عندما يسمع الإنسان كلمة هداية يشعر بأن قلبه قد لان، وصدره قد انشرح؛ لأن كل واحد منا يريد الهداية، اللهم اهدنا فيمن هديت يا رب!
وكلنا نقول في اليوم سبع عشرة مرة على الأقل: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وليس اهدني، وإنما اهدنا كلنا، أي: أن كل واحد منا ينوب عن الجميع في الدعاء، فأنت تدعو الله عز وجل أن يهديك والمسلمين كلهم، فتقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].
وأول خطوة من أجل أن ندخل على الهداية هي التوبة، ودعنا نتفق في مسألة التوبة على شيئين مهمين:
الأول: أن كل العباد يخطئون، كما قال الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء). فليس معنى أنك صليت أنك مهتد والذي لا يصلي عديم الهداية، لا، وإنما ربنا قال: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، فالآية علقت الفلاح على التوبة، فمن تاب فهو مفلح.
والثاني: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].
فمن مشى في طريق الهداية فعسى أن يكون من المفلحين، اللهم اجعلنا منهم يا رب! فالفلاح مرتب على التوبة، ومن أجل أن أكون من المفلحين وأصبح من حزب الله المفلح فلابد أن أتوب، والذي لم يتب يكون ظالماً لنفسه، وقد يكون فتنة لغيره.
روى الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكثر بالعيب على أخيك فيعافيه الله ثم يبتليك)، وهذه قضية خطيرة، وما من عبد يعيب على أخيه ذنباً إلا ويبتلى بهذا الذنب، فإذا بلغك عن فلان سيئة، وأنه لا يصلي، وأنه لا يصوم رمضان فقل في نفسك: غفر الله لنا وله. والرجل الموظف في مصلحة كذا يقول لك: ستدفع وإلا لن نجهز المصلحة، ثم يقول: أتى الظهر ونحن لم نصل السنة، لا إله إلا الله! يرتكب كبيرة الرشوة ويبحث عن سنة الصلاة! هذه كارثة، بل كوارث.
فكل شخص من الناس مبتلى بذنب معين، وليس فينا واحد صاف.
إذاً: فرحك بالمعصية أكبر من المعصية نفسها.
ونسيانك لرؤية الخالق لك أكبر من المعصية، ولا يوجد هناك شخص يعمل المعصية وربنا لا يراه، فلا تحتقر نظر الله إليك، فربما ينظر إليك الله في المعصية نظرة مقت فيبغضك.
ثم الحزن على فوات المعصية أكبر من المعصية.
فأهل المعاصي -والعياذ بالله- عندما تفوتهم المعصية يغضبون ويقولون: يا خسارة! فاحمد الله أن أغلق في وجهك باب المعصية، ومادام أن الله أغلق في وجهك باب المعصية فقد بدأ يحبك؛ لأن العبد بين أمرين: بين اندفاع من نفسه، وبين تيسير من أمر ربه، فاندفاع نفسه لا يستطيع التحكم فيه، ولكن من توفيق الله وتيسيره له أنه يغلق أمامه باب المعصية.
أولاً: الترك، فالشخص الذي يغتاب يتركها، والشخص الذي يشرب السجائر يترك شربها، والشخص الذي يسمع كلاماً سيئاً يترك سماعه، والذي يسمع أغنية خليعة يترك سماعها، ولا يضع وقته هباءً منثوراً.
فليس عند المسلم وقت للفراغ، وإنما يشغل نفسه بما يرضي الله من أمور معاشه، أو من أمور معاده.
فأول شيء ترك المعصية، ثم الندم.
توبة العامة، وتوبة الأوساط، والوسط يعني: الخاصة، وتوبة خاصة الخاصة، أو توبة العامة، وتوبة الأوساط، وتوبة الخاصة.
وسأبين نوع كل توبة؛ حتى ترى نفسك من أي صنف أنت، أو أنك لست من الثلاثة أصلاً.
يعني: عدل المسألة بفضل ضدها، وأنت إذا كنت تصرف خمسة جنيهات في تذكرة السينما فأخرج خمسة جنيهات لمسكين.
إذاً: توبة العامة: أن نكثر من الحسنات، وهذه أول نوع من التوبة، ولابد من إكثار الحسنات لسببين:
السبب الأول: أن الشخص إذا تاب وعمل الحسنات قلب الله له السيئات التي عملها قبل التوبة إلى حسنات.
والسبب الثاني: أنك -كما يقول الحسابيون أصحاب التجارة ومكاتب المحاسبة- تنقل من حساب إلى حساب، فأنت تنقل من حساب الدنيا إلى حساب الآخرة، فتأتي يوم القيامة وتسحب من رصيدك، ولابد أن تسحب من رصيدك يوم القيامة، سواء بغيبة أو نميمة أو نظرة في حق فلان، فكثر الرصيد قليلاً؛ حتى إذا جاءوا يسحبون يبقي لك قليلاً.
فهذه ثلاثون حسنة، وربنا كريم يضاعف إلى سبعمائة ضعف، ولكن أنت لا تحسبها هكذا، ولكن سل الله القبول فقط.
والحرف في الصلاة في القرآن بمائة حسنة، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يدخل في الصلاة يقول: (وجعلت قرة عيني في الصلاة).
وسيدنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وقف يصلي فسلم فوجد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم جالساً بجانبه، فقال أبو موسى الأشعري : أوتسمعني يا رسول الله؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (يا
ولذلك قال: (اسمع القرآن ممن إذا سمعته قلت: إنه يخشى الله). فإذا أردت أن تسمع القرآن فاسمعه من شخص تقول: هذا الرجل بينه وبين الله شيء، وقد تسمع بعض القراء لكتاب الله ولا تشعر أن لسانه يتلو، ولكن تشعر أن قلبه هو الذي يقرأ عليك.
قال الحسن البصري: سمعت القرآن من ابن مسعود ، فلما ترقى بي الحال -حال الإيمان- صرت كأني أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ترقى بي الحال صرت كأني أسمع جبريل يقرؤه على رسول الله، فلما ترقى بي الحال صرت كأني أقرؤه من اللوح المحفوظ.
فهؤلاء ناس هممهم عالية جداً، نسأل الله أن يحشرنا في زمرتهم.
وقد كان سيدنا أحمد بن حنبل رحمه الله مريضاً فيتكئ قليلاً، ويستأذن من تلاميذه فيأذنون له، فإذا ذكر في الحديث أو في الكلام الشافعي أستاذه أو مالكاً أو أبا حنيفة جلس وقال: يجب أن نحترم علماءنا.
هذا وهم غير موجودين.
وكان يقول: الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن. ولذلك نفع الله بعلمهم، وعلمنا رجع إلى الخلف، نسأل الله أن يقدمنا بالعلم، وأن يجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
والقول الثاني: أن اللمم نظرة وليست نظرات، وفي الحديث: (يا
وذهب أحمد بن حنبل يوماً يصلي العصر، فلقي في الطريق امرأة كانت ذاهبة تصلي فظهر منها خلخالها، فوضع الإمام أحمد العباءة على وجهه وعاد إلى البيت، وقال: هذا زمان الفتن.
وقد جاء رجل إلى سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم مرعوباً وقال له: يا رسول الله! هلكت وأهلكت؟ فقال له: (ما لك؟ قال: قبلت جارتي، فقال سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم: أصليت معنا الغداة؟ قال له: نعم يا رسول الله! قال: إن الحسنات يذهبن السيئات)، ففتح له باب الرحمة، ولو أغلقه في وجهه لانتكس.
وقال صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، وسددوا وقاربوا، وكونوا عباد الله إخوانا) يعني: يسروا على الناس.
العقبة الأولى: أنه لم يدرك معنى: التائب حبيب الرحمن، ولم يدرك معنى: المؤمن لا يقع، وإن وقع وجد متكئاً وهي رحمة الله، وهذا مثل العبد إذا وقع وهو يمشي في الشارع في ماء فيه طين وتلوثت ثيابه، أو سقط ابنك من يدك ووقع في الأرض فأخذته إلى أمه في البيت، فغسلت له الثياب المتسخة فتعود نظيفة كما كانت.
العقبة الثانية: البدع، فالبدع تجعل العبد لا يتوب، مثل شخص يذهب إلى الحسين أو السيدة زينب ويطوف حول القبر، فهذه بدعة، وهي مصيبة، فتقول له: تب، فيقول لك: من ماذا أتوب؟ أنا محب لآل البيت وأنت تكره آل البيت، مع أننا لا نكره آل البيت، ولكن الطواف لا يكون إلا حول الكعبة، فصاحب البدعة مقتنع بها.
والمؤذن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الله، فتقول له: هذه غير موجودة، وبلال لم يعملها، فهل أنت أشد حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بلال؟! فيقول لك: ولو، فمن أين يتوب هذا؟! فهو غير مقتنع أنه مذنب، أو أنه على خطأ، ويقول لك: أنا أحب سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم، وكلنا نحبه صلى الله عليه وسلم، ولن ندخل الجنة من غير حبه صلى الله عليه وسلم.
فصاحب البدعة لا يتوب، وهذه عقبة شديدة من عقبات التوبة.
العقبة الثالثة من عقبات التوبة: الإسراف في المباحات، فالأكل والشرب والنوم والإنفاق كل هذا مباح، ولكن لو زادت جرعة المباح فأكل أو شرب أو نام أو أنفق أكثر مما يجب فهو مسرف في الطعام وفي الشراب وفي النوم وفي الإنفاق، قال تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء:27].
العقبة الرابعة: أن الشيطان يضع السم في العسل، فيجعل للمعصية حلاوة، ولذلك سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم على إدراكه لبواطن النفوس يقول: (من رأى امرأة في الطريق فأعجبته فليأت أهله) فهذه امرأة وتلك امرأة.
والشيطان يجعل الشيء الحرام جميلاً، والحلال منفراً.
وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج أناساً يتركون طعاماً طيباً ويذهبون إلى الطعام الخبيث المنتن، فقال صلى الله عليه وسلم: (من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء يرزقهم الله بالحلال فيتركونه ويذهبون إلى الحرام).
وعبد الله الصالح الذي يعرف أن ربنا تاب عليه يحلو في عينيه الحلال، ويقبح الحرام.
وخادم أبي بكر سقى أبا بكر شربة لبن، فلما شرب أبو بكر قال له الخادم: أما سألتني يا خليفة رسول الله؟! قال له: عن ماذا؟ قال له: عن اللبن، قال له: عن ماذا؟ قال له: عن مصدره، قال له: من أين أتيت به؟ قال له: كنت أتكهن لقوم في الجاهلية، يعني: كان يعمل كاهناً في الجاهلية، ويسمى اليوم المنجم، وهو الذي يضرب المندل والودع، ويفتح الكوتشينة، ويقرأ الفنجان والكف والحظ الذي في المجلة، وفي الحديث: (ومن ذهب إلى عراف أو كاهن فصدقه بما قال فقد برأت منه ذمة الله وذمة رسوله).
فهذه كبيرة من الكبائر لابد أن نتوب منها، ولا يوجد داع لصفحة الحظ هذه، وهل هناك ستون مليوناً يجتمعون في حظ واحد؟! فلا تفتح صفحة الحظ لا من باب المزاح ولا من باب الجد.
قال الخادم: كنت أتكهن لقوم في الجاهلية، فمررت بهم فأعطوني منيحة اللبن تلك. فوضع أبو بكر إصبعه في فمه فتقيأ ما شرب، ثم بكى وقال: اللهم إني أعتذر إليك مما اختلط باللحم والعروق؛ لأن بطن أبي بكر لم تتعود على الحرام، ولا تقبله، مثل السيارة لا تمشي إلا بالبنزين، ولو وضعت لها شيء غير البنزين لا تمشي.
وسيدنا سهل بن عبد الله رضي الله عنه وصل به الورع إلى أنه كان إذا مد يده إلى طعام فيه حرام أو شبهة نبض عرق في يده. اللهم ألحقنا بهؤلاء.
العلماء على آراء، فبعض العلماء يقولون: يرجع إلى نفس الدرجة التي كان عليها قبل التوبة، ويضربون لذلك مثلاً: فيقولون: لو أن شخصاً وقع في بئر فجاء أخ له في الله فخلصه، فإنه لما خلصه أخرجه إلى الأرض والمكان الذي كان فيه مرة ثانية.
وآخرون يقولون: يرجع بعد التوبة إلى درجة أفضل من الدرجة التي كان عليها قبل الذنب، وقالوا: هذا الذي وقع في البئر قد ابتلت ثيابه واتسخت، فأخذه صاحبه إلى البيت، وأخذ منه الثياب القديمة المتسخة وأعطاه ثياباً نظيفة، فعاد إلى درجة أحسن من التي كان عليها قبل أن يقع في البئر.
وهناك رأي آخر يقول: يرجع إلى درجة أقل؛ لأنه لما وقع في البئر إما أن يصاب وجهه بجروح، أو تكسر يده أو رجله.
وخذ الرأي الذي يعجبك أنت، ولا يوجد داع لأن أملي عليك رأياً.
وعلى هذا فإذا تاب العبد من ذنب وارتكب ذنباً آخر فلا تقبل منه التوبة، لأنه فتح على نفسه باب جهنم من ذنب آخر، مثل الشخص الذي كان لا يصلي ثم بدأ يصلي لكنه يغتاب الناس، فإن صلاته تمحو ما بينه وبين الله لا ما بينه وبين الناس.
فالذنب الذي بين العبد والعبد لابد فيه من المسامحة، وحقوق الناس لابد أن تعاد.
إذاً: فالقلب الذي لم يذنب هو مثل المرآة البعيدة عن البخار، والقلب الذي أذنب وتاب مثل المرآة التي أصابها البخار ونظفت، ففيها قليلاً من الغبش.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر