما كان يأتيه الرجل وهو من هذا النوع، إما أن يكون غنياً أو ذا مرة قوي، ويسأل الرسول عليه الصلاة والسلام فيتحرج عليه الصلاة والسلام من ألا يعطيه، فما يسعه عليه الصلاة والسلام إلا أن يعطيه، ولكن مع ذلك يبين أن هذا السائل الذي أخذ ما أعطاه الرسول إنما يتأبط ناراً، لماذا؟ لأنه سأل ما ليس له حق فيه، فيقول الصحابة للرسول عليه الصلاة والسلام: إذاً: لِمَ تعطيه ما دمت ترى يا رسول الله أن هذا لا يستحق السؤال وبالتالي لا يستحق الإعطاء؟ فلماذا تعطيه؟
في جواب الرسول عليه الصلاة والسلام الآتي بيان أنه عليه الصلاة والسلام له منـزلة ومقام يسوغ له من الأحكام ما يختص بها دون سائر الأنام، يقول الرسول عليه السلام: (وماذا أفعل؟ إنهم يسألونني ويكره الله لي البخل) ومعنى هذا: أن مقام النبوة يجب أن تكون بعيدة من أن يقال فيها ما لا يليق بها، ومن ذلك البخل، فلو أن الرسول عليه الصلاة والسلام كلما جاءه سائل من الذين لا يجوز لهم السؤال امتنع من إعطائهم، لنشر هؤلاء بين الناس أن الرسول عليه الصلاة والسلام شحيح وبخيل، بدليل أن فلاناً جاءه وسأله فلم يعطه، وفلان جاءه وسأله فلم يعطه، ومثل هذه الإشاعة التي لها ظواهر قد يقتنع بها بعض الناس، حيث امتنع الرسول من الإعطاء مما لا يناسب مقام النبوة والرسالة؛ ولذلك فكان يترجح عند الرسول عليه الصلاة والسلام ولو كان غنياً، أن يعطي السائل ولو كان مستطيعاً للكسب، حتى لا يقال: إنه شحيح بخيل.
ومن هنا نستطيع أن نقول: إن غير الرسول عليه الصلاة والسلام ليس له هذا الحكم، وأعني بهذا: أن المسلم.. أن أحدنا إذا سأله سائل، جاءه متسول وقال له: أعطني من مال الله، فإذا كان المسئول يعلم أن هذا السائل لا يحق له السؤال، وأنه اتخذ السؤال والشحاتة مهنة فلا ينبغي أن يعطيه؛ لأنه في بإعطائه إياه يساعده على ضلاله، يساعده على اتخاذه السؤال مهنة، والمساعدة على الباطل باطل، والمساعدة على الإثم إثم، كما قال تعالى: وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] أما الرسول عليه الصلاة والسلام فله ذلك الحكم خصوصية له من دون الناس، أما نحن فلا يؤثر فينا، ولا تتأخر دعوة الإسلام إذا أشاع الناس بالباطل أن فلاناً بخيل، أما الرسول عليه الصلاة والسلام الذي هو الداعي الأول للإسلام، فقد تتأخر الدعوة بسبب مثل هذه الإشاعة التي تكون قائمة على امتناع الرسول عليه الصلاة والسلام من إعطاء من لا يستحق العطاء.
فهذا مثال يساعدنا على فهم هذا العطف في هذا الحديث، ورب متخوض في مال الله ورسوله، فهذا المال الذي أعطاه الرسول هو ماله، ومع ذلك فقد تصرف هذا السائل في هذا المال تصرفاً غير مشروع؛ لأنه أخذه بغير حقه.
الجواب: رسول الله صلى الله عليه وسلم يجوز له أن يخلو مع أية امرأة كانت؛ لأنه قد قال: (ما من رجل إلا ومعه قرينه -يعني شيطان- فلما قالوا له: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن الله تبارك وتعالى أعانني عليه فأسلم) روايتان: فأسلم، أي: من شره ووسوسته، والرواية الثانية: فأسلمَ، أي: صار مسلماً، فلا يأمره عليه السلام إلا بخير.. لا يأمره إلا بخير أمر مقطوع به، على كل من الروايتين، إما أنه أسلم حقيقة فهو لا يأمر النبي عليه الصلاة والسلام إلا بخير، وإما أنه ظل على كفره وضلاله ولكن الله عز وجل عصم نبيه من وسوسته بالشر وإنما هو يأمره بالخير.
لذلك كان اختلاء الرجل بالمرأة نهى الشارع الحكيم عن مثل هذه الخلوة، أولاً: من باب سد الذريعة، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ما اختلى رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) فالرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطبق عليه هذا الحكم؛ لأنه إذا خلا مع امرأة لم يكن الشيطان ثالثهما، سواء كان أسلم أو لم يسلم، أما على اعتبار أنه أسلم فالقضية واضحة، إنما هناك مسلمون جماعة ليس معهم شيطان، وعلى رواية: فأسلم، من شره، فهو في حكم المسلم الذي لا يأمره إلا بخير.
فإذاً: مثل هذه الخلوة للجماعة في بيت امرأة وهم الصالحون، وزوجها كما سمعتم في الحديث: (ذهب ليستعذب الماء) فهو سرعان ما سيعود، فمثل هذه الظروف لا مانع إطلاقاً من مثل هذا الدخول على المرأة الغريبة.
لقواعد أصولية فقهية منها: أنه إذا تعارض القول والفعل قدم القول على الفعل، وهذا هنا ينطبق كما هو واضح.
ومنها: إذا جاء نص حاظر مانع محرم، ونص آخر مبيح؛ قدم الحاظر المانع المحرم على المبيح، ومثال هذا أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أكثر من أربع من النساء، لكنه لما جاءه رجل وأسلم وتحته تسع نسوة قال: (أمسك أربعاً منهن وطلق سائرهن) فهذا من هذا الباب، نهى وفعل، ففعله يقع هنا خاص به ونهيه شرع عام لأمته.
الجواب: أحاديث الكشف التي يشير إليها السائل هي أحاديث فعلية، أي: انكشف فخذ الرسول عليه الصلاة والسلام بمناسبة أو أكثر من مناسبة، أما الأحاديث التي تعتبر الفخذ عورة فهي أحاديث قولية، أي: إن الرسول عليه الصلاة والسلام تلفظ فقال -مثلاً-: (الفخذ عورة) فما كان من قوله عليه السلام موجهاً إلى أمته فهو تشريع عام لهم، وما كان من فعله عليه الصلاة والسلام مخالفاً لقوله، لا أقول مطلقاً، وإنما ما كان من فعله عليه الصلاة والسلام مخالفاً لقوله فهناك احتمال من ستة احتمالات:
الاحتمال الأول: أن يكون فعله قبل قوله، قوله هنا: (الفخذ عورة) تشريع أن الفخذ عورة فيحرم كشفه، متى كان هذا التشريع؟
قطعاً لم يكن يوم أن قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر:1-2] ؛ لأنه في هذا الوقت إنما أمر بتبليغ الأمة دعوة التوحيد قبل أي شيء آخر.. قبل تشريع أحكام الحلال والحرام.. قبل الحض على مكارم الأخلاق والنهي عن مساويها.. قبل أي تشريع، إنما هو وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر:3] فلم يكن مثل هذا القول: (الفخذ عورة) في أول الإسلام، وإنما كان بعد ذلك.
إذاًَ: نستطيع أن نتصور المسلمين وعلى رأسهم سيدهم، بل سيد الناس أجمعين محمد صلى الله عليه وآله سلم، وهم يفعلون أفعالاً في أول الإسلام تنزهوا عنها بعد ذلك أو بعيد ذلك حسبما شرع الله عز وجل وأنزل، فيوم أُمر بتبليغ الناس التوحيد لم يكن هناك أحكام: هذا حرام وهذا حلال.. الفخذ كشفه حرام.. شرب الخمر حرام.. لبس الحرير حرام، لم تكن هذه الأحكام في أول الإسلام، فإذاً من الممكن حينما روى الصحابي الثقة أن الرسول كشف عن فخذه، قد يمكن أن يكون ذلك قبل أن ينزل عليه هذا الحكم الذي بلغه إلى الناس بقوله: (الفخذ عورة) هذا هو الاحتمال الأول.
الاحتمال الثاني: أنه يمكن أن يكون ذلك بعد النهي، أي: بعد قوله: (الفخذ عورة) ولكن يكون هذا خصوصية له عليه الصلاة والسلام، لا يشاركه في ذلك غيره من الناس جميعاً؛ لأن هؤلاء الناس قد خوطبوا بذلك الحكم الشامل لجميعهم: (الفخذ عورة) وفي حديث آخر أنه مر برجل وقد انكشف فخذه فقال له: (خَمِّر، أو غط فخذك فإن الفخذ عورة).
وهناك أمر ثالث: لكن أستدرك الآن على نفسي وأقول: إنه لا ينطبق على مثل هذا الأمر؛ لأنه قد يمكن أن يقال، إذا كان هناك نهي أن النهي للتنزيه، هكذا يجمع أحياناً، فهنا لا مناص من أن يقال: إما أن كشف الرسول عليه الصلاة والسلام لفخذه كان قبل قوله: (الفخذ عورة) وإما أن يكون ذلك خصوصية له لا يشاركه فيها غيره.
وذلك مثل تزوجه بأكثر من أربع من النساء، مع أنه قد قال لمن كان عنده أكثر من ذلك من النساء: (أمسك منهن أربعاً وطلق سائرهن) فهذا حكم عام للأمة، أما تزوجه بأكثر من أربع فهو حكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.
أيضاً حديث: (الفخذ عورة) من المناهي التشريعية مقدم على حديث كشف الرسول عليه السلام لفخذه، لما سبق بيانه.
الجواب: التضحية عن الغير -أولاً- ليست مشروعة بالإطلاق الذي يفهمه عامة الناس، وإنما الذي يضحي عن الغير هو الولد عن أبيه أو أمه، وحينئذٍ ليس هناك دعاء معين، وإنما يقول: اللهم هذا عني وعن أبي، أو هذا عني وعن أمي، أما ذاك الذي جاء عن الرسول عليه الصلاة والسلام فهو أمر خاص يوم أن ضحى فقال: (هذا عني وعمّن لم يضح من أمتي) فهذا يجب أن يفهم وأن يفسر تفسيراً يتفق مع الأحاديث الأخرى، ومع التكاليف الشرعية الأخرى، (اللهم هذا عني وعمّن لم يضح من أمتي) هل يمكن أن نفسر هذا الحديث: وعمّن لم يضح من أمتي وهو قادر على التضحية، وهو ممن يخاطبه الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: (من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا)؟ لا يمكن، إذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: هذا الكبش عني وعمّن لم يضح من أمتي، فلا يصح حمله حتى على أولئك الأغنياء المترفين الفاسقين، الذين يذبح أحدهم لأتفه مناسبة فتجد عندهم عشرات الأضاحي، ولا يذبح أضحية واحدة بمناسبة عيد الأضحى، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا) هذا الذي يوعده ويهدده بهذا الوعيد الشديد، فلا يقربن مصلانا، هل يقول: أنا أذبح عنه؟! هكذا الأحاديث يجب أن تجمع بعضها إلى بعض ليفسر بعضها ببعض.
فقوله عليه السلام في هذا الحديث: (اللهم هذا عني وعمّن لم يضح) أي: عن العاجزين من أمتي، أما نحن فنذبح فقط عن أنفسنا وعمّن هم سبب حياتنا ووجودنا وهما الأبوان.
إذاً: ليس هناك دعاء معين، وإنما فيه مثل التلبية بالحج: اللهم لبيك بعمرة، اللهم لبيك عن فلان، كذلك هنا: اللهم هذا عني وعن أبي أو وعن أمي.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر