فيقول الله سبحانه: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا [العاديات:1-5] كل هذا لبيان ماذا؟
قال تعالى بعد هذا: إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات:6] أي: لكفور جحود، فإلى متى أنت وحتى متى تذكر المصائب وتنسى النعم؟!
العدو: هو الجري، فالحقيقة أنه قسم بصفة.
فـ(العاديات) جمع عادية، والعدو معروف وهو: الجري، فأقسم الله سبحانه وتعالى بشيء يجري ويضبح، والضبح هو صوت النفس الشديد بعد الجري، فما المراد بالعاديات التي أقسم الله بها؟
جمهور العلماء قالوا: العاديات هي الخيل التي تجري وتعدو بسرعة نحو العدُوّ، هذه المناظر كان يعرفها العرب ويألفونها، مناظر تستقر في الأذهان؛ لأن على إثرها يتم وقتل أو أسر أو نصر أو هزيمة، خيول تجري مسرعة بسرعة فائقة مندفعة نحو العدو، فيحصل معها إما قتل لهذا أو قتل لذاك، أو نصر لهذا وهزيمة لذاك.
فأقسم الله بالعاديات التي هي الخيول التي تجري مسرعة نحو العدو، وتضبح بعد جريها، أي: تأخذ نفساً شديداً وتحمحم حمحمة بعد هذا الجري، فالضبح هو: صوت الأنفاس، وهو الحمحمات، (وَالْعَادِيَاتِ) أي: والخيل العاديات التي تجري نحو العدو بسرعة.
وهنا لفتة سريعة:
وهي أن الله أقسم بالخيل العادية ولم يقسم بالخيل التي تحمل الزبالات، بل بالخيل العادية القوية التي تجري نحو العدو، فهناك تفاضل بين الدواب، فهناك فرس نشيط همته عالية، وفرس كسول، فرس لا يرضى أن يقف عند المزابل بل يمشي سريعاً إلى القتل والقتال، وفرس خامل بليد، رضي بالذلة والهوان، ورضي بالوقوف عند المزابل إلى غير ذلك.
فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا [العاديات:2]، يوري أي: يستخرج الشرر، قال تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ [الواقعة:71] أي: التي توقدون وتستخرجون شررها أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ [الواقعة:72]، (فَالْمُورِيَاتِ)، أي: الخيل إذا جرت واحتكت حوافرها بالأحجار وكانت سريعة في جريها، يخرج شرر من أثر احتكاك الحوافر بالأحجار، فتقدح الشرر أثناء جريها من شدة سرعتها.
العاديات ضبحاً: الخيل التي تجري بسرعة فائقة، فيخرج منها النفس، وتخرج منها الحمحمات، وهذه الخيول توري النيران وتستخرج الشرر من الأحجار التي تحتك بها أرجلها.
(فَالْمُغِيرَاتِ) أي: الخيل التي تغير على العدو صباحاً، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا [العاديات:3] أي: الخيول تجري في الصباح مسرعة نحو العدو، يسمع لأنفاسها صوت، تحتك حوافرها بالأحجار فتستخرج الشرر، هذا كله على تأويل العاديات على أنها الخيل.
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا [العاديات:4] أي: بهذا الفرس القوي السريع، ومعنى (أثرن): أي: رفعن، والنقع: هو الغبار، يعني: من سرعته هيج التراب، حين تمشي السيارة مسرعة يخرج الغبار خلفها فكذلك الخيل، أثرن به نقعا، من الإثارة، فينفعل ويخرج كل ما عنده.
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً [العاديات:5] أي: توسطنا بهذه الخيول جموع العدو، فالخيل هذا تمثيلها، خرجت مسرعة شديدة في الصباح في اتجاه العدو، فاستخرجت عند جريها الشرر من الأحجار، فتوسطت المعركة، فأثارت الغبار أثناء سيرها، ودخلت في وسط جموع العدو، وهذا التأويل عليه الأكثر.
(وَالْعَادِيَاتِ) الإبل التي تعدو من عرفات إلى مزدلفة، وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا [العاديات:1] نفس الشيء يسمع لها صوت فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا [العاديات:2] نفس الشيء تستخرج الشرر بأقدامها.
فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا [العاديات:3-5] قال بعضهم: إن ( جمعاً ) هنا هي مزدلفة، فمزدلفة يطلق عليها جمع، وهي أيضاً تغير في الصباح، أي: تتجه من مزدلفة إلى منى بعد الفجر، وهنا تأويلان للآية:
من العلماء من نزل العاديات على الخيل.
ومنهم من نزلها على الإبل. والأمر في هذا قريب.
ومنهم من نزلها على القتال.
ومنهم من نزلها على الحج، والأمر يحتمل الاثنين معاً كذلك، والتفسير بالعموم أولى من التفسير بالخصوص.
وهذا القول الأخير على ما يحضرني مروي عن علي رضي الله عنه.
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا [العاديات:5]، إما بالجمع الذي هي جموع العدو، وإما جمع التي هي مزدلفة.
من العلماء من قال: (وَإِنَّهُ) راجع إلى الرب، أي: إن الرب شهيد على كفر الإنسان وعلى جحوده، وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ [العاديات:7]، أي: وإن ربه على كفر عبده وجحوده لشاهد.
ومنهم من قال: إنه قوله: (وَإِنَّهُ)، راجع إلى الإنسان، أي: والإنسان شاهد على نفسه، بأنه جحود لنعم الله سبحانه وتعالى، تشهد عليه في الآخرة جوارحه، وضميره يشهد عليه كذلك أنه جحود، إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات:6]، أي: كفور جحود، هذا على الغالب، لكن لا يمنع أن من الناس من هو مؤمن، فقد يتجه إلى الآية قولان:
أحدهما: أن المراد بالإنسان الإنسان الكافر، لكن إن قيل: ومن أين هذا التقييد بالكافر؟
فالإجابة: أن الشرع يستعمل اللفظ على أغلب ما وضع له، قال تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]، والآية الأخرى: وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة:99]، فأطلق على الأكثر، أي: فالمراد الأكثر والأغلب.
أو يقال: إن عموم الناس لا يستطيعون أن يؤدوا شكر نعم الله سبحانه وتعالى، فمع صلاة الإنسان وصومه فذلك لا يوازي نعم الله عليه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا ..) فالوجهان واردان.
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ [العاديات:8]، رجع الضمير إلى الإنسان، (وَإِنَّهُ)، أي: الإنسان (لِحُبِّ الْخَيْرِ): الخير في أكثر الآيات في الكتاب العزيز يطلق على المال، إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [البقرة:180]، أي: إن ترك مالاً.
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ [العاديات:8]، أي: المال، وشاهدها: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، أي: (وَإِنَّهُ)، طبيعة الإنسان، لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، محب المال بشدة: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثا).
أَفَلا يَعْلَمُ [العاديات:9]، هذا الإنسان الجحود المحب للمال الشديد، إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ [العاديات:9]، أي: استخرج وأثير من في القبور، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [العاديات:10]، (حصل) أي: مُيز وبُين ووضح ما في الصدور.
فالمعنى: هذا الكفور المحب للمال حباً شديداً، الذي حمله حبه للمال على إضاعة دينه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص الرجل على المال والشرف لدينه)، أي: حرص الشخص على المال، وحرصه على الشرف والجاه والمنصب يفسد دينه كما يفسد الذئبان الجائعان زريبة الغنم إذا نزلا فيها، كيف يصنعا بالغنم؟
يمزقان الغنم تمزيقاً، كذلك هذا الحريص على المال والجاه والشرف، يمزق الدين كما تمزق الذئاب الجائعة الأغنام في زريبة الغنم.
فالله يقول: أفلا يعلم هذا الإنسان الحريص على المال المحب له، الذي حمله هذا الحب على اكتسابه من الحرام وعلى ظلم العباد والتعالي عليهم والتكبر، أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ [العاديات:9]، أي: استخرج وأثير من في القبور، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [العاديات:10].
لأنه معلوم بداهة أنك مسئول حينئذٍ، إذا أخرجت من القبر وحصل ما في صدرك، فبُين أن هذا خير.. هذا شر.. نيته صالحة.. نيته فاسدة.
فالجواب: أن الآية كقوله أيضاً: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]، أليس الملك في الدنيا لله كذلك؟! فلماذا قيل: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]؟
وذلك والله أعلم لأن المقام بالنسبة للملك أنه قد يدعي رجل في الدنيا أنه ملك، وينازع ربه أمام الناس، لكن يوم القيامة ليس هناك مدع لهذا، فلا أحد يدعي أبداً أنه الملك، وأيضاً في قوله: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ [العاديات:11]، المقام مقام حساب لما في الصدور؛ لأنها استخرجت، فالمقام مقام حساب حتى تبين رهبة المقام، وحتى تدل هذه الدلالات على التحذير والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر