إسلام ويب

لقاء الباب المفتوح [23]للشيخ : محمد بن صالح العثيمين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في هذا اللقاء تفسير ثلاث آيات من سورة التكوير، الأولى: قوله تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين) والثانية: قوله تعالى: (لمن شاء منكم أن يستقيم) وقد توسع في شرح هذه الآية، فقد تحدث فيها عن مشيئة الإنسان وأنها باختياره، وأن ما نفعله هو باختيارنا وإرادتنا، وتحدث أيضاً عن معنى الاستقامة، أما الآية الثالثة والأخيرة فهي قوله تعالى: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين)، ثم أجاب عن الأسئلة.

    1.   

    تفسير آيات من سورة التكوير

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين، وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فهذا هو اللقاء الثالث في هذا الشهر، شهر ذي القعدة، عام: (1413هـ)، وهو اللقاء الأسبوعي الذي يكون في كل يوم خميس.

    وكما نحن نمشي عليه فيما سبق، فإننا نمشي عليه الآن، وباستمرار إن شاء الله تعالى، ما لم يوجد منهج آخر أكمل منه، فإن الإنسان ينشد الكمال بقدر ما يستطيع.

    في الأسبوع الماضي تكلمنا عن سورة التكوير: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1]، حتى وصلنا إلى قول الله تبارك وتعالى-: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [التكوير:24-26].

    تفسير قوله تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين)

    قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [التكوير:27]: (إِنْ) هنا بمعنى: (ما)، وهذه قاعدة؛ أنه إذا جاءت (إلاَّ) بعد (إنْ) فهي بمعنى (ما) أي: أنها تكون نافية؛ لأن (إنْ) تأتي نافية، وتأتي شرطية، وتأتي مخفَّفة من الثقيلة، والذي يبيِّن هذه المعاني هو السياق، فإذا جاءت (إنْ) وبعدها (إلاَّ) فهي نافية، أي: ما هو، وهو القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلـم، ونزل به جبريل على قلبه إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [التكوير:27]، فـ(ذِكْر) يشمل التذكير، والتذكُّر؛ فهو تذكير للعالَمين، وتذكُّر لهم، أي: أنهم يتذكرون به ويتعظون به، والمراد بالعالَمين: مَن بُعِث إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].

    وقال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1].

    فالمراد بالعالمين هنا: مَن أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

    تفسير قوله تعالى: (لمن شاء منكم أن يستقيم)

    قال تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:28] جملة (لِمَنْ شَاءَ) بدل مما قبلها؛ لكنها بإعادة العامل وهو (إلاَّ) يصير: إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:27-28]، وأما من لا يشاء الاستقامة فإنه لا يتذكر بهذا القرآن، ولا ينتفع به، كما قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].

    فالإنسان الذي لا يريد الاستقامة لا يمكن أن ينتفع بهذا القرآن.

    إذا قال قائل: هل مشيئة الإنسان باختياره؟

    نقول: نعم. مشيئة الإِنسان باختياره، فالله عز وجل جعل للإنسان اختياراً وإرادة، إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل؛ لأنه لو لم يكن ذلك لَمَا قامت الحجة على الخلق الذين أُرْسِلَت إليهم الرسل بإرسال الرسل.

    أفهمتم الموضوع؟!

    إذاً: هل ما نفعله نحن يكون باختيارنا وإرادتنا؟

    الجواب: نعم. هو باختيارنا وإرادتنا، ولولا ذلك لَمَا كان لإرسال الرسل حجة علينا، إذْ أننا نستطيع أن نقول: نحن لا نقدر على الاختيار، فالإنسان لا شك فاعل باختياره، وكل إنسان يعرف أنه إذا أراد أن يذهب إلى مكة فهو باختياره، وإذا أراد أن يذهب إلى المدينة فهو باختياره، وإذا أراد أن يذهب إلى بيت المقدس فهو باختياره، وإذا أراد أن يذهب إلى الرياض فهو باختياره، أو إلى أي مكان أراد فهو باختياره، لا يرى أن أحداً أجبره عليه، ولا يشعر أن أحداً أجبره على ذلك.

    كذلك أيضاً من أراد أن يقوم بطاعة الله فهو باختياره، ومن أراد أن يعصي الله فهو باختياره.

    فالمشيئة للإنسان هو حر فيها؛ ولكن نعلم علم اليقين أنه ما شاء شيئاً إلا وقد شاءه الله من قبل، ولهذا قال: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير:29]، ما نشاء شيئاً إلا بعد أن يكون الله قد شاءه، فإذا شئنا الشيء علمنا أن الله قد شاءه، ولولا أن الله شاءه ما شئناه، كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا [البقرة:253].

    فنحن إذا عملنا الشيء نعمله بمشيئتنا واختيارنا؛ ولكن نعلم أن هذه المشيئة والاختيار كانت بعد مشيئة الله عز وجل، ولو شاء الله ما فعلنا.

    فإن قال قائل: إذاً لنا حجة في المعصية؛ لأننا ما شئناها إلا بعد أن شاءها الله!

    فالجواب: أنه لا حجة لنا؛ لأننا لم نعلم أن الله شاءها إلا بعد أن فعلناها، وفِعْلُنا إياها باختيارنا، ولهذا لا يمكن أن نقول: إن الله شاء كذا أو شاء كذا إلا بعد أن يقع، فإذا وقع فبأي شيء وقع؟! وقع بإرادتنا ومشيئتنا.

    لهذا لا يَتَّجِه أن يكون للعاصي حُجَّةٌ على الله عز وجل وقد أبطل الله هذه الحجة في قوله: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا [الأنعام:148]، فلولا أنه لا حجة لهم ما ذاقوا بأس الله، ولَسَلِموا من بأس الله؛ ولكن لا حجة لهم، فلهذا ذاقوا بأس الله.

    وكلنا نعلم أن الإنسان لو ذُكِر له أن بلداً آمناً مطمئناً يأتيه رزقه رغداً من كل مكان، فيه من المتاجر والمكاسب ما لا يوجد في البلاد الأخرى، وأن بلداً آخر خائف غير مستقر، مضطرب في الاقتصاد، مضطرب في الخوف والأمن، فإلى أيِّهما يذهب؟!

    بالتأكيد سيذهب إلى الأول ولا شك، ولا يرى أن أحداً أجبره أن يذهب إلى الأول، بل يرى أنه ذهب إلى الأول بمحض إرادته.

    هكذا الآن طريق الخير وطريق الشر، قال الله لنا: هذه طريق جهنم، وهذه طريق الجنة، وبيَّن لنا ما في الجنة من النعيم، وما في النار من العذاب، فأيَّهما نسلك؟!

    بالقياس الواضح الجلي سنسلك طريق الجنة لا شك، كما أننا في المثال الآنف سنسلك طريق البلد الذي يأتيه رزقه رغداً من كل مكان.

    فلو أننا سلكنا طريق النار فإنه سيكون علينا العَتب والتوبيخ واللوم، وينُادَى علينا بالسَّفَه، كما لو سلكنا في المثال الأول طريق البلد المَخُوْف المتزعزع الذي ليس فيه استقرار، فإنَّ كل أحدٍ يلومنا ويوبخنا.

    إذاً: ففي قوله: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:28] تقرير لكون الإنسان يفعل الشيء بمشيئته واختياره؛ ولكن بعد أن يفعلَ الشيءَ ويشاؤه نعلم أن الله قد شاءه من قبل، ولو شاء الله ما فعل، وكثيراً ما يعزم الإنسان على شيء، يتجه بعد العزيمة على هذا الشيء، وفي لحظة ما يجد نفسه منصرفاً عنه، أو يجد نفسه مصروفاً عنه؛ لأن الله لم يشأْه.

    فكثيراً ما نريد أن نذهب -مثلاً- إلى مسجدٍ ما لنستمع إلى محاضرة، وإذا بنا ننصرف بسبب أو بغير سبب، أحياناً بسبب بحيث نتذكر أن لنا شغلاً أو يُقال لنا: إن المحاضرة أُلغيت، فنرجع، وأحياناً نرجع بدون سبب، لا ندري إلا وقد صرف الله تعالى همتنا عن ذلك فرجعنا، ولهذا قيل لأعرابي: بِمَ عرفت ربك؟

    قال: بنقض العزائم، وصرف الهِمَم.

    بنقض العزائم يعني: أن الإنسان يعزم على الشيء عزماً مؤكداً، وإذا به ينتقض. من نقض عزيمته؟

    لا يشعر أن هناك مرجحاً أوجب أن يعدل عن عزيمته الأولى، بل بمحض إرادة الله.

    وصرف الهمم أي: أن الإنسان يهمُّ بالشيء ويتجه إليه تماماً، وإذا به يجد نفسه منصرفاً عنه، سواء كان الصارف مانعاً حسياً، أو كان الصارف مجرد اختيار من الإنسان أن ينصرف، وكل هذا من الله عز وجل.

    فالحاصل: أن الله يقول: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:28].

    ما معنى الاستقامة؟

    الاستقامة هي: الاعتدال، ولا عَدْلَ أَقْوَمُ من عدل الله عز وجل في شريعته.

    ففي الشرائع السابقة كانت كل شريعة تناسب حال الأمم زماناً ومكاناً وحالاً، وبعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام أصبحت شريعته تناسب الأمة التي بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم إليها مِن أول بعثته إلى نهاية الدنيا.

    ولِهذا كان من العبارات المعروفة: أن الدين الإسلامي صالح لكل زمان ومكان وحال، ولو تمسك الناس به لأصلح الله الخلق.

    انظر مثلاً الإنسان! يصلي أولاً قائماً، فإن عجز فقاعداً، فإن عجز فعلى جنب، إذاً: الشريعة تتطور بحسب الشخص؛ لأن الدين صالح لكل زمان ومكان.

    ويجب على المحدث أن يتطهر بالماء، فإن تعذر استعمال الماء لِعَجْزٍ أو عَدَمٍ عَدَل إلى التيمم، فإن لم يجد ماءً ولا تراباً، أو كان عاجزاً عن استعمال التراب فإنه يصلي بلا شيء، لا بطهارة ماء ولا بطهارة تيمم.

    كل هذا لأن شريعة الله عز وجل كلها مبنية على العدل، فليس فيها جور، وليس فيها ظلم، وليس فيها حرج، وليس فيها مشقة، ولهذا قال: أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:28].

    وضد الاستقامة انحرافان:

    انحرافٌ إلى جانب الإفراط والغُلُو.

    وانحرافٌ إلى جانب التفريط والتقصير.

    ولهذا كان الناس في دين الله عز وجل ثلاثة أصناف: طَرَفان، ووسط.

    طرفٌ مُغالٍ مُبالغٌ مُتَنَطِّعٌ مُتَعَنِّتٌ.

    وطرفٌ آخرُ مُفَرِّطٌ مُقَصِّرٌ مُهْمِلٌ.

    والثالثُ وَسَطٌ بين الإفراط والتفريط، مستقيمٌ على دين الله.

    وهذا الأخير هو الذي يُحْمَد.

    أما الأول المغالي، والثاني المجافي فكلاهما هالك، بحسب ما عند كليهما من الغلو أو من التقصير.

    وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الغلو والإفراط والتعنت والتنطع، حتى إنه قال: (هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون)؛ لأن التنطُّع فيه إشقاق على النفس، وفيه خروجٌ عن دين الله عز وجل.

    كما أن الله ذَمَّ المفرِّطين والمهملين، وقال في وصف المنافقين: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء:142].

    فدينُ الله وسط بين المغالي فيه والمجافي عنه، ولهذا قال هنا: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:28]، لا يميل يميناً ولا شمالاً، بل يكون سيرُه سيرَ استقامة على دين الله عز وجل.

    والاستقامة كما تكون في معاملة الخالق عز وجل وهي: العبادة، تكون -أيضاً- في معاملة المخلوق، فكن مع الناس بين طرفين، بين طرفِ الشدة والغلظة والعبوس، وطرفِ التراخي والتهاون وبذل النفس، وانحطاط الرتبة، كن حازماً من وجهٍ، وليناً من وجه.

    ولهذا قال الفقهاء رحمهم الله في القاضي: ينبغي أن يكون ليِّناً من غير ضعف، قوياً من غير عنف، فلا يكون لينُه يشطح به إلى الضعف، ولا قوته إلى العنف، بل يكون بين ذلك، ليناً من غير ضعف، قوياً من غير عنف، حتى تستقيم الأمور.

    فبعض الناس -مثلاً- يعامل الناس دائماً بالعبوس، والشدة، وإشعارِ نفسه بأنه فوق الناس، وأن الناس تحته، وهذا خطأ.

    ومن الناس من يحط قدْر نفسه، ويتواضع إلى حد التهاون، وعدم المبالاة، بحيث يبقى بين الناس لا حرمة له، وهذا أيضاً خطأ.

    فالواجب أن يكون الإنسان بين هذا وهذا، كما هو هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه عليه الصلاة والسلام يشتد في موضع الشدة، ويلين في موضع اللين.

    فيجمع الإنسان هنا بين الحزم والعزم، واللين والعطف والرحمة.

    تفسير قوله تعالى: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين)

    قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29] أي: لا يمكن أن تشاءوا شيئاً إلا وقد شاءه الله من قبل.

    فأنا مشيئتي الآن أن أحدثكم وأتحدث إليكم، فهذه مشيئةٌ مني أنا؛ لكنها ما كانت إلا بعد مشيئة الله عز وجل، لو شاءَ اللهُ أشاءُ أنا، ولو شاء الله ألا يكون الشيء ما كان ولو شئتُ، فحتى لو شئتُ والله تعالى لم يشأ فإنه لن يكون، بل يقيِّض الله تعالى أسباباً تحول بيني وبين هذا حتى لا يقع، وهذه مسألة يجب على الإنسان أن ينتبه لها؛ أن يعلم أن فعلَه بمشيئته، مشيئةٌ تامةٌ بلا إكراه؛ لكن ليعلم أن هذه المشيئةَ مقترنةٌ بمشيئة الله، وأنه ما شاء الشيء إلا بعد أن شاء الله، وأن الله لو شاء ألا يكون لما شاءه الإنسان، أو أن الإنسان شاءه؛ ولكن يحول الله بينه وبينه بأسباب وموانع.

    وهنا قال: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29] ولم يقل ربكم؛ إشارة إلى عموم ربوبية الله، وأن ربوبية الله تعالى عامة؛ ولكن يجب أن تعلموا أن (العالَمِين) هنا ليست كـ(العالَمِين) في قوله: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [التكوير:27].

    قلتُ في (العالَمِين) الأولى: إن المراد بها مَن أُرْسِل إليهم الرسول.

    أما هنا في (العالَمِين) الثانية: فالمراد بها: كلُّ مَن سوى الله؛ لأنه ما ثَمَّ إلا رب ومربوب، فإذا قيل: ربُّ العالَمِين، تعيَّن أن يكون المراد بـ(العالَمِين) كلُّ مَن سوى الله، كما قال الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: وكلُّ مَن سوى الله فهو عالَم، وأنا واحدٌ من ذلك العالَم.

    الحاصل: أن هذه السورة سورة عظيمة، فيها تذكرة وموعظة، ينبغي للمؤمن أن يقرأها بتدبر وتمهل، وأن يتعظ بما فيها، كما أن الواجب عليه في جميع سور القرآن وآياته أن يكون كذلك، حتى يكون ممن اتعظ بكتاب الله، وانتفع به.

    نسأل الله تعالى أن يعَظِنا وإياكم بكتابه، وسنةِ رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وآياتِه الكونية، إنه على كل شيء قدير.

    والحمد لله رب العالمين.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    1.   

    الأسئلة

    حكم تعليق الآيات القرآنية والأحاديث في المجالس أو في السيارة

    السؤال: ما حكم تعليق الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة في مجلس -مثلاً- أو في سيارة، أو في غيرهما؟

    الجواب: تعليق الآيات القرآنية في المجالس أمر مُبْتَدَع أحدثه الناس، ولم يكن ذلك معروفاً في عهد السلف الصالح ، وذلك لأن القرآن الكريم ليس وَشْياً تُوَشَّى به الجدران، وتُزَيَّن به، كما رأينا بعض الناس يعلِّق لوحةً تُكْتَبُ فيها آية، وتجعل هذه الآية كأنها قصر، بحيث تُهَنْدَس على صفة البناء الذي في الشرفات، وبعضُهم علَّق سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] على هذا الوجه، إذا رأيتَه تقول: هذا قصر، والقرآن أشرفُ مِن أن يكون زينةً ووَشْياً في الجدران.

    وإن قُصِدَ بذلك التبرك: فليس التبرك بأن يكتب كتاب الله ويعلق في الجدران، التبرك بالقرآن حقيقةً هو: التبرك بتلاوته، فإن كل حرف منه بعشر حسنات.

    كذلك إن أُرِيْدَ بذلك الاتعاظ والتذكر: فإننا لم نجد أن المجلس الذي يكتب فيه شيء من آيات الله يزداد فيه تقوى الناس، واتعاظهم، وتذكُّرهم، بل إننا نرى بعض هذه المجالس يُفْعَل فيها المنكر؛ ويُشْرَب الدخان فيها، ويُغْتاب فيها الناس، وتُؤْكَل لحومُهم، وما هذا إلا نوعٌ استهزاء؛ كتاب الله فوق رأسه وهو يسهر به في معصية الله!

    وإن أُرِيْدَ بذلك التحصُّن والوِرْد، كما تعلق الآيات على الصدور: فهذا أيضاً بدعة، فما كان السلف الصالح يتحصنون بمثل هذا؛ ويكتبوا الآيات على جدرانهم.

    وهذا الأخير -أعني: أن يُقْصَدَ به التحصُّن- يوجب أن الإنسان يعتمد على ذلك، ولا يَقْرَأُه هو بنفسه، أي: الآيات التي فيها التحصين، مثل آية الكرسي؛ مَن قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، ومثل الآيتين الأخيرتين في سورة البقرة؛ مَن قرأهما في ليلة كَفَتاه، فتجد الإنسان يعتمد على ما كتبه في هذا المجلس أو في مُقَدَّمِ البيت ومَدْخَلِه، ويقول: الآن احتمى البيت بِما كتب فيه من الآيات، ويُعْرِض عن التحصين الحقيقي الذي هو في التلاوة.

    لذلك نرى ألا تُعَلَّق هذه الآيات على الجُدُر.

    أما الأحاديث فإذا عُلِّق ما يناسب المقام، مثل أن يُعَلَّق كفارةُ المجلس، فهذا لا بأس به؛ لأن هذا تذكير، وينتفع به الناس، فالإنسان إذا رأى مكتوباً عند باب المجلس: كفارة المجلس: أن تقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، فإنه يتذكر هذا ويقوله.

    كذلك التعليق في السيارات، إذا كان التعليق في السيارات أذكاراً واردةً مناسبة، مثل أن يعلق الإنسان في السيارة دعاءَ الركوب، فإن هذا حسن، وتذكير، ولا بأس به، وكل إنسان يشعر بأنه يستفيد من ذلك، ويا حبذا لو كانت الكتابة بحرف مُكَبَّر، بحيث يقرَأُه مَن في الخلف؛ لأن هذه الكتابة الصغيرة لا يقرَأُها إلا مَن كان إلى جانبها، أو الذي يقرَأُها، أما مَن كان في الخلف فلا يستطيع قراءتها، فلو جُعِلت بخط كبير إذا أمكن حتى يقرأها مَن في الخلف لكان هذا طيباً.

    حكم المداومة على الوعظ عند القبور أثناء الدفن

    السؤال: فضيلة الشيخ! ما مشروعية الموعظة عند القبر؟ فقد سمعنا مَن يقول: إنها ما وردت عن الرسول، وسمعنا مَن يقول: إنها سنة!

    الجواب: القولُ بأنها (ما وَرَدَتْ) على إطلاقه غيرُ صحيح، والقولُ بأنها (سنة) غيرُ صحيح، ووجه ذلك أنه لم يرد أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقف عند القبر أو في المقبرة إذا حضرت الجنازة، ثم يعظ الناس ويذكرهم، هذا ما سمعنا به، وهو بدعة، وربما يؤدي في المستقبل إلى شيءٍ أعظم؛ ربما يؤدي إلى أن يتطرق المتكلم إلى الكلام عن الرجل الميت الحاضر، مثل أن يكون هذا الرجل فاسقاً مثلاً، ثم يقول: انظروا إلى هذا الرجل! بالأمس كان يلعب، بالأمس كان يستهزئ، بالأمس كان كذا وكذا، والآن هو في قبره مُرْتَهَن، أو يتكلم في تاجر مثلاً، فيقول: انظروا إلى فلان، بالأمس كان في القصور والسيارات والخدم والحشم والآن انظروا حالَه.

    فلهذا نرى ألا تُفْعَل هذه؛ لأن هذه ليست من السنة، فلم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقف إذا فرغ من دفن الميت أو إذا كان في انتظار دفن الميت، فيقوم ويخطب الناس، أبداً، ولا عهدنا هذا أيضاً في مشايخنا السابقين، وهم أقرب إلى السنة مِنَّا، ولا عهدنا هذا أيضاً فيمَن قبلهم من الأصحاب، فما كان الناس في عهد أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي -فيما نعلم- يفعلون هذا، وخير الهَدْي هَدْيُ مَن سَلَفَ إذا وافَقَ الحق.

    وأما الموعظةُ التي تعتبرُ كلامَ مجلس، فهذه لا بأس بها، فإنه قد ثبت في السنن أن الرسول عليه الصلاة والسلام أتى إلى بقيع الغرقد وفيه أناس يدفنون ميتاً لهم؛ لكنَّ الميتَ لَمْ يُلْحَدْ بعد، أي: معناه أنهم يَحفرون القبر، فجلس وجلس حوله أصحابُه، وجعل يحدثهم بحال الإنسان عند موته، وحالِ الإنسان بعد دفنه حديثاً هادئاً ليس على سبيل الخطبة.

    وكذلك ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما أنه جلس على شفير قبر ابنته وهي تُدفَن فقال عليه الصلاة والسلام: (ما منكم من أحدٍ إلا وقد كُتِبَ مقعدُه من الجنة ومقعدُه من النار! فقالوا: يا رسول الله! ففيم العمل؟! قال: اعملوا، فكلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِق له).

    فالحاصل: أن الموعظة عند القبر التي هي قيام الإنسان ليخطب هذه لا شك أنها ليست من السنة، ولا تنبغي، لِمَا عرفتَ مِمَّا سيحدُث في المستقبل، وأما الموعظة مثل أن يكون الإنسان جالساً ويدعو حوله أصحابَه، ثم يتكلم بما يناسب فهذا طيب، اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

    مسألة دفع القدر بالدعاء

    السؤال: فضيلة الشيخ! كيف يجمع بين أن الدعاء يردُّ القدر، وأن الأمور جميعَها مقدرةٌ قبل خلق السماوات والأرض؟

    الجواب: نجيب بأن الله سبحانه وتعالى مقدِّرٌ للأشياء قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وقدَّر أن هذا الشيء الذي كان بصدد أن يحدث من البلاء قد قُدِّر ما يمنعُه وهو الدعاء، فيكون الدعاء مُقَدَّراً، وكذلك ما كان بصدد النزول من البلاء مقدراً.

    فيكون هذا الشيء الذي امتنع أو ارتفع من البلاء بعد نزوله بسبب الدعاء يكون قد قُدِّر من الأصل أنه سيرتفع بهذا الدعاء، أو أنه سيمتنع بهذا الدعاء.

    فالدعاء مكتوب من الأول، والبلاء مكتوب من الأول.

    فإذا دعا الإنسان أن يرفع الله عز وجل البلاء بعد نزوله، فارتفع بدعائه -كما هو مشاهَدٌ الآن؛ يدعو الإنسان فيرتفع البلاء- فهذا معناه أن الله قد كتب في اللوح المحفوظ أن هذا البلاء سينزل ويرفعه الدعاء.

    إذاً: كلٌّ منهما مكتوب، البلاء المتوقَّع نزوله يمتنع بالدعاء، فيكون هذا البلاء الذي كان بصدد النزول قد قدر الله له دعاءً يمنعه، ولهذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام إذا كسفت الشمس أو القمر أن نفزع للصلاة والدعاء؛ لأن الله ينذرنا ببلاء سينزل، ولهذا قال: (يخوف الله بهما عباده) ولم يقل: ينتقم الله بهما من عباده؛ لكنه تخويف وإنذار من الله عز وجل، فإذا صلينا ودعونا الله فإن هذا الذي أُنذرنا به بهذا الكسوف يمنعه الله عز وجل.

    كما أن الدعاء نفسه عبادة سواء أُجيب أم لَمْ يُجَب، وما من إنسان يدعو الله بصدق إلا أعطاه الله تعالى واحدة من ثلاث:

    إما أن يعطيَه ما سأل.

    أو يكفَّ عنه من الشر ما هو أعظم.

    أو يدخرَ ذلك له عنده يوم القيامة ثواباً.

    حكم الحج على من لا يستطيع دفع بعض تكاليفه

    السؤال: فضيلة الشيخ! بالنسبة للحج هذا العام أصبح عن طريق حملة، فهل يجوز لي إن لم أستطع دفع تكاليف الحملة، -وخاصة إذا كان معي أهلي- أن أذهب إلى مكة وأحرم من هناك؟ وما الأمور التي تترتب على ذلك؟

    الجواب: هل الحج فريضة؟

    السائل: نعم. فريضة.

    الشيخ: إذا كان فريضة، وكان يمكنك أن تذهب إلى مكة فلا بد أن تحرم من الميقات؛ لأنك تريد الحج والعمرة.

    السائل: لا أستطيع دفع تكاليف الحملة، فهي ثقيلةٌ عليَّ!

    الشيخ: إذا كنت لا تستطيع فليس عليك حج؛ ومن الممكن أن تخبر أحداً من الإخوان الذين يعرفونك، والناس يُحبون الخير.

    حكم ذبح العقيقة خارج البلاد لعدم حاجة أهلها للحم

    السؤال: ما حكمُ توزيعِ العقيقة وإخراجِها خارجَ البلاد، مع العلم بعدم حاجة أهلها لِلَحم هذه العقيقة، وباستطاعتهم أن يقيموا بدلاً عنها واحدةً أخرى في نفس البلد؟

    الجواب: بالمناسبة لهذا السؤال أود أن أبين للإخوة الحاضرين والسامعين أنه ليس المقصودُ من ذبح النسك سواءً كان عقيقةً أو هدياً أو أضحيةً اللحمُ أو الانتفاعُ باللحم، فالانتفاع باللحم يأتي أمراً ثانوياً. المقصود بذلك هو: أن يتقرب الإنسان إلى الله بالذبح، هذا أهم شيء، أما اللحم فقد قال الله تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37].

    وإذا علمنا ذلك تبين لنا خطأ من يدفعون مالاً ليُضَحَّى عنهم في مكان آخر، أو يُعَقَّ عن أولادهم في مكانٍ آخر؛ لأنهم إذا فعلوا ذلك فاتهم المهم، بل فاتهم الأهم من هذه النسيكة وهو التقرب إلى الله بالذبح، وأنت لا تدري من يتولى ذبح هذه، قد يتولاه مَن لا يصلي، فلا تحل، أو قد يتولاه مَن لا يسمي عليها، فلا تحل، أو قد يُعبث بالذبيحة ولا يُشترى إلا شيئاً لا يُجزئ.

    فمن الخطأ جداً أن تصرف الدراهم لشراء الأضاحي أو العقائق من مكان آخر، نقول: اذبحها أنت، بيدك إن استطعت، أو بوكيلك، واشهَدْ ذبحها حتى تشعر بالتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بذبحها، وحتى تأكل منها؛ لأنك مأمورٌ بالأكل منها، قال الله تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28].

    وقد أوجب كثير من العلماء على الإنسان أن يأكل من كل نسيكةٍ ذبحها تقرباً إلى الله، كالهدايا، والعقائق وغيرها، فهل ستأكل منها وهي في محل بعيد؟! لا.

    وإذا كنت تريد أن تنفع إخوانك في مكان بعيد فابعث بالدراهم إليهم، ابعث بالثياب إليهم، ابعث بالطعام إليهم، أما أن تنقل شعيرة من شعائر الإسلام إلى بلاد أخرى فهذا لا شك أنه من الجهل.

    أنا أعتقد أن الذين يفعلون ذلك لا يريدون إلا الخير؛ لكن ليس كل من أراد الخير يوفَّق له، ألَمْ تعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام أرسل رجلين في حاجة، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما وصليا، ثم وجدا الماء، فأحدهما توضأ وأعاد الصلاة، والثاني لم يعد الصلاة، فقال للذي لم يعد الصلاة: (أصبت السنة)، والذي أعاد الصلاة كان يريد الخير، فشفَعَت له نيته هذه، وأُعْطِي أجراً على عمله الذي كرَّرَه؛ لكنه خلاف السنة، ولهذا لو أن الإنسان أعاد الصلاة بعد أن سمع بأن السنة عدم الإعادة لم يكن له أجر؛ لكن هذا كان له أجر؛ لأنه كان لا يعلم أن السنة عدم الإعادة.

    فالحاصل أنه ليس كل من أراد الخير يوفَّق له، وأنا أخبرك، وأرجو أن تخبر من يبلُغُه خبرُك بأن هذا عمل خاطئ ليس بصواب.

    نعم. لو فُرِضَ أنه دار الأمر بين أن تَعُقَّ أو تُنْجِي أناساً من المجاعة المهلكة وهم مسلمون، وأردت أن تأخذ دراهم العقيقة وترسلها لقلنا: لعل هذا أفضل؛ لأن إنقاذ المسلمين من الهلاك أوجب من العقيقة؛ لكن لا ترسل دراهم على أن تكون عقيقة.

    تنظيم دروس خاصة بالمرأة

    السؤال: فضيلة الشيخ! ما رأيكم في جَعْل دروس خاصة بالمرأة، وذلك لتوجيهها وإعانتها على طلب العلم، لتكون مربية لنفسها ولأولادها ولمن هي مسئولة عنهم؟

    الجواب: من يدرِّسها؟

    السائل: طالبات علم مثلها، أو نساء فاضلات عندهن علم.

    الشيخ: المهم أن تدرِّسها أنثى.

    فأقول: لا بأس بهذا، لا بأس أن يُجْعَل -مثلاً- مكانٌ تدرَّسُ فيه النساء؛ تقوم امرأة ذاتُ علم ودين لتدريس هؤلاء النساء؛ لكن بشرط ألا يترتب عليه محظور من وجه آخر، مثل أن يكون تجمُّعُ النساء في هذا البيت سبباً لِحَوْمِ السفهاء حولهن، وعدم التنظيم؛ لأن مدارس البنات منظَّمة الآن؛ كلٌّ يأتي وينادَي بمكبر الصوت على ابنته أو مَن هو ولِيٌّ عليها، فإذا حصل هذا منظَّماً سالماً من المحظور فلا بأس.

    أقسام المصائب وأقسام الناس تجاهها

    السؤال: بالنسبة للمصيبة التي تصيب المسلم، كيف يفرق المسلم بين كونها مكفِّرة للذنوب ورافعة للدرجات، وبين أن تكون نذيراً من الله سبحانه وتعالى للإنسان؟

    الجواب: أولاً: يجب أن نعلم أن الله قال في الكتاب: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].

    لأول: إما أنها بما كسبت يده، فيُعاقب على المعصية في الدنيا، وعقوبة الدنيا أهون من عقوبة الآخرة.

    الثاني: وإما أن تكون من أجل امتحانه حتى يصل إلى درجة الكمال في الصبر؛ لأن الإنسان بين حالين:

    إما سراء، فوظيفتها الشكر.

    أو ضراء، فوظيفتها الصبر.

    فلا يصل الإنسان إلى درجة الصبر إلا بشيء يُصْبَر عليه، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبتلى أكثر مما يبتلى غيره، حتى إنه يوعَك بالمرض كما يوعَك الرجلان منا، وشدِّد عليه عليه الصلاة والسلام عند الموت من أجل رفعة درجته بمقام الصبر.

    فالإنسان يُبْتَلى بلاءً خاصاً، إما بسبب ذنوب ارتكبها، فيكفر الله عنه بهذه المصيبة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، ولهذا بعض الناس إذا فعل ذنوباً ثم حصلت عليه مصائب وبلايا يشكر الله على هذا؛ لأنه يقول: علم الله بذنبي فعاقبني في الدنيا قبل الآخرة، وعقوبة الدنيا أهون من عقوبة الآخرة، فيَجْعل ذلك نعمة يشكر الله عز وجل عليها.

    والإنسان إذا أصيب ببلاء فله أربع حالات:

    الأولى: إما أن يتسخط بقلبه أو جوارحـه، فيشـق الجيب، وينتف الشعر، ويلطم الخد، ويَرَى في قلبه أنه ساخط على ربه -والعياذ بالله- فهذا في أدنى الدرجات، وهو آثم، وقد تبرأ منه الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية).

    الثانية: وإما أن يصبر ويحتسب مع كراهته لما حصل، فهذا قام بالواجب، وله أجر الصابرين، وإذا احتسب الأجر على الله فـإِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].

    الثالثة: حالة أكمل من الصبر وهي الرضا؛ الرضا أكمل من الصبر، فالصابر ساخط للبلاء؛ لكنه صابر، والراضي متساوٍ عنده الأمران بالنسبة لقضاء الله عز وجل ويقول في نفسه: ما قضى الله هذا لي إلا خيراً، فيرضى تماماً، ويكون حاله غير متأثر إطلاقاً، لا بقلبه ولا بجوارحه.

    الرابعة: أن يكون في مقام الشكر.

    كيف يشكر الله على المصيبة؟!

    نقول: وجهه ما ذكرتُ لكم قبل قليل: أنه يعلم -إذا كان قد فعل ذنوباً- أن هذه عقوبة لذنوبه، فيشكر الله أن عجل له العقوبة لتكون في الدنيا، وذلك أهون من كونها في الآخرة، ثم يشكر الله على أنه إذا رضي وصبر كانت خيراً له، فيشكر الله على ذلك.

    حكم العامل إذا نوى وعلق النية بإذن الكفيل له

    السؤال: فضيلة الشيخ! هناك رجل قَدِم من مصر إلى بلادنا هنا، ونوى أن يأخذ العمرة؛ ولكنه يقول: إن كفيله سوف يكون في المطار، وهو يعرف أن هذا الكفيل شديد، فخشي ألا يأذن له، فلم ينوِ بالعمرة إلا بعد أن يأذن له، فلما نزل المطار أذن له، وقد كان نَوَى أن يأخذ العمرة؛ لكن ما أحرم من المطار، وشبيهٌ بذلك: أن بعض الناس يذهب إلى جدة لعمل، ويقول: إن بقي وقتٌ فإنه ينوي من جدة، ويأخذ العمرة، فما حكم هاتين المسألتين؟

    الجواب: حكم هاتين المسألتين واحد.

    فالعامل الذي قَدِم إلى جدة وقال: إن أذن لي كفيلي أتيتُ بعمرة وإلا فلا، نقول: إذا وصل إلى جدة وأذن له كفيله فليحرم من جدة ولا شيء عليه.

    وكذلك الآخر الذي قدم إلى جدة لعمل، وقال: إن تيسر لي أتيتُ بعمرة وإلا فلا، نقول: إن تيسر له فليحرم من جدة ولا شيء عليه؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ومن كان دون ذلك -أي: دون المواقيت- فمن حيث أنشأ).

    اشتراط الوضوء في مس المصحف للمكلفين

    السؤال: فضيلة الشيخ! بالنسبة لِمَسِّ المصحف والقراءة فيه، هل يلزم له الوضوء؟ والطلاب في المدارس هل يؤمرون بالوضوء؟ أحسن الله إليك.

    الجواب: أما القراءة في المصحف فلا يشترط لها الوضوء، وأما مَسُّ المصحف فلا بد فيه من وضوء! وعلى هذا فبإمكان الإنسان أن يأخذ المصحف بين يديه، ويكون عليهما قفازان، أو يكون معه منديل يتصفح به المصحف ويقرأ.

    أما بالنسبة للصبيان فقد رخص في ذلك كثير من العلماء أن يمسوا القرآن بلا وضوء، وقالوا: لأنهم غير مكلفين، فقد رُفِع القلم عن ثلاثة.

    وقال بعض العلماء: إن الصبيان لا يمسون المصحف إلا بوضوء؛ لأن هذا احترام للمصحف، واحترام المصحف واجب على كل أحد.

    ولكن نحن نقول: إن أمكن أن يتوضئوا فهو أفضل بلا شك وأسلم، وإن لم يمكن فلا بأس.

    حكم بيع الوقف المحصور إذا تعطلت منافعة

    السؤال: فضيلة الشيخ! رجلٌ أوقف منزلَهُ على أربعٍِ من بناته، وهذا المنزل بعد فترة من الزمن أصبح خرباً، ولا يمكن الاستفادة منه، وهؤلاء البنات لا يستطعن إصلاحه والاستفادة منه، فهل يجوز لهن بيعه؟

    الجواب: أولاً: لنسأل: هل وقَّفَ هذا البيت على أربعٍ من بناته دون الآخرين والأخريات؟

    السائل: أعطى الآخرين شيئاً آخر.

    الشيخ: تعني: أنه أرضى أولئك!

    إذاً: الوقف صحيح.

    فإذا تعطلت منافع هذا الوقف فلهنَّ بيعُه، وشراء ما هو خير منه؛ لأن الوقف لا يعدُوهنَّ.

    حكم ذكر اسم الميت عند الصلاة عليه

    السؤال: فضيلة الشيخ! هناك بعض الناس إذا قدم الميت للصلاة عليه يذكر اسم هذا الشخص، هل هذا الأمر فيه شيء؟

    الجواب: تعني أنه يقول: هذا الذي مات فلان بن فلان؟

    السائل: نعم. يقول: الصلاة على فلان بن فلان.

    الجواب: إخبار الناس بالميت إذا قُدِّم بأنه ذكر أو أنثى من أجل أن يكون الدعاء بضمير المذكر إذا كان ذكراً أو بضمير المؤنث إذا كانت أنثى، أو إذا كانت هناك جنازة كبيرة أو صغيرة لم تبلغ الحلم، فيخبر الناس من أجل أن يدعوا لكل ميت بما يناسبه، هذا لا بأس به لما فيه من المصلحة.

    وأما الإخبار عنه باسمه فلا أدري، أتوقف في هذا! قد يكون فيه مصلحة، وقد لا يكون فيه مصلحة، قد يكون مثلاً مِن الحاضرين مَن بينه وبين هذا الميت المعين عداوةٌ سابقةٌ مثلاً، فينصرف عن الصلاة، ويقول: لستُ مصلياً على هذا الرجل، فيكون في هذا تشويش، أو ربما يصلي عليه وبدلاً من أن يدعو الله له يدعو الله عليه، فلو أنه تُرك التعيين بالاسم لكان أحسن.

    حكم العمرة في أشهر الحج

    السؤال: ما رأيكم في العمرة في شهر ذي القعدة؟ وهل نقول: بأنها سنة مؤكدة لورودها عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟

    الجواب: لا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمر في ذي القعدة ثلاث عُمَرٍ منفردة؛ في عمرة الحديبية التي صُد عنها، وفي عمرة القضاء في السنة التي تلتها، وفي عمرة الجعرانة في السنة التي تلتها أيضاً، وفي عمرة حَجِّه، حيث كان قارناً في السنة العاشرة.

    والعمرة في أشهر الحج في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كانت مؤكدة؛ لأنه كانت عند العرب في الجاهلية عقيدة فاسدة؛ أنه لا اعتمار في أشهر الحج، وأن أشهر الحج للحج، حتى إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لما أمر أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي أن يجعلوها عمرة استغربوا ذلك، وقالوا: يا رسول الله، كيف نجعلها عمرة وقد سمينا الحج؟ قال: (افعلوا ما أمرتكم به).

    وقد استحب بعض العلماء أن يعتمر الإنسان في أشهر الحج اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إن بعض العلماء تردد؛ هل العمرة في أشهر الحج أفضل أم العمرة في رمضان؟

    حكم قول القائل: (أقامها الله وأدامها) عند إقامة الصلاة

    السؤال: قام شاب مجتهدٌ في أحد المساجد وتكلم عن بعض البدع في الصلاة، وقال: من البدع قول الشخص: (أقامها الله وأدامها) عندما يقيم المقيم، فلما انتهى قام شخص آخر وأنكر عليه في نفس المسجد، وقال: هذه ليست بدعة؛ لأنها وردت في حديث ضعيف، والحديث الضعيف يؤخذ به في باب الفضائل -على حد قول الرجل هذا- ويستند على فتوى وكلام أحد المشايخ؟

    الجواب: قول القائل إذا قال المقيم: قد قامت الصلاة: (أقامها الله وأدامها) هو مبني على حديث ضعيف كما قال الأخ الأخير، فالحديث في هذا ضعيف؛ ولكن بعض الفقهاء أخذ به، وقال: إنه يقول كما يقول المقيم، إلا عند قد قامت الصلاة فيقول: أقامها الله وأدامها، وما دامت المسألة فيها خلاف بين علماء السنة، فلا ينبغي أن نقول لمن قالها: إنه مبتدع.

    وأما قول الأخير: إنها من فضائل الأعمال، فالأحاديث الضعيفة لا تثبت بها الأحكام، ومن قال: إن الأحاديث الضعيفة يُحْتَج بها في الفضائل فمراده أنه إذا ورد الحديث الضعيف في فضيلة عمل من الأعمال ثبت بالسنة؛ لكن فيه فضل، وهذا الفضل جاء في حديث آخر ضعيف، فيقول: إننا نأخذ بهذا الضعيف؛ لأنه إن كان الثابت مأموراً به كان هذا الحديث الضعيف الذي فيه الفضيلة دعماً لهذا الأمر، فيزيد الإنسان نشاطاً.

    ثم إن كان الحديث صحيحاً فهذا ما يريده الإنسان، وإن لم يكن صحيحاً فإنه لم يزده إلا قوة في الطاعة.

    وإذا كان الحديث نهياً، وورد فيه تحذير عن هذا الفعل في حديث ضعيف فهذا التحذير إن كان صحيحاً فالإنسان قد سلم من هذه العقوبة، وإن كان غير صحيح فهذا لا يزيده إلا بُعداً عن المعصية، وهو أمر مطلوب.

    فالحاصل أن الحديث الضعيف لا يمكن أن يُثْبَت به حكم من الأحكام، حتى عبارة (قد قامت الصلاة) لا نثبتها بالحديث الضعيف.

    فمن لم يصح عنده الحديث، فإنه لا يقوله، ومَن رأى أن الحديثَ حَسَنٌ وأنه حجةٌ قالَهُ.

    ولذلك يقول العلماء: لا يجوز الاحتجاج بالحديث الضعيف إلا بشروطٍ ثلاثة:

    الأول: ألا يكون الضعف شديداً.

    الثاني: أن يكون لهذا العمل الذي فيه الفضل، أو التحذير أصلٌ ثابت.

    الثالث: ألا يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قالَهُ.

    وليس الاحتجاج بالضعيف على إطلاقه، بل يُحْتَج بالضعيف في باب الترغيب وفي باب الترهيب بشرط: أن يكون لهذا المُرَغَّب فيه أو المُحَذَّر عنه أصلٌ ثابت.

    وأظنكم سمعتم الآن الأذان، وهو الحد الفاصل لهذه الجلسة.

    وإلى جلسة أخرى إن شاء الله تعالى، وسيكون إن شاء الله الكلام فيها عن الحج، وما يتعلق به؛ لقُرْبِ موسم الحج.

    نسأل الله تعالى أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767954750