إسلام ويب

ابتلاء الأنبياءللشيخ : مصطفى العدوي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن للابتلاء حكماً وفوائد كثيرة جداً، فهو يكفر الذنوب، ويرفع الدرجات، وتنال به الإمامة في الدين وتنال به محبة الله سبحانه. وإن من أشد الناس بلاءً الأنبياء، فإن من نظر في سيرهم وما لاقوا من الابتلاءات وما كانوا عليه من صبر يدرك استحقاقهم لهذه المنزلة التي بلغهم الله إياها.
    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .

    ثم أما بعد:

    فإن محبة الله تبارك وتعالى تتمكّن من القلوب وتنمو وتربو وتزداد بالاطلاع على كتاب الله عز وجل، وبالنظر إلى سنن الله تبارك وتعالى في خلقه، وبالنظر إلى الحكم والغايات المترتبة على هذا القضاء والقدر. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون:75] ، أفادت الآية الكريمة المباركة -وكتاب الله كله كريم ومبارك، وصحفه كلها مطهرة- أن الله سبحانه وتعالى إذا عافى الناس في أبدانهم وعافاهم في أموالهم وذرياتهم تمادوا في الغي، واستمروا في الظلم والعتو والفجور، ولكن يكسر العبد حتى تقف مسيرته الفاجرة إلى فجوره، يمرض حتى تنقطع آماله في اغتراف المآثم والجرائم، فيبتلى العبد لوقف مسيرة الطغيان التي هو فيها سائر.

    وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أخرجه الإمام أحمد وغيره من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل ليحمي عبده من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم من الطعام والشراب وأنتم تحبونه)، فكما أن مريضك يتطلع إلى الطعام الشهي وإلى الشراب الهني، وأنت تعرف ذلك تمام المعرفة، لكن تمنعه من طعامه، وتمنعه من شرابه، ليس كراهية له، إنما محبة له وحفاظاً عليه، كذا ربكم سبحانه يحمي عبده من الدنيا وهو يحبه حتى لا يقع هذا العبد فيما حرّم الله تبارك وتعالى، وفيما نهى عنه، وفي الحديث عن رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع) ، وكلكم قد علم أن مزيد النعم تحمل على مزيدٍ من الطغيان، وأن الابتلاءات ترد العبد إلى ربه رداً جميلاً.

    أما كون النعم تحمل على الطغيان فقد تضافرت بذلك الآيات والأحاديث، قال الله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى:27] ، وقال تعالى: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7] ، وقال تعالى: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا [الإسراء:83] ، وقال تعالى: ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر:8] ، فجرت سنة الله في الخلق على أنهم إذا أمدوا بالعافية والمال والجاه والولد بدءوا في الطغيان والتطاول على الخلق، فيبتليهم الله بالبلايا، بلاءً تلو بلاء؛ لإرجاعهم إلى طريقه.

    قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ [الأعراف:94]، لماذا أخذناهم بالبأساء والضراء؟ قال تعالى: لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الأعراف:94] أي: لعل أكف الضراعة منهم ترتفع إلى الله تسأله وترجوه وترغب إليه وتلجأ.

    وقال تعالى أيضاً في كتابه الكريم: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76]، فيفترض أن العذاب والبلاء يحدثان استكانة لله رب العالمين.

    وقال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ [الأعراف:130] أي: بسنوات الشدة وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:130] .

    وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن كفار قريش: (اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف)، ذلك حتى يرجعوا إلى دينهم.

    فاستفيد من ذلك كله أن من أجلِّ مقاصد البلاء وأعظمها أن يرجع الشخص إلى دينه، فأستفيد -أنا وأنت أيها المسلم- من البلاء أن نستكين لربنا، وأن نرجع إليه، وأن نغنم من هذا البلاء رجعة وأوبة إلى الله تبارك وتعالى، وكذا نغنم استغفاراً.

    تكفير الذنوب والخطايا ورفع الدرجات

    فالحكم والغايات من وراء الابتلاءات والمحن كثيرة جداً، لا يعلم أمدها ولا مداها إلا الله تبارك وتعالى، فمن أجل مقاصد تلك الابتلاءات التي تحل بنا:

    - أن نخرج منها وقد تحاتت عنا الذنوب والخطايا كما يتحات ورق الشجر.

    قال نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بذلك من خطاياه)، وفي رواية: (إلا تحاتت عنه خطاياه -أي: تساقطت عنه خطاياه- كما يتحات ورق الشجر) .

    ولما نزل على رسولكم محمد عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123] بلغت من الصحابة مبلغاً شديداً فشكوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام ما أصابهم من الهم وقالوا: (أينا لم يعمل سوءاً يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: أبشروا وسددوا وقاربوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة لذنوبه).

    وفي الحديث الآخر: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـأبي بكر رضي الله عنه لما شكا بشكوة مماثلة: (يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تتعب؟ ألست تصيبك اللأواء؟) أي: أن كل ذلك تكفر به الخطايا وتمحى به الذنوب.

    ولا يخفى عليكم أن نبيكم محمداً عليه الصلاة والسلام كان يُبتلى ابتلاءً أضعاف أضعاف ما يبتلى به غيره، دخل عليه ابن مسعود رضي الله عنه وقد وعك وعكة شديدة فقال: (أراك -يا رسول الله- يضاعف عليك البلاء، أذلك بأن لك أجرين؟ قال: أجل، إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا الأجر كما يضاعف لنا البلاء) .

    وتعلمون كذلك أن رسولكم عليه الصلاة والسلام دخل على امرأة يقال لها أم السائب وهي تشتكي الحمى وترجف ويرجف جسمها فقال لها: (مالك يا -أم السائب- تزفزفين؟ قالت: يا رسول الله! الحمى لا بارك الله فيها. فقال عليه الصلاة والسلام: لا تسبي الحمى)، وأخذ منه: أن الأمراض لا تسب فإنها كفارات، (لا تسبي الحمى فإنها تذهب بخطايا بني آدم كما يذهب الكير بخبث الحديد).

    إذاً: استفدنا من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تسبي الحمى) أننا لا نسب عموم الأمراض؛ لأنها تمحو خطايا بني آدم، فالذي يطلقه الأطبـاء على مرض السرطان -عافانا الله وإياكم منه- إنه مرض خبيث، لا ينبغي أن يطلق هذا الإطلاق؛ وذلك لأن السرطان شأنه كشأن غيره، بل شأنه لشدته أعظم من شأن غيره في محو الخطايا وإزالة الذنوب.

    فينبغي أن ندقق -أيها الإخوة- في الاصطلاحات التي نطلقها حتى لا تتضمن وصفاً لشيء بعكس ما هو فيه، وحتى لا تتضمن اعتراضاً على قضائه وقدره.

    إن نبيكم محمداً عليه الصلاة والسلام أتته أمة سوداء تشكو إليه ما مسها من الضر، كي يدعو الله لها، قائلة: (يا رسول الله! إني أصرع -يصيبها الصرع- فادع الله لي، فقال عليه الصلاة والسلام: إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت صبرتي ولكٍ الجنة. قالت: أصبر يا رسول الله! ولكن ادع الله لي ألا أتكشف) أي: لا تنكشف سوءتي أثناء صرعي، فدعا الله لها ألا تتكشف، فكانت تصرع ولكن ببركة دعوة رسول الله لا تتشكف، فكان الحبر الكريم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما إذا رآها وقد تعلقت بأستار الكعبة تدعو ربها سائلة راجية مستغفرة يقول: (من سره أن ينظر إلى امرأة من أهل الجنة، فلينظر إلى هذه الأمة السوداء المتعلقة بأستار الكعبة) ويقص ابن عباس رضي الله عنهما على المسلمين خبرها.

    أيها الإخوة: قد عاد نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام مريضاً أعرابياً، وكما لا يخفى عليكم فالأعراب جمعوا مع جفاء القلوب جهلاً بالشريعة وأحكامها (فذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى الأعرابي يزوره ويعوده، فوجده قد حم حمة شديدة، فقال النبي مصبراً ومواسياً: لا بأس، طهور إن شاء الله، فقال الأعرابي: طهور؟ -أي: تقول لي: طهور- بل حمى تفور، على شيخ كبير، تزيره القبور، فقال عليه الصلاة والسلام: فنعم إذاً) أي: أن الأمر إذاً كما اخترت لنفسك، فما دمت اخترت لنفسك ألا تكون الحمى كفارة، وألا تكون الحمى تطهيراً من الذنوب فكما اخترت لنفسك.

    ويذكر الشراح بإسناد يحرر: أن الرجل ما مرت به ليلتان إلا ومات، وذلك لحلول أجله، ثم إنه لم يقبل دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، وهكذا دوماً مصير من لم يستسلم لدعوة النبي له، كما حدث نظيره لرجل يقال له: حزن وهو جد سعيد بن المسيب بن حزن فقد أتى النبي عليه الصلاة والسلام فقال له: (ما اسمك؟ قال: اسمي حزن يا رسول الله! قال: بل أنت سهل، قال: لا أغير اسماً سمانيه أبي يا رسول الله!) قال سعيد بن المسيب رحمه الله : (فما زالت الحزونة فينا) أي: أن الحزن لازمهم على الدوام.

    أيها الإخوة: لقد قال عليه الصلاة والسلام في شأن مرض شديد يحل بالأبدان ألا وهو مرض الطاعون: (الطاعون شهادة لكل مسلم)، وكذا في المبطون إذ قال: (شهداء أمتي خمسة: المطعون -أي: الذي أصابه الطاعون- والمبطون، والغريق، والحريق، وصاحب الهدم) .

    وقال أيضاً: (والمرأة تموت بجمع) أي: التي تموت في نفاسها شهيدة كذلك، كذا قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام.

    وفي الحديث: (يختصم الشهداء والمتوفون على فرشهم في قتلى الطاعون -كل يريد أن يأخذ الذين ماتوا من الطاعون إلى صفه يوم القيامة- يقول الشهداء: يا ربنا! أشبهت دماؤهم دماءنا، ويقول المتوفون على فرشهم: يا ربنا! ماتوا على فرشهم كما متنا على فرشنا، فيقول الله تعالى: انظروا إلى دمائهم، إن أشبهت دماؤهم دماء المتوفين على فرشهم فهم منهم، وإن أشبهت دماؤهم دماء الشهداء فهم منهم، فيجدون دماءهم قد أشبهت دماء الشهداء فيلحقون بهم) فضلاً من الله ونعمة منه تبارك وتعالى.

    أيها الإخوة: لقد قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (من ابتليته بحبيبتيه -أي: بفقدان عينيه- فصبر عوضته خيراً منهما الجنة) .

    أيها الإخوة: إن الدرجات ترفع بالابتلاءات، فكم من شخص منَّا له عند الله منـزلة علية! لا يبلغها بعمله، لا يبلغها بصلاته ولا بصيامه ولا بقيامه، لكن يبلغها بالصبر في الفتن، يبلغها بالهم والحزن، يبلغها بابتلاء في ولد، وبابتلاء من جار شرير مفسد بالصبر عليه، فتبلغ بهذه إلى المراتب التي لم ترفعك إليها صلاتك ولم يرفعك إليها صومك، ولم يرفعك إليها كبير عمل قدمت، لكن تبلغها بالصبر على البلاء.

    إن الفتاة التي تقدم بها السن، ولم ترزق بزوج صالح تقر به عينها، ترتفع درجتها بصبرها على قضاء الله، وعلى قدر الله، وتلك التي تزوجت ولم تنجب لعلها ترتفع كذلك بصبرها عند الله درجات، وعساها وقد حرمت الولد أن تمد يديها لربها سائلة إياه الولد.

    استخراج جوانب من العبودية

    إن الابتلاءات والمحن تستخرج منك جوانب من جوانب العبودية، لا تفعلها وقت رخائك ووقت يسارك، وإن الابتلاءات والمحن تستخرج منك دعوات مباركات كما استخرجت من زكريا عليه السلام وهو يمد يديه إلى السماء: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء:89] وهو يدعو ويقول: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38]. إن هذه الابتلاءات تستخرج منك دعوات لا تستشعر لها طعماً ولا تذوق لها حلاوة إلا عند البلاء.

    تستخرج منك دعوة كتلك التي دعا بها أيوب عليه السلام: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، وكالتي دعا بها نوح عليه السلام: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10] كلها دعوات لا تخرج بإخلاص وبشدة إخلاص إلا مع عظيم الألم وشدة البلاء، فتستخرج أنواعاً من العبودية كالخضوع لله، وكالإخبات إليه، وكحسن التضرع واللجوء، وهذه لا تستخرج في وقت الرخاء واليسار.

    إن الابتلاءات تستخرج منك ما كان مكنوناً، إنها أحياناً تذرف من أقوام الدمع وترقق منهم القلب، فلا تكاد تشعر بنعم الله عليك إلا إذا حرمت هذه النعم، فلا تكاد تشعر بنعمة البصر إلا إذا ابتليت برمد، فإذا ابتليت برمد، أو بدمع لا ينقطع، أو بغشاوة على العين، شعرت بنعمة الله على سلامة البصر، وبنعمة الله إذ عافاك في البصر.

    أيها الإخوة: لا يشعر أحدكم بمعنى قول الله تبارك وتعالى: نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ [الإنسان:28] إلا إذا ابتلي بسلس البول، بلعاب يسيل ولا ينقطع، أو بنخام ونخاعات تنـزل من الأنف وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ [الإنسان:28] معناها: قوينا عضلات التحكم فيهم، فعضلات التحكم في الفم شدها الله وقواها، وكذلك في الأنف، وفي العين، وفي الأذن، وفي القبل والدبر، فلا تشعر بهذه الآية إلا إذا ابتليت بسلس للبول، لا يستطيع له الأطباء علاجاً، إلا إذا ابتليت بإسهال مستمر لا تستطيع التحكم فيه، إلا إذا ابتليت بصديد ينـزل من الإذن لا تستطيع أن تتحكم فيه، فتشعر حينئذٍ بنعم الله تبارك وتعالى عليك نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ [الإنسان:28]، فالابتلاءات كما أن ترق بها القلوب بإذن الله، وبها تشكر نعم الله تبارك وتعالى على العبد.

    إن مصائب حلت لصحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، بل وبرسولنا محمد عليه الصلاة والسلام وكان من ورائها حكم وغايات لا يعلم مداها إلا الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087496127

    عدد مرات الحفظ

    772672653