أما بعد:
فهذا هو اللقاء الأخير من شهر جمادى الأولى، عام: (1414هـ)، الذي يتم في كل خميس من كل أسبوع.
نبدأ هذا اللقاء بما كنا نبدأ به أولاً من تفسير القرآن الكريم، وقد وصلنا إلى قوله تعالى في سورة البروج: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ [البروج:11].
وأما قوله: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البروج:11] فالمراد: عملوا الأعمال الصالحة؛ والأعمال الصالحة هي التي بنيت على الإخلاص لله، واتباع شريعة الله، فمَن عمل عملاً أشرك به مع الله غيره، فعملُه مردودٌ عليه، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما يرويه عن ربه أنه تعالى قال: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركتُه وشركَه).
وأما المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإن مَن عمل عملاً ليس على شريعة الله فإنه باطل مردود، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
وبناءً على ذلك تكون عبادة المرائي الذي يعبد الله؛ لكن يرائي الناس، أي: يُظْهِر العبادة ليراه الناس فيمدحوه، إذْ أنه لا يريد التقرب إلى الناس، بل يريد التقرب إلى الله؛ لكن يريد أن يمدحه الناس على تقربه إلى الله وعبادته لله، فهذا المُرائي عمله مردود أيضاً.
كذلك مَن تكلم بكلام؛ قرآنٍ، أو ذِكْرٍ، ورفع صوته ليسمعه الناس فيمدحوه على ذكره لله، فهذا أيضاً مُراءٍ، وعمله مردود عليه؛ لأنه أشرك فيه مع الله غيره، أراد أن يمدحه الناس على عبادة الله.
أما من تعبد للناس، فهذا مشركٌ شركاً أكبر، فمن قام يصلي أمام شخص تعظيماً له لا لله، وركع للشخص وسجد له فهذا مشرك شركاً أكبر مخرج من الملة.
وكذلك مَن ابتدع في دين الله ما ليس منه، كما لو رتَّب أذكاراً معينة في وقت معين، فإن ذلك لا يُقْبَل منه حتى ولو كان ذكرَاً لله، ولو كان تسبيحاً أو تحميداً، أو تكبيراً أو تهليلاً؛ لكنه رتبه على وجه لم ترد به السنة، فإن ذلك ليس مقبولاً عند الله عزَّ وجلَّ؛ لأنه عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله.
فالمهم أن الله اشترط مع الإيمان العمل الصالح، وبهذا نعرف أنه لا ينبغي لنا أن نركز دائماً على العقيدة، ونقول: نحن على عقيدة إسلامية، وعلى كذا، وعلى كذا، ولم نذكر العمل؛ لأن مجرد العقيدة لا يكفي، بل لا بد من العمل.
فينبغي عندما نذكر أننا على العقيدة الإسلامية أن نقول: ونعمل العمل الصالح؛ لأن الله يقرن دائماً بين الإيمان المتضمن للعقيدة وبين العمل الصالح؛ حتى لا يخلو الإنسان من عمل صالح، أما مجرد العقيدة فلا ينفع، فلو أن إنساناً يقول: أنا مؤمن بالله؛ لكنه لا يعمل، فأين الإيمان بالله؟! ولهذا كان القول الراجح من أقوال العلماء: أن تارك الصلاة كافر كفراً مخرج عن الملة، وقد بينا أدلة ذلك في رسالة لنا صغيرة، وكذلك تمر علينا في برنامج: (نور على الدرب) أسئلة حول هذا الموضوع، ونبين الأدلة بما يغني عن إعادتها هنا.
لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [البروج:11].
لَهُمْ أي: عند الله.
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ : وذلك بعد البعث، فإنهم يدخلون هذه الجنات التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولهذا قال الله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17].
وقال الله في الحديث القدسي: (أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) لأن فيها من النعيم ما لا يتصوره الإنسان، والله تعالى يذكر أن في الجنات نخلاً، ورماناً، وفاكهةً، ولحمَ طير، وعسلاً، ولبناً، وماءً، وخمراً؛ لكن لا تظنوا أن حقائق هذه الأشياء كحقائق ما في الدنيا، أبداً؛ لأنها لو كانت حقائقها كحقائق ما في الدنيا لكنا نعلم ما أخفي لنا من هذا؛ ولكنها أعظم وأعظم بكثير مما نتصوره.
فالرمان وإن كنا نعرف معنى الرمان أنه على شكل معين، وطعم معين، وذو حبات معينة لكن ليس الرمان الذي في الآخرة كهذا؛ بل هو أعظم بكثير، لا يساويه من جهة الحجم ولا من جهة اللون، ولا من جهة المذاق؛ لكن كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: [ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء فقط، أما الحقائق فهي غير معلومة].
وقوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [البروج:11]: قال العلماء: (من تحتها الأنهار) أي: من تحت أشجارها وقصورها، وإلا فهي على السطح فوق، ثم إن هذه الأنهار جاء في الأحاديث أنها لا تحتاج إلى حفر، ولا تحتاج إلى بناء أخدود، وفي هذا يقول ابن القيم في النونية:
أنهارها في غير أخدود جـرت سبحان ممسكها عن الفيضانِ |
الأنهار المعروفة عندنا أنها تحتاج إلى حفر أو إلى أخاديد تمنع من تسرب الماء يميناً وشمالاً؛ لكن في الجنة لا تحتاج إلى أخدود، بل تجري حيث يشاء الإنسان، ويوجهها كما شاء، بدون حفر وبدون إقامة أخدود.
والأنهار هنا وفي آيات كثيرة مجملة؛ لكنها فُصِّلت في سورة القتال (سورة محمد) قال تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً [محمد:15].
ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ [البروج:11].
ذَلِكَ : المشار إليه هو: الجنات وما فيها من النعيم.
الْفَوْزُ الْكَبِيرُ أي: الذي به النجاة من كل مرهوب، وحصول كل مطلوب؛ لأن الفوز هو عبارة عن حصول المطلوب، وزوال المكروه.
والجنة كذلك فيها كل مطلوب، وقد زال عنها كل مرهوب، فلا يذوقون فيها الموت، ولا المرض، ولا السقم، ولا الهم، ولا النصب.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها.
بَطْشَ [ أي: أَخْذَهُ بالعقاب شديد، كما قال تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:98] فبَطْشُ الله -أي: انتقامُه وأخذُه- شديدٌ عظيم؛ ولكنه لمن يستحق ذلك، أما من لا يستحق ذلك فإن رحمة الله تعالى أوسع، ما أكثر ما يعفو الله من الذنوب! ما أكثر ما يستر الله من العيوب! ما أكثر ما يدفع الله من النقم! وما أكثر ما يجري من النعم! لكن إذا أخذ الظالم لم يُفْلِته؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليُمْلِي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه) وتلا قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
وعلى هذا فنقول: بَطْشَ رَبِّكَ [البروج:12] أي: فيمن يستحق البطش، أما من لا يستحقه؛ فإن الله تعالى يعامله بالرحمة، وبالكرم، وبالجود، ورحمة الله تعالى سبقت غضبه.
فأنت اعرف أصلك من أين أنت! وأنك ابتدأت من عدم، واعرف منتهاك وغايتك، وأن غايتك إلى الله عزَّ وجلَّ.
وَهُوَ الْغَفُورُ أي: ذو المغفرة؛ والمغفرةُ سَتْرُ الذنب والعفوُ عنه، فليست المغفرةُ سترَ الذنب فقط؛ بل سترُه وعدمُ المؤاخذة عليه، كما جاء في الحديث الصحيح: (إن الله يخلو بعبده المؤمن يوم القيامة ويقرره بذنوبه، حتى يقر بها ويعترف، فيقول الله عزَّ وجلَّ: قد سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم).
ذنوبنا كثيرة:
ذنوب قلبية.
وذنوب قولية.
وذنوب فعلية
ما أكثرها! لكن الله تعالى -ولله الحمد- يسترها.
يُذكر أن بني إسرائيل كانوا إذا أذنب الواحد منهم ذنباً وَجَدَهُ مكتوباً على باب بيته، فضيحةً وعاراً - والعياذ بالله -؛ لكننا نحن -ولله الحمد- قد ستر الله علينا، فنتوب إلى الله، ونستغفر من الذنوب، فتمحى آثارها نهائياً، ولهذا قال: وَهُوَ الْغَفُورُ [البروج:14]: أي الساتر لذنوب عباده، المتجاوز عنها، الْوَدُودُ [البروج:14]: مأخوذة من الود، والود: هو خالص المحبة، فهو جلَّ وعَلا ودود.
وما معنى ودود؟ هل معناه أنه محبوبٌ، أو أنه حابٌّ؟
الجواب: يشمل الوجهين جميعاً، قال الله تبارك وتعالى: يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] فهو جلَّ وعَلا وادٌّ؛ يحب الأعمال، ويحب الأشخاص، ويحب الأمكنة.
وهو كذلك أيضاً محبوبٌ يحبه أولياؤه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].
فكلما كان الإنسان أتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحب إلى الله، فهو جلَّ وعَلا وادٌّ وهو أيضاً مودود، أي: أنه يُحِبُّ ويُحَبُّ، يُحِبُّ سبحانه وتعالى الأعمال، ويحب العاملين، ويحب الأشخاص، بمعنى: أن محبة الله قد تتعلق بشخص معين، مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام في يوم خيبر : (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب اللهَ ورسولَه، ويحبه اللهُ ورسولُه) فبات الناس، ثم غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: (أين
الشاهد قوله: (يحب اللهَ ورسولَه ويحبه اللهُ ورسولُه) فهنا أثبت أن الله يحب هذا الرجل بعينه، وهو علي بن أبي طالب .
ولما بعث رجلاً على سرية صار يقرأ لهم في الصلاة، ويختم بقراءة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه بذلك؛ لأن عمله هذا غير معروف، أن الإنسان كلما قرأ في الصلاة يجعل آخر قراءته: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] فقال: سلوه: لأي شيء كان يصنع ذلك! فسألوه، فقال: إنها صفة الله، وأنا أحب أن أقرأها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخبروه أن الله يحبه) فهنا تجدون محبة الله قد علِّقت بشخص معين.
وقد تكون محبة الله معلقة بمعينين بأوصافهم، مثل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة:4].
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195].
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4] هذا ليس فيه شخص معين؛ لكن فيه شخص موصوف بصفة.
كذلك يحب الله سبحانه وتعالى الأماكن؛ فأحب البقاع إلى الله مساجدها.
وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (أن مكة أحب البقاع إلى الله) فهذه المحبة متعلقة بالأماكن.
فالله تعالى يُحِبُّ ويُحَبُّ، ولهذا قال: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [البروج:14].
ذُو الْعَرْشِ أي: صاحب العرش، والعرش هو الذي استوى الله عز وجل عليه وهو أعظم المخلوقات وأكبرها وأوسعها.
وقد جاء في الأثر: (أن السماوات السبع والأرضين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الكرسي على هذه الحلقة) إذاً: الكرسي لا أَحَدَ يُقَدِّر سعته، وإذا كنا نشاهد من المخلوقات المشهودة الآن التبايُن العظيم في أحجامها، فكيف بالكرسي؟!
أطلعني رجل على صورة الشمس وهي مصورة، وصورة الأرض، فوجدتُ أن الأرض بالنسبة لهذه الشمس كنقطة غير كبيرة في وعاء واسع كبير، وأنها لا تنسب إلى الشمس إطلاقاً، فهي ليست شيئاً، فإذا كانت هذه الأشياء المشهودة التي تدرَك بالتليسكوب وغيره، فما بالك بالأشياء الغائبة عنا؟! لأن ما غاب عنا أعظم مما نشاهد، قال الله تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85].
فالحاصل أن العرشَ الذي هو سقف المخلوقات كلها عرشٌ عظيم، استوى عليه الرحمن جلَّ وعَلا، كـما قـال تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5].
وقوله: الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج:15] هذه فيها قراءتان:
الْمَجِيدُ [البروج:15] بضم الدال.
والْمَجِيدِ [البروج:15] بكسر الدال.
فعلى القراءة الأولى تكون وصفاً للرب عز وجل.
وعلى القراءة الثانية تكون وصفاً للعرش.
وكلاهما صحيح، فالعرشُ مجيدٌ، وكذلك الربُّ عز وجل مجيدٌ، ونحن نقول في التشهد: إنك حميدٌ مجيد.
فكل ما يريده فإنه يفعله؛ لكن ملوك الدنيا وإن عَظُمَت ملكيتهم لا يفعلون كل ما يريدون، ما أكثر ما يريدون ثم يوجد مانع يمنع مرادهم!
أما الرب فهو ذو السلطان الأعظم، الذي لا يَرُدُّ ما أراده شيءٌ: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16] وفي هذا دليل على أن جميع ما وقع في الكون هو بإرادة الله عز وجل؛ لأن الله هو الذي خلقه، فيكون واقعاً بإرادته، ولكن اعلموا أن الله لا يريد شيئاً إلا لحكمة، فكل ما يقع من أفعال الله، فإنه لحكمة عظيمة، قد نعلمها وقد لا نعلمها.
ونتوقف عند هذه الآية الكريمة.
ونسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يتلون كتابه حق تلاوته، وأن يرزقنا فَهمه، ويعيننا على العمل به، إنه جواد كريم.
الجواب: أقول: هذا العمل لا بأس به بشرط أن يحفظ الدراهم التي يعطيها إياه، ثم يبلغ الجهات المسئولة من أجل أن تنكِّل بهذا الرجل الذي نعتبره آكلاً للرشوة، خائناً لولي أمره؛ لأن الواجب على مَن وُكِل إليه مثل هذه الأمور أن ينظر ما هو أصلح للعمل، بقطع النظر عن فلان وفلان، وأن لا يحابي أحداً لقُرْبه، ولا أحداً لرشوته، ولا أحداً لفقره؛ بل ينظر إلى مصلحة العمل، فإن كان هذا الرجل يقدر على أن يكتب أشياء خفية فيما يعطيه من الرشوة أو الشيك مثلاً يحوِّله فلا بأس؛ لكن بشرط أن يوصل الأمر إلى المسئول الذي فوق هذا الذي وُكِلت إليه الصلاحية، من أجل أن ينكَّل به، ويذوق عقابه.
أما إذا كان لا يستطيع هذا فلا يحل له أن يعطيه الرشوة.
السائل: هناك أناسٌ تقدموا لهذا العمل، ولم يقدموا طلباتهم!
الشيخ: أنا فاهم! حتى وإن لم يقدم أحد، فإن الرشوة لا تجوز.
الجواب: الإجابة على هذا السؤال قد أجاب النبي عليه الصلاة والسلام، حيث قال: (إن الناس يتساءلون: مَن خلق كذا؟! مَن خلق كذا؟! مَن خلق كذا؟! حتى يقولوا: مَن خلق الله؟! فإذا بلغت الحال إلى هذه فليقل: الله أحد، صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد، وليكف عن هذا)
الجواب: تعدد الجماعة على قسمين:
القسم الأول: أن يكون ذلك راتباً بحيث تتعمد الجماعة الثانية التأخر، حتى تقيم جماعة أخرى، فهذه بدعة؛ لأن المسجد لا يقام فيه إلا جماعة واحدة.
والقسم الثاني: ألا يكون ذلك راتباً معتاداً؛ لكن بعد أن تنتهي الجماعة الأولى يأتي أناس يدخلون المسجد فيصلون جماعة فهذا مشروع وسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع أصحابه ذات يوم، فدخل رجل قد فاتته الصـلاة، فقال: (من يتصدق على هذا فيصلي معه) فقام أحد الصحابة فصلى معه.
ولأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله).
وأما تَوَهُّمُ مَن تَوَهَّم من الناس أن إقامة الجماعة الثانية بدعة، فهذا صحيح فيما إذا كان على وجه الراتب المعتاد، أما ما كان طارئاً فإن إقامة الجماعة الثانية سنة؛ لأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
السائل: ولو أقامها في البيت بعد انقضاء الجماعة الأولى؟
الشيخ: لا. في المسجد أحسن؛ لأن إقامتها في المسجد ربما تكثر الجماعة، يدخل معه أناس يأتون فيما بعد، فيكون أفضل، ثم إن الغالب أن الإنسان يخرج من بيته إلى المسجد من أجل أن يصلي مع الجماعة، فتفوته، فيأتي وهم قد صلوا، فإذا أقامها في المسجد كان هذا أنفع له ولغيره؛ لأنه ربما لو رجع هو وصاحبه إلى البيت، وصليا جماعة، يأتي إنسان آخر مثلاً فدخل بعد انتهاء الجماعة الأولى ولا يجد جماعة، فتفوته الجماعة، فالأفضل أن تكون في المسجد.
نعم. لو فُرِض أنه عَلِم في بيته أن الجماعة قد انتهت، فهنا نقول: لا فرق، صلِّ في بيتك؛ لأنه لو خرج إلى المسجد قد يخجل أن يقابله الناس وهم قد خرجوا من الصلاة، فيصلي في بيته.
أما إذا كان قد جاء ودخل المسجد ووجدهم قد صلوا فلا ينصرف، بل يصلي مع الجماعة في المسجد.
الجواب: قوله تعالى في الحديث القدسي: (تركتُه وشركَه) أي: نفس العمل الذي حصل فيه الشرك لا يقبله الله؛ لكن لو تاب منه، فإن الله يتوب عليه؛ لأن الله قال: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً [الفرقان:68-69].
فالمراد بقوله: (تركتُه وشركَه) ليس المقصود منه تركتُه دائماً، بل تركتُه وشركَه في العمل الذي أشرك به فقط، ثم إذا تاب منه وآمن وعمل عملاً صالحاً بدل الله سيئاته حسنات.
الجواب: الواجب عليه أن يعرض عليه الإسلام ويدعوه إليه، فإن كان يُحْسِن عرض الإسلام والدعوة إليه باشر ذلك بنفسه، وإن كان لا يُحْسِن طَلَبَ أَحَدَ الطلبة أن يحضُر إلى مَجلِسِه مع هذا النصراني، ثم يعرض عليه الإسلام، فإن رأوا منه إقبالاً فذلك هو المطلوب، ولعل الله أن يهديه، وإن لم يروا منه إقبالاً فالواجب عليه أن يقاطعه؛ لأن إكرام النصارى حرامٌ على المسلم، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه) فإكرامه باستقباله وضيافته وما أشبه ذلك محرمٌ إلا إذا كان يُرْجَى إسلامُه.
السائل: لكنَّ هذا النصراني عربي، وفي بعض المواقف الطريفة عَطَسَ وقال: الحمد لله، ثم إنه يبدأ السلام عند دخوله إلى البيت، وهذه من المُخْرَجات التي حَصَلَت منه!
الشيخ: حتى لو قال: الحمد لله، فما دام لم يؤمن برسول الله، فلا ينفعه تحميدُه.
السائل: ونهاه صاحب السؤال يوماً عن شرب التدخين -أعني: أنه كان يدخن- فنهاهُ عن شرب الدخان، فانتهى!
الشيخ: هذا ربما أنه قريب إن شاء الله.
إذا كان يُرْجَى نباتُه بنفسِه فلا يحاول؛ لأن هذا ليس بعيب، إذْ أن كثيراً من الشباب الذين في ابتداء نبات لِحاهُم لا تنبت اللِّحَى مستوية جميعاً، فينتظر.
أما إذا كان عيباً بحيث نعلم ونيئس أنه لن ينبت بنفسِه فلا حرج أن يعالج ذلك حتى يخرج الباقي، لا سيما إن كانت مشوهة.
أما إذا كانت غير مشوهة فالأفضل ألا يعالجها بشيء؛ لأني أخشى أن يكون هذا من جنس الوصل الذي لعن فيه الرسول عليه الصلاة والسلام الواصلة والمستوصلة.
الجواب: إذا أسلم وانتمى إلى الإسلام، ثم اتخذ نِحْلَة مبتدَعة، فإننا نعطيه حكم أهل هذه النِّحْلَة، إن كانت البدعة مكفِّرة فهو كافر، ولن ينفعه انتقالُه من النصرانية إلى هذه البدعة المكفِّرة، وإن كانت لا تكفِّر فإنه لا يكفر؛ لكن ينبغي لـأهل السنة أن يتلقوا هؤلاء الذين يسلمون؛ لأنه ربما يسلم راغباً في الإسلام، ثم يأتيه رجل مبتدع فيغره ويقول: هذا هو الإسلام، فيرتكب البدعة؛ لأنه لا يدري.
فالواجب على أهل السنة أن يتلقوا هؤلاء الذين أسلموا حديثاً حتى لا يتلقفهم أحدٌ له بدعة.
السائل: إذاً: يكفَّر، وهذا أمر عاديٌّ!
الشيخ: كما قلتُ لك: إذا انتَحَلَ بدعة مكفِّرة فله حكم أصحابها، وإذا انتَحَلَ بدعة غير مكفِّرة فله حكم أصحابها.
لكن قد يقال: هذا النصرانيُّ الذي لا يعرف عن الإسلام شيئاً بدعتُه التي ارتكبها وهي مكفِّرة ارتكبها عن جهل، فهذا نعَلِّمه أولاً بأن ما انتحله غير صحيح، ثم إذا أصَرَّ حُكِمَ عليه بحكم أهل هذه البدعة.
الجواب: إذا قال الإنسان: في ذمتي، أو قال: أنت مني في حرج، فهذا لا يدخل في الشرك؛ لأن الشرك هو القَسَم بغير الله، أما هذا فهو في حكم القَسَم أو في حكم اليمين؛ ولكنه ليس القَسَم الذي يدخل صاحبه في الشرك، إلا أنَّا نقول: كونه يحلف بالله فهذا هو الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت).
وقال الله لنبيه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:1-2].
فالأفضل لمن أراد الحلف أن يحلف بالله.
أما قوله: (في ذمتي) أو (أنت مني في حرج) أو ما أشبه ذلك، فهذا له حكم اليمين، ولكنه ليس يميناً يقال لقائله: إنه مشرك، فاليمين الذي يقال لصاحبه: إنه مشرك أن يقول: (ومُلْكِ فلان) أو (والرئيسِ الفلاني) أو (والنبي) أو (والكعبة) فهذا هو الذي يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (مَن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك).
الجواب: الرقص مكروه في الأصل؛ ولكن إذا كان على الرقصات الغربية وتقليد الكافرات صار حراماً، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن تشبه بقوم فهو منهم) مع أنه أحياناً تحصل به فتنة، فقد تكون الراقصةُ امرأةً رشيقةً جميلةً شابَّةً فتفتن النساء، وإن كانت في وسط النساء، فتحصل من النساء أفعالٌ تدل على أنهن افتَتَنَّ بها، وما كان سبباً للفتنة فإنه يُنْهَى عنه. هذا هو الجواب في حكم الرقص.
السائل: وإذا كان -يا شيخ- على سبيل العَرْضَة الموجودة، أو شيءٍ شبيهٍ منها، أعني: أن تصطف مجموعة من النساء، فيتقدمن خطوات ويتأخرن خطوات وينحرفن لليمين ولليسار؟
الشيخ: نحن نريد بالرقص الرقص التي تتمايل تمايلاً تاماً، حتى تصل أحياناً إلى قريب الأرض، ثم ترتفع، ثم تهتز يميناً وشمالاً.
أما مجرد الحركة اليسيرة فهذه لا تعتبر كالرقص الذي نريده.
الشيخ: هم مسافرون أم من أهل البلد؟
السائل: هم من خارج البلد، من مكان بعيدٍ قليلاً عن البلد.
الجواب: يجوز للإنسان المسافر أن يقصُر ويجمع حتى يرجع إلى بلده، سواء خرج لنزهة، أو خرج لعبادة؛ كالمعتمر والحاج، أو خرج لعلم، أو خرج لتجارة، المهم أنه ما دام مسافراً؛ فقد قال الله عز وجل: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء:101] ولم يخص الله ضرباً دون ضرب؛ بل أطلق وعمَّم.
وأنت ذكرتَ في سؤالك أن هؤلاء ذهبوا إلى مدائن صالح للاتعاظ والاعتبار، والاتعاظ والاعتبار نوعان:
النوع الأول: الاتعاظ والاعتبار بما كان لهؤلاء القوم من القوة والقدرة، حيث كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً؛ فهذا لا يجوز لأن هذا يؤدي إلى تعظيمهم، ويُقَسِّي القلب.
والنوع الثاني: الاتعاظ والاعتبار بأخْذِ الله وعقوبته لهم، وأنهم على هذه العظمة لم يضروا الله شيئاً، ولم يعجزوا الله سبحانه وتعالى فهذا لا بأس به.
ومع ذلك فإني أخبرك وأخبر مَن يستمع ويتعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثلما أصابهم).
فمن ذهب ودخل وهو يبكي خوفاً من الله عز وجل، فليفعل، وإلا فلا يدخل، بل يبتعد، ولهذا لما مر الرسول عليه الصلاة السلام بديارهم في ذهابه إلى تبوك أو رجوعه منها فقَنَّع رأسه ونَزَّله وأسرع المسير عليه الصلاة والسلام، فكيف بالذي يذهب وينـزل بساحتهم؟! حتى ولو كان للاعتبار الديني فإننا لا نشير عليه بذلك، إذا كان يعتبر اعتباراً دينياً فليقرأ القرآن، القرآن إيمانُ المؤمن بما فيه أكبر من إيمانِه بما يشاهده، وإن كانت المشاهدة لا شك تعتبر زيادة في الإيمان؛ لكن على كل حال نقول: من ذهب إلى هؤلاء القوم على الوجه الذي اشترط الرسول: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، أن يصيبكم مثل ما أصابهم).
السائل: ولكنهم قد صلوا قصراً وجمعاً!
الشيخ: نعم، صلاتهم صحيحة؛ لأنهم مسافرون.
الجواب: معناه: أن الرؤيا إذا تواطأت واتفقت فهي كتواطؤ الشهادات؛ يعني: أنها تقوِّي.
مثال ذلك: إذا رأى ثلاثة أو أربعة ليلة القدر في ليلة خمس وعشرين، فهذا هو تواطؤ هذه الرؤى، فيدل ذلك على أن لها أصلاً.
وإذا شهد رجلان على شخص ثم شهد ثالث ورابع، فالشهادة الثالثة والرابعة تقوِّي شهادة الرجلين الأوَّلَين.
وما قاله شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المسألة صحيح، ومستند إلى قول الرسول عليه الصلاة والسلام للجماعة الذين أُرُوا ليلة القدر: (أَرَى رؤياكم قد تواطأت -لأنهم رأوا ليلة القدر في السبع الأواخر من رمضان- فمَن كان متحريها فليتحرَّها في السبع الأواخر).
الجواب: والله الذي يظهر لي -إن شاء الله- أنه ليس فيها شيء؛ لأن هذا شيء معتاد، وليسوا يفعلونه على سبيل التعبد، بخلاف نساء الجاهلية، فنساء الجاهلية إذا تمت السنة وكان النساء في ذلك الوقت من الجاهلية يعتَدِدْن بسنة كاملة، فتبقى في أقبح بيت، ولا تمس الماء، حتى لو حاضت لا تمس الماء ولا تغتسل، فتبقى منتنة رائحتها كريهة، وإذا خَرَجَت بعد سنة كاملة أخذت بَعَرَة ورمت بها، فتقول: كأنَّ كل ما مر عليَّ أهون عليَّ من رَمْي هذه البعرة، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: (قد كانت إحداكن ترمي بالبَعَرة على رأس الحول).
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر