أما بعــد:
فإن درسنا في هذه الليلة؛ ليلة الخميس الموافق للخامس من شهر رمضان عام: (1411هـ) سيكون إن شاء الله في بيان مفسدات الصوم، التي يسميها العامة المفطِّرات.
ويجب أن نأخذ قاعدة قبل الدخول في مفسدات الصوم بخصوصها، وهي: أن مفسدات العبادات سواء كان ذلك من مفسدات الوضوء التي تسمى نواقض الوضوء، أو من مفسدات الصلاة التي تسمى مبطلات الصلاة، أو من مفسدات الصوم، أو من مفسدات الحج، أو من مفسدات المعاملات، كلها لابد فيها من دليل، وذلك لأن الأصل في العبادات التي يقوم بها العبد على مقتضى الشرع الأصل فيها الصحة حتى يقوم دليل من الشرع على أنها فاسدة.
هذه قاعدة متفق عليها بين العلماء؛ لأن الأصل أن ما وقع صحيحاً، فهو صحيح، حتى يقوم دليل على فساده، ولهذا استفتى جماعة من الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم يأتون إليهم بلحم ولا يدرون هل سَمُّوا الله عليه أم لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سَمُّوا أنتم وكلوا) لأن الأصل في الفعل الواقع من أهله أنه صحيح حتى يقوم دليل الفساد.
وعلى هذا فإذا قلنا في مفسدات الصوم: إن هذا مفسد فلابد لنا من دليل، فإن لم يكن هناك دليل فإن قولنا مردود علينا، كل إنسان يقول لك: إن هذا مفطِّر فطالبه بالدليل، قل: أنا صائم بأمر الله، وعلى مقتضى شريعة الله، فأتني بدليل من عند الله يدل على أن هذا الشيء مفطِّر، فإن لم تأتني بدليل فأنا قائم بأمر الله، متبع لشريعة الله، مخلص لله، ومن عَبَدَ الله مخلصاً له الدين، متبعاً لشريعة سيد المرسلين فإن عمله صالح مقبول عند الله، أفهمنا هذه القاعدة؟
إذاً: نقول: لا يمكن أن نقول: إن هذا الشيء مفطِّر إلا مقروناً بالدليل، فإن لم يكن فلا قبول.
فنقول: المفطِّرات أشياء محصورة:
ا/ الأكل.
2/ والشرب.
3/ والجماع.
4/ والإنزال بشهوة بفعل من الصائم.
5/ وما كان بمعنى الأكل والشرب.
6/ والقيء عمداً.
7/ وخروج الدم بالحجامة.
8/ وخروج دم الحيض.
9/ وخروج دم النِّفاس.
هذه تسعة أشياء عرفناها بالتتبع؛ لأنه ليس في الكتاب والسنة أن هناك تسعة أشياء مفطِّرة، أو مفسدة للصوم؛ لكن العلماء رحمهم الله يتتبعون الأدلة، ويستقرئونها، ويستنتجون منها ما يستنتجونه من الأحكام.
هذه ثلاثة دليلها في آية واحدة، وهي قوله تبارك وتعالى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187] يعني: النساء: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:187] يعني: بالجماع، أي: اطلبوا الولد الذي كتبه الله لكم بالجماع: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] الصيام يعني: الإمساك عن هذه الأشياء الثلاثة إلى الليل، والليل يكون بغروب الشمس كما سنذكره إن شاء الله.
إذاً: هذه ثلاثة ذُكرت في آية واحدة.
قوله تعالى: بَاشِرُوهُنَّ أي: بذلك الجماع؛ لأنه قال: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ولا ابتغاء للولد إلا بالجماع.
والجماع مفسد للصوم، سواء كان الصوم فرضاً أو نفلاً، فمن جامع وهو صائم فسد صومه؛ لكن إذا كان في نهار رمضان ممن يلزمه الصوم ترتب عليه خمسة أشياء:
الأول: الإثم.
الثاني: فساد الصوم.
الثالث: لزوم الإمساك إلى الغروب.
الرابع: القضاء.
الخامس الكفارة.
خمسة أشياء، إذا وقع الجماع من صائم في نهار رمضان يلزمه الصوم، ترتب عليه هذه الأشياء الخمسة.
الأول: الإثم؛ لأنه انتهك واجباً، بل فريضة من فرائض الإسلام.
والثاني: فساد الصوم؛ لأنه ارتكب محظوراً من محظورات الصوم وهو: الجماع؛ لأن الله قال: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وهذا لم يتم الصيام إلى الليل.
الثالث: وجوب الإمساك، يعني: يجب أن يمسك وإن كان صومه فاسداً؛ عقوبة له، واحتراماً للزمن؛ لأننا لو لم نلزمه بالإمساك، لكان كل واحد ما يهمه يفعل المفطِّر ويأكل ويشرب؛ لكن نلزمه بالإمساك عقوبة له، واحتراماً للزمن.
الرابع: وجوب القضاء؛ لأنه أفسد عبادته، فلزمه قضاؤها كما لو أحدث المصلي في صلاته، فإنه يلزمه قضاؤها.
والخامس: الكفارة، والكفارة مغَلَّظة، وقد بيَّنَتها، ففي الصحيحين: من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! هلكتُ! قال: ما أهلكك؟ قال: وقعتُ على امرأتي في رمضان وأنا صائم، فسأله النبي عليه الصلاة والسلام: هل يجد رقبة؟ قال: لا. هل يستطيع أن يصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. هل يستطيع أن يطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا. ...).
كم هذه من خصلة؟
ثلاث: عتق رقبة؛ فإن لم يجد، فصيام شهرين متتابعين؛ فإن لم يستطع، فإطعام ستين مسكيناً. (... فجلس الرجل، ثم جيء بتمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للرجل: خذ هذا فتصدَّق به، فقال: يا رسول الله! أعَلى أفقرَ مِنِّي؟! والله ما بين لابَتَيها أهل بيت أفقر مني! -طمع الرجل- فضحك النبي عليه الصلاة والسلام، ثم قال: أطعمه أهلك).
الشاهد من هذا: وجوب الكفارة.
حسناً! قلنا: إنه تجب الكفارة إذا كان في نهار رمضان، والإنسان ممن يلزمه الصوم، فإن كان لا يلزمه الصوم كرجل مسافر، ولنقل: إنه ذاهب إلى العمرة، وهو صائم هو وأهله في مكة ؛ لكن في أثناء النهار جامع زوجته، ماذا يترتب عليه؟ لا يترتب عليه من هذه الأمور الخمسة إلا واحد فقط، هو: القضاء، وإلا فليس عليه إثم، ولا يلزمه الإمساك، ويفسد الصوم لا شك، الصوم يفسد، وليس عليه كفارة.
ولهذا يجب على المفتين إذا سألهم أحدٌ في مكة وقال: إنه جامع أهله، لا يقول: عليك الكفارة، بل يسأله: هل أنت من أهل مكة أو أنت من المسافرين المعتمرين؟ إن قال: أنا من المعتمرين، ماذا يقول؟ يقول: ليس عليك إلا القضاء، الآن كل واشرب بقية النهار، ولا حرج عليك، واقضِ هذا اليوم أنت وأهلك.
إن قال: أنا من أهل مكة فالصوم يلزمه، يقول: عليك خمسة أشياء:
حسناً! إذا قُدِّر أن الشخص جامع في نهار رمضان والصوم لازمٌ له، ولم يُنْزِل، هل تلزمه هذه الأحكام الخمسة؟
نعم، يعني: العبرة بالجماع.
ولو أنزل بدون جماع! لا تلزمه الكفارة، ولكن بقية الأحكام الأربعة تلزمه: الإثم، والإمساك، وفساد الصوم، والقضاء؛ لكن الكفارة لا تلزمه؛ لأن الكفارة لا تلزم إلا بالجماع فقط.
حسناً! هذه ثلاثة أشياء.
انتبه!
فلو نزل بغير شهوة؛ لأنه قد ينـزل لمرض، فإنه لا يفسد الصوم.
لو نزل بشهوة بغير فعل من الصائم، يعني: وهو نائم، لا شيء عليه.
ولو فكَّر فأنزل؛ لكن ما حرَّك شيئاً، لا شيء عليه؛ لأن هذا ليس من فعله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم).
حسناً! إذا قال قائل: نطالبك بالقاعدة التي ذكرتَ وهي: الدليل، أين الدليل على أن الإنزال بشهوة بفعل الصائم مفسد للصوم؟
نقول: الدليل على هذا: قوله تعالى في الحديث القدسي في الصائم: (يدع طعامه وشرابه وشهوته) والمني شهوة، والدليل على أنه شهوة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: نعم، أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) والذي يوضع المني، فسماه الصحابة الشهوة، وأقرهم النبي عليه الصلاة والسلام، والشهوة مما يدعه الصائم، فهذا هو الدليل.
ولذلك اتفق الأئمة الأربعة: مالك، وأحمد، والشافعي، وأبو حنيفة على أن إنزال المني مفطِّر.
حسناً! إنزال المذي؟ المذي الذي يأتي بتحرك الشهوة؛ ولكن بدون إحساس، كثير من الناس مذَّاء، بمجرد ما يحس بالشهوة ينزل هذا المذي بدون إحساس، فهل يفسد الصوم؟
لا، لا يفسد الصوم؛ حتى لو كان بفعل الإنسان، لو فُرِض أن الإنسان قبَّل زوجته فأمذى فصومه صحيح، وليس عليه إثم؛ لأنه لم يفعل مفسداً. ذهب بعض العلماء إلى أنه إذا أمذى بفعله فسد صومه؛ ولكننا نقول على القاعدة التي أشرنا إليها في الأول: أين الدليل؟ ليس هناك دليل، ليس فيه دليل على أن الإمذاء مفسد للصوم.
الأكل، والشرب، والجماع، والإنزال؛ إنزال المني بفعل من الإنسان.
ما كان بمعنى الأكل والشرب.
نعم. ما كان بمعنى الأكل والشرب فإنه مفطِّر، وهي: الإبر المغذية، ليست التي تنشِّط الجسم، لا، الإبر المغذية التي يُستغنى بها عن الأكل والشرب، بمعنى: أنه إذا تناولها الإنسان اكتفى عن الأكل والشرب، هذه مفطِّرة؛ لأنها بمعنى الأكل والشرب، انتبه!
إذا قال قائل: ما هي أكل ولا شرب، نقول: إنها قائمة مقام الأكل والشرب، والشريعة الإسلامية لا تفرق بين متماثلين، ولا تجمع بين مختلفين، فإذا كان هذا بمعنى الأكل والشرب وجب أن يُعطى حكم الأكل والشرب.
إذاً: فساد الصوم بهذه الإبر المغذية من باب القياس أو من باب النص؟
من باب القياس، ما فيه دليل لا من القرآن ولا من السنة؛ لكن فيه قياس.
وبناءً على ذلك فإن قاعدة من ينكرون القياس تقتضي ألا تكون هذه الإبر مفطِّرة، أليس كذلك؟ لأن الذين ينكرون القياس مثل الظاهرية رحمهم الله يقولون: ما فيه أكل وشرب، غيره ما نقبل أنه يكون مفطِّراً، ونحن ننكر القياس. وعلى قولهم تكون هذه الإبر غير مفطِّرة.
لو جاءنا رجل فقيه غير ظاهري من أصحاب القياس والمعاني وقال: هذه الإبر لا نوافقكم في قياسها على الأكل والشرب؛ لأنها تختلف عن الأكل والشرب، والقياس لابد فيه من تساوي الأصل والفرع في علة الحكم. الأكل والشرب تحصل فيه لذة عند الأكل، يتلذذ الإنسان فيه بفمه، وبلعه، وملء معدته منه، فيجد لذة وراحة. هذه الإبر هل يجد فيها ذلك؟
لا، لا يجد فيها ذلك، أليس كذلك؟
نعم. لا يجد فيها ذلك، ولذلك يقولون: أنتم لا تقيسون جماع الرجل لزوجته بين فخذيها على جماعه إياها في فرجها، مع أنه في كل منهما لذة، وفي كل منهما إنزال؛ لكن لذة الجماع غير لذة الفخذين.
إذاً: لذة الأكل والشرب غير لذة هذه الإبر.
فإذاً: لا تقيسونها.
الحقيقة: لو قال لنا قائل هذا القول لتوقفنا، ما هناك جواب بيِّن على هذا الإيراد؛ لكننا نقول: من باب الاحتياط: أن الإنسان لو تناول الإبر المغذية التي تغني عن الأكل والشرب، فإنها تفطِّر، ثم إن الغالب أن الإنسان لا يتناول هذه الإبر إلا وهو مريض يحتاج إلى الفطر، فنقول: الحمد لله، إذا تناولت هذه، اضطررت إليها وتناولتها، فأنت الآن مفطر، كُلْ إن أمكنك واشرب؛ لأنك مفطر بسبب المرض.
إذاً: ليس القول بتفطير هذه الإبر المغذية قولاً يقينياً؛ ولكنه قول احتياطي، أما الإبر الأخرى التي لا تغني عن الطعام والشراب؛ فإنها لا تفطر، ولا إشكال عندي فيها، سواء أُخِذت عن طريق الوريد، أو عن طريق العضلات، أو من أي طريق؛ حتى لو نشَّطت البدن، وحصل فيها تنشيط للبدن، أو شفاء للبدن، فإنها لا تفطِّر؛ لأن العلة ليست تنشيط البدن، العلة تغذيته عن طريق الأكل والشرب، وإلا لقلنا: كل منشِّط مفطِّر، ومعلوم أن الإنسان لو اغتسل في أيام الحر، ينشط وإلا لا؟! ينشط بلا شك، هل نقول: يفطر؟ لا، ما نقول: يفطر.
إذاً: لا يمكن لإنسان نظر بتأمل أن يقول: إن جميع الإبر مفطِّرة، لا، ما يمكن، بل نقول: إن الإبر التي لا يُستغنى بها عن الطعام والشراب غير مفطِّرة مهما كانت، من أي نوع كانت، ومن أي مكان ضُرِبت.
لو أن الإنسان تقيأ عمداً، أدخل إصبعه مثلاً في فمه حتى قاء، أو نظر إلى شيء كريه حتى قاء، وجعل ينظر إليه حتى قاء، أو شمَّ رائحة كريهة وجعل يتعمدها؛ لأجل يقيء فقاء، أو عصر بطنه بشدة حتى تقيأ، نعم.
المهم إذا قاء عمداً فإن صومه يفسُد ويبطُل.
نأخذ بالقاعدة، ماذا؟
ما هو الدليل؟
الدليل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ذرعه القيء فلا قضاء عليه -ذرعه القيء يعني: غلبه- ومن استقاء عمداً فليقضِ) هذا الحديث.
وفيه أيضاً تعليل، وهو أن الإنسان إذا قاء، وأخرج ما في معدته من الطعام لحقه الهزال والجوع الشديد، ولاسيما إذا تقيأ من أول النهار، وفي الأيام الطويلة، لابد أن يلحق الجسم تعب شديد.
فمن رحمة الله نقول: إذا تقيأ الإنسان عمداً إن كان لغير عذر فهو حرام عليه في الصوم الواجب؛ لأنه يفسد صومه.
وإن كان لعذر قلنا: من رحمة الله أن نقول: إنك أفطرت، لماذا؟ لأنه إذا تقيأ لعذر يبيح له الفطر قلنا له: الآن كُل واشرب؛ لأن كل من أفطر لعذر شرعي، فإنه يجوز أن يأكل ويشرب.
خذوا بالكم من هذه القاعدة، فهي مفيدة أيضاً: كل من أفطر لعذر شرعي في أول النهار فإنه يجوز أن يأكل ويشرب بقية النهار، فهمتم القاعدة هذه؟
إي نعم، هذه القاعدة مفيدة جداً للإنسان، فنقول لهذا الرجل الصائم: إذا قال لك الأطباء، أو أنت رأيت أنه من الضروري أن تتقيَّأ، افرض أن الإنسان أكل طعاماً متسمماً، الطعام المتسمم من أقوى علاجه أن يتقيأ الإنسان الطعام، فإذا تقيأه خرج هذا الطعام المتسمم، وخف عليه، فإذا فعل هذا قلنا له: الآن قمت تقيأت بعذر شرعي، فكُل واشرب حتى تعود عليك قوة بدنك.
فصار القول بأن القيء مفطِّر من رحمة الله؛ لأنه إذا كان الإنسان غير محتاج إليه قلنا له: لا تتقيأ في الصوم الواجب، تفسد صومك، وإن احتاج إليه قلنا: تقيأ وكُل واشرب بقية يومك؛ لأن القاعدة التي ذكرنا أن مَن أفطر لعذر شرعي فإن له أن يأكل ويشرب بقية اليوم. عرفتم يا جماعة؟!
خروج الدم بالحجامة، وعلى القاعدة نطلب الدليل.
الدليل: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفطر الحاجم والمحجوم) وهذا يدل على أن المحجوم يفطر.
وفيه أيضاً تعليل، وهو أن الحجامة إذا خرج منها دم كثير ضعُف البدن واحتاج إلى تغذية، ولهذا نجد الأطباء إذا أُخذ من الإنسان دم متبرع به، يأمرونه أن يشرب عصيراً أو شبهه ليعوِّض ما نقص من الدم.
إذاً: الحجامة نقول: تفطِّر الصائم.
والدليل: قوله عليه الصلاة والسلام: (أفطر الحاجم والمحجوم).
والتعليل: أنه يحصل بالحجامة ضعف شديد للبدن، يحتاج معه إلى تغذية.
فالتفطير بالحجامة من رحمة الله، ولهذا نقول للصائم صوم فرض: يحرم عليك أن تحتجم، فإن اضطررت إلى ذلك فاحتجم وكُل واشرب، عوِّض البدن عن هذا النقص.
حسناً! فإن قال قائل: إنه قد جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم، واحتجم وهو صائم) وفي بعض الألفاظ: (احتجم وهو محرم صائم) فالجواب على ذلك: أنه إن صحَّت اللفظة: احتجم وهو صائم إن صحت فإنها لا تدل على أن الحجامة غير مفطِّرة، ولا تدل على أن هذا الصيام فرض، فإذا كان الصيام الذي احتجم فيه الرسول عليه الصلاة والسلام ليس فرضاً؛ فلا إشكال إطلاقاً؛ لأنه إذا احتجم أفطر وأكل وشرب؛ لأنه متنفِّل، والصائم المتنفل هو أمير نفسه، إن شاء استمر، وإن شاء أفطر.
فيحتمل أنه نفل، ويحتمل أن الرسول عليه الصلاة والسلام احتجم في صيام فرض؛ لكنه أفطر؛ وابن عباس رضي الله عنهما لم يعلم ماذا كان للرسول بعد أن احتجم وهو صائم.
فلا نأخذ بهذا النص المشتبه وندع نصاً محكماً؛ لأن النص المحكم مقدم على النص المتشابه، ويجب أن يُحمل النص المتشابه، سواء في القرآن أو في السنة، على وجه يوافق النص المحكم.
لهذا نقول: ليس في هذا الحديث ما يدل على أن المحتجم لا يفطر.
ثالثاً: من حَمْل حديث ابن عباس : أنه قبل أن يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (أفطر الحاجم والمحجوم) ويكون حديث ابن عباس بناءً على البراءة الأصلية؛ لأن الأصل أن الحجامة لا تفطِّر، ثم جاء الحكم الشرعي بأنها مفطِّرة.
فإذا قال قائل: الحجامة مفطِّرة للمحتجم؛ لأن العلة في ذلك واضحة، ما هي العلة؟
الضعف الذي يلحق البدن، والنقص ولكن الحاجم بأي سبب يُفطَّر؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لأن الحجامة في ذلك العهد تحتاج إلى أن يمص الحاجم قارورة الحجامة. قارورة الحجامة فيها أنبوبة دقيقة يمصها الحاجم، إذا شطَّبَ محل الحجامة بالموسى، ووضع القارورة على محل التشطيب، رصَّها قليلاً، ثم فرَّغ الهواء الذي فيها بمصها، يمكن في أثناء المص يتسرب شيء من الدم في فم الحاجم من غير أن يشعر به، فأقيمت المَظِنَّة مقام المَئِنَّة. هكذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
أما غيره من العلماء الذين قالوا: بأن الحجامة مفطِّرة، قالوا: الله أعلم، ما ندري، ولعلَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أفطر الحاجم) جعل الحاجم مفطراً؛ لأنه أعان المحتجم على ما يفطر به، فاكتسب من إثمه إذا كان الصوم واجباً؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام : لو حَجَم بغير هذه الطريقة بآلات منفصلة -ما يمصها- فإنه لا يفطر. يعني: الحاجم؛ لأنه ليس هناك ما يحتمل أن يفسد صومه بدون أن يشعر به.
وانتبهوا لقولنا: خروج دم الحيض، فإنه يعني: أن الحيض لو تحرك وانتقل من موضعه؛ ولكن لم يخرج، فإن الصوم باقٍ لا يبطُل؛ خلافاً لما تفهمه النساء، من أن المرأة إذا رأت الحيض في ما بين أذان المغرب وصلاة المغرب، فإن صومها يبطُل، هكذا عندهن، وعند بعضهن أيضاً: إذا رأت الحيض في ما بين أذان المغرب وصلاة العشاء فإن صومها يبطُل، هذا غير صحيح، هذا كلام لا أصل له.
ولذلك يجب علينا أن نعلم النساء.
نقول: إذا غابت الشمس والحيض لم يخرج ويبرز فإن الصوم صحيح، ولو خرج وبرز بعد غروب الشمس بدقيقة واحدة فالصوم صحيح؛ لأنه يقول: خروج دم الحيض، لابد من خروجه، خروج دم الحيض أو النِّفاس.
النِّفاس مثله أيضاً: النِّفاس لو أن المرأة أصابها الطلق قبل غروب الشمس؛ ولكن لم يخرج الدم إلا بعد غروب الشمس فصومها صحيح، وإن خرج قبل غروب الشمس فسد صومها.
وحينئذ نرجع إلى القاعدة الأولى، الدليل، نعم؛ لأنه قد يقول قائل: كيف تفطر المرأة إذا خرج دم الحيض والنِّفاس، مع أن ذلك بغير اختيارها؟!
فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المرأة مقرراً حالها: (أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصُم؟!) ولهذا أجمع العلماء على أن الحائض لا صوم لها، ومثلها النُّفَساء.
وعلى هذا فنقول: الدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصُم؟!) .
والحمد لله المرأة لم تختر أن يأتيها الدم فيمنع صحة صومها، وإنما هذا شيء كتبه الله على بنات آدم، فلا تجزع مما كتب الله، دخل النبي عليه الصلاة والسلام على عائشة رضي الله عنها، وهي تبكي، وكانت محرمة بالعمرة، فأتاها الحيض قبل أن تصل إلى مكة ، فجعلت تبكي رضي الله عنها، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال: (ما لكِ؟ لعلكِ نفِستِ! قالت: أجل -نفِستِ يعني: أتاها الحيض- قال: إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم) يعني: ليس خاصاً بكِ، كل النساء تحيض.
فلهذا نقول للمرأة: لا تتعبي نفسك وضميرك، هذا شيء مكتوب على النساء، فإذا أتاها الحيض فلا تصُم، وما يفعله بعض النساء من محاولة منع الحيض في شهر رمضان، فإنه خطأ منهن، وذلك لأن هذه الموانع -الحبوب- ثبت عندنا أنها مضرة، وأنها تؤثر على المرأة، وعلى الرحم، وعلى الدم، وعلى الأعصاب، وعلى النسل.
ولهذا نرى الآن كثرة الأولاد المشوَّهين.
يقول بعض الأطباء: إن هذا من أسباب تناول هذه الحبوب والعقاقير، ومعلوم أن تشوُّه الولد مشكِل، فيه كآبة على الولد، وفيه كآبة على الوالدين, وفيه ضرر عظيم.
هذه المفطرات الآن تسعة؛ ولكنها لا تفطر إلا بشروط، سنتكلم عليها -إن شاء الله تعالى- في الدرس القادم؛ لأن الوقت انتهى الآن.
نعم، وأيضاً الرسول صلى الله عليه وسلم سمى الحيض نفاساً، وقال: (لعلكِ نفِستِ!).
الجواب: العبرة يا إخواني! ليس بأداء المؤذن، العبرة بما جعله الشرع عبرة، وعلَّق الحكم به، ففي الإمساك العبرة بتبيُّن طلوع الفجر، وليس بطلوعه، الله ربنا عزَّ وجلَّ يقول: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ [البقرة:187] ولم يقل: حتى يطلع الفجر، انظر العبارة، فرق حَتَّى يَتَبَيَّنَ [البقرة:187] حتى لو طلع وأنت ما رأيته ما عليك شيء، لابد أن يتبيَّن؛ ولكن ليس معنى ذلك أني أقول: اجلس في الحجرة حتى يأتيك النهار؛ لأن هذا الذي يجلس في الحجرة متى يتبيَّن له الفجر؟ نعم، عند الضحى، أنا قصدي إذا خرجت في مكان ليس فيه أنوار كهربائية، ولم ترَ الصبح، فكُل واشرب حتى لو أذَّن الناس كلهم لا يهمك؛ لكن نظراً إلى أن الناس الآن لا يستطيعون أن يخرجوا لينظروا الفجر، صاروا يعتمدون على الأذان، ولكن الأذان المعتبر هو الذي يؤذن إذا طلع الفجر، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن
فالعبرة إذاً بماذا؟
بتبيُّن طلوع الفجر، فلو فُرِض أني أنا في الخارج، وليس هناك أنوار، وسمعتُ مؤذنين؛ لكن ما رأيت الفجر، وليس هناك مانع كغيم أو شبهه، فلي أن آكل وأشرب.
غروب الشمس أيضاً، المعتبر غروب الشمس وإلاَّ الأذان؟
غروب الشمس، فإذا غربت الشمس، وإن لم يؤذن الناس، فكُل واشرب، وإن أذَّن الناس وهي لم تغرب لا تأكل ولا تشرب؛ لأن بعض الناس قد تغره الساعة مثلاً، أو يرى الجو قد أظلم، فيظن أن الشمس غربت فيؤذن وهي لم تغرب، لا عبرة به، المهم أن العبرة بغروب الشمس عند الإفطار، وبتبيُّن طلوع الفجر عند الإمساك، فإذا حاضت المرأة بعد غروب الشمس وقبل الأذان فصومها صحيح، وإن حاضت بعد الأذان قبل غروب الشمس فصومها فاسد، إي نعم.
الجواب: أولاً: إذا طهُرت المرأة قبل صلاة الفجر بعد منتصف الليل، فإنه لا يلزمها صلاة العشاء، ولا صلاة المغرب. لماذا؟
لأن وقت العشاء ينتهي بنصف الليل، بدلالة القرآن والسنة:
أما القرآن: فقد قال الله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء:78] ثم قال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الإسراء:78] دلوك الشمس يعني: زوالها، إلى غسق الليل يعني: ظلمة الليل، وأشد ما يكون الليل ظلمة عند انتصافه، هذه فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ولهذا كانت هذه الأوقات الأربعة كلها متوالية، ليس بينها فاصل، ثم قال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الإسراء:78] ففصل.
أما السنة فهي صريحة في هذا، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وقت العشاء إلى نصف الليل) وهو عليه الصلاة والسلام يعرف ماذا يقول، ويعني ما يقول وهو أعلم الأمة بشرع الله، وأنصح الأمة، وأعلمهم بما يقول، أليس كذلك؟ قال: (إلى نصف الليل) ليس هناك حديث يقول: إن صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، أبداً. الفجر صلاته مستقلة، نصف الليل الأخير يفصل بينها وبين العشاء، ونصف النهار الأول يفصل بينها وبين الظهر.
على هذا إذا طهُرت المرأة بعد منتصف الليل ليس عليها عشاء ولا مغرب.
وإن طهُرت قبل منتصف الليل وجبت عليها صلاة العشاء دون صلاة المغرب، وليس هناك دليل لا من الكتاب ولا السنة ولا الإجماع ولا القياس الصحيح على أنه يجب عليها صلاة المغرب مع صلاة العشاء، إنما رُوي ذلك عن اثنين من الصحابة بسند فيه نظر.
فليس هناك في القرآن والسنة والإجماع أنه يجب عليها صلاة المغرب مع صلاة العشاء إذا طهُرت في صلاة العشاء، ولا صلاة الظهر مع صلاة العصر إذا طهُرت في وقت العصر، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة, ومن أدرك سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) ولم يقل: والظهر، ولو كان إدراكه صلاة العصر يكون مدركاً لصلاة الظهر لقاله، ولأن المرأة لو حاضت بعد دخول وقت الظهر لم تلزمها صلاة العصر، ولو حاضت بعد دخول وقت المغرب لم تلزمها صلاة العشاء.
إذاً: ما الفرق بين الصلاة الأولى والصلاة الثانية؟ حيث نقول: إن طهُرت في الوقت الثاني لزمتها الأولى، وإن أدركها وقت الأولى لم تلزمها الثانية؟
هذا خلاف القياس.
الخلاصة -أنا أطلتُ في هذا لأن هذا ينفع طلبة العلم- الخلاصة: أن المرأة إذا طهُرت من الحيض في وقت صلاة العصر لم يلزمها إلا صلاة العصر فقط، وإن طهُرت من الحيض في وقت العشاء وهو قبل منتصف الليل لم يلزمها إلا صلاة العشاء فقط.
والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر