وبعد:
يقول الله سبحانه في كتابه الكريم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58] .
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ الأمر لمن؟ ظاهر الآية يفيد أن الأمر لعموم الناس.
ومن أهل العلم من قال: هو أمر لعموم المؤمنين، وهذا مبني على قاعدة وهي: هل الكفار مخاطبون بنصوص الشريعة وبفروع الشريعة أو ليسوا مخاطبين بها؟
من أهل العلم من قال: إن الأمر للناس كلهم، وهذا كما سمعتم مبني على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وهي مسألة خلافية، وكون الكفار مخاطبين بنصوص الشريعة أو غير مخاطبين بها تنبني عليها جملة أحكام فقهية لا يتسع الوقت لسردها كطلاق المشرك إذا أسلم، فعلى القول بإن تارك الصلاة كافر مشرك، فلو طلق زوجته أثناء تركه للصلاة ثم أسلم بالصلاة، هل تعتبر تطليقاته التي طلق بها زوجته؟ مسائل متعددة تنبني على هذه القاعدة، لكن لا ندخل فيها.
شاهدنا الآن: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا فيها أقوال:
قال فريق من أهل العلم: إنها خاصة بالمؤمنين.
وقال فريق منهم: إنها للناس كافة.
ومن العلماء من قال: إن هذا كان خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان قد أخذ مفتاح الكعبة من حجبتها وهم بعض بني شيبة، فجاء الأمر من الله للنبي أن يرد لهم مفاتيح الكعبة، لكن الآية أعم من ذلك.
قال فريق من العلماء: إن الأوامر على الوجوب إلا إذا صرفها صارف.
ومن العلماء من فصل بين الأوامر الواردة في فضائل الأعمال والأوامر التي دون ذلك، فمثلاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكاً) ، هل هذا الأمر من رسول عليه الصلاة والسلام يفيد الوجوب أو هو على الاستحباب؟
الجمهور من أهل العلم: أنه على الاستحباب. (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي)، هل هذا على الوجوب أم على الاستحباب؟
قال الأكثرون: إنه على الاستحباب، لكن هنا الأمر على الوجوب.
الأمانات عامة، تشمل الأمانات المالية، وتشمل غيرها من الأمانات، فإذا استؤمنت على مال فالآية موجهة إليك أيضاً، ومن أمانات الطبيب أن يؤدي إلى المريض حقه من التشخيص، ومن أمانات أصحاب الصنائع أن يتقنوا صناعاتهم وينصحوا للناس كما علمهم الله تبارك وتعالى، ومن الأمانات الأمانة العلمية، فالعالم استؤمن على علم عليه أن يؤديه إذا طلب منه، فالأمانات عامة لا تقتصر على الأمانات المالية فحسب، وقد قال فريق من أهل العلم في تفسير قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا [الأحزاب:72] : إن المراد بالأمانة: الغسل من الجنابة، وهذا قول قد يراه الشخص غريباً عجيباً، لكنه قولٌ تقلده عدد من أهل العلم، وقال فريق من العلماء: إنها الأمانة بصفة عامة.
فقوله تعالى هنا: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أمر إيجاب ، أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا إذا طلبوها منكم.
وعلى ذلك فلا يتحاكم إلى قول الشاعر:
قضاة زماننا أضحوا لصوصاً عموماً في البرية لا خصوصاً
ولو عند التحية صافحونا لسلوا من أيادينا الفصوصا
ولو أمروا بقسمة ألف ثوبٍ لما أعطوا لعريانٍ قميصاً
الله يقول: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:181]، والدليل من كتاب الله ومن سنة رسول الله يقضي على أبيات الشعر، والدليل من كتاب الله ومن سنة رسول الله هو الذي يتحاكم إليه.
قال تعالى: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ والعدل في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ هذا يخول للمسلم أن يحكم بين الكفار، وأن يقضي فيهم، قال الله تعالى: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42] فيجوز للمسلم أن يحكم في كفار، وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم على يهوديين زنيا بالرجم، وهذا ثابت في صحيح البخاري وفي غيره، فيجوز للمسلم أن يقضي بين الاثنين ولو كانا من الكفار.
وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ، نعم الشيء يذكركم به الله سبحانه وتعالى.
من المعلوم أن الله قال في كتابه الكريم: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39] فجاءت العين مفردة، وقال: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] فجاءت العين مجموعة، فصفة العينين لله لم ترد صريحة في كتاب الله إنما أخذها العلماء من حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ألا إن المسيح الدجال أعور، وإن ربكم ليس بأعور) فقالوا: نفي العور يعني إثبات العينين، واستدلوا بهذا الحديث الذي سمعتموه عند تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا .
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ أولي الأمر هنا محمولة على الاثنين معاً، محمولة على الولاة ومحمولة على العلماء.
فإذا أمر الأمراء بشيء مخالف لأمر الله فطاعة الله ورسول الله مقدمة على كل الطاعات، والأمر في شأن العلماء كذلك، إذا أتى عالمٌ بشيء يخالف كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام عن اجتهادٍ أو عن غير اجتهاد واتضح لنا أن الدليل من كتاب الله ومن سنة رسول الله خلاف ما يقول؛ لزمنا اتباع الدليل من كتاب الله ومن سنة رسول الله، والآية شاهدة على ذلك: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ أنتم وولاة الأمر فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ، وقد قال الله تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [الشورى:10].
وعلى هذا سار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع العلماء ومع الأمراء، فكانوا يقبلون من الأمراء أقوالهم، لكن إذا أتى الأمراء بشيء خلاف كتاب الله وسنة رسول الله لم يقبلوه، فهذا عمر المحدث الملهم، الخليفة البر الراشد لما نهى الصحابة عن التمتع في الحج قام له عمران بن حصين
وقال: تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وورد التمتع في كتاب الله، فقال رجلٌ برأيه ما شاء، ونحوه قال علي لـعثمان رضي الله تعالى عنهما، فقول عمر وعثمان رضي الله عنهما كان عن اجتهاد، لكن لما لم ير علي وعمران أن الاجتهاد موافقٌ للدليل ردوا هذا الاجتهاد، وأقبلوا على كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.قال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ أي أنتم وولاة الأمر، وهذا قد يرد، فيختلف الأمير أو العالم مع بعض العامة في مسألة، ليس معناها أنه يكفر بها هذا أو ذاك، إنما إن تنازعتم في شيء (فردوه) أي: ارجعوا الحكم فيه إلى الله وإلى الرسول فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ، والتأويل له عدة معانٍ وقد تقدم الكلام عليها.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ الزعم يطلق على الكلام المشهور بالكذب، وأحياناً يطلق على مجرد القول، قالت أم هانئ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! زعم ابن أمي -تعني
أما القول المشهور بالكذب فهو الاستعمال الأكثر للزعم، أو القول الذي هو خطأ محض زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7].
وهذه الآية قد يقال: المعني بها أهل الكتاب الذين كانوا يقطنون مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا آمنوا في الظاهر بما أنزل على رسول الله، وآمنوا أيضاً بالكتب الذي نزلت قبل رسول الله، لكن لقائل أن يقول: إنهم أهل النفاق، وهذا القول قوي وهو الأنسب؛ لأن أهل النفاق آمنوا جملة بالقرآن وما جاء فيه ظاهراً أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ فقوله تعالى: يُرِيدُونَ يعطي حكماً فقهياً فحواه أن الذي يُجبر على التحاكم إلى الطاغوت غير الذي يريد من قلبه أن يتحاكم إليه، فمثلاً: رجل سرق منه مال، ليست أمامه أي حيلة لاستخلاص هذا المال إلا بهذه المحاكم، والمحاكم تحكم بغير ما أنزل الله، فهل يترك المال يضيع أو يذهب ويأتي بماله عن طريق هذه المحاكم؟ هذه حال يختلف صاحبها عن الذي يريد من قلبه أن يتحاكم إلى الطواغيت في كل شئونه، فقوله تعالى:يُرِيدُونَ يفرق بين المكره على التحاكم إليها الذي يتحاكم إليها لضرورة ولنازلة حلت به وبين مرتاح القلب الهادئ البال أثناء التحاكم إليها الراغب في التحاكم إليها.
فحينئذٍ لا بد أيضاً لاعتبار إصدار الحكم بالكفر على شخص من مراعاة حاله والحامل له على هذا التحاكم، هل هو إكراه؟ هل هو حبٌ قلبي؟ هل هي نازلة حلت به؟
فليس كل من تحاكم إلى الطاغوت كافراً، فأحياناً يجبر الشخص على ذلك، وأحياناً لا يجبر لكن تأتيه بلية تحمله على ذلك، فالأمر يحتاج إلى تفصيل في تنزيل الأحكام على الأشخاص، ليس كما يفعل بعض الناس إذا رءوا شخصاً في المحكمة حكموا عليه بالضلال والكفر، لا، بل الأمر فيه تفصيل، وكل مسألة تحتاج إلى النظر في ملابستها للحكم في شأن مقترفها، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن حاطب بن أبي بلتعة أرسل إلى المشركين يحذرهم من رسول الله يقول ما حاصله: انتبهوا -يا أهل الكفر- فإن محمداً عليه الصلاة والسلام يعد العدة لغزوكم، فأطلع الله نبيه على صنيع حاطب ، فأتي به، فقال عمر المحدث الملهم أمام رسول: دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله! قد خان الله وخان رسول الله وخان المؤمنين، فالرسول يقول مقولة المعلم الذي يعلم أمته: (يا
ففي قوله تعالى:يُرِيدُونَ ما يفيد أن الإرادة من القلب، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ، والطاغوت كل من تجاوز الحد في الظلم والطغيان، شيطاناً كان -والشيطان كبيرهم-، أو كان كاهناً أو ساحراً أو حاكماً بغير ما أنزل الله أو غير ذلك، فكل من تجاوز الحد في الظلم والطغيان فهو طاغوت، قال تعالى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:43]، إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة:11].
يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ومن أهل العلم من قال: إن الطاغوت هنا هو كعب بن الأشرف ، فعلى هذا أوّل الآية فقال: كانت طائفة من أهل النفاق ترغب في التحاكم إلى كعب بن الأشرف مع أنها زعمت أنها مؤمنة بالله وما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ والأمر بالكفر بالطاغوت وارد في هذه الآية وفي غيرها من الآيات، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] ، واجتناب الطاغوت متضمن للكفر بكل ما يعبد من دون الله، وكل ما يطاع من دون الله، فيلزم المسلم أن يكفر بكل ما يعبد من دون الله.
فيجب على كل مسلم أن يكفر بكل شرع لم يشرعه الله سبحانه وتعالى، ولم يشرعه رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، فهذه من أصول ديننا ومن المسلّمات، من أصول الدين أن يكفر بكل شرع غير شريعة الإسلام، وبكل كتاب غير كتاب الله والكتب التي أنزلها الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:60] ، يضلهم بماذا؟ يضلهم بحملهم على التحاكم إلى الطاغوت، فالآية أفادت أن من تحاكم إلى الطاغوت فقد ضل ضلالاً بعيداً، وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ بإغوائهم وسوقهم إلى التحاكم إلى الطاغوت يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ هلموا وتحاكموا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا فكل من صد عن كتاب الله وعن سنة رسول الله فهو منافق، رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا .
في الآية أن المعاصي سبب لنزول النقم من الله سبحانه وتعالى، فالمصائب تأتي بسبب الصد عن سبيل الله فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ، فالمصيبة نزلت عليهم لما اقترفوه من صد عن كتاب الله وصد عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على هذا؛ فالحال التي نحن فيها ونعيشها مؤذنة بنزول المصائب علينا لولا رحمة الله سبحانه وتعالى بنا.
فالصد عن سبيل الله سببٌ لنزول المصائب من الله تعالى كما أثبتته الآية الكريمة فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ أي كيف يكون حالهم إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم؟ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ما أردنا بإبعادنا الناس عن الكتاب والسنة إلا الإحسان والتوفيق، وهذا شأن أهل الإجرام والفساد، يصرفون الناس عن كتاب الله وعن سنة نبيه محمد ويقسمون أنهم من المصلحين! (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا) أي: ما أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً، ونحو ذلك قاله فرعون لقومه: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29]، فهؤلاء أهل النفاق كذلك يقولون: إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا .
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ والذي في القلوب سبب لجلب رحمة الله، وسبب لنزول العذاب من الله، فإذا كان الذي في قلبك خير نزلت عليك السكينة، قال تعالى في سورة الفتح في شأن أصحاب نبيه محمد عليه الصلاة والسلام: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18]، فأصلح قلبك وعلى قدر ما فيك من الصلاح يأتيك الخير.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الأنفال:70-71] فرزق الله يأتي مع أخذ السبب بناءً على ما في القلوب، لما جاء العباس إلى رسول الله وكان في الأسر، وقال: يا رسول الله! والله! إني كنت مسلماً فرد علي الفدية التي أخذتها مني، فنزل: قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ [الأنفال:70]، فالأجر مرتب على الخير الذي في القلوب، والعذاب كذلك مرتب على الشر الذي في القلوب، قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ العلم بما في القلوب ليس لك يا رسولنا محمد! إنما مرده إلى الله سبحانه وتعالى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ لا تكثر الجدل معهم، ولا الحديث معهم، ولا الجلوس معهم.
وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا هنا أيضاً في هذه الآية فضل الفصاحة والبلاغة، فالذي يتعلمها ابتغاء وجه الله لبيان كتاب الله ولبيان سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقرارهما في قلوب العباد بإذن الله له نيته، ويثاب على ذلك وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا فيه فضل البلاغة والفصاحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحراً)، يمكن أن تقول له مقالة طيبة تسحر قلبه بإذن الله وتحوله من الشر إلى الخير، بناءً على الكلمات الطيبة، ولذلك كان أنبياء صلوات الله وسلامه عليهم على هذه الشاكلة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أوتيت جوامع الكلم).
وقال تعالى هنا: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ ولكن هذه الطاعة منكم لأنبياء الله لا تكون إلا بإذن الله، فالقلوب لا يملكها إلا هو سبحانه وتعالى، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس:100] فطاعة العبد لله إنما هي من الله سبحانه وتعالى ومن توفيق الله للعبد، ولذلك يقول أهل الإيمان: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43].
والآيات في هذا الباب في غاية الكثرة وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:7] فالمهتدي من هداه الله.
هنا أورد الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى قصة العتبي ، وقد ليم الحافظ ابن كثير على إيراده لها مع سكوته عليها، وهذه إحدى المآخذ التي أخذت على الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى، فهو وإن كان مسدداً في تفسيره، والغالب عليه التوفيق إلا أن هذا من المآخذ التي أخذت عليه رحمه الله تعالى، أورد قصة العتبي الذي كان جالساً بجانب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجلٌ يثني على رسول الله ويقول: جئتك مستغفراً يا رسول الله! فاطلب من الله أن يغفر لي وأنشد أبيات شعر:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه... إلى آخر أبيات الشعر ثم انصرف الرجل، فنام العتبي فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال له: اذهب إلى الأعرابي وقل له: إن الله قد غفر لك، فهذه القصة لا نعلم لها إسناداً البتة، ثم هي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يؤخذ منها دليلٌ ملزم، ثم هي رؤيا منامية والرؤيا المنامية لا تبنى عليها أحكام، فأخذ منها أهل التصوف أنهم يذهبون إلى قبر الرسول، ويطلبون من رسول الله أن يستغفر لهم ربه، ولو كان الأمر على ذلك لفعله أصحاب الرسول الكبار كـأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فهذا وجه المؤاخذة على الحافظ ابن كثير إذ لم يعلق عليها تعليقاً يليق بها، ويبين ما فيها، والله أعلم.
فالحاصل أن طلب الاستغفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حياته، كما قال أمير المؤمنين عمر : (استغفر لي يا رسول الله!)، ولو كان طلب الاستغفار من رسول الله بعد موته مستساغاً لفعله كبار الصحابة، وقد تقدم أن المسلمين لما نزلت بهم نازلة المجاعة استسقوا بـالعباس، ولم يذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قبره طالبين منه أن يدعو الله عز وجل لهم كي يسقوا.
فتلون وجه رسول صلى الله عليه وسلم، وكان قد أشار عليهما بأمر فيه إصلاح لهما معاً، فقال: (اسق -يا
فإذا جئت إلى شخص وتحاكمت معه إلى كتاب الله، وأنت غير مرتاح القلب لهذا التحاكم فإيمانك ناقص أيضاً مع أنك تحاكمت إلى كتاب الله؛ لأن الله يقول: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا هذا هو الإيمان.
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ، ولهذه الآية مزيدٌ من التعليقات تأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
الجواب: مسألة الظفر يوردها العلماء عند تفسير قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، وهي أن يكون هناك رجل مختلسٌ لأموالك، وتمكنت أنت من شيءٍ من ذلك، إما على سبيل أمانة أودعك إياها، أو احتلت حيلة حتى أخذت جزءاً من ماله أو من متاعه، وبعد ذلك أخذت حقك من هذا المال، فهل هذا جائز أو غير جائز؟
مثلاً: رجلٌ أخذ منك ألف جنيه، وهو مماطل فوجدت له سيارة محملة بضاعة، جئت إلى السيارة وأخذت السيارة بما فيها وانصرفت، فكل هذا يدور حول مسألة الظفر، لكن كمثال لها: رجل استأمنك على مال وقال: خذ هذا المال أمانة عندك لي، ثم بعد ذلك أكل عليك مالاً أو فعل معك مظلمة، هل يجوز لك أن تقتص من هذا المال بقدر المظلمة؟ هذه المسألة تسمى مسألة الظفر، أجازها فريق من العلماء لعمومات؛ من هذه العمومات قول الله تبارك وتعالى: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ [الحج:60]، ولقوله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40].
وقصة هند مع أبي سفيان ، حيث جاءت هند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت -وهي زوجة أبي سفيان -: (إن
ومنع فريقٌ محتجين بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، وبأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال -والإسناد فيه نظر- : (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك)، لكن في هذا الحديث نظر، والراجح عندي أنه ضعيف، واستدلوا أيضاً على المنع بالنهي عن الغدر، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينصب لكل غادرٍ لواء عند استه يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان بن فلان)، فهذه حجج المانعين، والورع يقتضي الامتناع، والحكم يقتضي الجواز، والله تعالى أعلم.
الجواب: الحرير الصناعي جائز للرجال، الممنوع هو الحرير الذي منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما ما اخترعه الناس وأطلقوا عليه اسم الحرير فلا يدخل في الباب، لكن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فلقائل أن يقول بكراهته، والله أعلم.
الجواب: إن كانت تشبه ألوان ثياب النساء فالنبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، وفي الحقيقة أنها تشغل المصلي والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (اذهبوا بخميصتي هذه وائتوني بإنبجانية
الجواب: هذا القول لا نوافق عليه هذا الشيخ الكريم، فإن هذا فيه تسليط لأهل الشر والفساد على المسلمين واختلاس أموالهم بحجة أن المسلمين يتركون حقوقهم تضيع، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنه يجوز لك أن تأخذ حقوقك ما لم ترتكب أنت وسيلة محرمة، فالظاهر -والله أعلم- جواز الاستعانة بالظالم بل جواز الاستعانة بالكافر لأخذ حقٍ من حقوقك الذي اغتصب منك.
النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف، كان أهل مكة يتربصون شراً برسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل النبي صلى الله عليه وسلم في جوار المطعم بن عدي فقال المطعم بن عدي لقبيلته: إني قد أدخلت محمداً في جواري، فهلموا إلى حمل السلاح للدفاع عن محمد صلى الله عليه وسلم، فحملت قبيلته السلاح دفاعاً عن رسول الله، ثم قال لأهل مكة: يا أهل مكة! إن محمداً قد دخل في جواري، فمن تعرض له بسوء، كانت الفاصلة بيني وبينه، ودخل النبي في هذا الجوار، ومن ثم لما أسر النبي صلى الله عليه وسلم أسرى قريش قال: (لو كان
الظاهر -والله أعلم- أنه يجوز لك أن تأخذ حقوقك ولو بالتحاكم إلى هذه المحاكم، وليست إرادتك أن تأخذها بواسطتها، لكن هي حلت بنا، فنحن نختار أقل المفسدتين، فإذا كان رب العزة سبحانه أجاز لك أن تتلفظ بكلمة الكفر خوفاً على حياتك أو إذا أكرهت على ذلك فما هو دون الكفر من باب أولى.
لأنه الآن أصبح لزاماً علينا -رغم أنوفنا- أن نتحاكم إلى هذه المحاكم، مثلاً: الآن التعاملات بين الناس في البيع والشراء تطورت عما كان على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، كان فيها نقد، وكان فيها إلى أجل، وكان فيها رهن، والرسول مات ودرعه مرهونة، والآن قد تبيع لشخصٍ، ولا يعطك المال، ويكتب عليه شيكاً أو وصل أمان، فإن قال لك: ما أعطيك الوصل، ما أعطيك القروش ماذا تصنع؟ هل تقول له: مع السلامة، هي حلال لك، النبي نهى عن إضاعة المال: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال). فلدينا شيئان: إما أن يضيع مالي وهذا أمر يكرهه ربي.
أو أطلب مالي بطريقة لا أرتكب منها إثماً، فالذهاب إلى المحكمة ليس عن إرادتي أن أتحاكم إلى شرع غير شرع الله، وإنما إرادتي أن أستخلص مالي؛ لأن ضياع المال يكرهه الله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.
الجواب: إذا كنت تقرر حقاً فأنت محق، وإذا كنت تقرر باطلاً فأنت مبطل، وأصبحت مهنة لازمة الآن للمسلمين، فإن كنت تنشد الحق فيها وتعمل ما يرضي الله سبحانه وتعالى فأنت محق، وكم من محامٍ نفع الله به المسلمين، فهنا أقول للشيخ الفاضل الشيخ صالح عبد الجواد نسأل الله أن يحفظه: لما منع الوزير البنات من دخول الجامعة بالنقاب، سعى سعياً مشكوراً ونفع الله به، ودخلت مائة وخمسون فتاة الجامعة بالنقاب.
أما إذا كنت تجادل عن الذين يختانون أنفسهم فالله يقول: وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:107].
الجواب: قال فريق من العلماء:إن الموت يطلق على النوم، واهدهم قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)، فقوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55] قال فريق من العلماء: معناها: منيمك ورافعك إلي، وقد جاء في الأثر ما يوضح هذه القصة بأنه ألقيت عليهم الإغفاءة فرفع الله فيها عيسى صلى الله عليه وسلم.
ومن أهل العلم من قال: إن الواو في قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55] لا تقتضي الترتيب، والدليل على أن الواو لا تقتضي الترتيب -مثلاً- قولك: جاء زيدٌ وعمرو، لا يعني: أن زيداً جاء، ثم جاء بعده عمرو، كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27]، فالسلام قبل الاستئناس، يعني: لما تدخل البيت تطرق الباب وتسلم سلام الاستئذان، وإذا دخلت البيت فإنه فاتك الاستئذان، كما قال عمر لرسول الله لما دخل البيت: ائذن لي أن أستأذنك يا رسول الله! فالأصل أن الاستئذان للدخول (سلام الاستئذان) قبل الاستئناس، لكن الآية فيها حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ، فالواو لا تفيد الترتيب فقوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55] لا تعني: أنني متوفيك أولاً ثم رافعك ثانياً.
فإن فسرناها بمنيمك فالأمر مستقيم، أي: إني منيمك ورافعك إلي، وإن فسرت: إني رافعك إلي ومتوفيك بعد ذلك فالأمر ليس فيه إشكال لكن اليقين الذي لا شك عندنا فيه أن الله قال: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! ليوشكن ابن مريم أن ينزل فيكم حكماً مقسطاً، فيقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويكسر الصليب، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد).
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر