إسلام ويب

لقاء الباب المفتوح [113]للشيخ : محمد بن صالح العثيمين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • استكمل الشيخ رحمه الله ما كان قد بدأه من شرح آيات سورة الفاتحة، فتحدث عن العبادة ومعناها الحقيقي وما ترمي إليه، وكذا عن الصراط المستقيم وأوصافه وعن الهداية وأهلها. وأجاب عن الأسئلة عقب كلمته وكان من أهمها: سؤال يتعلق بغلاء المهور ورد الكفء من الرجال لشروط محرمة.

    1.   

    تفسير آيات من سورة الفاتحة

    الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فهذا هو اللقاء الثالث عشر بعد المائة من لقاء الباب المفتوح الذي يتم كل خميس, وهذا هو يوم الخميس 29 من شهر رجب عام (1416هـ).

    ونفتتح هذا اللقاء بإكمال سورة الفاتحة حيث تكلمنا على ثلاث آيات منها وهي قوله تبارك وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4].

    تفسير قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين)

    قال الله عز وجل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] الجملتان فيهما حصر, فمعنى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أي: لا نعبد إلا إياك, و(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أي: لا نستعين إلا إياك, وطريق الحصر أنه قدم المعمول وحقه التأخير, وكلما قُدِّم ما حقه التأخير فإنه يفيد الحصر, هذا في اللغة العربية كما نص على ذلك أهل البلاغة وأهل النحو.

    فما معنى العبادة التي قال الله عنها: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)؟

    العبادة: هي التذلل لله عز وجل والخضوع له, وامتثال أوامره, واجتناب نواهيه, وتصديق أخباره, وتعظيمه, ومحبته, إلى غير ذلك من أنواع العبادة, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

    فالطهارة عبادة, والصلاة عبادة, والصدقة عبادة, والزكاة عبادة, والصوم عبادة, والحج عبادة, والنذر عبادة, والتوكل -وهو التفويض المطلق- عبادة, إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي ذكرها أهل العلم, والإنسان العابد يشعر بأنه عبد لسيده وإلهه, إذا أمره قال: سمعنا وأطعنا.

    ومن تمام العبودية: الحب في الله والبغض في الله, فإن هذا أوثق عرى الإيمان أن تحب لله وتبغض لله, وتوالي لله وتعادي لله, فمن كان من عباد الله الصالحين فهو حبيبك في أي مكان في الأرض, وفي أي زمن من الأزمنة, حتى الذين آمنوا بموسى من بني إسرائيل, والذين آمنوا بعيسى من بني إسرائيل هم أحبابنا وإخواننا.

    لا تظنوا أن الحبيب أو الأخ هو من كان من هذه الأمة بل هو كل من كان مسلماً في أي زمان وفي أي مكان فإنه أخ لنا؛ لأن هذا مقتضى العبادة، فالحب في الله والبغض في الله, والولاء في الله والمعادة في الله عز وجل, هذا من تمام العبادة.

    من تمام العبادة: أن الله إذا أمر بأمر تقول: سمعنا وأطعنا, بعض الناس الآن إذا قلت: أمر الله بكذا.. أو أمر الرسول بكذا.. قال: هل الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ سبحان الله! هل كان الصحابة يستفهمون مثل هذا الاستفهام إذا أمرهم الله بشيء أو أمرهم الرسول بشيء, يقولون: هل هذا للاستحباب أو للوجوب؟! لا. بل يقولون: سمعنا وأطعنا, نعم إذا وقع الإنسان في المخالفة فحينئذٍ يتوجه هذا السؤال أن يقال: هل هذا للوجوب ويحتاج إلى فدية أو كفارة أو ما أشبه ذلك..؟

    إذا نهاه الله ورسوله عن شيء يقول: هل النهي للكراهة أم للتحريم؟ سبحان الله! إذا نهي عن شيء فقل: سمعنا وأطعنا, ونتجنبه.

    ولهذا لا يستطيع أحد أن يأتي بحرف واحد عن الصحابة أنهم إذا أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: هل أنت تأمرنا على سبيل الوجوب أم على سبيل الاستحباب؟ وإذا نهاهم عن شيء قالوا: هل أنت تنهانا على سبيل التحريم أم على سبيل التنزيه؟ أبداً, نعم إذا حصل شيء يوجب الاستفهام استفهموا.

    مثال: قضية بريرة رضي الله عنها، فإنها لما عتقت وكان زوجها رقيقاً, قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (أنت بالخيار إن شئت أن تبقي معه، وإن شئت أن تفسخي النكاح فافسخي النكاح, فقالت: أختار نفسي وأفسخ النكاح, ففسخت النكاح) وكان زوجها مغيث يحبها حباً شديداً وهي تكرهه كراهة شديدة, فكان يمشي خلفها في أسواق المدينة يسألها أن ترجع وأن تعدل عن رأيها, ولكنها تأبى, فطلب مغيث من رسول الله أن يشفع له, فشفع له لعله يرجع إليها, قالت: (يا رسول الله أتأمرني؟ فسمعاً وطاعة, أم أمر تشير به عليَّ فلا حاجة لي فيه, قال: بل أمر أشير به عليكِ, قالت: لا حاجة لي فيه).

    وكذلك إذا دلت القرينة على أن الأمر ليس للوجوب مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام لـجابر بن عبد الله : (بعني الجمل بأوقية..) فجعل يماكسه حتى اشتراه الرسول عليه الصلاة والسلام, المهم أن الأمر الشرعي لا يمكن للصحابة أن يقولوا: يا رسول الله هل الأمر للاستحباب أم للوجوب.

    فمن تمام التعبد أنك إذا سمعت بأمر الله ورسوله فلا تتردد, ولا تقول: للوجوب أم للاستحباب، بل قل: سمعنا وأطعنا، وافعل وستؤجر, كذلك إذا سمعت النهي فلا تتردد ولا تقول: هل هو للتحريم فأجتنبه وجوباً, أو للكراهة فأجتنبه تنزهاً, بل قل: سمعنا وأطعنا, إلا إذا وقع الإنسان في المخالفة, فحينئذٍ يسأل: هل هو واجب أم محرم من أجل أن يستدرك ما فاته, المهم أن من تمام العبادة تمام الامتثال, بفعل الأوامر واجتناب النواهي.

    (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) معنى نستعين, أي: نطلب العون من الله, والاستعانة تقع على وجهين:

    الوجه الأول: استعانة عبادة, بمعنى: أن الإنسان يفوض أمره إلى الله, ويعلم أنه لا قدرة له على شيء إلا بمعونة الله, هذه لا تكون إلا لله.

    الوجه الثاني: استعانة بأمر يقدر عليه المعين, والإنسان لا يرى أنه يفوض أمره إلى هذا المستعان به، ولكنه يرى أنه من باب المساعدة, فهذا جائز، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها, أو ترفع له عليها متاعه صدقة) تعينه, فأثبت الإعانة من المخلوق للمخلوق.

    (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ما المراد بالاستعانة هنا؟ الاستعانة التي لا تصلح إلا لله أم التي تصلح لله وللمخلوق؟

    المراد الأول، الاستعانة التي فيها التفويض المطلق وأنه لا قدرة للمستعين على أي شيء إلا بمعونة، هذه الاستعانة به وهذه لا تكون إلا لله عز وجل.

    تفسير قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم)

    قال تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] الهداية تكون بمعنى الدلالة, وتكون بمعنى التوفيق, فأي المعنيين هناك يريد الداعي: هداية التوفيق أم هداية الدلالة، أو كلتيهما؟ كلتيهما, يريد هداية الدلالة أي: العلم, هداية التوفيق أي: التزام الصراط المستقيم, ومعلوم أن الإنسان لا يستطيع أن يلتزم الصراط المستقيم إلا بعلم, كيف يعبد الله على جهل؟ لا يمكن! لا بد أن يهديه الله, يدله أولاً ثم يوفقه ثانياً.

    قول الله عز وجل: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم, ما المراد بالهداية هنا؟ هداية الدلالة والإرشاد والبيان, وقوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] هداية التوفيق, يعني: لا تستطيع أن توفق أحد للهدى أبداً, لا يستطيع ذلك إلا الله وحده, وقوله: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17] هداية الدلالة, دلهم الله على الحق, وبين لهم رسولهم الحق ولكنهم: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ [فصلت:17].

    المهم أن الهداية نوعان: هداية الدلالة, وهداية التوفيق.

    هداية الدلالة تكون بالعلم, وهداية التوفيق تكون بالسير على الصراط المستقيم.

    وقول المصلي أو الداعي بهذه الآية الكريمة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي: هداية الدلالة والتوفيق, فيكون هذا الدعاء شاملاً للعلم بالحق, والعمل بالحق.

    وقوله: (الصِّرَاطَ) يقول أهل اللغة: إن الصراط لا يطلق على الطريق إلا إذا كان واسعاً, أما الطريق الضيق فليس بصراط, ووجه ذلك في المعنى: أن الصراط والزراط والسراط كلها تدل على سعة وسهولة النفوذ, يقال: زرط الرجل اللقمة. أي: ابتلعها بسرعة وسهولة, هنا الصراط أي: الطريق الواسع الذي يمضي به الإنسان من غير تعب ولا مشقة.

    لكن الصراط قد يكون مائلاً, وقد تكون فيه مرتفعات ومنخفضات, ولهذا قال: (الْمُسْتَقِيمَ) أي: الذي لا اعوجاج فيه وليس فيه منخفض ولا مرتفع, لأن الطريق المعوج يعوق.

    مثلاً: إذا كان بينك وبين البلدة في خط مستقيم 20 كيلو, يكون بينك وبينها في خط معوج 30 كيلو أو أكثر حسب كثرة الاعوجاج, كذلك في المنخفضات والمرتفعات, إذا كانت الطريق سوياً فإنك تصل إلى ما تريد بسرعة, لكن إذا كان مرة في الأعلى ومرة في الأسفل زاد عليك الطريق, فالمستقيم إذاً هو المستوي المعتدل, فخرج المعوج وما فيه من انخفاض وارتفاع.

    فما المراد بالصراط المستقيم هنا: هل المراد الصراط المستقيم الحسي أم المعنوي؟

    المراد المعنوي ليس الحسي, أما في قول موسى عليه الصلاة والسلام: عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص:22] فالمراد به الحسي، ولهذا هداه الله عز وجل إلى سواء السبيل, لكن هنا الصراط المعنوي, والصراط المعنوي بينه بقوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7].

    تفسير قوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم)

    قال تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] أي: أنعمت عليهم النعمة التامة التي يكون فيها نعمة الدين والدنيا, فمن هؤلاء؟

    قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69] أربعة أصناف هم الذين أنعم الله عليهم, وهم على مراتبهم هذه:

    المرتبة الأولى: قال: (مِنَ النَّبِيِّينَ) والنبيون هنا يشمل المرسلين؛ لأن الرسول نبي, والرسل أعلى طبقة من الأنبياء, وأولو العزم أعلى طبقة من غيرهم, ومحمد أعلى أولي العزم طبقة.

    فإذاً: النبيون تشمل طبقاتهم المرسلون فهم أعلى من النبيين, وأولو العزم أعلى من بقية الرسل, ومحمد أعلى طبقة في أولي العزم.

    هل أنت تستحضر وأنت تقرأ هذه الآية هؤلاء السادة؟

    لا بد أن يكون في قلبك ذكر لهؤلاء السادة.

    المرتبة الثانية: الصديقون, هم الذين بلغوا في الصدق غايته، في تصديق ما أنزل الله على رسله, وقاموا بذلك وعلى رأسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه, كيف عرفنا أنه على رأس الصديقين؟ لأن هناك حواريين وأنصاراً من الرسل السابقين, فكيف عرفنا أن أبا بكر هو أفضلهم؟

    عرفنا ذلك لأن هذه الأمة أفضل الأمم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] وأن أفضل هذه الأمة هو أبو بكر باتفاق الصحابة, فقد كان الصحابة يقولون على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم: [خير هذه الأمة أبو بكر ثم عمر] حتى علي بن أبي طالب كان يعلن على منبر الكوفة بعد أن كان خليفة يقول: [خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر] وبذلك نعرف كذب الرافضة الذين يدعون أن أبا بكر ليس خليفة وأنه ظالم لـعلي؛ لأن علي عندهم هو الخليفة, فيقال: لماذا لم يعلن علي بن أبي طالب حين كان خليفة أنه مظلوم؟ بل أعلن أن ما جرى هو العدل؛ لأنه أقر واعترف بأن خير هذه الأمة أبو بكر , وهذا إقرار بفضله وبأحقيته للخلافة؛ لأنه لا يولى على القوم إلا أفضلهم وخيرهم.

    على كل حال: نحن نقول: الطبقة الثانية من الخلق هم الصديقون.

    المرتبة الثالثة: الشهداء, الشهداء يشمل شهداء المعركة, وهم الذين قتلوا في سبيل الله, ومن الذي قتل في سبيل الله؟ هو الذي قاتل لتكون كلمة الله هي العليا, فمن قاتل للقومية فهو خاسر, ومن قاتل للوطنية فهو خاسر, ومن قاتل ليرى مكانه فهو خاسر, ومن قاتل رياءً فهو خاسر, المقاتل الذي إذا قتل فهو شهيد هو الذي قاتل من أجل هذا الغرض لتكون كلمة الله هي العليا, هذا هو المقاتل في سبيل الله وهو الشهيد, وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياءً أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) أي: أن هؤلاء ليسوا في سبيل الله, ولهذا جاء في الحديث: (ما من مكلوم يكلم -أي: ما من مجروح يجرح- في الجهاد والله أعلم بمن يكلم في سبيله) هذه الجملة مهمة, ليس كل من قتل في الجهاد يكون عند الله شهيداً, قد يكون في رأينا شهيداً, ولكنه عند الله ليس بشهيد؛ لأنه قال: (والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة لون دمه لون الدم, وريحه ريح المسك).

    الشهداء يشمل أيضاً أهل العلم, فإن العلماء من الشهداء قال الله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] لكن من هم أولي العلم الذين يكونون من الشهداء؟

    هم أولي العلم الذين يطلبون العلم لله, والذين إذا بان لهم الحق تبعوه, والذين لا يخرجون عن طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, ليس العالم القارئ ولهذا قال عبد الله بن مسعود : [كيف بكم إذا كثر قراؤكم وقل فقهاؤكم] يعني: لو وجدنا شخصاً بحراً في العلم, إن جئته في التفسير فإذا هو بحر, في الحديث بحر, وفي الفقه بحر, في كل فن هو بحر، لكنه لا يعمل بعلمه, ولا يتبع طريق السلف فهذا ليس من أولي العلم, يقول الله عز وجل في المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4] لماذا تسمع لقولهم؟ لأن لهم فصاحة وبيان, وهم في مظهر يعجبك, لكنهم لا خير فيهم: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4] فالحاصل أن (الشهداء) تشمل طائفتين من الناس:

    الأولى: من قتل في سبيل الله.

    الثانية: العلماء حقيقة.

    المرتبة الرابعة: الصالحون وهم الطبقة الأخيرة، وهم عامة المسلمين والمؤمنين, فأنت تسأل الله أن يهديك الصراط المستقيم, صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, وهؤلاء يجمعهم معنى واحد: ألا وهو العلم بالحق والعمل به.

    تفسير قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)

    قال تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] هذان صنفان مخالفان للذين أنعم الله عليهم.

    قلنا: إن الذين أنعم الله عليهم يجمعهم شيء واحد وهو العلم بالحق والعمل به, وهذان الصنفان -أي: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)- على عكس من ذلك, فالمغضوب عليهم, علموا الحق ولم يعملوا به, وعلى رأسهم اليهود علموا الحق ولم يعملوا به, والضالون هم الذين لم يعلموا الحق, أي: عبدوا الله على جهل, وعلى رأسهم النصارى قبل بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام, أما بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام فالنصارى واليهود سواء؛ لأنهم علموا الحق ولم يعملوا به, فكما أن اليهود علموا بصحة نبوة عيسى ولكنهم لم يتبعوه, هكذا النصارى علموا بصحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يتبعوه، إذاً لا فرق بينهم وبين اليهود فالجميع بعد بعثة الرسول مغضوب عليهم.

    وهنا يقال: لماذا قال: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) مع أنه قال: (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)؟ لأن النعمة من الله, والغضب يكون من الله ومن غيره, فإذا غضب الله على أحد فكل المؤمنين بالله يغضبون عليهم, ولهذا اليهود مغضوب عليهم من قبل الله ومن قبل الرسل ومن قبل الصديقين والشهداء والصالحين.

    نسأل الله أن يهدينا وإياكم الصراط المستقيم, صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

    1.   

    الأسئلة

    نزول القرآن منجماً

    السؤال: أهل السنة والجماعة يعتقدون أن القرآن نزل على نزولين: نزول منجم ونزول مع الوحي, فالسؤال: هل جبريل عليه السلام ينزل بالوحي من الله عز وجل, أم من بيت العزة في السماء الدنيا؟

    الجواب: أولاً قولك: إن أهل السنة يعتقدون أن القرآن نزل على حالين: منجم ومفرق، فيه نظر؛ لأنه ليس أهل السنة كلهم على هذا, بل ظاهر القرآن: أنه نزل منجماً لم ينزل مرة واحدة إلى بيت العزة؛ لأن هذا إنما روي عن ابن عباس بسند يحتاج إلى تثبت, لكنه نزل من عند الله مباشرة قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء:192-194] وأنت ترى القرآن تأتي فيه الآيات تتحدث عن شيء وقع، مثل قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [آل عمران:121]، ومثل قوله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1]، ومثل قوله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [الأنعام:33] وما أشبه ذلك مما يدل على أن الله تعالى يتكلم بعد وقوع هذه الحوادث, وهذا يدل على أن الله يتكلم به حين إنزاله، وهو الذي نعتقده؛ لأن الله تعالى فعال لما يريد, متى شاء تكلم ومتى شاء لم يتكلم.

    ما يلزم القارئ فعله عند انقطاع نفسه

    السؤال: صليت وراء أحد الأئمة فقرأ قول الله تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [الأنعام:102] فسكت ثم استأنف: هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ [الأنعام:102] فصار في نفسي شيء من هذا, فقلت له: إن لفظ (هو) تابع للتي قبلها؛ لأنها إثبات للنفي لأنه قال: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ , وليست تابعة للتي بعدها, فأصر على كلامه وقال: هذه قراءة لأحد القراء المشهورين، فما القول الفصل في ذلك؟

    الجواب: القول الفصل: أن القراءات لا تأتي بمجرد أن يدافع الإنسان عن نفسه ولو بباطل, فلا يمكن أن يزيد أحد في القرآن شيئاً, وعلى كلامه تكون الآية: (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو) (هو خالق كل شيء) فتكون (هو) مكررة مرتين, وهذا خطأ عظيم, لكن الظاهر لي أن هذا رجل جاهل, وأن القارئ الذي سمعه لما وصل إلى قوله تعالى: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ انقطع نفسه, ثم أعاد فقال: هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:102] وهذا خطأ، حتى وإن انقطع النفس فالذي ينبغي للإنسان إذا انقطع نفسه أن يبدأ من حيث وقف, وأما ما يفعله بعض الناس الآن إذا انقطع نفسه ذهب يقرأ آخر جملة ثم استمر, فيقال: آخر جملة قد تكون مرتبطة بما قبلها فاقرأ ما قبلها, ثم الذي قبلها يكون مرتبط بالذي قبلها, وحينئذٍ يلزمه أن يعيد الآية من جديد.

    لهذا نرى: أن الإنسان إذا انقطع نفسه فقد انقطع نفسه عن ضرورة فيبدأ من حيث انقطع, ولا حاجة لإعادة الجملة التي قبل.

    فالمهم: أن الآية ليس فيها (هو) مرتين, بل هي مرة واحدة و(هو) التي وقعت بعد (إلا) كما قلت إثبات لكون الله تعالى هو الخالق وحده.

    حكم الصلاة على النبي في خطبة الجمعة

    السؤال: في حديث: (رغم أنف امرئ ذكرت عنده ولم يصلِّ عليّ) والحديث الآخر: (من قال لأخيه: صه فقد لغى) كيف نوفق بين الحديثين في خطبة الجمعة؟

    الجواب: أما الأول: (رغم أنف امرئٍ ذكرت عنده فلم يصلِ عليّ) فقد أخذ منه بعض العلماء: أن الإنسان إذا سمع ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وجب عليه أن يقول: صلى الله عليه وسلم, وأما الثاني: فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (من قال لصاحبه: أنصت) وهذا خطاب للبشر, والدعاء خطاب لله وليس للبشر, فالفرق بينهما: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم دعاء وقولك لصاحبك: أنصت خطاب آدمي.

    حكم حذف كملة (ابن) من الأسماء وقول: العبد الله

    السؤال: ذكر بعض العلماء: أن وصف اسم الابن لاسم الأب مباشرة يعني: بدون ذكر (ابن) يكون في هذا تشبه بفعل النصارى في تسمية أبنائهم, أن يَصِلوا اسم الابن باسم الأب مباشرة دون ذكر (ابن) ولوحظت الأسماء التي تحمل لفظ الجلالة مثل: عبد الرحمن وعبد الله.. أن فيها أخطاء مثل أن يقال: فلان العبد الله.. أو فلان العبد الرحمن.. أو فيه نوع من التزكية مثل أن يقال: فلان العبد الجبار.. أو فلان العبد اللطيف.. فما رأيك؟

    الجواب: أما الأول: وهو أن الإنسان يحذف (ابن) عند النسبة, فيقول مثلاً: محمد عبد الله, محمد صالح, محمد سليمان.. فهذا لا شك أن هذا خلاف طريقة السلف, وما كنا نعرفها من قبل, لكن دخلت علينا من الأمم التي استعمرها الكفار, وراحت على الناس مع الأسف, والصواب أن يقال: ابن كما قال الله تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [التحريم:12].

    وأما محمد العبد الله.. فليس يريدون بقولهم: العبد الله يعني: أن الله عبد, أو العبد الجبار أن الجبار عبد, أبداً ولا يطرأ على بال أحد, لكن (ال) هنا بمعنى (آل), وتحولت إلى "ال" للتخفيف لكونها دائماً على ألسن الناس, فقول: العبد الله أي: آل عبد الله.. وهذه العبارة جرت على ألسنة العلماء في هذه البلاد من زمان ولم ينكرونها, بل ولم يبحثوا فيها, لكن الناس مع توسع الأذان الآن صاروا يقولون: كيف يكون هذا..؟ فنقول قول القائل: العبد الله.. السليمان.. معناه آل فلان.

    مفاسد غلاء المهور ورد الكفء من الرجال

    سالسؤال: لا يخفى عليكم قول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه, إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير -وفي لفظ: وفساد عريض-) ونحن في هذا الزمن نسمع أن الرجل الصالح الكفء إذا تقدم للخطبة من عند بعض الناس يرده لا لشيء إلا أنه لا يوافق على بعض الشروط مثل: ارتفاع المهر, ووجود التلفاز، وغيره من الشروط التي ربما تكون شروطاً محرمة, وبعضهم يرد بحجة أنه متزوج, فما رأيكم في من خالف مضمون هذا الحديث, إن لم يكن بلسان مقاله فقد خالف بلسان حاله, ولمن يرضى دينه وخلقه علماً أن بعض الناس تكون ابنته صالحة فقد يزوجها على من لا يصلي أو من فاسق فما نصيحتكم وتوجيهكم لمثل هؤلاء, وجزاكم الله خيراً؟

    الجواب: النصيحة لهؤلاء حصلت منا ومن غيرنا في مناسبات كثيرة: وهو أن الذي ينبغي للإنسان أن يجعل أكبر همه دين الخاطب وخلقه, فإن هذا هو الذي فيه البركة, فكما أنه ينظر إلى دين الخاطب وخلقه, كذلك أيضاً ينظر إلى دين المرأة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها وحسبها وجمالها ودينها, فاظفر بذات الدين) وكون الناس الآن لا يزوجون إلا بمهور عالية مرتفعة جداً, هذا خطر على الأمة من عدة وجوه:

    الوجه الأول: نزع البركة من النكاح؛ لأن (أعظم النكاح بركة أيسره مئونة).

    الوجه الثاني: أن الناس يعزفون عن نكاح بنات البلد, ويذهبون إلى النكاح من خارج البلد, كما هو الواقع الآن؛ لأن خارج البلد يزوجون بالرخيص لأسباب ليس المراد هنا ذكرها, ومعلوم أن تزوج الإنسان من خارج البلد -ولا أعني بالبلد بلده الخاصة أعني البلد خارج المملكة - يترتب عليه مشاكل كثيرة؛ لأن النكاح يترتب عليه أحكام كثيرة: النسب, والإرث, والصلة, وغير ذلك, وهذا يولد مشاكل في المستقبل, ولهذا ندم كثير من الناس الذين تزوجوا من الخارج على ما فعلوا, لكن متى..؟! بعد أن فات الأوان, وحصل الأولاد والذرية.

    الوجه الثالث: أنه إذا تقلص النكاح من بنات البلد فالمرأة كالرجل, تحتاج إلى نكاح, ويكون هذا سبباً للزنا والعهر والعياذ بالله.

    الوجه الرابع: أن هذه التي يأتي بها من الخارج ربما يكون لها عادات وأخلاق وديانة تفسد الزوج وأولادها, وفيهم من فيه الخير والصلاح لا شك. فلهذا نحن ننهى عن المغالاة في المهور, ونقول: (أعظم النكاح بركة أيسره مئونة).

    الوجه الخامس: إذا رد ولي المرأة من هو كفء لها في الخلق والدين ولم يتقدم خاطب أولى منه؛ كان غاشاً لها وخائناً لأمانته, لأن ولي الأمر وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي له الولاية العامة على أمته بالتوجيه والإرشاد يقول: (أنكحوا ...) وهذا يخالف.

    وأما إذا اختار لموليته من بنت أو أخت أو غيرهما من لا يصلي فهذا -والعياذ بالله- أخطأ خطأً عظيماً؛ لأن الذي لا يصلي لا يجوز أن يزوج, مهما كان في الخلق, ومهما كان في المال, ومهما كان في الجمال, لا يجوز أن يزوج إطلاقاً، بل إذا كان معه زوجة يجب أن يفسخ النكاح إذا ترك الصلاة؛ لأنه إذا ترك الصلاة كان كافراً مرتداً عن دين الله, وقد الله تعالى: فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10] كذلك إذا اختار الإنسان لموليته فاسقاً سيئ الخلق فإنه غاش لها, وما أكثر النساء اللاتي يشتكين من هذه المسألة, يزوجن بمن ليسوا بأكفاء فيحصل الشر والبلاء والنكد, فنسأل الله أن يهدي الجميع.

    مسألة التعدد: إذا كانت البنت لا تختار هذا فمعلوم أن الأمر إليها, وأما إذا رضيت بإنسان عنده زوجة سابقة فلا يجوز لوليها أن يمنعها, بل إن العلماء قالوا: إذا منع الأب ابنته من خاطب كفء وتكرر ذلك منه صار فاسقاً لا تصلح له ولاية, وتنزع الولاية منه إلى من بعده.

    ذكر وجه العداوة بين الآباء وبعض أهليهم

    سالسؤال: يقول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14] فنرجو تبيين العداوة وتوجيه الحذر؟

    الجواب: قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ولم يقل: إن أزواجكم وأولادكم, فمن الأزواج والأولاد من هو عدو, ومنهم من هو ولي صالح يعين أبويه على الخير, ويكفهم عن الشر, والمراد بالعداوة هنا من تكون زوجته وأولاده سبب لانحرافه عن دين الله, فهذه أكبر عداوة، وهذا يقع في بعض الناس الضعفاء في الدين والشخصية, تجده يكون زوجاً لامرأة وعبداً لها من جهة أخرى, يفعل ما تريد, وكذلك بالنسبة للأولاد, وقد تكون العداوة عداوة دنيوية, تكون الزوجة هذه سليطة اللسان, وتبتز ماله, وتؤذيه وتنكد عليه, وكذلك الأولاد, وقوله: فَاحْذَرُوهُمْ أي: خذوا حذركم باليقظة والمراقبة ودقة النظر, حتى لا يضروكم؛ لأن الغالب أن العدو يكون ضاراً لعدوه إلا إذا احترز منه بالمراقبة, ولكن الحمد لله؛ لم (يقل) الله في الآية: إن أزواجكم وأولادكم قال: (مِن)، ومن للتبعيض, والبعض قد يكون الأكثر وقد يكون الأقل.

    السنة في الإزار والثوب

    السؤال: ذكر أحد أهل العلم: أن التقصير إلى نصف الساق خاص بالإزار فقط؛ لأن النصوص وردت في هذا, أما بالنسبة للثوب والبنطلون والعمامة فالسنة ما فوق الكعبين وتحت نصف الساق, فما قول فضيلتكم في هذا؟

    الجواب: الذي أرى أن تخصيصها بالإزار لا وجه له, وأن ما ثبت في الإزار ثبت في الثوب أي: في القميص, لكني أرى: أن السنة إلى نصف الساق, وإلى تحت النصف, وإلى الكعبين, كل هذا سنة, ودليل ذلك: أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبا بكر رضي الله عنه, كان إزاره إلى أسفل من ذلك, لكنه لم يتجاوز الكعبين, ولهذا لما حذر النبي عليه الصلاة والسلام من جر الثوب خيلاء, قال: (يا رسول الله إن أحد شقي إزاري يسترخي عليّ إلا أن أتعاهده, فقال: لست ممن يصنع ذلك خيلاء), فكونه يسترخي عليه حتى يصل إلى الأرض إلا أن يتعاهده يدل على أنه أنزل من نصف الساق؛ لأنه لو كان إلى نصف الساق واسترخى حتى يصل إلى الأرض فسوف تنكشف عورته من فوق, فكلٌ سنة.

    وأما من قصر السنة من نصف الساق أو فوقه فإنه لم يتدبر الأحاديث من كل وجه, ولو تدبرها لعلم أن السنة من نصف الساق إلى أسفل ما لم ينزل عن تحت الكعبين.

    أحكام الجمع في المطر

    السؤال: نعيش هذه الأيام بين أمطار وخيرات, السؤال: متى يجمع؟ وما هي الأوقات التي تجمع فيها الصلوات؟

    الجواب: هذا سؤال مهم, لولا أننا أحببنا أن نكمل سورة الفاتحة لكان صدر اللقاء هو الكلام عن هذا الموضوع.

    أولاً: يجب أن نعلم أن أوقات الصلوات محددة من قبل الله ورسوله, أما من قبل الله فقد قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً [النساء:103] محدداً, وقال تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الإسراء:78]، وأما الرسول عليه الصلاة والسلام فقد بين ذلك بياناً واضحاً صريحاً, فوقت الظهر من كذا إلى كذا، ووقت العصر من كذا إلى كذا، ووقت المغرب من كذا إلى كذا، ووقت العشاء من كذا إلى كذا، ووقت الفجر من كذا إلى كذا، مفصلاً ومبيناً غاية البيان, والأصل وجوب الصلاة في وقتها, فمن صلّى قبل الوقت ولو بتكبيرة الإحرام فصلاته نفل إن كان جاهلاً يظن أن الوقت قد دخل, وإن كان متعمداً فهو متلاعب فصلاته باطلة مردودة عليه, ولو صلّى قبل الوقت بتكبيرة الإحرام فقط, كيف لو صلّى كل الصلاة قبل الوقت؟!!

    فمن صلّى قبل الوقت فإن كان عالماً أنه لم يدخل الوقت فهو متلاعب وصلاته باطلة مردودة, ومن جهل وظن أنه قد دخل فصلاته نافلة وعليه أن يعيدها بعد دخول الوقت, ومن صلّى بعد الوقت فكذلك, إن تعمد فصلاته باطلة ولا تقبل منه, لو صلّى ألف مرة, وإن كان لعذر كالنسيان والنوم والجهل أيضاً بالوقت؛ يظن أنه لم يخرج فصلاته صحيحة, هذا هو الأصل.

    ولا يجوز للإنسان أن يجمع جمع تقديم أو جمع تأخير إلا بعذر شرعي, والعذر الشرعي مبين ضابطه ما أشار إليه عبد الله بن عباس رضي الله عنه حين قال: (جمع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء, من غير خوف ولا مطر, قالوا: ما أراد من ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته) أي: ألا يلحقها الحرج, وعلى هذا فالضابط في الجمع: أن يكون في تركه حرج على الناس, وأن يكون في تفريد الصلاة كل صلاة في وقتها حرج ومشقة, فهذا الضابط، إذا كان هناك حرج ومشقة فإنه يجمع, وإذا لم يكن هناك حرج ولا مشقة فإنه لا يجوز الجمع, ومن جمع تقديماً فعليه إعادة الصلاة التي صلاها قبل الوقت.

    وفي بعض البلدان يكون المطر نازلاً بغزارة وفي هذا حرج أن يذهب الناس إلى المسجد, فتبتل ثيابهم, ويتأذون، فهذا حرج, أو يكون المطر واقفاً لكن الأسواق وحلة أي: زلق, أو نقع الماء كثيرة فتؤذي الناس فهذا أيضاً حرج، فيجمع, أما بدون ذلك فلا يجوز, ولهذا نأسف أن بعض الناس الذين يقولون: نتمسك بالسنة يغلطون في هذه المسألة, ويظنون أن الجمع جائز لأدنى سبب, وهذا خطأ, ثم يجب أن نقول: إذا علمنا أنه لا حرج في ترك الجمع صار الجمع حراماً, وإذا علمنا أن في تركه حرجاً صار الجمع جائزاً بل سنة, وإذا شككنا صار الجمع حراماً؛ لأن الأصل وجوب فعل الصلاة في وقتها, فلا نعذر عن هذا الأصل إلا بأمر متيقن.

    أما الصلاة التي تجمع فالمشهور من مذهب الإمام أحمد بن حنبل أنه لا جمع بين الظهر والعصر للمطر وشبهه, وإنما يجمع بين المغرب والعشاء, ولكن الصحيح: أنه يجمع بين المغرب والعشاء, وبين الظهر والعصر؛ لأن العلة هي المشقة متى وجدت في الظهر والعصر أو المغرب والعشاء جاز الجمع.

    ثم إني أقول لكم يا إخواني: لا تظنوا أن الجمع رخصة عند كل العلماء, حتى الذين يقولون: إنه يجوز، يقولون: تركه أفضل, لكننا نحن نرى أنه إذا وجد السبب ففعله أفضل, وهناك مذهب يمثل ثلاثة أرباع الأمة الإسلامية لما كانت الخلافة في الأتراك وهم على مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله وهو يرى أنه لا جمع مطلقاً إلا في موضعين: في عرفة ومزدلفة؛ لأجل النسك, وإلا فلا جمع في السفر أو المرض أو المطر ولا غير ذلك, فلا تظن أن المسألة سهلة, المسألة صعبة.

    فخلاصة الجواب: إذا تحقق العذر فالجمع أفضل, وإذا علمنا أنه لا عذر فالجمع حرام, وإذا شككنا فالجمع حرام؛ لأن الأصل هو وجوب فعل الصلاة في أوقاتها.

    وأما نية الجمع ليس بشرط, فمتى وجد السبب ولو بعد الصلاة الأولى، جَمَعَ.

    خطأ مقولة: (كل مجتهد مصيب)

    سسالسؤال: هل يلزم أن كل مجتهد مصيب؟ وهل يلزم أن كل مصيب مخلص وكل مخلص مصيب أم لا يلزم هذا؟

    الجواب: لا, يقول بعض العلماء: كل مجتهد مصيب, وهذا على إطلاقه ليس بصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم المجتهدين إلى قسمين فقال: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران, وإن حكم فأخطأ فله أجر) وهذا واضح في التفصيل أن من المجتهدين من يصيب ومنهم من يخطئ, ولكن المخطئ قد يكون مصيباً من وجه آخر وهو إذا اجتهد وبذل الجهد, ووصل إلى نتيجة لكن هذه النتيجة خطأ في حكم الله, فهو مصيب في اجتهاده وتعبه وطلبه للحق, لكن في الحكم مخطئ, ثم إن إصابة الحكم توفيق من الله عز وجل, وقد يوفق لإصابة الحكم من ليس من أهل الاجتهاد, أو من ليست نيته خالصة, لكن من كانت نيته خالصة فهو على خير سواء أصاب أم أخطأ.

    الربح والخسارة في المضاربة

    السؤال: فضيلة الشيخ إذا خسرت شركة المضاربة, كيف يقسم المال بين صاحب المال والذي عمل بجهده؟

    الجواب: المضاربة معناها: أن تعطي شخصاً مالاً وتقول: خذ هذا المال اتجر به والربح بيننا, إما أنصافاً أو أثلاثاً حسب ما يتفقان عليه: هذه المضاربة، فيكون من أحدهما المال ومن الآخر العمل, إن ربحت التجارة فالربح يقسم على حسب ما اتفقا عليه, لنقل أنهما اتفقا على أن يكون الربح أنصافاً, أعطاه مائة ألف قال: خذ اتجر بها مضاربة؛ لك نصف الربح ولي نصف الربح, فربحت المائة فصارت مائتين, كم للعامل؟ خمسون ألفاً, ولصاحب المال خمسون ألفاً, العامل ربح بتعبه, ورب المال ربح بالمال الذي استعمله هذا المضارب, ولو خسرت البضاعة, يعني: اشتغل بمائة ألف ولكنها خسرت لنزول الأسعار حتى صارت ثمانين, كم الخسارة؟ عشرون ألف, هل نقول: على العامل عشرة وعلى صاحب المال عشرة، أم كلها على صاحب المال؟ كلها على صاحب المال, صاحب المال خسر الدراهم, والعامل خسر العمل, يتعب بالليل والنهار ويسافر وينزل..

    بعض الناس يقول للعامل: إن خسرت فالخسارة بيننا, وهذا الشرط لا يصح؛ لأنه يؤدي إلى أن يغرم هذا العامل أكثر من عمله, وهذا لا يجوز.

    وإلى هنا ينتهي هذا اللقاء .. فنسأل الله أن يعيننا وإياكم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767950747