إسلام ويب

اللقاء الشهري [59]للشيخ : محمد بن صالح العثيمين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في هذا اللقاء تفسير آيات من سورة الفرقان، وقد تضمنت هذه الآيات عدة أمور: منها: امتداح الله لنفسه بخلق المخلوقات العظيمة في هذا الكون، بالإضافة إلى تعاقب الليل والنهار من أجل التذكير والعبادة. ومنها: بيان صفات عباد الرحمن التي نفتقد التحلي بالكثير منها.

    1.   

    تفسير آيات من سورة الفرقان

    الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فهذا هو اللقاء التاسع والخمسون من اللقاءات الشهرية التي تتم يوم السبت ليلة الأحد الثالث من كل شهر، وهذه الليلة هي ليلة الأحد الحادي والعشرين من شهر جمادى الآخرة عام (1419هـ).

    أسأل الله تعالى أن ينفعني وإياكم بما علمنا، وأن يزيدنا علماً، وأن يجعلنا من الصالحين المصلحين إنه على كل شيء قدير.

    تفسير قوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً ...)

    في هذه الليلة سنبدأ بتفسير آخر سورة الفرقان، من قول الله تبارك وتعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الفرقان:61].

    يمتدح جل وعلا نفسه بهذه المخلوقات العظيمة، فيقول: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً [الفرقان:61] أي: تعالى وتعاظم، وحلت البركة بأسمائه وكلامه عز وجل، كما قال الله تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29] وفي دعاء الاستفتاح نقول في الصلاة: (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك) أي: إن البركة تنال باسمك، ولهذا يذبح رجلان ذبيحتين: أحدهما لم يسم على ذبيحته، والثاني سمى عليها، فذبيحة الأول حرام لا بركة فيها، وذبيحة الثاني الذي سمى عليها حلال فيها البركة.

    فالله عز وجل متبارك متعالٍ متعاظم: البركة في أسمائه .. البركة في صفاته .. البركة في كلامه جل وعلا.

    الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً [الفرقان:61] (بروجاً) جمع برج، وهي النجوم العالية، هذه النجوم التي نراها ونشاهدها ليلاً هي بروج يعلو بعضها بعضاً وهي اثنا عشر برجاً، ثلاثة للصيف، وثلاثة للشتاء، وثلاثة للخريف، وثلاثة للربيع، فالجميع اثنا عشر برجاً، نجوم عالية، انظر إلى هذه النجوم كيف تراها بهذا الكبر وبينك وبينها من المسافات العظيمة ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، أو من أطلعه الله عليك!

    وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الفرقان:61] السراج: الشمس، والقمر المنير: القمر، والأم هي الشمس؛ لأن نور القمر مستفاد من نور الشمس، ولهذا إذا دنا القمر من الشمس ضعف نوره؛ لأنها تضعف المقابلة بينه وبين الشمس ونوره مكتسب من الشمس، فإذا قرب منها قلَّت المقابلة فقلَّ النور، وإذا ابتعد عنها وصار هو في المشرق وهي في المغرب أو بالعكس امتلأ نوراً؛ ولذلك تجدون القمر في ليالي الإبدار مكانه بالنسبة للشمس في أول الليل شرقاً والشمس غرباً، وفي آخر الليل يكون غرباً والشمس شرقاً ويمتلئ نوره؛ لأنها تتم مقابلته مع الشمس، ولهذا سمى الله الشمس سراجاً والقمر نوراً.

    تعاقب الليل والنهار

    وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً [الفرقان:62] يخلف بعضه بعضاً، يأتي الليل فيذهب النهار، ويأتي النهار فيذهب الليل، بقدرة الله جل وعلا، وقد بيَّن الله لنا ذلك في قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ [القصص:71]؟

    الجواب: لا إله إلا الله، لا أحد يقدر على هذا إلا الله، لو اجتمعت الأمم كلها بأجناسها وأنواعها وقواتها ما استطاعوا أن يمنعوا الشمس لحظة واحدة، ولا أن يعجلوها لحظة واحدة .. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ؟ الله عز وجل أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص:72-73] الحمد لله.

    إذاً .. جعل الله الليل والنهار خلفة، أي: يخلف بعضهما بعضاً، يأتي هذا ويذهب هذا، ويأتي هذا ويذهب هذا، ثم هناك آية أخرى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [لقمان:29] تارة يزيد النهار وينقص الليل، وتارة ينقص النهار ويزيد الليل، وتارة يتساويان.

    من الذي يسير الشمس حتى يطول الليل أو النهار؟ الله عز وجل.

    خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62] (لمن أراد أن يذكر) أي: من الناس الذين لا يشكرون الله، لكن لو تأملوا لتذكروا، لو تأملوا بهذه القدرة الإلهية العظيمة؛ أن الله تعالى يجعل الليل والنهار خلفة لتذكروا .. أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62] أي: أراد عبادة، ولهذا لنا عبادات مقرونة باختلاف الليل والنهار .. الفجر بطلوع الفجر، والظهر بزوال الشمس، والعصر إذا صار ظل كل شيء مثله، والمغرب بغروب الشمس، والعشاء بغروب الشفق، فالله تعالى جعل هذا الاختلاف لمن أراد أن يتذكر؛ لأن الإنسان بمجرد ما يتأمل -وإن لم يكن مؤمناً لكن بعقله- لا بد أن يعرف أن اختلاف الليل والنهار بحكمة من مدبر حكيم عز وجل.

    تفسير قوله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناًَ)

    قال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63] استمع إلى ما سيأتي في أوصاف عباد الرحمن، وتأمل كيف قال: عباد الرحمن! ليشير إلى أن كونهم عبيداً لله إنما هو برحمة الله عز وجل .. قال: عباد الرحمن، ولم يقل: عباد الله؛ لتعلم أنهم لم يكونوا عباداً لله إلا برحمة الله عز وجل.

    وأوصافهم: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63] فإذا قال قائل: هل الخلق كلهم عبيد لله، أو العبيد لله هم العابدون له؟

    الجواب: كل الخلق عبيد لله، قال الله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً [مريم:93-95] كل الخلق عباد لله أرقاء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا يستطيعون أن يدفعوا ما أراد الله بهم، أعتى العتاة وأشدهم عناداً عبدٌ لله، لكن بالعبودية الكونية لا بالعبودية الشرعية، ولذلك تحدى الله عز وجل الكفار فقال تعالى: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ [الواقعة:83] أي: الروح صعدت من البدن حتى وصلت إلى الحلقوم وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:84-85] (أقرب إليه منكم) أي: بملائكتنا، الملائكة الذين يحضرون لقبض الروح، (ولكن لا تبصرون) فالذين عند الميت حال الاحتضار لا يشاهدون شيئاً .. فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ [الواقعة:86] أي: كما تزعمون أنكم لن تجازوا على الأعمال ولن تبعثوا تَرْجِعُونَهَا [الواقعة:87] ما هو الجواب؟ لا يمكن أن يرجعوها، متى بلغت الروح الحلقوم لو اجتمع أهل الأرض كلهم وأهل السماء فلن يستطيعوا ردها .. تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:87] لا يمكن.

    إذاً: هل الخلق جميعهم كافرهم ومؤمنهم عبيد لله؟

    نعم، عبيد لله بالمعنى الكوني، لا يمكن أن يفروا من قضاء الله وقدره، لكن العبادة المفيدة عبادة الشرع، العابدون لله بشرعه .. اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم.

    وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63] ذكر صفاتهم الفعلية والقولية .. يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63] تجده يمشي لا مشية المجنون المخبول، ولا مشية المتسرع؛ بل مشية هينة، وليس المعنى: أنهم لا يسرعون، بل يسرعون في موضع الإسراع ويخفضون في موضع الخفض، لكن هوناً متواضعين لله، متواضعين لعباد الله.

    وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ [الفرقان:63] وأساءوا إليهم بالقول لا يقابلونهم ولكن قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63] قد يتبادر لبعض الناس أن المعنى: أنهم يقولون: سلامٌ عليكم، ولكن المعنى أعم من ذلك، أي: قالوا قولاً يسلمون به، إما سلام عليكم، وإما كلام لين آخر يسلمون به.

    تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً))

    قال تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً [الفرقان:64] يبيتون سجداً لله وقياماً، وتأمل لماذا قدم (لربهم) على قوله: (سجداً وقياماً)؟! إشارة لإخلاصهم أنهم لا يقومون رياءً ولا سمعة، وإنما يقومون لله وحده، وهل هم يسجدون ويقومون فقط، أم يركعون أيضاً؟ يركعون ويجلسون، الصلاة فيها ركوع وقيام وقعود وسجود، فلماذا نص على القيام والسجود؟

    نص عليهما لأن القيام أشرف بذكره، والسجود أشرف بهيئته، القيام أشرف بذكره؛ لأن الإنسان القائم يقرأ كلام الله عز وجل، أفضل قول هو قول الله عز وجل، فلشرف ما يقرأ به في قيامه نص على القيام، والسجود أشرف في هيئته؛ لأن الساجد أقرب ما يكون لربه تبارك وتعالى، فنص على القيام لشرفه لما يقرأ فيه، وعلى السجود لشرفه بهيئته.

    وقل لي يا أخي: ما الذي تضعه عند السجود؟ تضع الجبهة والأنف، الوجه، فأشرف ما في الإنسان وأعلى ما في الإنسان ينزل حتى يكون في موطئ الأقدام ذلاً لله عز وجل، ولو وضع السيف على رقبة المؤمن ليسجد لفلان أو فلان ما سجد، لكنه إذا سمع المنادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح؛ أجاب بسرعة.

    إذاً .. هؤلاء من أوصافهم أنهم يبيتون لربهم سجداً وقياماً، وهل يطيلون القيام؟ هل يطيلون السجود؟ ما دام بياتهم على هذا الوصف فمعناه أنهم يطيلون القيام والسجود، وهذا إمامهم محمد صلوات الله وسلامه عليه يطيل القيام حتى إن قدميه لتتفطر من طول القيام .. (صلى معه ذات ليلة عبد الله بن مسعود وهو شاب، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم وأطال القيام، قال عبد الله بن مسعود : حتى هممت بأمر سوء -وهو شاب أصغر من الرسول عليه الصلاة والسلام- قالوا: ماذا هممت يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أردت أن أقعد وأدعه). الله أكبر!

    وصلى معه حذيفة بن اليمان ذات ليلة، فبدأ بالبقرة بعد الفاتحة، يقول حذيفة : (فقلت: يسجد عند المائة، -أي: إذا أتم مائة آية يركع- ولكنه مضى حتى أتم البقرة، فقلت: يركع حينئذ، ثم مضى، فقرأ النساء ومضى وقرأ آل عمران ..) وهذا قبل الترتيب الأخير، لأن سورة النساء كانت قبل آل عمران، وفي الترتيب الأخير صارت آل عمران قبل النساء، وقرأ الرسول عليه الصلاة والسلام خمسة أجزاء وربع، قال حذيفة : (وكان لا يمر بآية تسبيح إلا سبح، ولا بآية رحمة إلا سأل، ولا بآية وعيد إلا تعوذ) إذا كنا نقرأ خمسة أجزاء -مثلاً- في ساعة ونصف، ففي كم قرأها الرسول مع الترتيل ومع السؤال عند ورود الرحمة، والتعوذ عند ذكر العذاب، والتسبيح عند ذكر التسبيح؟ ستكون ساعات طويلة، وفي السجود -أيضاً- يطيل السجود عليه الصلاة والسلام، ولكن قد يستحسر المرء إذا سمع مثل هذا، ويقول: ما لي ولهذا! لا أستطيع، ثم يقول لنفسه: أنام إلى أذان الفجر، فنقول: يا أخي! الخير كل الخير فيما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (اكلفوا من العمل ما تطيقون) أي: لا تكلفوا أنفسكم، وإنما الذي تطيقون، وقال صلى الله عليه وسلم: (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل) أي: الذي يديم عليه الإنسان وإن قل، فإذا حصل لك في آخر الليل قبل الفجر بنصف ساعة، تقوم وتتوضأ وتقرأ ما ينبغي أن يقرأ عند الاستيقاظ، وتصلي ولو ثلاث ركعات (الوتر) وتداوم على هذا، فهو خير والحمد لله.

    لكن ابدأ صلاة الليل بعد النوم بركعتين خفيفتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ويأمر به؛ أن تبدأ صلاة الليل بركعتين خفيفتين، والحكمة من هذا: أن الإنسان إذا نام فإن الشيطان يعقد على ناصيته ثلاث عقد، ثم إذا قام من نومه وذكر الله انحلت عقدة، ثم إذا توضأ انحلت العقدة الثانية، ثم إذا صلى انحلت العقدة الثالثة، فكان ينبغي أن يجعل الصلاة أول ما يصلي بعد النوم ركعتين خفيفتين، وهذا سهل، نصف ساعة قبل صلاة الفجر تداوم عليها يكون هذا العمل عند الله عز وجل أحب ما يكون، فإن أحب ما يكون أن تداوم على العمل الصالح.

    تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ...)

    قال تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ [الفرقان:65] مع كونهم يبيتون لله سجداً وقياماً يخافون من النار يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ [الفرقان:65]؛ لأنهم لا يفخرون ولا يمنون بعملهم على الله، يؤمنون بأن العمل لهم: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ [فصلت:46] يرون أن لله المنَّة عليهم حينما هداهم لهذا العمل، ولهذا وصفهم الله تبارك وتعالى في آية أخرى بأنهم وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18] انظر! يقومون آخر الليل يستغفرون الله؛ لأنهم يرون أنهم مقصرون، مهما عمل الإنسان من العبادة والطاعة فلم يؤدِ حق الله عز وجل عليه، إذا عملت بالطاعة فلله عليك حق أن تشكره عليها؛ لأن الطاعة نعمة، وإذا شكرت الله على هذه النعمة لزمك حق آخر تشكره مرة ثانية على هذا الشكر، وإذا شكرته الثالثة لزمك حق رابع، ولهذا قال الشاعر قولاً حميداً:

    إذا كان شكري نعمة الله نعمةً     عليَّ له في مثلها يجب الشكر

    فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله     وإن طالت الأيام واتصل العمر

    اللهم إنا نسألك شكر نعمتك، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.

    وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ [الفرقان:65] جهنم اسم من أسماء النار، ولها أسماء كثيرة، أعاذني الله وإياكم ووالدينا ومشايخنا منها إنه على كل شيء قدير.

    رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ [الفرقان:65] كأن عذاب جهنم مقبل عليهم، فيقولون: رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً [الفرقان:65] أي: كان لزاماً بمنـزلة لزوم الغريم للمدين، أي: ملازم لها، أجارنا الله وإياكم منها! وهذه الملازمة إنما هي لمن يستحق الملازمة وهم الكفار، أما المؤمن فهو وإن فعل معاصٍ يستحق بها أن يعذب في النار فهناك شيء آخر وراء هذا وهو رحمة الله عز وجل، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] أبشر يا أخي المؤمن، أمِّل بربك خيراً، مهما عظمت الذنوب ولكنها دون الشرك فهي تحت المشيئة، لكن لا يغرنك هذا فتأمن من مكر الله وتستمر على المعاصي، وتقول: الحمد لله! الله غفور رحيم، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] بعض الناس يغرهم هذا الحلم من الله عز وجل، ولكننا نقول لهؤلاء: إن الله تعالى لم يقل: ويغفر ما دون ذلك، بدون أن يقول: لمن يشاء، فهل أنت على يقين أنك تحت المشيئة أن الله يشاء أن يغفر لك؟ لا، لست على يقين، هذا أمر مبهم لا نعلمه، فلا تأمن مكر الله ولا تقنط من رحمة الله.

    تفسير قوله تعالى: (إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً)

    قال تعالى: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً [الفرقان:66] (إنها) الضمير يعود على جهنم (ساءت مستقراً) هذا ذم عظيم، أي: ساءت مستقراً يستقر به الإنسان، وساءت مقاماً يقيم فيه، فليست حسنة لا في مستقرها ولا في مقامها، ومعلوم أنها لن تكون حسنة وفيها هذا العذاب العظيم المعلوم بالكتاب والسنة.

    هذا الوصف لجهنم على ضد الوصف للجنة التي قال الله فيها: حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً [الفرقان:76] فاختر يا أخي هذا أو هذا.

    وفي قوله تعالى: مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً [الفرقان:66] دليل على أن عباد الرحمن يؤمنون بأن النار مستقر لأهلها الذين هم أصحابها؛ لأن أصحاب النار الذين هم أصحابها لا يخرجون منها، والنار لا تفنى، قال الله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [الأحزاب:65] وقد ذكر الله تعالى تأبيد الخلود لأهل النار في ثلاثة مواضع من القرآن:

    الأول: قال الله سبحانه وتعالى في سورة النساء: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [النساء:168-169].

    الثاني: قال الله تعالى في سورة الأحزاب: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً [الأحزاب:64-65].

    الثالث: قال الله تعالى في سورة الجن: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [الجن:23] أبد الآبدين، فالنار لا تفنى وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:48].

    ولو قال قائل: كيف يصبرون؟ أفلا يحترقون؟

    فالجواب: قال تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56]، وقال تعالى: وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الأنفال:50] لكن الخالق جل وعلا قادر على أن يعيدهم مرةً ثانية؛ فالجلود تنضج ولكن تعاد من جديد، وهكذا أبداً.

    قال تعالى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا [الكهف:29] بعد المدة الطويلة يطلبون الماء وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف:29] بمجرد ما يقرب من وجوههم -أجارنا الله وإياكم منها- يشويها فتتمزق، وإذا وصل الأمعاء فاسمع: وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15] إذاً لا فائدة فيه.

    تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا...)

    قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67] هم أيضاً مع كونهم يبيتون لله سجداً وقياماً، والذين يقيمون التهجد سيقيمون الفرائض من باب أولى، هم أيضاً منفقون، لكن إنفاقاً معتدلاً لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الفرقان:67] الإسراف: الزيادة، والإقتار: النقص، أي: لا يسرفون بزيادة ولا يقترون بتقصير، فهنا طرفان في الإنفاق: الأول: إسراف. والثاني: إقتار. وبينهما يقول: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67] أي: لا يميلون للإسراف ولا إلى التقتير، بل ينفقون بين هذا وهذا حسب ما تقوم به حاجاتهم، هل لأنهم فقراء أم لأنهم معتدلون؟ الثاني لا شك، حتى لو كانوا أغنى ما يكون فلا يمكن أن يسرفوا.

    وإذا نظرنا إلى حال الناس اليوم وجدنا أنهم بين طرفين: إما مسرف يأتي بالطعام كثيراً، وباللباس كثيراً، وبالفرش كثيراً، وبالسيارات كثيراً، بكل ما ينفق يسرف، وإما مقتر لا يقوم بالواجب لأهله بل يقتر عليهم، وهناك قسم ثالث لكنه قليل يكون إنفاقه بين هذا وهذا.

    والإسراف له أمثلة كثيرة، منها: رجل شاب في مقتبل العمر يريد أن يشتري سيارة، فعرضت عليه سيارة جديدة بأربعين ألف ريال، ممتازة توصله إلى مكة والمدينة والرياض وغيرها، وعرضت عليه سيارة أخرى بثمانين ألف ريال، وهو رجل قليل ذاتِ اليد، يمكن ألا يحصل على هذه السيارة إلا بقرض أو بتقسيط زائد على قيمتها الحاضرة، فتجد بعض الشباب يختار التي بثمانين ألفاً، وهو رجل قليل ذات اليد، فيبقى الدين عليه، وإذا حلَّ الدين ولم يوفِ فإن الدائن لا يرحمه، ويزيد عليه، وإلا فالسجن، وهذا المسكين لا يريد السجن بلا شك، يذهب يستدين من شخص آخر ليقضي الأول، وإذا حلَّ دين الثاني وليس عنده شيء طلب دائناً ثالثاً، وهكذا يكون بين أيدي الأغنياء كالكرة بين أيدي اللاعبين، هذا يضربه مرة وهذا يضربه مرة .. لماذا يا أخي؟ اشترِ على قدرك بأربعين ألف واقض حاجتك، وإياك والدين فهو هم وغم! ومن ابتلي به فإنه لا يشبع، وأضرب لكم مثلاً في كراهة الرسول عليه الصلاة والسلام للدين: أتت امرأة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! وهبت نفسي لك -تريد أن يكون زوجاً لها، والتزوج بالهبة خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50]- فلم يُردها الرسول عليه الصلاة والسلام، فقام رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله! إن لم يكن لك بها حاجة زوجنيها، قال له: المهر، قال: المهر إزاري، ليس عليه رداء ما عليه إلا إزار، قال: إزاري، قال: إن أعطيتها إياه بقيت بلا إزار، وإن بقي معك بقت بلا صداق، ابحث عن مهر، فذهب الرجل يبحث فما وجد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (التمس ولو خاتماً من حديد) خاتم للإصبع من حديد فلم يجد، هل قال الرسول عليه الصلاة والسلام له: استقرض من إخوانك المسلمين؟ لا. مع أن الزواج من ضروريات الحياة، ولم يفتح له باب الاستقراض، وإنما قال: (هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم. معي كذا وكذا، قال: زوجتكها بما معك من القرآن) أي: علمها الذي عندك ويكفي.

    فالمهم أن تهاون الشباب الآن وغير الشباب بالدين خطأ عظيم، اقتصد على قدر الحاجة، لا تكن من المسرفين ولا من المقترين، ويقول العوام في المثل السائر: (مد رجلك على قدر لحافك). هذا صحيح، الإنسان مثلاً: إذا كان طويلاً واللحاف قصير ومد رجليه فستخرج من اللحاف ويكون عرضة للبعوض وعرضة للبرد، لكن إذا مد رجليه على قدر اللحاف سلم.

    فالحاصل: أن من صفات عباد الرحمن أنهم ينفقون ولكنهم إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67].

    أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من عباد الرحمن، وسنتكلم إن شاء الله على بقية الآيات في اللقاءات المقبلة.

    أمدنا الله وإياكم بعونه، وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنه على كل شيء قدير.

    وأبشر إخواني الذين جاءوا من أماكن من غير هذا الحي، أبشرهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) اللهم اجعلنا من هؤلاء إنك على كل شيء قدير.

    1.   

    الأسئلة

    أيهما أفضل: قيام الليل أم الذكر؟

    السؤال: فضيلة الشيخ! أنا طالب علم أرغب في قيام الليل ولكن هذا يتعارض مع الجلوس في المسجد بعد الفجر، فهل الأفضل في حقي أن أقوم الليل مع النوم بعد صلاة الفجر إلى وقت الدراسة، أم الأفضل أن أجلس بعد الفجر لقراءة القرآن والحفظ وجزاكم الله خيراً؟

    الجواب: الأفضل أن تقوم الليل؛ لأن جنس الصلاة أفضل من جنس الذكر، وصلاة الليل هي أفضل الصلوات بعد الفرائض كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل) فأشير عليك أن تقوم الليل، وأما جلوسك بعد صلاة الفجر، فلا شك أنه مرغب فيه، لكنه لا يساوي صلاة الليل.

    الجمع بين حديثي: (كل أمتي معافى ) و (إذا خلى بمحارم الله )

    السؤال: فضيلة الشيخ! عندي لبس وأريد أن تزيله عني جزاك الله خيراً في حديثين: قوله صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) والحديث الثاني: (كان إذا خلا بمحارم الله انتهكها) يريحني الأول ويؤرقني الآخر، فأرجو منك التوضيح يا فضيلة الشيخ في الربط بينهما نفع الله بك؟

    الجواب: الربط بينهما: أن من الناس من يتبجح بفعل المعصية، فيفعل المعصية سراً لا يطلع عليه أحد، ثم ينشرها في الناس إذا أصبح، ويقول: فعلت كذا وفعلت كذا، وهذا لا شك أنه ليس في عافية لأمور:

    أولاً: لأنه هتك ستر الله عليه.

    ثانياً: لأنه تبجح بمعصية الله.

    ثالثاً: أن هذا وسيلة إلى أن يقتدي به غيره، وما أكثر هذا في الذين يسافرون أيام الإجازة إلى بلاد خليعة ثم يرجع ويقول: فعلت كذا وفعلت كذا في الفندق الفلاني، ومع العاهرة الفلانية، وما أشبه ذلك، هؤلاء ليسوا في عافية ولا شك. أما الإنسان الذي يترك المعصية أمام الناس ولكن يفعلها إذا خلا، ولم يمنعه من هذا إلا الحياء، وهو مع هذا في الخفاء خائف من الله عز وجل، ويخشى أن الله سبحانه وتعالى يعاقبه ولو بقسوة القلب؛ فهذا لا يذم.

    المشكل: الذي يرائي الناس بفعل الطاعات، وكذلك لا يخاف الله بالغيب، وأما رجل يخاف الله لكنه في العلانية يخجل من الناس وفي السر تغلبه نفسه ومع ذلك فهو خائف من ربه؛ فهذا لا لوم عليه، لكن يجب عليه أن يحاول ترك المعصية بقدر استطاعته.

    حكم من شك في الحدث أثناء الصلاة

    السؤال: فضيلة الشيخ! من شك في الحدث في أثناء الصلاة ولم يغلب على باله شيء، فما الحكم؟

    الجواب: كل إنسان يشك في شيء موجود فلا يلتفت إلى هذا الشك، هذه قاعدة عامة: كل إنسان يشك في شيء موجود أنه زال فالأصل بقاؤه، ومن ذلك: الإنسان يشك في الحدث هل أحدث؟ نقول: الأصل بقاء الوضوء وأنه لم يحدث، وهذا يكثر في طائفتين من الناس:

    الطائفة الأولى: طائفة مبتلاة بالوسواس والتخيلات والأوهام، وهذه دواؤها الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وألا يُلتفت إلى هذا الوسواس.

    والطائفة الثانية: طائفة معهم غازات في بطونهم، يحسون بالحركة ويخشون أنه حصل حدث، فهؤلاء دواؤهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً).

    فنصيحتي لكل إنسان: أن يلزم هذين الطريقين، إذا كان عن وسواس فعليه بالتعوذ والإعراض عن هذا الشيء وألا يلتفت إليه، وإذا كان عن شيء محسوس، قرقرة في البطن أو غازات؛ فيبني على اليقين أنه لم يحدث، حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً.

    حكم النشرة

    السؤال: فضيلة الشيخ! ما حكم النُشرة، فإننا نسمع من البعض يقول في ذلك: الضرورات تبيح المحرمات. فهل هذه القاعدة مطردة في جميع الضروريات، جزاك الله خيراً؟

    الجواب: النُشرة: حل السحر عن المسحور، وقد قسَّم ابن القيم رحمه الله النُشرة إلى قسمين، فقال:

    القسم الأول: النشرة بالأدعية والتعوذات والقراءة، فهذه جائزة ولا إشكال فيها.

    القسم الثاني: النشرة بالسحر، بأن يذهب إلى السحرة يعينون له محل السحر الذي سُحر، قال ابن القيم: هذا من عمل الشيطان، ولا يجوز. وأما قول بعض الناس: الضرورة تبيح المحرم. فهذه لا تبيح الشيء الذي يتعلق بالعقيدة، أرأيتم لو قيل لرجل مريض: إنه لا يشفى إلا إذا زنى، فهل يزني؟ لا يمكن أن يزني؛ لأن من شرط إباحة المحرمات عند الضرورة أن تزول الضرورة بذلك.

    على كل حال: هذه المسألة قسمها ابن القيم هذا التقسيم، ومن أراد المزيد من ذلك فليرجع إلى كتاب التوحيد لشيخ الإسلام/ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فقد ذكر باباً مستقلاً في هذا، وقال: (باب ما جاء في النُشرة).

    حكم مسح الوجه باليدين عقب الدعاء

    السؤال: فضيلة الشيخ! أرجو التوضيح حول هذا الأمر الذي أشكل عليَّ وعلى بعض الناس، وهو: ما حكم المداومة أو الإكثار من مسح الوجه باليدين عقب الدعاء، خاصةً أن الناس يحتج بحديث ذكره ابن حجر رحمه الله في بلوغ المرام ؟

    الجواب: مسح الوجه باليدين بعد الدعاء يرى بعض العلماء أنه بدعة، وممن رأى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: إن الأحاديث الواردة في ذلك ضعيفة ولا ينجبر بعضها ببعض.

    ويرى بعض العلماء أن الأحاديث الواردة في ذلك بمجموعها تكون من الأحاديث الحسنة التي يعمل بها.

    والأمر في هذا واسع: من مسح وجهه فلا حرج عليه، ومن تركه فهو أفضل.

    حكم وطء المرأة النفساء

    السؤال: ما حكم وطء المرأة في النفاس؟ وكم مدة النفاس؟ وما حكم من فعل ذلك؟

    الجواب: وطء المرأة حال النفاس محرم كما هو أيضاً في حال الحيض، لقول الله تبارك: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222].

    وأما مدة النفاس فتختلف، فبعض النساء تكون مدتها عشرين يوماً، وبعضهن دون ذلك، حتى إن بعضهن تبقى خمسة أيام وتطهر، وبعضهن تزيد على الأربعين إلى ستين، فتختلف النساء.

    أما من فعل ذلك فعليه أن يتوب إلى الله مما صنع وألا يعود، وقد جعل الله تبارك وتعالى له ما تزول به الشهوة من غير الجماع، فيستطيع أن يجامع بين الفخذين مثلاً، ويستطيع أن يستمني بيد امرأته، أي: يفعل العادة السرية مثلاً، فالأمر -والحمد لله- له حل وأما وطؤها وهي نفساء فإن ذلك حرام، لكن لو طهرت قبل أربعين يوماً فيحل له أن يجامعها؛ لأنه إذا جازت الصلاة جاز الجماع من باب أولى.

    وأما ما روي عن بعض السلف : أن امرأته أتت إليه وقد طهرت قبل الأربعين فتركها، فهذا رأيه، ولكن الصحيح الذي لا إشكال فيه: أن من جازت لها الصلاة من الزوجات جاز لزوجها وطؤها.

    حكم سفر المرأة بدون محرم

    السؤال: فضيلة الشيخ! عرض عليَّ هذا المشروع وأنا أستفتيك فيه: هناك مجموعة من المدرسات تم تعيينهن في بلد بعيد جداً، فعرض عليَّ أن أستأجر بيتاً لهن وأسكن أنا وزوجتي معهن بمقابل مادي، على أن أعيدهن أنا وزوجتي في يوم الأربعاء إلى أهلهن فنسافر يوم السبت، وهكذا طوال العام الدراسي، فما رأيك يا فضيلة الشيخ في هذا؟ وهل من كلمة توجهها لي ولأهلهن؟ بارك الله فيك.

    الجواب: لا أرى هذا؛ لأن بقاءهن في البلد على سفر، والمرأة لا يحل لها أن تسافر إلا مع ذي محرم، إلا إذا جاء محارمهن وسكنوا معهن فلا بأس، أو أن تذهب بهن أول النهار وترجع بهن آخر النهار ففي هذه الحالة نرى أن ذلك جائز؛ لأن هذه المدة مع قصر المسافة لا تعد سفراً.

    حكم من جامع زوجته في نهار رمضان ولم يستطع الصيام

    السؤال: فضيلة الشيخ! جامعت امرأتي في رمضان، ولكن يا فضيلة الشيخ لا أستطيع الصيام وظرفي أني أعمل، فهل هناك كفارة أخرى؟

    الجواب: نعم هناك كفارة أخرى وهي إطعام ستين مسكيناً؛ لأن الذي يجامع زوجته في نهار رمضان في البلد عليه عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.

    أما لو جامعها في غير بلده كرجل سافر إلى العمرة -مثلاً- وهو صائم هو وأهله، ثم بدا له أن يجامعها في هذا السفر سواءً في الطريق أو في مكة فلا بأس، حتى وإن كان يريد أن يبقى كل شهر رمضان؛ لأن المسافر لا يلزمه الصوم.

    والإنسان يجب عليه أن يتقي الله عز وجل، وألا يبدل نعمة الله كفراً، حيث أنعم الله عليه بالزوجة فلا يجعل ذلك سبباً لانتهاك حرمات الله عز وجل فيجامع في نهار رمضان، وقد أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! هلكت، قال: ما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم) فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على قوله: (هلكت) وجعل هذا هلكة، والليل قريب والحمد لله، قد يجامعها في نصف النهار ولم يبق لهما إلا نصف النهار، أو في أول النهار ويبقى باقي النهار.

    أفضل الأيام في أداء العمرة

    السؤال: فضيلة الشيخ! أيهما أفضل للمرأة: أن تذهب لأداء العمرة في رمضان قبل العشر الأواخر، أو في العشر الأواخر؟

    الجواب: المرأة والرجل سواء، كما قال عليه الصلاة والسلام: (عمرة في رمضان تعدل حجة) سواءً كانت العمرة في أوله أو في وسطه أو في آخره، لكن هنا مسألة يجب أن نتنبه لها: بعض الناس يذهب بأهله إلى مكة من بنين وبنات ويدعهم يتسكعون في الأسواق، وربما يتعرضهم سيئ من السيئين، فتجده هو في المسجد الحرام يعبد الله عز وجل، لكنه قد أضاع أمانة أهم من بقائه في المسجد الحرام وهي رعاية أهله، ولذلك نرى أن الإنسان إذا كان لا يستطيع السيطرة على أهله فيبقى في بلده والحمد لله، وقوله صلى الله عليه وسلم: (عمرة في رمضان تعدل حجة) ولكنها ليست فريضة، أو يذهب بأهله ويرجع في يومه، ويحصل على عمرة في رمضان ويسلم من الشر الذي قد يأتيه وهو لا يريده.

    حكم شركات التأمين

    السؤال: فضيلة الشيخ! لدينا سيارات نقل بضائع (تريلات) تعمل على الطرق البرية في المملكة بالأجرة، والبضاعة ذات قيمة عالية جداً، أحياناً يقدر الله على إحدى هذه التريلات حادث مروري وهي محملة بالبضاعة، ويكون هناك تلف في البضاعة والسيارة كاملة أو جزء منها، ونتحمل نحن قيمة البضاعة التالفة مع إصلاح سياراتنا على حسابنا وندفع لصاحب البضاعة قيمة التالف، سؤالي يا فضيلة الشيخ: ما حكم التأمين الشامل على البضاعة والسيارة تأميناً شاملاً؟

    ثانياً: ما حكم التأمين على البضاعة فقط؟

    ثالثاً: ما حكم التأمين ضد الغير فقط؟

    الجواب: أما الأول: فإن السيارة إذا حصل عليها حادث وتلف ما فيها من البضاعة بدون تفريط من صاحب السيارة وبدون تعدٍّ منه فلا ضمان عليه، ولا يحل لصاحب المال الذي حمله أن يصُمِّن صاحب السيارة؛ لأن هذا المال بيده أمانة أخذه هو برضى صاحبه وحمله في السيارة فهو أمين، وكل أمين يحصل التلف تحت يده بدون تعدٍّ ولا تفريط فلا ضمان عليه، ولا يحل لصاحب المال أن يطالبه، حتى لو فرض أنه طالبه وخصمه وهو يعلم أن صاحب السيارة لم يتعد ولم يفرط، فإذا أخذه ولو بحكم القاضي فإنه حرام عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أقضي بنحو ما أسمع، فمن اقتطعت له شيئاً من حق أخيه فإنما أقتطع له جمرةً من النار فليستقل أو ليستكثر).

    أما لو كان ذلك بتعدٍّ منه أو بتفريط؛ كسرعة غير عادية، أو تفريط في الكفرات لم يتفقدها، أو غير ذلك، فعليه الضمان.

    أما بالنسبة للتأمين: فإنه حرام، سواءٌ على السيارة، أو على المال، أو على السيارة والمال، أو ضد الغير، كله حرام، كله ميسر، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90] فقرن الله الميسر بالخمر والأنصاب والأزلام، والتأمين من الميسر.

    وقد لبَّس بعض الناس على دار الإفتاء في المملكة العربية السعودية أنها تجيز التأمين التجاري كالذي أراده السائل، وأصدرت لجنة الإفتاء وعلى رأسها سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز بياناً بأن هذا كذبٌ على اللجنة، وأن اللجنة إنما تجيز التأمين التعاوني، بمعنى: أن يُجعل صندوق بين العائلة توضع فيه دراهم، ومن حصل عليه حادث أعانوه منه ولا يرجع إليه شيء، وأن هذا الذي نسب إلى هيئة كبار العلماء تلبيس ودجل.

    فنصيحتي لإخواني المسلمين عموماً: أن يتقوا الله عز وجل، وألا ينتهكوا حرمات الله، وأن يعلموا أن المال خُلِقَ لهم ولم يخلقوا للمال، وأن يعلموا أن المال عارية إما أن تفقده في حياتك أو تموت ويكون لمن خلفك.

    فالتأمين بجميع أنواعه وأشكاله حرام، لكن قيل لنا: إن بعض البلاد يجبرون الإنسان على التأمين ولا يعطونه رخصة للسيارة ولا أي معاملة إلا بالتأمين، فماذا يصنع الإنسان؟ نقول: هذه ضرورة، أعطهم ما طلبوا منك للتأمين، ولكن إذا حصل عليك حادث فلا ترجع عليهم إلا بمقدار ما أعطيتهم؛ لأن العقد الذي بينكم عقدٌ باطل شرعاً، وإذا كان باطلاً شرعاً بطل ما يستلزمه وما يقتضيه هذا العقد، ولا يحل لك أن تأخذ إلا بمقدار ما أُخذ منك فقط.

    حكم من انقطع عنه صوت الإمام وهو في الصلاة

    السؤال: فضيلة الشيخ! صليت مع الإمام ودخلت معه في تكبيرة الإحرام وسمعت قراءة الفاتحة، ثم فجأة انقطع صوت الإمام ولم أسمع التكبيرة للركوع بسبب خلل في مكبر الصوت، فلم أستطع متابعة الإمام وأكملت صلاتي منفردة. فهل الصلاة صحيحة بمخالفتي للإمام؟

    الجواب: الصلاة صحيحة، إذا انقطع صوت الإمام وانفرد الإنسان عن الإمام فصلاته صحيحة؛ لأنه معذور، لكن لو فرضنا أن هذا في صلاة الجمعة وانقطع الصوت في الركعة الأولى وانفرد الإنسان عن الإمام فإنه لا يصلي جمعة؛ لأنه لم يدرك منها ركعة، ولو انقطع في الركعة الثانية وانفرد عن الإمام أتمها جمعة؛ لأنه أدرك ركعة كاملة.

    ولكن لا ينبغي للمأموم -ذكراً كان أو أنثى- إذا انقطع الصوت أن ينوي الانفراد في الحال، بل عليه أن ينتظر؛ لأنه أحياناً ينقطع الصوت ثم يصلحونه، فإذا أيس حينئذٍ ينفرد.

    حكم بيع التقسيط

    السؤال: فضيلة الشيخ! ذكرت -حفظك الله- في خطبة الجمعة بأن بيع السيارة بالتقسيط والضمان حرام ..

    الشيخ: لا، نحن ذكرنا التأجير المنتهي بالتمليك.

    السائل: وأنا قد اشتريت هذه السيارة، فما العمل الآن ولم يبق سوى أقساط قليلة؟

    الجواب: أرى أن تسدد الأقساط القليلة هذه، وينتهي العقد وتكون السيارة لك، وتسلم من غائلتها وشرها.

    حكم إتيان المرأة في دبرها

    السؤال: فضيلة الشيخ! أرجو الإجابة على هذا السؤال؛ لأنه مهم عندي، فهو يقلقني .. زوجي يطلب مني أن يأتيني من الخلف -أي: من فتحة الشرج- وأنا أرفض ذلك، وهو يجبرني على ذلك لدرجة أني أبكي وأرفض ولكنه يجبرني على هذا الشيء، أرجو الإفادة جزاك الله خيراً؟

    الجواب: أولاً: أنصح هذه السائلة إذا أرادت أن تقدم هذا السؤال ألا تقدمه هكذا علناً؛ لأن هذا -والحمد لله- غير موجود، لا يوجد اللهم إلا إذا كان في المليون واحد، وإيراد مثل هذا السؤال في هذا المجتمع يفتح الباب، ثم هو أيضاً في رأيي منافٍ للحياء، أن المرأة تحكي عن زوجها هذا، لو اتصلت بي أو بغيري من أهل العلم في هذا الأمر إما بالتلفون أو برسالة ترسلها لكان خيراً.

    على كل حال نحن نبين الحكم في هذا: وطء المرأة في دبرها من كبائر الذنوب، حتى جاء فيه الوعيد الشديد .. جاء الوعيد بالكفر، وجاء الوعيد باللعن، وسمي هذا: اللوطية الصغرى، والنصوص في هذا كثيرة، وما ذكر عن بعض السلف أنه أباحه خطأ عليهم، كما ذكر ذلك ابن القيم في زاد المعاد، وغيره، وإنما أرادوا أن يأتيها في الفرج من ناحية الدبر، وهذا جائز لا بأس به، أن الإنسان يطأ زوجته في فرجها لكن من الخلف، يأتيها من الخلف هذا لا بأس به؛ لقوله تعالى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223] أما أن يطأها في الدبر فلا.

    وهنا مسألة: يظن بعض الناس أنه إذا فعل هذا -أي: أتى أهله من الدبر- انفسخ النكاح، وليس كذلك، فالنكاح باقٍ، لكن لو عاود واستمر وجب أن يفرق بينهما، أي: يبن المرأة وزوجها الذي يفعل هذا الفعل، وبالنسبة لها عليها أن تمتنع منه بقدر الاستطاعة.

    فنصيحتي أولاً للأزواج: أن يتقوا الله عز وجل في أنفسهم وفي أهليهم، وألا يعرضوا أنفسهم للعقوبة.

    ونصيحتي للزوجات: أن يمتنعن من هذا إطلاقاً، حتى لو أدى ذلك إلى الخروج من البيت إلى أهلها فلتفعل ولا تبق عند هذا الزوج، وهي في هذه الحالة ليست بناشز؛ لأنها فرت من معصية، ولها النفقة على زوجها، فلو بقيت عند أهلها شهراً أو شهرين فإنها تطالبه بالنفقة، لأن الظلم منه هو؛ لأنه لا يحل له أن يكرهها على هذا الأمر.

    حكم استثمار المال الموروث

    السؤال: فضيلة الشيخ! توفي والدي وخلف مبلغاً من المال فوضعته في شركةٍ لاستثماره حتى لا تفنيه الزكاة، وكنت أحياناً أزكيه من مالي الخاص، ثم بعد عدة سنوات رأيت أن أسحبه من تلك الشركة وأضعه في مشروع آخر، وقد نما وكثر، ولكن بعد سنوات صار أقل، فهل يلزمني أن أدفع للورثة أصل المال، أم ما لحقه من النماء؟

    الجواب: المال ما دام موروثاً عن الأب فإن أصله وربحه للورثة، لكن لا يجوز لأحد من الورثة أن يضعه في شركة إلا برضى الجميع، إما أن يوكلوه وإما أن يستأذن منهم ويدفعه للشركة، فما حصل من نماء فإنه تابع لأصله، أي: يوزع على كل وارث بقدر إرثه.

    بمن يلحق العاصي عند قبض روحه؟

    السؤال: فضيلة الشيخ! جاء في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل حين احتضاره للموت المؤمن والكافر: أن المؤمن تفتح له أبواب السماء لروحه، وينادى بأحسن أسمائه، ويكتب كتابه في عليين، وورد في الكافر أنه في سجين، ويفرش له في قبره من النار، فهل هناك غير تلك الحالتين؟

    الجواب: الذي يظهر والله أعلم: أن المؤمن تصعد نفسه إلى السماء وتفتح لها أبواب السماء، والكافر لا تصعد نفسه إلى السماء، أما المؤمن العاصي فلا شك أنه ليس كالكافر، ولكن هل يلحق بالمؤمن المتقي أم لا؟ الله أعلم، لا ندري، ثم إني أقول -أيها الإخوة-: أمور الغيب لا تبحثوا فيها، خذوا بما بلغكم ودعوا ما لم يبلغ؛ لأن أمور الغيب فوق مستوى الإنسان، أرأيتم الآن أرواحكم في أجسادكم، هل يستطيع أحدٌ منكم أن يصف روحه؟ أبداً، إلا ما بلغنا من الكتاب والسنة، وهي روحه بين جنبيه، وفي يوم القيامة تدنو الشمس من الخلائق مقدار ميل، والميل إما أن يكون المسافة، وإما أن يكون ميل المكحلة مثل الأصبع .. هذه الشمس البعيدة عنا الآن لو نزلت مقدار ميل عن مجراها الآن لاحترقت الدنيا، وفي يوم القيامة لا تحرق الناس مع أنها تنـزل هذا النـزول؛ لأن أحوال الآخرة لا يمكن أبداً أن تقاس بأحوال الدنيا.

    في يوم القيامة المؤمنون: يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [الحديد:12] جعلنا الله وإياكم منهم .. والكافرون في ظلمة، يقول المنافقون للمؤمنين: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً [الحديد:13] ومع ذلك الناس في صعيد واحد، هؤلاء يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، وهؤلاء في ظلمة، فالعقل لا يدرك هذا الشيء، لكن الواجب علينا فيما يتعلق بأمور الغيب أن نقول: سمعنا وآمنا وصدقنا، وألا نقيسه بأحوال الدنيا؛ لظهور الفرق العظيم بين هذا وهذا.

    حكم صبغ الشعر بالسواد

    السؤال: فضيلة الشيخ! انتشر في الأسواق صبغة للشعر ذات ألوان متعددة ما عدا الأسود، ولكنها إذا وضعت على الشعر الأبيض انقلب أسود، فهل يجوز استعمالها، حيث أنها قبل أن توضع على الشعر لونها غير أسود؟ وهل من السنة تغيير الشيب بالكتم أو الحناء؟

    الجواب: ما دام أن هذه الصبغة إذا وضعت على الشعر الأبيض اسودَّ فهي حرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتغيير الشيب لكنه نهى عن السواد، حيث قال: (وجنبوه السواد)، وورد الوعيد الشديد على قوم يخضبون بالسواد.

    فعلى المرء أن يتقي الله عز وجل، وهو وإن كان شعره أبيض وهو نشيط وقوي فهو شاب، ولو كان شعره أسود وهو ضعيف هزيل فهو شيخ شايب، فالأفضل تغيير الشيب بالحناء والكتم، أي: يخلطان جميعاً، الحناء أصفر والكتم أسود يميل إلى الزرقة قليلاً حتى يخرج منهما لونٌ بني، أي: أدهم، هذا هو الأفضل، وإن صبغ بالحناء فقط فلا بأس، وإن صبغ بالكتم فقط فلا؛ لأنه يكون أسود.

    أكثر مدة للنفاس

    السؤال: فضيلة الشيخ! لقد علمت أن مدة النفاس أربعين يوماً، ولكن قد يزيد على ستين يوماً، ولا أعرف هل أصلي بعد الأربعين أم لا. أرجو إيضاح ذلك حتى لا تضيع صلاتي.

    الجواب: أقول: العلماء -رحمهم الله- مختلفون في أكثر مدة النفاس، فمنهم من قال: أكثر مدة النفاس أربعون يوماً، وعلى هذا فإذا جاوز الدم أربعين يوماً فإن وافق عادة حيضها قبل الحمل جلست، وإن لم يوافق فهو دم فساد، تصلي وتصوم وتحل لزوجها. هذا هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله عند أصحابه.

    القول الثاني: أكثره ستون يوماً، وإن الدم ما دام على وتيرة واحدة لم يتغير، فإنها تبقى إلى ستين يوماً. وهذا مذهب الشافعي رحمه الله عند أصحابه.

    وعليه: إذا تمت الستون يوماً والدم باقٍ قلنا فيه -فيما زاد على الستين- كما قلنا فيما زاد عن الأربعين، إن وافق العادة فهو حيض، وإن لم يوافق العادة فهو دم فساد تغتسل وتصلي وتصوم.

    التوبة من الآثام والمعاصي

    السؤال: هذا سائل يطلب من فضيلة الشيخ أن يكون عوناً له في جواب هذا السؤال، وخلاصة سؤاله أنه يقول: كنت شاباً منحرفاً عن الدين بما تعنيه كلمة الانحراف، ثم منَّ الله عليَّ بتوبة من عنده فرجعت إلى الدين، ولكن العقبات -كما تعلمون- كثيرة والمعوقات أكثر، ثم صار يتوب ويرجع عدة مرات ويعاهد الله ويقسم على الله بألا يعود فيرجع، يقول: بعد مدة استمرت أربع سنوات وأنا على تلك الحال، أفعل المعصية ثم أقسم ألا أعود ثم أعود، ثم منَّ الله علي بفضله ومنته ورحمته فتركت جميع المعاصي التي كنت أرتكبها، سؤالي يا فضيلة الشيخ: هل تقبل توبة كهذه التوبة التي لم تكن صافية نقية؟ وماذا أصنع تجاه هذه الأيمان هل أكفّرها؟ علماً بأني لا أعلم لها عدداً، أم يكفي الإقلاع عن تلك المعاصي؟

    وفي آخر السؤال يقول: ماذا أفعل في العهد؟ وهل أدخل تحت قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ [الرعد:25]؟

    الجواب: الحمد لله الذي منَّ الله على أخينا في آخر الأمر بالتوبة وإصلاح العمل، وأبشره -حسب ما أعلم من الكتاب والسنة- أن توبته صحيحة، وأسأل الله له الثبات، فليثبت ولا يلتفت إلى الوساوس التي يلقيها الشيطان في قلبه، فتوبته مقبولة، وليستمر على طاعة الله واجتناب معصيته.

    أما ما حصل من الأيمان والعهود فإنه يجزئ عنها جميعها أن يطعم عشرة مساكين؛ لأنها أيمان أو نذور بمعنى الأيمان، والمحلوف عليه شيء واحد، وإذا تعددت الأيمان والمحلوف عليه شيء واحد كفاه عنها كلها كفارة واحدة، فنقول لأخينا: أطعم عشرة مساكين لكل مسكين كيلو من الرز، واجعل معه لحماً يكون طعماً له، وإلا فادع عشرة من الفقراء إلى غداء أو عشاء ويكفيك.

    أسأل الله له الثبات، وأن يديم علينا وعليكم نعمته، وهذه من نعمة الله عليه أنه يحس بالذنب ويعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، وهو سبحانه وتعالى أرحم الراحمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767976521