يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71] .
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وقفتُ على مقالٍ لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله، فيه بيان فضل أهل الحديث، وأن أهل الحديث هم الفرقة الناجية، وأنهم هم الذين ينبغي أن يتدين المسلم وأن يتمذهب بمذهبهم.
وكل من كان عنده شيء من الثقافة الإسلامية الصحيحة يعلم من هو شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله، وبأوجز عبارة يمكن لمن لم يكن له ثقافة ما، أو معرفة ما بفضل هذا الرجل العالم، أن يعرف حقيقة علمه وفضله، إذا ما عرف أنه قد تيسر لبعض طلاب العلم في هذا الزمن، أن يجمع من فتاواه ورسائله التي ألفها جواباً على أسئلة السائلين له من مختلف البلاد الإسلامية في زمانه خمسة وثلاثين مجلداً من هذا القياس المعروف.
فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وجزاه عن الإسلام والسنة خيراً، هو في الواقع من نوادر العلماء الذين رفعوا راية السنة عالية، وقضى بها على مختلف البدع الدخيلة في الإسلام، سواءً ما كان منها من بدع فلسفية، أو اعتقادية، أو فقهية، أو صوفية، أو أي بدعة كانت يتبرأ الإسلام منها، فـشيخ الإسلام كان هو الإمام الوحيد الذي انبرى لمخالفة كل أصحاب البدع على اختلاف أنواعهم، وطرقهم، ومذاهبهم.
لذلك رأيتُ من الواجب عليَّ أن أذكر لكم شيئاً من كلام هذا الرجل، وخاصة أن هذا الكلام هو فيما ندعو إليه منذ أكثر من ثلث قرن من الزمان، ألا وهو: اتباع الكتاب والسنة، وعدم التمذهب بسوى هذا المذهب، ألا وهو مذهب أهل الحديث؛ لذلك أرى أن أذكر لكم فصلاً من كلامه؛ لتتبينوا أهمية مذهب أهل السنة، وهو المذهب الذي ورثه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وهؤلاء بدورهم ورَّثوه مَن بعدَهم ثم لم يزل كلُّ مَن جاء مِن بعدِهم، وكان يهتدى بهديهم، لا يرضى بسوى السنة له مذهباً.
بسم الله الرحمن الرحيم
" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]، العالم بما كان، وما هو كائن، وما سيكون، الذي إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] .
الذي يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68] .
وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:70] .
الذي دلَّ على وحدانيته في إلَهِيَّته أجناسُ الآيات، وأبانَ علمُه لخليقتِه ما فيها من إحكام المخلوقات، وأظهر قدرتَه على بريته ما أبدعه من أصناف المخلوقات، وأرشد إلى فعله بسنته تنوُّع الأحوال المختلفات، وأهدى برحمته لعباده نعمَه التي لا يحصيها إلا رب السماوات، وأعلم بحكمته البالغة دلائلُ حمده وثنائه الذي يستحقه من جميع الحالات، لا يحصي العباد ثناءً عليه بل هو كما أثنى على نفسه بما له من الأسماء والصفات، وهو المنعوت بنعوت الكمال وصفات الجلال التي لا يماثله فيها شيءٌ من الموجودات، وهو القدوس السلام المتنزه أن يماثله شيءٌ في نعوت الكمال أو يلحقه شيء من الآفات.
فسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان:2] .
أرسل الرسل مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء:165]، مبشرين لمن أطاعهم بغاية المراد من كل ما تحبه النفوس وتراه نعيماً، ومنذرين لمن عصاهم باللعن والإبعاد وأن يعذَّبوا عذاباً أليماً.
وأمرهم بدعاء الخلق إلى عبادته وحده لا شريك له، مخلصين له الدين، ولو كره المشركون، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:51-52] .
وجعل لكلٍ منهم شرعة ومنهاجاً؛ ليستقيموا إليه ولا يبغوا عنه اعوجاجاً، وختمهم بمحمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أفضل الأولين والآخرين، وصفوة رب العالمين، الشاهد البشير النذير، الهادي السراج المنير، الذي أخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [إبراهيم:1-2] .
بعثه بأفضل المناهج والشرع، وأحبط به أصناف الكفر والبدع، وأنزل عليه أفضل الكتب والأنباء، وجعله مهيمناً على ما بين يديه من كتب السماء.
وجعل أمته خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، يوفُون سبعين أمة، هم خيرها وأكرمها على الله.. هو شهيد عليهم، وهم شهداء على الناس في الدنيا والآخرة، بما أسبغه عليهم من النعم الباطنة والظاهرة، وعصمهم أن يجتمعوا على ضلالة، إذْ لم يبقَ بعده نبي يبين ما بُدِّل من الرسالة، وأكمل لهم دينهم، وأتم عليهم نعمه، ورضي لهم الإسلام ديناً، وأظهره على الدين كله، إظهاراً بالنصرة والتمكين، وإظهاراً بالحجة والتبيين.
وجعل فيهم علماءهم ورثة الأنبياء، يقومون مقامهم في تبليغ ما أُنزل من الكتاب، وطائفة منصورة لا يزالون ظاهرين على الحق لا يضرهم مَن خالفهم ولا مَن خذلهم إلى حين الحساب.
وحفظ لهم الذكر الذي أنزله من الكتاب المكنون، كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فلا يقع في كتابه من التحريف والتبديل، كما وقع في أصحاب التوراة والإنجيل.
وخصَّهم بالرواية والإسناد، الذي يُمَيِّز به بين الصدق والكذب جهابذة النُّقَّاد، وجعل هذا الميراث يحمله مِن كل خلفٍ عدوله؛ أهل العلم والدين، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؛ لتدوم بهم النعمة على الأمة، ويظهر بهم النور من الظلمة، ويحيا بهم دين الله الذي بعث به رسوله، وبيَّن الله به للناس سبيله، فأفضلُ الخلق أتبعُهم لهذا النبي الكريم، المنعوت في قوله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين، وإله المرسلين، ومالك يوم الدين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى الناس أجمعين، أرسله والناس من الكفر والجهل والضلال في أقبح خيبة وأسوأ حال، فلم يزل صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد في تبليغ الدين، وهدي العالمين، وجهاد الكفار والمنافقين، حتى طلعت شمس الإيمان، وأدبر ليل البهتان، وعزَّ جند الرحمان، وذلَّ حزب الشيطان، وظهر نور الفرقان، واشتهرت تلاوة القرآن، وأُعلن بدعوة الأذان، واستنار بنور الله أهل البوادي والبلدان، وقامت حجة الله على الإنس والجان، لَمَّا قام المستجيب من المعد بن عدنان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، صلاةً يرضى بها الملك الديان، وسلَّم تسلماً مقروناً بالرضوان.
فإنه لا سعادة للعباد، ولا نجاة في المعاد؛ إلا باتباع رسوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء:13-14] .
فطاعة اللهِ ورسولِه قطبُ السعادة التي عليها تدور، ومستقر النجاة الذي عنه لا تحور، فإن الله خلق الخلق لعبادته، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وإنما تعبدهم بطاعته وطاعة رسوله، فلا عبادة إلا ما هو واجب أو مستحب في دين الله، وما سوى ذلك فضلال عن سبيله، ولهذا قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدُّ)، أخرجاه في الصحيحين.
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديث العرباض بن سارية، الذي رواه أهل السنن وصححه الترمذي : (إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)، وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره، أنه كان يقول في خطبته: (خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة).
وقد ذكر الله طاعة الرسول واتباعه في نحوٍ من أربعين موضعاً من القرآن، كقوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80] .
وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً * فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:64-65] .
وقوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:32] .
وقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31] .
فجعل محبة العبد لربه موجبة لاتباع الرسول، وجعل متابعة الرسول سبباً لمحبة الله عبدَه، وقد قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52] .
فما أوحاه الله إليه يهدي الله به من يشاء من عباده، كما أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك هداه الله تعالى، كما قال تعالى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [سبأ:50] .
وقال تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:15-16] .
فبمحمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم تبين الكفر من الإيمان، والربح من الخسران، والهدى من الضلال، والنجاة من الوبال، والغي من الرشاد، والزيغ من السداد، وأهل الجنة من أهل النار، والمتقون من الفجار، وإيثار سبيل مَن أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69] مِن سبيل المغضوب عليهم والضالين.
فالنفوس أحوج إلى معرفةِ ما جاء به واتباعِه منها إلى الطعام والشراب، فإن هذا إذا فات حصل الموت في الدنيا، وذاك إذا فات حصل العذاب.
فلهذا كان تبليغ الدين من أعظم فرائض الإسلام، وكان معرفة ما أمر الله به رسولَه واجباً على جميع الأنام، والله سبحانه بعث محمداً بالكتاب والسنة، وبهما أتَمَّ على أمته المنة، قال تعالى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:150-152] .
وقال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران:164] .
وقال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [البقرة:231] .
وقال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2] .
وقال تعالى عن الخليل: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129] .
وقال تعالى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب:34] .
وقد قـال غير واحدٍ من العلماء، منهم: يحيى بن أبي كثير، وقتادة، والشافعي، وغيرهم: الحكمـة هـي السنة -وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129]، الحكمة هي السنة، لأن الله أمر أزواج نبيه أن يذكرن ما يُتْلى في بيوتهن من الكتاب والحكمة، والكتاب: القرآن، وما سوى ذلك مما كان الرسول يتلوه هو السنة.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عدة أوجه من حديث أبي رافع، وأبي ثعلبة، وغيرهما أنه قال: (لا أُلفيَنَّ أحدَكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: بيننا وبينكم القرآن، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرامٍ حرمناه! ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه) وفي رواية: (ألا وإنه مثل الكتاب).
وقام كلٌّ من علماء الدين بما أُنْعِم به عليهم وعلى المسلمين، مقام أهل الفقه الذين فقهوا معاني القرآن والحديث، بدفع ما وقع في ذلك من الخطأ في القديم والحديث، وكان من ذلك الظاهر الجلي الذي لا يسوغ عنه العدول، ومنه الخفي الذي يسوغ فيه الاجتهاد للعلماء العدول.
وقام علماء النقل والنقاد بعلم الرواية والإسناد، فسافروا في ذلك إلى البلاد، وهجروا فيه لذيذ الرقاد، وفارقوا الأموال والأولاد، وأنفقوا فيه الطارف والتِّلاد، وصبروا فيه على النوائب، وقنعوا من الدنيا بزاد الراكب، ولهم في ذلك من الحكايات المشهورة، والقصص المأثورة، ما هو عند أهله معلوم، ولِمَن طلب معرفته معروفٌ مرسوم، بِتَوَسُّدِ أحدِهم التراب، وتركِهم لذيذ الطعام والشراب، وتركِ معاشرة الأهل والأصحاب، والتصبُّر على مرارة الاغتراب، ومقاساة الأهوال الصعاب، أمرٌ حببه الله إليهم وحلاه؛ ليحفظ بذلك دين الله، كما جعل البيت مثابة للناس وأمناً، يقصدونه من كل فجٍ عميق، ويتحملون فيه أموراً مؤلمة تحصل في الطريق، وكما حبَّب إلى أهله القتال؛ الجهاد بالنفس والمال، حكمة من الله يحفظ بها الدين ليهدي المهتدون، ويظهر به الهدى ودين الحق الذي بعث به رسوله ولو كره المشركون.
فمن كان مخلصاً في أعمال الدين، يعملها لله كان من أولياء الله المتقين، وأهل النعيم المقيم، كما قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس62-64] .
وقد فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم البشرى في الدنيا بنوعين:
أحدهما: ثناء المسلمين عليه.
الثاني: الرؤيا الصالحة، يراها الرجل الصالح، أو تُرَى له، فقيل: (يا رسول الله! الرجل يعمل العمل لنفسه فيحمده الناس عليه، قال: تلك عاجل بشرى المؤمن). وقال البراء بن عازب : سئل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن قوله: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:64]، فقال: (هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو تُرَى له).
والقائمون بحفظ العلم الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الرّبان، الحافظون له من الزيادة والنقصان، هم مِن أعظم أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين، بل لهم مزية على غيرهم من أهل الإيمان والأعمال الصالحات، كما قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11] .
وغيرهم من أهل البدع والكفار، إنما عندهم منقولات يأثرونها بغير إسناد، وعليها مِن دينهم الاعتماد، وهم لا يعرفون فيها الحق من الباطل، ولا الحالي من العاطل.
وأما هذه الأمة المرحومة، وأصحاب هذه الأمة المعصومة، فإن أهل العلم منهم والدين، هم من أمرهم على يقين، فظَهَر لهم الصدق من المين؛ كما يظهر الصبح لذي عينين.. عصمهم الله أن يُجْمِعوا على خطأ في دين الله معقولٍ أو منقولٍ، وأمَرَهم إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى الله والرسول، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59] .
فإذا اجتمع أهل الفقه على القول بحكمٍ لم يكن إلا حقاً، وإذا اجتمع أهل الحديث على تصحيح حديثٍ لم يكن إلا صدقاً.
ولكلٍ من الطائفتين من الاستدلال على مطلوبهم بالجَلِيِّ والخَفِيّ، ما يُعْرَف به مَن هو بهذا الأمر حَفِيّ، والله تعالى يلهمهم الصواب في هذه القضية، كما دلت على ذلك الدلائل الشرعية، وكما عرف ذلك بالتجربة الوجودية، فإن الله كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة:22] لَمَّا صدقوا في موالاة الله ورسوله، ومعاداة مَن عَدَل عنه، قال تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة:22] .
وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8] .
ولهم من التعديل والتجريح، والتضعيف والتصحيح، مِن السعي المشكور، والعمل المبرور، ما كان من أسباب حفظ الدين، وصيانته عن إحداث المفترين، وهم في ذلك على درجات:
- منهم المقتصر على مجرد النقل والرواية.
- ومنهم أهل المعرفة بالحديث والدراية.
- ومنهم أهل الفقه فيه، والمعرفة بمعانيه.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأمة أن يبلِّغ عنه مَن شَهِد لِمَن غاب، ودعا للمبلِّغين بالدعاء المستجاب، فقال في الحديث الصحيح: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).
وقال أيضاً في خطبته في حجة الوداع: (ألا ليبلغ الشاهد الغائب).
وفي هذا دعاءٌ منه لِمَن بلَّغ حديثه وإن لم يكن فقيهاً، ودعاءٌ لِمَن بلَّغه وإن كان المستمع أفقه من المبلِّغ؛ لِمَا أُعطي المبلِّغون من النضرة؛ ولهذا قال سفيان بن عيينة : لا تجد أحداً من أهل الحديث إلا وفي وجهه نضرة، لدعوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يقال: نَضِرَ ونَضَرَ، والفتح أفصح.
ولم يزل أهل العلم في القديم والحديث، يعظمون نَقَلَةَ الحديث، حتى قال الشافعي رضي الله عنه: إذا رأيتُ رجلاً من أهل الحديث، فكأني رأيتُ رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وإنما قال الشافعي هذا لأنهم في مقام الصحابة من تبليغ حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقال الشافعي أيضاً: أهل الحديث حَفِظوا، فلهم علينا الفضل؛ لأنهم حفظوا لنا ".
انتهى ما وجده هذا الباحث من هذه الخطبة الرائعة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وله كلمات أخرى كثيرة وكثيرة جداً، مبثوثة في تضاعيف هذه المجلدات الكثيرة -كما ذكرنا لكم آنفاً- من الممكن أن يجمع منها المتتبع رسالةً خاصة في فضل أهل الحديث، وأنهم هم الفرقة الناجية، ويأتي على ذلك بالأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة الصحيحة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر