أما بعد:
فهذا هو اللقاء الأول من شهر جمادى الثانية عام (1414هـ)، والذي يتم كل أسبوع في يوم الخميس.
لقاؤنا هذا نفتتحه بالكلام على آيات من كتاب الله عز وجل في سورة البروج من قوله تبارك وتعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16]؛ لأن ما سبق قد تكلمنا عنه .
وفي الآية الكريمة إثبات إرادة الله سبحانه وتعالى، وهو كذلك، فإنه تعالى له إرادة كاملة تامة في خلقه حتى فيما يتعلق بأفعال الخلق؛ لا يكون فعلٌ من الناس إلا بإرادة الله كما قال الله تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29] فعلق مشيئتهم بمشيئته سبحانه وتعالى.
وقال جلَّ وعَلا: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253].
فهو سبحانه وتعالى إرادته شاملةٌ لِمَا يكون من فعله، ولِمَا يكون من فعل العباد، فأنا -مثلاً- لو تكلمت بكلامي هذا أو بغيره أو بما سبقه، فكل كلامي كائن بإرادة الله، ولو شاء الله ما تكلمتُ، وإذا شاء الله أن أتكلم تكلمتُ، فتنبعث من قلبي إرادة للكلام فأتكلم، ولهذا قال: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16].
والجواب: نعم، أتانا خبرهم، قص الله سبحانه وتعالى علينا من نبأ فرعون وثمود ما فيه عبرة لمن كان قلبه حياً أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
ففرعون: ملك مصر ، وهل هو عَلَم شخص أو عَلَم وصف؟ بمعنى: هل فرعون اسم للجبار العنيد الذي بُعِث إليه موسى؟ أو أنه وصف لكل مَن مَلَك مصر وهو كافر؟
من العلماء من يقول: إنه علم شخص؛ يعني: أنه الذي أُرْسِل إليه موسى وهو جبار عنيد يسمى فرعون.
ومنهم مَن قال: إنه علم وصف لكل مَن مَلَك مصر كافراً، كما يقال: كسرى لكل مَن مَلَك بلاد الفرس ، وقيصر لكل مَن مَلَك بلاد الروم ، والنجاشي لكل مَن مَلَك الحبشة ، وما أشبه ذلك.
والخلاف في هذا ليس بذاك المهم؛ لكن المهم أن فرعون قصته معروفة؛ كان جباراً عنيداً متكبراً، يَدَّعي أنه الرب، ويستهزئ بموسى، وبما جاء به من الآيات، ويتحداه، ويقول له صراحة وجهاً لوجه: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً [الإسراء:101]، ويفتخر ويقول لقومه: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف:51-53].
وماذا كانت النتيجة؟! كانت النتيجة أن كفر به أخص الناس بكيده وهم السَّحَرة ، فإن السَّحَرة لما جمعوا كل ما عندهم من السحر، وجاءوا لمقابلة موسى عليه الصلاة والسلام حيث إن موسى أتى بآية تشبه السحر؛ ولكنها ليست بسحر؛ بل هي آية من آيات الله، وهي أنه يضع العصا التي بيده -عصا من خشب-، فإذا وضعها في الأرض صارت حية تسعى، فقال الناس: هذا سحر، فجُمِع السَّحَرة كلهم؛ أكبرُ السَّحَرة وأحذقهم بالسحر جُمِعُوا في وقت حدَّده موسى، حيث قال له فرعون: فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً [طه:58] أي: مكاناً مستوياً منبسطاً حتى يشاهد الناس ما يشاهدون من السحر وأعمال السَّحَرة ، فقال لهم: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ [طه:59]، ويوم الزينة يوم عيدهم، ويوم العيد -كما تعلمون- يكثر فيه تجمع الناس، ويهنئ بعضُهم بعضاً بالعيد، فاجتمعوا -كما وعدهم موسى- يوم الزينة، وحُشِر الناس، ومتى حُشروا؟ لم يُحشروا في الليل، أو في آخر النهار، أو أول النهار؟ بل حُشروا ضحى في رابعة النهار.
ولَمَّا حشروا ألقى السَّحَرة كل ما يكيدون من كيد وسحر، فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه:66-67]؛ لأنه شاهد شيئاً عظيماً، فأوحى الله إليه أن يلقي العصا، فألقى العصا فإذا هي تلقف ما يأفكون، حينئذ علم السَّحَرة أن موسى صادق وأنه ليس بساحر؛ لأنه لو كان ساحراً ما غلبهم بسحره، فآمنوا بالله وكفروا بـفرعون، وقَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:121-122]، وتحدوا فرعون .
وفي النهاية كانت نهاية فرعون أن أغرقه الله عز وجل بالماء الذي كان يفتخر به بالأمس، في قوله: وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51]، والأنهار: المياه، فأهلكه الله بجنس ما كان يفتخر به.
أما ثمود: فإن الله تعالى قد أعطاهم قدرة وقوة، وأترفهم، حتى كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين، ويتخذون من السهول قصوراً، وكانت لهم قوة وصرامة، فأُهْلِكوا حين كَذَّبوا نبيهم صالح عليه السلام أُهْلِكوا برجفة وصيحة، صِيْحَ بِهِم، وارتجفت بهم الأرض، فهَلَكوا عن آخرهم، فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [هود:67] -والعياذ بالله-.
فالله عز وجل يقول: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ [البروج:17-18]، وماذا كان من نبئهم؟
وفي هذا التنبيه فائدتان:
الفائدة الأولى: تسليةُ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتقويتُه، وأن الذي نصر الرسل من قبله سوف ينصره، ولا شك أن هذا يقوِّي العزيمة، ويوجب أن يندفع الإنسان فيما كُلِّف به من تبليغ الرسالة.
والفائدة الثانية: تهديدُ قريش الذين كذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنهم ليسوا أشد قوة من فرعون وثمود، ومع ذلك أهلكهم الله سبحانه وتعالى.
الَّذِينَ كَفَرُوا [البروج:19] أي: بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فِي تَكْذِيبٍ [البروج:19] (في) للظرفية، كأن هؤلاء منغمسون في التكذيب، والتكذيب محيط بهم من كل جانب، وهذا أبلغ من قوله: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ [الانشقاق:22] في هذا الموضع، وإلاَّ فإن قوله: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ [الانشقاق:22] في موضعه يكون أبلغ؛ لأن القرآن الكريم قد يأتي بالكلمتين مختلفتين في موضعين، وتكون كل واحدة في موضعها أبلغ من الأخرى، إذ أن القرآن مشتمل على غاية البلاغة.
ثم قال تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:21-22] وسنتكلم على هذا إن شاء الله في اللقاء القادم؛ لأنه مهم، ونذكر المناسبة بين ختمه لهذه السورة بهاتين الآيتين، وبين ابتدائها بالسماء ذات البروج، وما ذكر فيها من العبر والقصص.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يتلون كتاب الله حق تلاوته، إنه على كل شيء قدير.
الجواب: قال العلماء: إرادة الله سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين:
إرادة بمعنى: المحبة، وإرادة بمعنى: المشيئة.
القسم الأول: الإرادة بمعنى: المحبة: وهي لا تكون إلا فيما يحبه الله عز وجل، مثل قوله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء:27] فيريد بمعنى: يحب، وليست بمعنى المشيئة؛ لأنها لو كانت بمعنى المشيئة لتاب الله على كل أحد؛ لكنها بمعـنى المحبة، فهو يريد أن يتوب علينا، وهذا حثٌّ لنا على التوبة؛ لأن الله يحب التوابين، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لَلَّهُ أشَدُّ فرحاً بتوبة عبده من أحدكم بناقته كان عليها طعامه وشرابه، وكان في أرض فلاة -ليس حوله أحد- فأضلَّ الناقة، وضاعت فطلبها، فلم يجدها، فاضطجع تحت شجرة ينتظر الموت، فبينما هو كذلك إذا بخطام ناقته متعلقاً في الشجرة، فأخذ بخطامها، وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)، فقوله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء:27]: أي يحب.
القسم الثاني: الإرادة بمعنى: المشيئة: وهي الإرادة الكونية بمعنى: المشيئة، فهذه لا تتعلق بما يحبه فقط، بل تكون فيما يحبه وفيما لا يحبه، وذلك بمعنى: المشيئة، ومنها هذه الآية: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16] أي: لِمَا يشاء، كما قال تعالى في آية أخرى: وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].
وبناءً على ذلك لو قال لنا قائل: هل أراد الله المعاصي للناس؟! بمعنى: هل المعاصي التي هي من أعمال الناس من الكفر والفسوق والفجور، هل هي مُرادة لله، وهل أرادها الله؟! إن قلتُ: لا، فقد أخطأتُ. وإن قلتُ: نعم، فقد أخطأتُ. إذاً: لا بد من التفصيل! نقول: أما بالإرادة الكونية فقد أرادها، ولا يَخْرُج في مُلْكه شيء عن إرادته.
وإن أردتَ الإرادةَ الشرعية فإن الله لَمْ يُرِدْ ذلك؛ لَمْ يُرِدْ من العباد أن يكفروا ويفسقوا ويفجروا، بل هو يريد منهم أن يَصْلُحوا، ولكن حكمته عز وجل جعلت الناس ينقسمون إلى مؤمن وكافر.
الجواب: إبراهيم هو ابن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو من مارية القبطية ، أي: أنه مِن ولد السِّـرِّيـَّة وليس مِن ولد زوجةٍ، توفي وهو في زمن الرضاع قبل أن يُفْطم له نحو ستة عشر شهراً، فأخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأن له مرضعاً في الجنة، يعني: أن هذا الطفل في الجنة، وأن له من يرضعه.
أما كيف ذلك؟ فلا ندري؛ لأن هذا من أمور الغيب؛ وأمور الغيب علينا أن نؤمن بمعناها، وأن نتوقف عن كيفيتها، ولا نسأل: كيف؟! نؤمن بأن إبراهيم بن محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم له مرضع في الجنة، أما كيف ذلك؟! فليس لنا أن نسأل؛ لأننا نعلم أن الصحابة الذين قال فيهم الرسول هذه المقالة أحرص منا على العلم، ومع ذلك ما قالوا: كيف يا رسول الله؟! كيف يكون له مرضع في الجنة وقد مات؟!
فنحن نقول كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: إن إبراهيم له مرضع في الجنة؛ ولكن لا ندري كيف ذلك ... ؟!
السائل: بلا تأويل!
الشيخ: أبداً، هكذا نقول.
الشيخ: قولك: إذا كان في المسجد وقرأ القرآن كانت الحروف سوداء، تعني: أنه يقرأ في المصحف؟
السائل: نعم.
الشيخ: وهو يصلي.
السائل: داخل المسجد قبل الصلاة.
الشيخ: مسألة القراءة قبل الصلاة هذه سنة، أعني: إن تيسرت وإلا يذكر الله بقلبه ولسانه، أو يقرأ ما يحفظه من القرآن بدون مصحف، فهذه ليست مهمة بتلك الأهمية.
لكن إذا كان الإنسان في بيته يستطيع أن يصلي الفريضة قائماً وإذا ذهب إلى المسجد لا يستطيع القيام، إما لتعبه من المشي، أو لخوفه من الناس، أو لأي سبب من الأسباب فقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة:
فمنهم من يقول: يصلي في بيته قائماً، ولا يجوز أن يذهب إلى المسجد ويصلي قاعداً، وعللوا هذا بأن القيام ركن لا تصح الصلاة إلا به، وصلاة الجماعة واجبة، تصح الصلاة بدونها.
ومن العلماء من يقول: بل يجب عليه الذهاب إلى المسجد؛ لأنه دعي إلى الصلاة، وصلاة الجماعة واجبة عليه، فليذهب إلى الصلاة، ثم إن استطاع أن يصلي قائماً فعل، وإن لم يستطع فإنه يصلي قاعداً، وهذا القول أصح؛ لقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وهذا الرجل دعي إلى الصلاة، وسمع النداء، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام للرجل: (أتسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب) فليجب، ثم إذا وصل إلى المسجد إن قدر على القيام قام، وإلا صلى جالساً.
وهذا القول هو الصحيح، والقيام ليس بركن في حقه الآن؛ لأنه ليس بقادر عليه.
السائل: هو يختلف عقلياً داخل الصلاة!
الشيخ: إذا كان يختلف عقلياً بحيث لا يدري ما يقول فهذا معذر في ترك الجماعة، فليصلِّ في بيته.
الشيخ: ما هو النشيد الوطني؟
السائل: والله لا أحفظه؛ لستُ أدري إذا كان أحد الإخوان يحفظه! لكنَّه هو قولُهم:
سارعي للمجدِ والعلياءِ مَجِدِّي لخالق السماءِ |
الشيخ: سارعي! يخاطب مَن؟! امرأة؟! أم أنه يخاطب نفسه؟!
السائل: وطنَه.
مداخلة: العَلَم.
الشيخ: إذا كان العَلَم فيقال: سارعْ، أليس العَلَم مذكَّراً؟!
مداخلة: إذاً: الراية.
الشيخ: الراية!
السائل:
سارعي للمجدِ والعلياءِ مَجِدِّي لخالق السماءِ |
وارفعي الخفَّاقَ أخضرْ يحمل النور المسطَّرْ |
ردِّدي: الله أكبر |
يا موطني |
عاش الملك للعَلَم والوطن |
الشيخ: على كل حال أرى أن الذي يجب أن يُسأل عنها هم الذين بيدهم إلغاؤه أو إبقاؤه، وهذه قاعدة أحب أن يتنبَّه لها من يُستفتَى، يأتي مثلاً بعض الناس ممن هم تحت إدارة معينة، ويكون في هذه الإدارة بعض التجاوزات، وبعض المنكرات، فيأتي أحد الإخوة يسأل عنها، ربما يجيب المجيب بحسن نية، فيتخذ السائل من هذا الجواب سُلَّماً للمنازعة مع المسئولين والتشويش عليهم، ولا يحصل المقصود؛ لأن المسئولين إذا جاءهم الأمر من أسفل قد لا يخضعون ولا يستجيبون، ويزيدون في ما هم عليه؛ لكن يجب أن تُعالَج هذه الأمور من فوق، فيُنْظَر:
أولاً: هل العَلَم وهو جماد يُخاطَب بمثل هذا الخطاب أم لا؟! هذه واحدة.
ثانياً: عندما يقال:
عاش الملك للعَلَم والوطن |
ما معنى هذه الكلمة؟!
عاش المليك، لا بأس، ندعو له بالعيش الحميد، والحياة الطيبة، وأن يسدد الله خُطاه، وأن يدله على الخير، هذا لا بأس، ندعو له بذلك.
لكن العبارة الثانية:
..... ..... للعَلَم والوطن
ما معنى للعَلَم والوطن؟!
هل المعنى: عاش للعَلَم، وعاش للوطن؟!
أم أن المعنى: أنني أقول ذلك تعظيماً للعَلَم وللوطن؟!
ما ندري!
والحقيقة أن الذي ينبغي هو أن نوجه شبابنا إلى التحمُّس للدين، لا للوطن؛ لأن التحمُّس للوطن، أو للقومية، أو ما أشبه ذلك لا ينبغي مع وجود التحمُّس لدين الله عز وجل، ولهذا ترك الصحابة أوطانهم بعد الفتوحات الإسلامية، وذهبوا يسكنون الكوفة ، والبصرة ، والشام ، ومصر ؛ لأن وطن المسلم هو ما يستقيم به دينُه.
فكوننا نربي الأجيال على الدفاع عن الوطن وما أشبه ذلك دون أن نشعرهم بأننا نحمي وطننا وندافع عن وطننا من أجل ديننا؛ لأن وطننا -والحمد لله- وأعني بذلك المملكة العربية السعودية هو من خير أوطان المسلمين إقامة لدين الله، فإذا كان الإنسان يريد بالوطنية أي: أن وطننا هو أحسن الأوطان في الوقت الحاضر بالنسبة لإقامة الدين، فأنا أدافع عن وطني؛ لأنه الوطن الإسلامي الذي يطبق من أحكام الشريعة ما لا يطبقه غيره، وإن كان عندنا خلل كثير، فهذا لا بأس، أما مجرد الوطنية فهذه دعوة فاشلة.
وكما تعلمون أن الدعوة إلى القومية العربية إبَّان رؤساء سبقوا وهلكوا وهلكت دعوتُهم صارت لها ضجة كبيرة، ودعوة عظيمة؛ ولكن فشلت إلى أبعد الحدود، حتى العرب أنفسهم الآن ليسوا على قلب واحد؛ هم متفككون، ولا أَدَلَّ على ذلك من أن اليهود الذين هم عدوٌّ للجميع صار كل واحد منهم يصالحهم على انفراد، ولا يعبأ بالآخرين، وتفككت القومية العربية .
ثم إن الدعوة إلى القومية العربية أخرجت ملايين المسلمين من الانطواء تحت لواء الإسلام أو الأمة الإسلامية على الأصح، وأدخلت في القومية العربية مَن هم أعداءٌ للإسلام من نصارى وغيرهم.
لهذا أنا أحث الموجِّهين الذين يوجهون الشباب إلى أن يحمِّسوهم للدعوة إلى الإسلام، وتشجيعه، والأخذ بتعاليمه، حتى تعود الأمة الإسلامية إلى ما كانت عليه من قبل، فتعتز بإسلاميتها، وتعتز بما عندها من شريعة الله عز وجل، ولا يمكن أن يُعِزَّ اللهُ قوماً بشيء ثم يتركوا هذا الشيء ليعتزوا بغيره أبداً، كما يُرْوَى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: [إننا قوم أعزنا الله بالإسلام] يعني: أننا إذا تركنا الإسلام ذهبت العزة، وهذه حقيقة، فالعرب العرباء الذين هم عربٌ أقحاح هم الذين كانوا في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وفيما قبله من زمن الجاهلية، ومع ذلك ما انتصروا على غيرهم من الفرس والروم إلا بالإسلام.
الجواب: التورُّق: هو أن يحتاج الإنسان إلى دراهم ليشتري سلعة، ولم يجد مَن يقرضه، فيذهب إلى شخص ويشتري منه سلعةً بثمن مؤجل أكثر من ثمنها حاضراً، ثم يأخذ السلعة ويبيعها، ويشتري بثمنها السلعة التي يريد.
وكذلك كأن يحتاج الإنسان إلى أرض ليبني عليها سكناً له، وليس معه دراهم، ولا يجد من يقرضه، ويأبى صاحب الأرض أن يبيعها بثمن مؤجل، فيذهب إلى إنسان آخر ويقول: بِعْ عليَّ سيارات بثمن مؤجل أكثر من الثمن الحاضر، ثم يأخذ السيارات، ويبيعها، ويشتري بثمنها هذه الأرض. هذا هو التورُّق، بمعنى: أن يحتاج إلى دراهم، فيشتري ما يساوي ألفاً بألف ومائة إلى أجل، ليبيعه، ويأخذ دراهمه ليشتري بها حاجته. هذا هو التورُّق.
والعلماء رحمهم الله مختلفون فيه: منهم من أجازه، ومنهم من قال: هو مكروه، ومنهم من قال بتحريمه، وشدد فيه شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
الجواب: يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]، والجمعة لا تقام إلا في مكان واحد من البلد، مضى على ذلك عَهْدُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، ولم تُعَدَّد الجُمَع في بلد واحد إلا في القرن الثالث أي: مضى على الأمة الإسلامية مائتا سنة وهم يصلون في مكان واحد.
وإذا كان الإنسان في البلد الذي تقام فيه الجمعة وجبت عليه الجمعة، ولو كانت بينه وبينها فراسخ، ما دام في البلد، وسواء كان يسمع النداء أو لا يسمعه؛ لأن المسجد هذا لكل أهل البلد.
أما إذا كان خارج البلد -أي: في ضواحي البلد- فهذا هو الذي قاله الإمام أحمد : ليس بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ.
والفرسخ: ثلاثة أميال.
وإنما قلتُ لك: إنه مضى على هذه الأمة الإسلامية مائتا سنة ولم تُعَدَّد الجُمَع في المساجد وذلك من أجل أن تنتبه لما يفعله الناس اليوم حيث يعَدِّدون الجُمَع، حتى أصبحت في بعض البلاد كأنها صلاة عادية؛ كأنها صلاة ظهر تقام في كل مسجد، وهذا ليس في بلادنا والحمد لله؛ لكن في البلاد الأخرى، وهذا خطأ، فإن من حكمة الشرع أن يجعل لمعتنقي الشرع يوماً في الأسبوع يجتمعون فيه، ويصدرون عن إمام واحد، وعن رأي واحد، فإذا تعدَّدت الجُمَع زالت هذه الحكمة.
الشيخ: لم أفهم وجه الإشكال!
السائل: يا شيخ! الذي يحسن إلى العباد ويحسن إلى رب العباد هل يكون مطبقاً لهذا الحديث السابق، ويكون إسلامه إسلاماً خاصاً فقط؟
الشيخ: قوله تبارك وتعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ [الذاريات:16] الإحسان في هذه الآية: إما في عبادة الله، وإما في معاملة عباد الله.
فالإحسان في عبادة الله: بيَّنه الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
والإحسان في معاملة الخلق: فسَّره النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً بقوله: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
وقوله عليه الصلاة والسلام: (من أحب أن يزَحْزَح عن النار ويُدْخَل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتَى إليه)، فهذا هو الإحسان في معاملة الخلق.
والإحسان في الآية الكريمة: ذَكَرَ الله تعالى صنفاً منه ونوعاً منه في قوله: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18] إلى آخر الآيات، فالمهم أن الإحسان يكون في عبادة الله، ويكون في معاملة عباد الله.
أما قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (المسلم مَن سَلِم المسلمون مِن لسانه ويده) فهذا هو الإحسان في معاملة الناس.
الجواب: الإعداد للجهاد ومباشرة الجهاد فرض كفاية، فلو وجدنا مثلاً أمة تستعد للجهاد في سبيل الله، وعندها ما يكفي صار في حق الآخرين سنة وليس بواجب، وإذا لم يوجد أحدٌ أَثِمَ الجميع في عدم الإعداد وعدم الجهاد.
لكن الأمر -كما ترى- في الوقت الحاضر ليس هناك صِدْقٌ مع الله، لا بالنسبة للناس، ولا بالنسبة لحكام الناس.
فأما الناس فتجدُ عامتهم وأكثرَهم غافلين عن هذا إطلاقاً، وليس عندهم استعداد، فهم في غفلة؛ بل لم يحصل منهم حتى جهاد أنفسهم عن محارم الله.
وأما الحكام فكما ترى، هم أيضاً غافلون عن هذا نهائياً، ولذلك أصبحت الأمة الإسلامية الآن أمةً ممزقة متفرقة، وأصبح الكفار هم الذين لهم السيطرة على العالم، ولا يمكن أن يكون لنا سيطرة على العالم وعلى الكفار إلا بالرجوع إلى الدين الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم وتطبيقِه عقيدةً وقولاً وعملاً؛ في عبادة الله، وفي معاملة عباد الله، ولهذا لَمَّا قال أبو سفيان لـهرقل ما يعلمه من صفات الرسول عليه الصلاة والسلام ومعاملته، قال له هرقل : [إن كان ما تقولُه حقاً فسيملك ما تحت قدمي هاتين].
فنحن الآن في حال يُرْثَى لها في الواقع، نسأل الله تعالى أن يعيد للأمة الإسلامية مجدها.
السائل: هل للإنسان إذا توفرت له الفرصة للإعداد، وأعد نفسه للجهاد بالسلاح، هل يصير الجهاد في حقه فرض عين؟
الشيخ: هو فرض كفاية؛ لا يكون الجهاد فرض عين إلا في أحوالٍ معينة عيَّنها العلماء:
الأولى: إذا حضر الصف: لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:15-16]، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن التولي يوم الزحف من الموبقات.
الثانية: إذا حاصر بلدَه العدو: فلا بد أن يدافع لفك الحصار عن بلده، وفي هذه الحال قال العلماء: إنه يكون فرض عين؛ لأن هذا كتقابل الصفَّين.
الثالثة: إذا استنفره الإمام: فلو قال: يا فلان اخرج، صار فرض عين، ولا يجوز أن يقول: مُرْ غيري، بل يجب أن يطيع.
الرابعة: إذا دَعَت الحاجة إليه بعينه: مثل أن يكون عارفاً بنوع من السلاح، ولا يستخدمه إلا مثلُه، فهنا يتعين عليه أن يباشِر القتال بهذا السلاح الذي لا يعرفه إلا هو.
هذه الأحوال الأربع هي التي ذكر العلماء أن الجهاد يكون فيها فرض عين، وما عدا ذلك فإنه فرض كفاية.
ثم إن كونه فرض كفاية أو فرض عين لا بد لها من شروط، أهمها: القدرة، فإن لم يكن عند الإنسان قدرة فإنه لا يُلْقِي بنفسه إلى التهلكة، قال الله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195].
الجواب: هذه قضية معينة ولا نفتي فيها بفتوى عامة؛ لكن نقول: مُرْ هذا الرجل الذي حصل منه هذا الكلام أن يتصل بنا أو بغيرنا من أهل العلم، ويسأل هو بنفسه، وإن كانت المسألة وقَعَتْ منك أنت فبعدما ينتهي المجلس أخبرك بالجواب -إن شاء الله-.
الشيخ: من أي ناحية؟ من ناحية المعنى أم من ناحية اللفظ؟
السائل: من ناحية اللفظ!
الجواب: الحكمة من تشابه الآيات في القرآن الكريم من ناحية اللفظ هو: تكرار ما تفيد هذه الآيات من المعاني على النفوس، من أجل أن يهتم بها الإنسان، ولهذا تجد بعض السور تتكرر فيها الآية الواحدة عدة مرات، مثلاً: في سورة الرحمن كُرِّر قولُه تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13] عدة مرات، أكثر من ثلاثين مرة، وفي سورة المرسلات كُرِّر قولُه تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:15]، وذلك من أجل الاهتمام والعناية بهذا الأمر.
نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق لما يحبُّ ويرضى، وأن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، والسلام عليكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر