أما بعد:
فهذا هو اللقاء الأول في شهر جمادى الأولى من عام (1414هـ) والذي يتم كل يوم خميس من كل أسبوع، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثيب الجميع على ما يقدمونه من بحث عن العلم والتعلم، ونبشركم جميعاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) فنسأل الله أن ييسر لنا ولكم ذلك بمنه وكرمه.
نقول: إن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الجاثية:7] والأفاك هو ذو الإفك، والإفك هو الكذب، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع) ومعنى ذلك: أن الإنسان الذي يحدث بكل ما سمع فإنه سيثقل كاهله بالكذب؛ لأنه ليس كل ما قيل وكل ما ينقل يكون صدقاً، بل كثير من الأخبار ولاسيما مع الانفعالات والعواطف يكون كذباً ويزاد فيه وينقص.
نتأمل قبل أن نتجاسر على الكلام معه بإنكار ما نسب إليه أو ما أشبه ذلك، وكثيراً ما ينقل الشيء ويكون النقل صحيحاً، ونعلم أن هذا الرجل قاله أو فعله، ثم إذا تأملنا وجدنا أن له مبرراً ومسوغاً، وإذا كان له مبرراً أو مسوغاً -وإن كان يجهله كثير من الناس- فإنه ليس أهلاً للملامة أو أهلاً للإنكار؛ لأنه قاله عن اجتهاد، وليس الشخص منا ينـزل عليه الوحي بحيث يكون ما قاله حقاً أو ما فعله حقاً، فإن الوحي انقطع بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا تأملنا ما صح به النقل عنه، ووجدنا أن لقوله ولفعله مساغاً ومبرراً فإننا نسكت ولا نتكلم معه.
فإذا تبين لنا أنه لا مساغ لقوله ولا مبرر له، أو لا مساغ لفعله ولا مبرر له حينئذٍ نتكلم .. ولكن كيف الكلام؟
هل يكون الكلام بأن نشهر بهذا الرجل عند الناس، ونقول: هذا فلان فيه كذا وكذا؟
لا. الواجب النصيحة بالحكمة بأن نذهب إليه ونقول: فعلت كذا أو قلت كذا، وهذا ليس بصحيح؛ لأنه يخالف قول الله عز وجل، كذا وكذا، أو قول الرسول صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، أو إجماع العلماء على كذا وكذا، فكيف تقول ذلك أو تفعل ذلك؟
فمن هم أولو الأمر؟
أولو الأمر طائفتان من الناس: العلماء هم أولو الأمر في شريعة الله وتبيينها للخلق، والأمراء هم أولو الأمر في تنفيذ الشريعة وحفظ الأمن، أوجب الله طاعة هؤلاء؛ لأجل حفظ الشريعة وحفظ الأمن وانتظام الناس؛ لأن الناس لو تمردوا عليهم وجعلوا أمر الأمير أو أمر العالم كأمر زيد وعبيد لم يكن لهم سلطة على القلوب ولا على النفوس، وصاروا كعامة الناس، إن قالوا فالإنسان بالخيار إن شاء قبل ما قالوا وإن شاء رده، وإن أمروا فالإنسان بالخيار إن شاء أطاع وإن شاء عصى، وإلا فله الخيار إن شاء انتهى وإن شاء فعل، وهذه من كبار المسائل، ولهذا قال تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59] ما قال: وليطع بعضكم بعضاً، قال: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59] فخص ولاة الأمور.
الجواب: نعم. لهم أمر علينا وإن فعلوا المعصية، لو كانوا يعصون فلهم أمرٌ علينا وطاعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بطاعة ولاة الأمور حتى وإن رأينا منهم ما نكره، وأمر بطاعة ولاة الأمور حتى وإن ضربوا الظهر وأخذوا المال، وكونهم يعصون الله فمعصيتهم عليهم، لكن إذا أمرونا مباشرة وقالوا: افعلوا هذه المعصية أو اتركوا هذا الواجب، قلنا لا سمع ولا طاعة، وما يروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بأمر، فقال بلال رضي الله عنه: لا سمع ولا طاعة؛ لأن عليك ثوباً جديداً أو ثوبين، فإن هذا لا أظنه يصح؛ لأن عمر له من الهيبة ما لا يمكن لـبلال أن يتكلم بمثل هذا أمام الناس، ثم إن بلالاً رضي الله عنه عنده من احترام عمر ما لا يمكن أن يتكلم بمثل هذا أمام الناس، ثم لو فرضت صحته مثل الشمس، فلعل بلالاً قال ذلك؛ لأن من الناس من انتقد عمر في هذا الفعل، فأراد بلال من عمر رضي الله عنه أن يبين السبب الذي جعله يلبس ثوباً جديداً أو ثوبين، حتى يزول الإشكال الذي وقع في قلوب بعض الناس.
على كل حال يجب علينا إزاء ما نسمع من الأخبار أمور ثلاثة مرتبة:
الأمر الأول: التثبت.
الأمر الثاني: التأمل.
الأمر الثالث: المواجهة والنصيحة، دون التشهير والإعلان، ولاسيما إذا كان الإنسان من ولاة الأمور من عالم أو أمير أو نحو ذلك.
وبهذا نسلك سبيل السلف الصالح رضي الله عنهم ويحصل الخير الكثير، وهذا لا يُفَوِّتُ شيئاً، فبدلاً من أن تنكر اليوم تثبت وتأمل ثم أنكر غداً أو بعد غد.
نحن نقول: تثبت وتبين لكن بهدوء وخطوات ثابتة متزنة مبنية على الحجة: المنقول والمعقول، وبهذا تتم الأمور وتصلح الأحوال.
نسأل الله تعالى أن يجمع قلوبنا على طاعته وتقواه، وأن يوحد كلمتنا بالحق، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الجواب: الخلفاء الأربعة هم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي باتفاق المسلمين وهم خلفاء راشدون لا شك، ولاسيما أبو بكر وعمر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن يطيعوا
أما أن تخفى على بعضهم السنة فهذا قد يقع، فهذا حديث الطاعون حين سافر عمر بن الخطاب إلى الشام وفي أثناء الطريق قيل له: إن هناك طاعوناً، فتوقف رضي الله عنه واستشار الصحابة الذين معه من المهاجرين والأنصار، ولم يكن عند أحدهم أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن استقر الرأي على أن يرجع إلى المدينة وألا يخاطر بالمسلمين، فأذن بالرحيل، فجاءه أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أمين هذه الأمة
الجواب: هي بالخيار، إن شاءت رفعت القضية إلى المحكمة وطلبت الفسخ ولها أن تفسخ، وإن شاءت بقيت في عصمته حتى يُنظر في أمره.
الجواب: أقول: عليك وعليهم السلام، ومسألة التكفير مسألة كبيرة عظيمة، أشد من التحليل والتحريم؛ لأن التحليل والتحريم لا يؤدي إلى استباحة الدم والمال، والتكفير يؤدي إلى استباحة الدم والمال؛ لأنك إذا قلت: هذا كافر، معناه: أنه مرتد، فإما أن يعود إلى الإسلام، وإما أن يقتل ويستباح ماله، فالمسألة كبيرة، ولهذا يجب على الإنسان أن يتقي الله عز وجل في نفسه، وأن يحفظ لسانه عن قول: فلان كافر، أو فلان مشرك، أو ما أشبه ذلك، والتكفير لا بد فيه من شرطين:
الشرط الأول: أن نتحقق من الكتاب والسنة أن هذا الشيء كفر، فإذا لم نتحقق فلا يجوز أبداً أن نقول: إنه كفر، لابد أن نتحقق أنه كفر.
الشرط الثاني: أن نتحقق أن هذا الوصف الذي رتب الشرع عليه الكفر قد اتصف به هذا الرجل بحيث تكون الحجة قد قامت عليه، وفهمها ولكنه أبى واستكبر، وقال كما قال أسلافه: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23] فإذا وجدنا رجلاً مبتدعاً سواءً كان من المقلدين العامة أو ممن فوقهم لكنه ليس مجتهداً في بدعته داعياً إليها، فإننا لا نكفره حتى تقوم عليه الحجة، ويُبيّن له الأمر، فإذا بُيَّن له الأمر فحينئذٍ نحكم بما تقتضيه دلالة الكتاب والسنة، لكون هذه البدعة مكفرة أو غير مكفرة، فالمسألة خطيرة.
واعلم أنه ربما يكون القول كفراً أو الفعل كفراً والقائل أو الفاعل ليس بكافر، ولعله قد بلغكم من قصة الرجل الذي أضل راحلته في أرضٍ فلاة ضاعت منه، وعجز أن يلقاها وعليها طعامه وشرابه، فاضطجع تحت شجرة ينتظر الموت، فإذا بزمام الناقة معلق بالشجرة فأخذه، ومن شدة الفرح قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، هذه الكلمة كفر، لكنه أخطأ من شدة الفرح، فلم يكن عليه شيء، والرجل يُكره على الكفر ولا يكفر كما قال الله: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:106]. إذاً .. هو يكفر ومع ذلك يرفع عنه حكم الكفر، من أجل الإكراه والخطأ، والرجل العاصي الذي كان قد أهلك نفسه بالمعاصي، قال لأهله: إذا مت فأحرقوني وذروني في اليم، خاف من قدرة الله عليه أن يعذبه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، ففعل أهله ذلك به أحرقوه وذروه، فجمعه الله عز وجل بقدرته كن فيكون، وسأله: لِمَ فعلت؟ قال: يا رب خوفاً من عقابك، فغفر الله له، مع أن الرجل شك في قدرة الله، والشك في قدرة الله كفر، لكن هذا الرجل لم يشك في قدرة الله تعالى استهانة بالله، لكن خوفاً من الله عز وجل أن يعاقبه فظن أنه إذا فعل ذلك سوف ينجو.
فعلى كل حال .. أنا أدعوك أنت أيها السائل! وأدعو أيضاً غيرك أن يتريثوا في إطلاق كلمة الكفر، حتى يتبين من الكتاب والسنة أن هذا كفر، ثم يتبين أن هذا الوصف ينطبق على هذا الرجل بعينه، ثم يحكم بما تقتضيه الشريعة الإسلامية وكما لا يجوز أن نقول: هذا حلال وهذا حرام إلا بإذن من الله، كذلك لا يجوز أن نقول: هذا كفر، أو ليس بكفر إلا بإذن الله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر