وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، دعانا إلى الطاعة والإيمان، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ووعد المستجيبين المتقين بالنعيم في الجنان، وتوعد الجاحدين المخالفين بعذاب النيران.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، جعله خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وكان أسبقنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وكان أبعدنا عنه، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون!
" المسلم بين البذل والبخل" هو موضوع حديثنا في هذا المقام، نستكمل به الأضواء على ملامح الشخصية الإسلامية، ولابد أن ندرك ابتداءً أن هذه الحياة الدنيا في تصور الإسلام وفي يقين المؤمن إنما هي دار ممر، وأن الآخرة هي دار المقر، ومن ثمَّ فإن هذا التصور يجعل التعلق بالحياة الدنيا والبذل فيها يخضع لهذا التصور الإيماني الإسلامي الذي يجعل الآخرة أوكد الهمَّ، والذي يجعلها غاية الغايات، قال تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77].
إن المسلم في حقيقة إسلامه وإيمانه باذل منفق معطٍ في كل ما يحبه الله ويرضاه وفي كل باب من أبواب نصرة دين الله، وفي كل ميدان من ميادين الدعوة إلى الله، وفي كل موقع من مواقع الجهاد في سبيل الله، والله سبحانه وتعالى قد جعل سمة أهل الإيمان والتقوى الإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى والبذل في مراضيه جل وعلا، فقال سبحانه وتعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:2-3].
وأهل التقوى هم الذين ذكر الله عاقبتهم ومثوبتهم عنده سبحانه وتعالى فقال: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، وأول وصف من أوصافهم: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، والله جل وعلا عندما جعل هذا الوصف سمة لأهل الإيمان جعل الإنفاق عاماً مطلقاً فقال: (ينفقون في السراء والضراء).
عندما نتحدث عن البذل فإن كثيراً من الناس يحصرونه ويقصرونه في أمر المال، وأؤجل الحديث عنه لما يشيع بين الناس من معرفة أوصافه وما يتعلق به؛ وأتحدث عن أنواع البذل الأخرى التي لا يفقهها كثير من الناس، والتي يقصر فيها كثير من الناس؛ فهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن نبذل من سماحة نفوسنا، فهاهو عليه الصلاة والسلام يبين لك أن تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأن إدخال السرور على المؤمن من أعظم أبواب الخير والبذل والإحسان، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام صدراً رحباً وسع جميع الصحابة، ووسع الجهلاء والغلظاء من الأعراب، وما ضاق عنهم حلمه عليه الصلاة والسلام، بل وسعتهم أخلاقه العظيمة وشمائله الكريمة، وبذل لهم من عظيم صبره، وبذل لهم من سماحة نفسه عليه الصلاة والسلام.
فاستأسر القلوب، وسبى المشاعر والنفوس، وخطف الألباب والأبصار؛ فكان قدوة عظيمة لكل من جاء إليه ولكل من كان معه ولكل من التف حوله، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
وكان عليه الصلاة والسلام يبذل من وقته فهذا سائل يسأل، وذاك مستفتٍ يستفتي، وذاك طالب حاجة يطلب السعي معه في حاجته، وتلك امرأة عجوز لا يؤبه لها تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقوده إلى أي سكك المدينة شاءت؛ حتى يقضي عليه الصلاة والسلام لها حاجتها، فلا يستكبر من ذلك ولا يستنكف، بل يبذل عليه الصلاة والسلام لكل صاحب حاجة ما يليق بحاجته.
وكان صلى الله عليه وسلم يلقي دعوته لله سبحانه وتعالى، فيبذلها للضالين والكافرين والمعرضين فضلاً عن المقبلين والراغبين والطالبين، وما كان صلى الله عليه وسلم يمنع شيئاً من علم وهدى وإرشاد، بل كان يسعى إلى بذله؛ حتى كان يتتبع القبائل في مواضعها؛ فخرج إلى الطائف، ثم هاجر إلى المدينة، ثم مضى بعد ذلك مرة أخرى إلى الطائف فاتحاً، ثم مضى مجاهداً، ثم أرسل الكتب إلى الملوك من حول الجزيرة كلها، وكانت نفسه تتقطع حسرات على ضلال الضالين وكفر الكافرين، حتى قال جل وعلا: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6]، أي: أنت مهلك نفسك في إثر أولئك القوم المعرضين تريد أن تردهم عن موارد الهلاك، كما أخبر عن نفسه عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت الفراش والدواب يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار).
والبغلة ليست من الدواب التي تسرع حتى تكون دابة هروب وفرار، بل هي دابة استقرار وقرار، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يثبت في مكانه ويقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن
ثم يدعو العباس لينادي أهل الهجرة وأهل بدر، حتى تجمع الناس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى عظيم حديثه عليه الصلاة والسلام الذي أخبر فيه عن بذل النفس والروح في سبيل الله، وأنه لا يتمنى إلا أن يقتل في سبيل الله، ثم تعاد إليه روحه، فيقتل في سبيل الله ثانية، ثم تعاد إليه روحه، فيقتل في سبيل الله ثالثة، وذلك لما يرى المجاهد من ثواب الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ [التوبة:111].
وانظر إلى هذه الصفقة العظيمة (إن الله اشترى) فالمشتري هو الله سبحانه وتعالى، وقد اشترى الأنفس قبل الأموال، فالسلعة هي الروح التي بين جنبيك، هي خفقان قلبك، هي حياتك في هذه الدنيا الدنيئة، ثم الثواب والأجر والقيمة المعطاة: (جنة عرضها السموات والأرض).
لما سمع الصحب الكرام ذلك الوعد العظيم من الله سبحانه وتعالى قالوا: لا نقيل ولا نستقيل، هذه بيعة نثبت عليها، هذه صفقة نصر عليها، هذا عهد نمضي عليه حتى آخر لحظة من لحظات الحياة.
قال الشاعر:
ما قال لا قط إلا في تشهده لو لا التشهد كانت لاؤه نعم
وقال آخر:
لو لم تكن في كفه غير نفسه لجاد بها فليتق الله سائله
فكان عليه الصلاة والسلام لا يرد سائلاً، ولا يمنع مالاً، بل قد تجوز مرة في صلاته وأسرع فيها، ثم انفتل خارجاً من المسجد، ثم غاب في بيته، ثم خرج إلى الصحابة فرأى علائم الاستفهام والاستغراب مرسومة على وجوههم فقال: (إني ذكرت شيئاً من تبر -أي: ذهب- فخشيت أن يحبسني، فأنفقته في سبيل الله).
ومضى الرسول الكريم الذي دانت له الدنيا وجاءته الخيرات من كل مكان إلى ربه ومولاه ودرعه مرهونة عند يهودي في بعض طعام كان يأخذه عليه الصلاة والسلام، وكان يمر الهلالان والثلاثة -كما تقول عائشة وما يوقد في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، وما كان ذلك عن فقر وحاجة، وإنما كان عن بذل وإنفاق وسماحة في سبيل الله سبحانه وتعالى، قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29-30] فهذا وصف أهل الإيمان، وهذا وصف أهل القرآن أنهم يرجون تجارة لن تبور، أرباحها أضعاف مضاعفة، وتأمينها عند من لا تنفد خزائنه سبحانه وتعالى.
وهذا تهييج للنفس، وقطع للأمل، وإعلان للبذل في سبيل الله عز وجل، فلما دارت الدائرة وشاع في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، فقال: (فعلامَ الحياة من بعده؟ موتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ثم مضى منطلقاً يخترق الصفوف، ويعانق السيوف، ويدخل بين أهل الكفر، يجندل منهم يميناً وشمالاً، وهو يقول: (واهاً لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد).
وانظر إلى بذل الصديق رضي الله عنه الذي سخر ماله كله خدمة لدين الله ونصرة لدعوة الله، فإذا به يعتق الأرقاء ممن أسلموا في مكة، وإذا به يجهز موكب الهجرة، وإذا به في يوم تبوك يأتي بماله كله، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك يا
وهذا عمر الفاروق كان من أعظم الباذلين من صحب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بذل من مشاعره رحمة وشفقة ورعاية لأمة محمد عليه الصلاة والسلام، فكان يسأل عن صغيرهم، ويتحرى شأن كبيرهم، وينظر في كل شئونهم، ولا يطمئن له جنب ولا تغمض له عين إلا أن يبذل كل ما يستطيع من طاقة وجهد نصحاً لأمة الإسلام والمسلمين، وحرصاً على مصالح المسلمين.
وهكذا كان الصحب الكرام رضوان الله عليهم يضربون الأمثلة، والمقام يضيق عن ذكر الأمثلة فضلاً عن الإحصاء أو الاستقصاء.
وانظر إلى علماء الإسلام كم بذلوا من أوقاتهم! وكم أفنوا من أعمارهم! وكم أذهبوا من نور أبصارهم فيما يتعلق بالعلم الشرعي الذي يبلغونه لأمة الإسلام من بعهدهم! فانظر رحمك الله ما أخلف عليهم الله من مباركة الأوقات، فجاءونا بالكتب المطولات والموسوعات التي لا نستطيع اليوم أن نقرأها فضلاً عن أن نفهمها، فضلاً عن أن ننشئ مثلها أو قريباً منها.
والله عز وجل وعد أنك إن أنفقت أو بذلت شيئاً في سبيل الله أن يخلفه، فالإخلاف هو من الله سبحانه وتعالى، والتعويض هو من الله جل وعلا، وكل شيء تبذله يأتيك عاجله في الدنيا -بإذن الله عز وجل- قبل الآخرة.
ثم أريد أنا وأنت أن نصد عدوان المسلمين وأن ننصر المسلمين، ونحن لا نخرج شيئاً من أموالنا! ولا نبذل قليلاً من أوقاتنا! ولا نريد أن نتعب أجسادنا! ولا نريد أن نقلق راحتنا! ولا نريد أن نفارق زوجاتنا وأولادنا! أي شيء هذا؟! قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال:36] فقال: ( ينفقون ) أتى بصيغة المضارع التي تدل على الاستمرار في كل زمان ومكان وحال، فهم ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، ولكن: فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].
لكن أين الذين ينفقون ليدعوا إلى سبيل الله، بل لينصروا دين الله.
إن هذا لا يمكن أن يواجه إلا ببذل مماثل، كما كان عليه الحال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وأسلاف أمتنا من الأئمة الأعلام الذي شرقوا وغربوا في طلب العلم، والذين شرقوا وغربوا في الجهاد في سبيل الله، والذين شرقوا وغربوا لينصروا دين الله عز وجل، كل ذلك ينبغي أن نعيه، وأنه خصلة أساسية من خصال المسلم الحق، فإنه منفق في سبيل الله سبحانه وتعالى، وباذل لنصرة دين الله.
إن الأبناء مبخلة، أي: عن الإنفاق والبذل في سبيل الله، (مجبنة) أي: عن الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، قال عز وجل: مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38]، يبين الله جل وعلا لنا هذه المعاني حتى ندرك أننا نحتاج إلى أن نفك القيود؛ لتكون نفسونا مهيأة للبذل في سبيل الله، فما بالنا نبذل من الأوقات أطولها وأفضلها لنحصل معاشنا، ثم نبخل أن نبذل من الأوقات شيئاً يسيراً نسعى فيه في الخير وننصر به أهل الإسلام، ونسعى فيه لمعاونة مسلم، أو لإغاثة ملهوف، أو لتعليم جاهل، أو لدعوة غافل؟! وما بالنا نبذل من أموالنا أكثرها وأشرفها في مآكلنا ومشاربنا وبيوتنا ودورنا ومظاهرنا الزائفة، ثم نبخل أن ننفق في سبيل الله سبحانه وتعالى.
وما بالنا نجهد ونرهق في أمور الدنيا، وربما في أمور اللهو والمتاع، ثم لا نريد أن نتعب ولو يسيراً، وأن نعرق ولو قليلاً، ونحن نسعى في طاعة الله ومرضاة الله؟
إن المسلم شأنه البذل، وينبغي أن يجتنب البخل ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
أسال الله جل وعلا أن يجعلنا من الباذلين في سبيله، ومن الناجين من البخل في كل باب من أبواب الخير، ونسأله جل وعلا أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
أيها الأخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله عز وجل أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من التقوى البذل في سبيل الله، وأقف بكم مع مثل ضربه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ليبين لنا صورة البذل وصورة البخل، ولنستخرج من هذا المثل الآثار النفسية والحسية والدنيوية والأخروية لأمر البذل من جهة، ولأمر البخل من جهة أخرى.
في صحيح البخاري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما) أي: هذه الحلة سابغة وضيقة، وحسبك بهذا الوصف والتشبيه الأولي، ثم انظر إلى أثر البذل وأثر البخل، يقول: (فكلما هم المتصدق اتسعت بصدقته-أي: توسعت وتفسحت عليه- حتى تغشى أنامله -أي: تطول حتى تصبح قد وصلت إلى أنامله- وتعفو أثره) أي: كلما مشى كان طولها يمحو الآثار من وراءه.
ومعنى هذا التشبيه: أن هذه السعة هي سعة الرزق، وسعة النفس، وطمأنينة القلب، وانشراح الصدر، وهي السماحة واليسر، وهي التوفيق والسداد، وكأن المسلم المنفق إذا وفقه الله كلما رفع حجراً وجد تحته ذهباً، وكلما طرق باباً وجد وراءه رزقاً، إنه وعد من الله عز وجل ووعد من رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما نقص مال من صدقة).
فالجبة تتسع على المنفق حتى تعفو أثره، ومعنى عفو الأثر في هذا الحديث: محو الآثام والسيئات.
قال: (وما يزال البخيل يبخل، وكلما همَّ بصدقة ثم امتنع عنها قلصت عليه -أي: هذه الحلة أو الجبة- وضاقت كل حلقة بمكانها) أي: تضيق ضيقاً شديداً، فإذا بهذا الضيق هو ضيق في الرزق، وضيق في الصدر، وضيق في الحال، وضيق في السعادة، فلا تجد إلا هماً متراكباً، ولا تجد إلا فقراً متتابعاً، ولا تجد إلا غضباً متوالياً، وهذا أثر من آثار ترك الإنفاق في سبيل الله عز وجل، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: فلو رأيته -أي: عليه الصلاة والسلام- يوسعها فلا تتسع.
فالذي لا ينفق يريد أن يبحث عن أبواب الرزق ويريد أن يزيد من المال، فإذا بالله عز وجل يسلط عليه من النكبات ما يمحق بركة المال ويذهب أثره الذي ينتفع به، وإن لم يحصل شيء من ذلك أو كثير منه فالعاقبة الأخروية جديرة بالمؤمن أن يتأمل فيها، وأن يفكر فيها، وانظر إلى ذلك في قول الله سبحانه وتعالى: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:8-10].
وتأمل كيف يكون التيسير للعسر، فإن الله جل وعلا يجعل ذلك بصور وأشكال قد يفقهونها وقد لا يفقهونها، والله جل وعلا يقول: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180]، فلا تظنه خيراً لك بأن يزداد رصيدك، وتؤمّن مستقبلك، بل هو شر لك إن لم تخرج حق الله، وإن لم تحرص أن تغالب نفسك لتنفق أكثر في سبيل الله.
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه، بل هو مضرة عليه في دينه.
ثم يقول الله جل وعلا: إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ [محمد:37]، وكلنا من خلق الله جل وعلا، وكل الرزق من عنده، وكل ما في الدنيا وباطنها وظاهرها وما بين السماء والأرض له جل وعلا، ولو أنه أمرنا أن ننفق مالنا كله وأن نعطي كل ما لدينا لكان في ذلك حرج، ولنتج عنه بخل، لكنه سبحانه وتعالى ما جعل ذلك إلا بقدر يسير، وليس إلا لإخوان لك في الإيمان والاعتقاد من ذوي الحاجات؛ ليعود النفع إليك، ويكتب الأجر والثواب لك.
قال قتادة : قد علم الله سبحانه وتعالى أن في إخراج المال إخراج الأضغان، وتنشل به الأحقاد من القلوب، وينتزع به الحسد من النفوس، ويحصل به الوئام والمحبة والتكافل والتعاون بين أهل الإسلام، ولذلك يقول ابن كثير في هذا : صدق قتادة ؛ فإن المال محبوب إلى النفس، ولا يمكن أن يخرجه الإنسان إلا إلى محبوب أعظم منه، وهو حبه لله عز وجل، قال الله سبحانه وتعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92].
ثم يقول جل وعلا: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [محمد:38]، يقول ابن كثير : إنما نقص نفسه من الأجر، وإنما يعود وباء ذلك عليه، كما مر بنا في تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ [محمد:38] أي: عن كل ما سواه سبحانه وتعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38]، وهذا تهديد ووعيد من الله سبحانه وتعالى، والله جل وعلا قد بسط في هذه الآيات الصور الكثيرة التي تحذر وترهب المسلم من أن يكون من البخلاء غير الباذلين في سبيل الله عز وجل.
وفي صحيح البخاري وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثل له -أي: يوم القيامة- شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، فيأخذ بلهزمتيه -يعني: بشدقيه- فيقول: أنا مالك). والأحاديث في ذلك كثيرة.
ويخبرنا الله سبحانه وتعالى عن شأنهم وعن شأن بعض أحوالهم فيقول: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ [التوبة:75-76] والنتيجة: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة:77] أورثهم وجعل لهم نفاقاً في قلوبهم أي: فساداً في القلوب لما أخلفوا الوعد مع الله، وخلف الوعد مع الخلق من صفة المنافقين، فكيف إذا كان مع الله سبحانه وتعالى؟ فالمسلم لابد أن ينتبه إلى هذه المعاني الخطيرة.
وننتبه أيضاً إلى الحديث الذي ورد في سنن الترمذي وعند الإمام أحمد في مسنده، أنه عليه الصلاة والسلام قال: (البخيل من ذكرت عنده ولم يصل علي)، فصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من الباذلين المنفقين، وأن يجعلنا من العاملين لنصرة دين الله عز وجل، والمخلصين له سبحانه وتعالى، والداعين إلى دينه، والمجاهدين في سبيله.
نسألك اللهم أن تردنا إلى دينك رداً جميلاً.
اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، ووفقنا لما تحب وترضى، واصرف عنا ما لا تحب وترضى، وثبت أقدامنا، وأحسن ختامنا، واجعل عاقبتنا خيراً من عاجلتنا برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم اجعلنا من ورثة جنة النعيم، واقبضنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم زد إيماننا، وعظم يقيننا، اللهم ضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، اللهم امح سيئاتنا، وأقل عثراتنا يا أرحم الراحمين! يا أكرم الأكرمين! يا رب العالمين!
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويأمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد.
اللهم أعل بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والمشركين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء!
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم نكس راياتهم، وأذل أعناقهم، وسود وجوههم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، وفرق كلمتهم يا قوي يا عزيز! يا منتقم يا جبار! يا من أمره بين الكاف والنون!
اللهم إنا نسألك اللطف والرحمة لعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والأسرى والمسجونين والمشردين والمبعدين في كل مكان يا رب العالمين!
اللهم إنا نسألك أن تفرج عن إخواننا في البوسنة وفي الشيشان وفي كل مكان يا رب العالمين!
اللهم عجل فرجهم، ونفس كربهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم يا رب العالمين!
اللهم إنا نسألك أن تجعل الدائرة على أعدائهم، اللهم اجعل عدوان الأعداء رداً في نحورهم، اللهم واجعل عدوانهم تدميراً لقوتهم، وتقويضاً لدولتهم، وتفريقاً لكلمتهم يا من أمره بين الكاف والنون!
اللهم إنا نسألك أن تجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم إنا نسألك أن تزيل عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاتنا لهداك، واجعل عملهم في رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين!
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]
وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين!
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر