الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين؛ سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فعن أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أُطعمكم، يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته؛ فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تُخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً؛ فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما يُنقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه رواه مسلم .
وهو من أزهد الناس في الدنيا رضي الله تعالى عنه، وقد ظلمه كثير من الناس فيما يتعلق بأمر الدنيا، واتخذوا زهده ذريعة إلى مبادئ فاسدة.
أبو ذر رضي الله تعالى عنه كان زاهداً في الدنيا وليس لديه أولاد، وكان يكتفي بما في يده، وكم من شخص خرج مما في يده إلى الله ورسوله؛ فـالصديق رضي الله تعالى عنه يأتي بكل ما يملك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق شيئاً لهم، فيقول له: (يا
عثمان رضي الله تعالى عنه وهو الخليفة الراشد يجهز جيش العسرة من ماله الخاص، لماذا لم يتأسوا بـعثمان ويطلبون الدنيا من حِلها ويصرفونها في سبيل الله؟
ابن عوف عندما جاءت تجارته كان يتصدق بالبعير وما حمل، وعندها يُعطى أرباح مائة في المائة يقول: عندي زيادة عشرة أضعاف، فيقول له التجار: نحن تجار المدينة ولا يوجد أحد غائب يعطي أكثر من الضعف، فيقول: هي في سبيل الله فالحسنة بعشر أمثالها، فلماذا لم يتخذوا من ابن عوف التاجر الكبير ولم يتخذوا عثمان مثالاً؟
لماذا لم يتخذوا الزبير مثالاً وقد كان عنده أربع زوجات، والأربع لهن الثمن، وميراث الواحدة منهن مئات آلاف من الدنانير، وكان له في المدينة ومصر والعراق والشام البيوت والضياع، لماذا لا يتخذون هؤلاء أسوة لهم ويأتون إلى أبي ذر ؟
يكفينا بأنه أصدق الناس لهجة كما شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (رحم الله
فقالوا: الذي يرويه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي: السنة المطهرة. وهذا وإن كان الأصل فيها وحي من الله إلا أنه أُسند إلى رسول الله أن يعبر عن هذا بمنطقه الخاص، وبأسلوبه النبوي الكريم.
القسم الثاني: القرآن الكريم، وهو من عند الله، ولكن ليس لأحد حق التصرف في إيراده، ولا يجوز أن يروى بالمعنى، ويشترط فيه: أن ينزل به جبريل عليه السلام من الله إلى رسوله.
القسم الثالث: الحديث القدسي، وهو وسط بين القرآن والسنة النبوية، وقد يأتي به جبريل، وقد يراه النبي صلى الله عليه وسلم مناماً، وقد ينفث في روعه، وقد يلهم به إلهاماً، فكل ذلك من أقسام الحديث القدسي.
ما الفرق بين هذه الثلاثة؟
قالوا: أما الأحاديث النبوية والمعروفة بالسنة المطهرة، فهي: ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن)، وقال: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه..) ، و: (إنما الأعمال بالنيات) .. كل هذا يقوله صلى الله عليه وسلم مسنداً إليه.
أما القرآن: فهو ما نزل به جبريل من الله على رسوله.
وأما الحديث القدسي فهو: ما يوحى بمعناه ويسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانه، ولكن في إيراده صلى الله عليه وسلم للناس يقول: (عن ربي)، أو: (بما أمرني ربي)، أو ( أوحى إلي ربي)، أو (عن رب العزة)، أو (عن الله تعالى) أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما يتكلم بالحديث القدسي يسند الرواية إلى الله، كما أن الصحابي يسند الرواية في السنة إلى رسول الله، فالرسول يقول: قال الله تعالى كذا.
أولاً: في المصدر، ففي القرآن: لابد من مجيء جبريل به من الله إلى رسوله، وقالوا: الوحي من حيث هو أعم من أن يأتي به ملك؛ لأن الوحي في اللغة: هو الإعلام بخفية، ولما سئل صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي يا رسول الله؟! قال: (أحياناً يأتيني الملك كصلصلة الجرس، فيأخذني الوحي ثم ينفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك في صورة رجل) ، وفي الصورة الأولى قال: (وهو أشقه عليّ) ، وفي الثانية قال: (أحياناً يأتيني الملك في صورة رجل فآخذ عنه).
وذكروا من أحوال الوحي: أن يكون مناماً، وأن ينفث في روعه ويلهم، ولكن اتفقوا على أن القرآن لم يؤخذ مناماً ولا إلهاماً ولا نفثاً في الروع، ولابد أن يتلقاه بواسطة الملك: إما أن يأتيه كصلصلة الجرس، وإما أن يأتيه الملك بصورة رجل ويعلم أنه جبريل، ويُلقي عليه القرآن الكريم.
أما بقية أنواع الوحي فيمكن أن تأتي بإلهام ونفث في روعه، والنفث في الروع قد يكون لبعض عباد الله الصالحين ممن يلهمهم الله الحق.
وقد جاء في قصة بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، فجاءوا ليلاً ونزلوا على حي من العرب وطلبوهم القِرى على عادة العرب، قالوا: أنتم جئتم من عند الرجل الصابئ، فليس لكم عندنا شيء، فذهبوا عنهم، ولما نزلوا قريباً منهم سلط الله عقرباً على سيد الحي فلدغته، فجاء واحد منهم، قال: هل فيكم من راق؟ قال: نعم، قال: إن سيد الحي قد لدغ بعقرب، قال: لا رقية لكم حتى تعطونا جُعلاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، فقرأ عليه سورة الفاتحة، فإذا به ينشط وكأنه ما أصيب بشيء، فجاء بالغنم يسوقها، فقال له أصحابه: بم جئت به؟ قال: رقيت لهم سيد الحي، قالوا: وماذا فعلت؟ قال: قرأت سورة الفاتحة، قالوا: وكيف تأخذ أجراً على قراءتك كتاب الله، واختصموا في أخذ الأجر، هل نقتسمها ونأكلها؟ ثم قالوا: لا نأكلها حتى نرجع إلى رسول الله ونسأله، ثم احتفظوا بالغنم وجاءوا إلى المدينة، فأخبروا رسول الله بالخبر، فقال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله، اقتسموها واضربوا لي معكم بسهم، ثم قال للرجل: ماذا قرأت؟ قال: قرأت الفاتحة، قال: وما أدراك أنها رقية، قال: شيء نفث في روعي) أي: بهذا الإحساس، ووجدت هذه الأريحية واسترحت إليها فقرأت والله سبحانه وتعالى أجابني.
فإذا كان شخص من عامة الأمة ينفث في روعه ما يوافق الحق؛ فسيد الخلق صاحب الرسالة من باب أولى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3].
- القرآن لابد من أن يأتي به جبريل، والحديث القدسي لا يشترط فيه ذلك.
- القرآن لا يجوز روايته بالمعنى، والحديث القدسي يمكن روايته بالمعنى.
- القرآن بلفظه من كلام الله، والحديث القدسي لا يجب أن يكون بلفظه من كلام الله.
- القرآن لا يمسه إلا المطهرون، والحديث القدسي لا يشترط فيه ذلك.
- القرآن ركن في الصلاة من الفاتحة أو غيرها، الحديث القدسي لا تصح به الصلاة، بل ربما لو تعمده لبطلت الصلاة.
- القرآن لا يباع عند من لم ير جواز بيعه، والحديث القدسي بخلاف ذلك.
- القرآن الحرف في تلاوته بعشر حسنات، والحديث القدسي بخلاف ذلك.
- القرآن من جحد منه حرفاً واحداً كفر، والحديث القدسي لو نفى الحديث كله، وقال: لم يصح سنده لم يكفر بذلك.
- القرآن لابد أن يكون ثبوته متواتراً من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يصل إلينا، والحديث القدسي ليس بشرط فيه، فقد يكون حديثاً قدسياً وسنده ضعيف.
إذاً: تلك هي الفوارق بين الحديث القدسي الذي يُنسب إلى رب العزة سبحانه فيما يرويه عنه نبيه، وبين القرآن الكريم الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
أما الحديث النبوي فهو الذي يرويه الصحابي بسماعه عن رسول الله، قال لنا رسول الله كذا، وعلى هذا تكون السنة أقوالاً وأفعالاً وإقراراً، وبعضهم يزيد أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهنا أبو ذر رضي الله تعالى عنه يقول لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه، إذاً: هذا الحديث من الأحاديث التي تسمى الأحاديث القدسية.
وقد جمعها المجمع العلمي في القاهرة، وبعضهم يقول: صح منها مائة حديث، والمجمع جمع أكثر من ثلاثمائة حديث، بحسب ما جاء في كتب السنة، سواء من صحيح البخاري أو مسلم أو أبي داود أو الترمذي أو النسائي أو ابن ماجة، أو موطأ الإمام مالك.
كل كتب السنة كما تروي السنة النبوية تروي ضمنها الأحاديث القدسية؛ لأنها وإن كانت قدسية تروى عن رب العزة لكن يرويها عن الرب سبحانه الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي تجمع مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
(يا): حرف نداء، وينادى أيضاً بالهمزة: أزيد! وبالهاء: هزيد! و(يا) إنما تكون للبعيد، والهمزة تكون للقريب، والهاء للوسط، والبعيد إنما تناديه بـ:(يا) حتى يمتد الصوت ويبلغ من كان بعيداً عنك. ويكون البعد: إما بعد مكان، وإما بعد منزلة؛ فإذا كان شخص رفيع المنزلة، فلا تقول له: أأميرنا، أملكنا، بل: يا ملكنا، يا أميرنا، وتمد الصوت تكريماً له لرفعة منزلته، فإذا كان بجوارك وقلت: يا أخي، جعلت بعد المنزلة ورفعتها كالبعد المكاني، واستعملت (يا) في النداء لعلو منزلته عندك.
ومن علو المنزلة: العطف والرحمة وحب الخير، ونجد هذا الأسلوب يتكرر في كتاب الله؛ فإبراهيم عليه السلام مع أبيه: (يا أبتِ)، وكل ذلك في مقام العطف على أبيه والشفقة عليه، وكذلك نوح حينما كان ينادي ولده، ولقمان حينما كان يعظ ابنه في كل ذلك يكرر: (يا بني)، لا كما يقول بعض الناس تلذذاً بلفظ البنوة أو الأبوة أو العبودية، بل لإظهار العطف والرحمة والشفقة.
(يا عبادي!) يتكرر هذا النداء في هذا الحديث عشر مرات، وكل جملة تدل على الرفق والعطف والرحمة من المولى سبحانه وتعالى.
فالأولى فيها (يا عبادي) وهو تنبيه؛ كأنه يقول: استمعوا، وأصغوا لما أقول، توجهوا إليّ وادنوا مني فأنتم عبادي.
وهو المولى سبحانه، برحمته وبشفقته وبلطفه يعلمنا ويحذرنا من الظلم.
فإذا كان الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فالمولى سبحانه لا يضع شيئاً إلا في موضعه.
وإذا كان الظلم هو تصرف الإنسان في غير ما يملك؛ فالله يملك الكون كله، وكل تصرف من الله فهو في ملكه وخلقه أينما كانوا.
إذاً: لا يتوجه إلى الله ظلم، ولا حاجة إلى النقاش في ذلك، لكن هل الظلم ممكن في حق الله أو ليس بممكن؟
إن الله يخبرنا: (إني حرمت) أي: منعت وتنزهت عن أن أظلم، مع أنه لا يسأل عما يفعل.
ثم قال: (فلا تظّالموا)، بصيغة المبالغة، لأنه قد يقع بعض الظلم دونما علم، والرواية الأخرى: (فلا تظالموا)، بدون تضعيف، أي: لا يظلم بعضكم بعضاً.
وإذا وقفنا عند هذا النداء الأول، وهو: النهي عن الظلم بين الخلق، وكان الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، أو المصطلح عليه عند الناس: أن الظلم هو الاعتداء على حقوق الآخرين، والتصرف في ملك الآخرين بغير إذنهم.
يقول علماء التوجيه والتربية والتشريع: ما فنيت أمة إلا تحت سوط الظلم، وما وقعت مصائب في أمة ولا ابتليت بأمراض ولا ببلايا ولا بفناء نهائي إلا بسبب الظلم. ويقولون: إن رفع الظلم عرف في التاريخ من آلاف السنين، والعالم بأسره كان يحذر الظلم ويتجنبه، وبعض الملوك كان يجعل له نافذة ويكتب عليها: نافذة المظالم، وكل من كانت له مظلمة من عامل أو خادم أو أي شخص له سطوة أو سلطة كتب ظلامته وألقاها؛ لأن عماله كانوا لا يبلغونه مظالم الأمة، فكان يتولاها بنفسه.
ونحن نعلم ما جاء في التاريخ الإسلامي من العدالة، وأول تمثيل للعدالة كان في عهد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وذلك حينما يستيعذ بالله من أن يظلم أو يُظلم أو يبغي أو يبغى عليه.
وفي موقف من أحرج مواقف الإسلام في أرض المعركة في بدر وقوة العدو ضعف قوة المسلمين، والمسلمون إنما خرجوا لأخذ عير لا شوكة لهم، ويصف النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين لتتقابل قوة الحق مع قوة الباطل.. قوة الإسلام بنوره وقوة الكفر والشرك بظلامه وضلاله، ويسوي النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين كما يسوون صفوف الصلاة لتراصهم: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4] ، فجاء في السيرة بأنه عدّل رجلاً بالقضيب في يده هكذا على بطنه، فقال: (أوجعتني يا رسول الله! فيكشف صلى الله عليه وسلم عن بطنه ويعطيه القضيب، ويقول له: اقتد لنفسك مني).
وكان من حقه صلى الله عليه وسلم أن يعدل الصفوف، ولو كان مكانه أي قائد في معركة كهذه أو أي جندي وقال كلمة مثل هذه ربما صفعه على وجهه، نحن لسنا في وقت المزاح، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي هذا الموقف يكشف عن بطنه ويعطيه القضيب، ويقول له: خذ حقك مني، فيهوي على بطنه صلى الله عليه وسلم فيقبله، فيقول له: هذا هو حدك! قال: نعم يا رسول الله، قال: هذه حيلة! ما الذي حملك عليها، قال: يا رسول الله! الموقف كما ترى بين الحياة والموت، فأحببت أن يكون آخر عهدي من الدنيا بك يا رسول الله.
الذي يهمنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقدم نفسه لأحد أصحابه في أحد المواقف، ويقول له: (خذ حقك مني) فهل يبقى هناك مثال للعدالة فوق هذا؟ لا والله!
النصوص المتضافرة عنه صلى الله عليه وسلم في القضاء والشهادة والتحذير من شهادة الزور إلى غير ذلك كثيرة، ويأتي من بعده الخلفاء الراشدون، ويأتي عمر رضي الله تعالى عنه ويتكلم ويخطب للأمة كلها، ويتولى المظالم بنفسه، إلى حد أن يقول: (لو أن شاة بجذلة كسرت رجلها لكان عمر مسئولاً عنها)، ويتتبع الناس في الليل، ويسمع العجوز تشتكي ويسألها: (ما سيرة عمر فيكم؟ تقول: عمر لا جزاه الله خيراً، لماذا؟ لأننا جياع وهو غافل عنا! قال: وما يدري عمر عنك، قالت: كيف يكون أميراً على الناس ولا يدري عن بعض الأفراد؟
وبعد أن يذهب ويأتيها بالمال والطعام يقول: بيعي عليّ مظلمتك عند عمر غداً، قالت: ولماذا؟ قال: إني مشفق عليه من النار).
وبعدما نزل المسلمون عليه علمت قريش بمن وصل إليه، ثم أرسلوا إليه عمرو بن العاص وهو من دهاة العرب، وكان صديقاً للنجاشي يأتيه بالهدايا والتحف من مكة، فجاء ودخل على الملك وسجد له على حسب عادته، ثم قال: (ما بك يا عمرو ؟ قال: إن أشخاصاً صبئوا لا هم على ديننا ولا دخلوا في دينك، وجاءوا إلى أرضك يفسدون فيها، وقد أرسلنا قومنا بهدايا إليك لتردهم عليهم).
فهل فرح الملك بالهدايا؟ لا. بل قال: (لا والله، قوم لجئوا إليّ ووصلوا إلى أرضي، فلا أسلمهم إليكم قبل أن أسألهم، فانتظر حتى أحضرهم وأسألهم، وأعلم ماذا عندهم؟).
وهذا عين القضاء الذي بينه صلى الله عليه وسلم لـعلي رضي الله تعالى عنه حينما أرسله إلى اليمن قاضياً قال: يا رسول الله! إني لا أعرف القضاء، قال: (إذا أدلى إليك خصم فلا تحكم له حتى تسمع من خصمه الثاني)، قال علي : (والله لقد علمت القضاء من ذلك الوقت).
فهنا الملك جاءه صديقه بهدايا من أجل أن يسلم إليه أقواماً ما دخلوا في دينه وهربوا من دين أقوامهم، يعني أنهم لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، فلما جاءوا واشتد الأمر عليهم قال لهم جعفر رضي الله تعالى عنه: (لا يتكلم أحد، فأنا خطيبكم اليوم).
فلما أرادوا الدخول كان عمرو جالساً بجانب النجاشي ، قال: (انظر إليهم لن يسجدوا إليك ولن يحترموك)؛ لأنه يعرف أن المسلم لا يسجد إلا لله، فلما دخلوا ولم يسجدوا سألهم: (لم لم تسجدوا كما يسجد الناس؟ قال: نهينا أن نسجد لغير الله، قال: وما شأنكم؟ قال: كنا.. وكنا.. وأخذ يصف حالة العرب وما كانوا فيه من الظلم والبغي والقحط والجوع وقطيعة الأرحام وأن القوي يأكل الضعيف، حتى قال: ثم بعث فينا رجل منا نعرف نشأته ومولده ونسبه، فأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر وأمرنا بصلة الأرحام وأمرنا بالصلاة.. إلى آخره).
قال: هل معك شيء مما جاء به، فقرأ عليه شيئاً من سورة طه، فغاظ ذلك عمرو بن العاص ، فغمز الملك فقال: سله ما يقولون في عيسى؟ انظر إلى التحريش، وهكذا دائماً أعداء الفطرة، ينظرون إلى نقاط الضعف، فسألهم: (ما يقول صاحبكم في عيسى؟ فقال: يقول: هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وقرأ عليه شيئاً من سورة مريم.
فما كان من هذا الملك العادل إلا أن أهوى إلى الأرض وأخذ قشة صغيرة، وقال: والله! ما زاد صاحبكم على ما جاء به الناموس من عند الله ولا مثل هذه)، ثم قال كلمته التي هزت التاج فوق رأسه: (لولا ما أنا فيه من الملك، واستطعت أن أصل إليه لغسلت التراب عن قدميه)!
هكذا يعلن الملك في بلاطه: لو استطاع الوصول إلى رسول الله لكان خادماً يغسل عن قدميه التراب، ثم قال: (اذهبوا فلن يصيبكم أحد)، وأعلن في مملكته أنهم يحلون حيث شاءوا، ولا يعترضهم أحد بشيء، وقال: ردوا الهدايا على عمرو وصاحبه.
وهنا تظهر نبوءة الرسول: (إن بالحبشة ملكاً عادلاً لا يظلم أحد بجواره)، وله قصة طويلة في أخذ الملك منه ورجوعه إليه مرة أخرى.
ويعم الله الأرض بالخير، ويرسل عامله إلى إفريقيا لتفريق الزكاة، فيوزع من الزكاة ما يغني الفقراء، ويقول العامل: بقي عندي مال من الزكاة، ماذا أفعل به؟ فيقول: انظر هل من مدين فاقض دينه؟ فيبعث إليه أنه بقي عندي، فيقول: انظر هل من غريب فأرسله إلى بلده، يقول: بقي عندي، فيقول: انظر هل من أعزب فزوجه!
هكذا كان بيت المال وفيراً بالمال إلى حد أن يسد حاجة الأفراد والجماعات بفضل الله، ثم بإقامة العدل ورد المظالم.
ثم من بعد عمر بن عبد العزيز وبعد الدولة الأموية وأوائل العصر العباسي وأواخر العصر الأموي كثر الظلم من العمال، فأنشأ ديوان المظالم أو قاضي المظالم؛ لينظر في ظلم العمال للرعية.
وإذا كان شأن الظلم أو مكانته بهذه النسبة، فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما كان يبعث عماله كان يحذرهم من ظلم الناس؛ لأن أكثر ما يكون الظلم من صاحب السلطة أو الجاه أو القوة، فحينما بعث معاذاً إلى اليمن قال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله كتب عليهم خمس صلوات - ثم لما بين له أركان الإسلام قال-: وإياك وكرائم أموالهم).
و(إياك) كلمة تحذير، أي: تجنب كرائم الأموال ولا تأخذها في الزكاة، ولذا لما رأى عمر رضي الله تعالى عنه شاة حافلاً قال: (ما هذه؟ قالوا: من شاة الصدقة، قال: ما أعطى هذه قوم بطيب نفس) لأنها حليبهم؛ ولذا يقول صلى الله عليه وسلم: (إياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) فإذا كان العاقل ولو كان قوياً ذا جاه أو سلطان.
وجاء في الحديث عن أبي مسعود رضي الله تعالى عنه: أنه كان له غلام فضربه، فسمع صوتاً من ورائه يقول: (اعلم
يقال عن بعض السلف: إن شخصاً كان يصيح ويقول: قلبي ضائع عني -من شدة خوفه من الله- وبينما يمشي في الطريق إذا بطفل صغير وامرأة تدفعه من البيت وتصك الباب في وجهه، فأشفقت على هذا الطفل، فإذا به يقول: يا أماه طردتيني وأوصدت الباب دوني؛ فمن يأويني ويفتح لي بابه، فإذا بالأم تسمع هذا القول فتفتح الباب وتحتضن ولدها، فيرجع وهو يقول: وجدت قلبي وجدت قلبي، إذا كانت المرأة تستجيب للطفل الصغير حينما لجأ إليها؛ فالمولى أرحم وأرأف.
وهذا كما جاء في الحديث: (إن الله أرحم بعباده من الأم بطفلها)، لما جاءت امرأة من السبي تمشي وتتلفت، حتى إذا وجدت طفلاً أخذته فضمته إلى صدرها وأرضعته، فقال صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار، قالوا: لا، قال: لله أشد رحمة بعباده من هذه بطفلها) ، ويأتي في الحديث: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل ضلت عليه راحلته عليها زاده وهو في فلاة من الأرض حتى يئس منها وأيقن بالموت، فجاء إلى ظل شجرة واستلقى ينتظر الموت، فأغمض عينه، ثم أفاق فإذا براحلته على رأسه، فقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح) أي: الله سبحانه وتعالى أشد فرحاً بتوبة العبد من صاحب هذه الراحلة، فإذا كان كافراً معانداً لله لكن عند الشدة رجع إلى الله، فإن الله يرحمه ويستجيب له.
أنت في شخصك على ما فيك من نقص وضعف لو كان لك خصم معاند ومؤذ فألمّت به نازلة، فجاءك في جنح الليل يطرق الباب، فإذا به خصمك! فتقول: ما شأنك؟ قال: جئتك لاجئاً.
فهل تطرده وتقفل الباب أمامه، أم ترحب به؟ لا شك أنك ترحب به، وأنت بشر، وفيك من النقص ما فيك، ولكنك تغتفر لعدوك إذا لجأ إليك عند الشدة، فما بالك بأرحم الراحمين!
إذاً: ليتق الظالم ظلمه في الدنيا والآخرة: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً)، ولو أننا جئنا إلى قضية اجتماعية وكل إنسان -لا أقول: كل مسلم- كل رجل أو امرأة مسلم أو كافر تجنب الظلم وألغي الظلم من الوجود وحل محله العدل، كيف نتصور هذا المجتمع؟
عمر رضي الله تعالى عنه حينما جاء أبو بكر وقال له: يا عمر ! أريد أن تساعدني وتحمل عني بعض المسئوليات، قال له: ماذا تريد؟ قال: تول عني القضاء، قال: حسناً، فأعلن أبو بكر بأن عمر هو قاضي المسلمين، وبعد سنة جاء عمر وقال: يا أبا بكر ! خذ عملك عني، قال: لماذا، هل أتعبناك في القضاء؟ قال: لا، سنة كاملة وما اختصم إليّ اثنان! عرف كلٌ ما له وما عليه فلم يتعد أحد على الآخر.
وكل دولة في العالم لها سلطات ثلاث: الأولى: سلطة تشريعية لتشرع الحكم والنظام، السلطة التشريعية في الإسلام لله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا [الشورى:13] ، ولا يوجد أحد له حق في التشريع مع الله: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21] ، فالسلطة التشريعية لله، يبلغ عنه رسوله، والعلماء ورثة الأنبياء، فهيئة الإفتاء هي النائبة فيما يأتي من نوازل جديدة فتصدر فيها فتوى على ما يوافق كتاب الله وسنة رسوله.
إذاً: السلطة التشريعية في الإسلام هي لكتاب الله وسنة رسوله.
الثانية: السلطة القضائية، وهي الميزان الذي يزن الأحداث على النظام وعلى التشريع.
الثالثة: السلطة التنفيذية: وهي التي تطبق حكم القاضي بالقوة.
وقد أجمل سبحانه وتعالى تلك السلطات الثلاث في كتابه في آية تضمنت، نظام الدولة بكاملها في قوله سبحانه: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [الحديد:25].
هذه مقومات الدولة: السلطة التشريعية: رسل ببينات وكتاب، فالبينات تثبت أنهم رسل، وإذا ثبتت رسالة الرسول وقلنا: نشهد أن محمداً رسول الله والتزمنا برسالته وبما جاء به، فهذا رفض لما نخضع له خلافاً لما جاء به، لأننا التزمنا بها، كما أننا لا نعبد إلا الله؛ لأنه عندما نقول: لا توجد آلهة إلا الله، فنحن ملزمون بأن نأله الله وحده، فمن عبد غير الله فقد ناقض لا إله إلا الله، وكذلك من اتبع غير رسول الله وابتدع من عنده بدعة فهو ناقض لقوله: محمد رسول الله.
إذاً: أرسلنا رسلنا بالبينات ومع الرسل الكتاب، والكتاب جاءنا من عند الله، والكتاب حجة لك أو عليك، فمن أخذ به فهو حجة له، ومن أعرض عنه فهو حجة عليه، فالكتاب للتشريع، وكما يقول الشافعي رحمه الله: (سلوني عما شئتم يا أهل مكة أجبكم عنه من كتاب الله، مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] ، فهم من فهم وأخطأ من أخطأ)؛ لأن الكتاب يساير الأمة إلى يوم القيامة، وفيه تشريع الدين والدنيا، والحلال والحرام، وما تأخذ وما تترك.
هذا هو مصدر التشريع؛ أعني كتاب الله، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو مرجع الناس في حياته، ثم من بعده خلفاؤه الراشدون، ومن بعدهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء.
إذاً: السلطة التشريعية في الكتاب والسنة والعلماء أمناء على ذلك.
وقوله: وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25] ليس المقصود الميزان ذا الكفتين أو الميزان الإلكتروني، إذ كل ما يفرق بين طرفين فهو ميزان، فالقاضي بيده ميزان العدالة، والأستاذ بيده ميزان الدرجات للطلاب، والأب بيده ميزان الأبوة بين أولاده، والأم بيدها ميزان البيت في رعايته: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته) ، والحكمان اللذان يبعثهما الحاكم للحكم بين الزوجين ميزان، وكل من تدخل بين اثنين فهو ميزان.
بالقسط: والقسط منتهى العدالة، وقبضة هذا الميزان بيد القضاء، والعدالة كما قالوا: من العدلة وهي شق الحمل، فإذا كانت العدلتان من حمل البعير متوازيتين فالبعير يمشي معتدلاً، والكفتان متساويتان، وإذا ثقلت إحدى العدلتين مالت الكفة ومال الحمل وعجز البعير عن أن يمشي، فالعدالة هي الميزان في القضاء، فإذا جاء إنسان وأخذ مال إنسان، عرض على المحكمة وعلى الميزان: من أي أنواع المال أخذ هذا؟ وهل هو بحق أو بغير حق؟ وسرقة أم نهب أم سلب أم اغتصاب أم خيانة أمانة؟ ويحكم فيه الميزان ويبين: أنت سارق أو لست بسارق، أنت ظالم أو لست بظالم.
والسلطة التنفيذية تأتي بالقوة فتسجن وتضرب وتنفذ الحكم.
إذاً: لو أن العالم أخذ بهذا الحديث: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظّالموا) ، ووقفوا عند ذلك لانتهت المشكلة، الكتاب قائم، والميزان لا يحتاج أن يوزن فيه؛ لأنه ليست هناك مظالم وليست هناك اعتداءات، وكلٌ قد وقف عند حده، ولصار حال الناس كما تولى القضاء عمر سنة فلم يتخاصم إليه اثنان.
ولذا جاء أعرابي إلى علي رضي الله تعالى عنه فقال: (ما بالك وبال أصحابك من قبلك، اختلف الناس عليك ولم يختلفوا على من كان قبلك؟ قال: لأنهم كانوا يتأمرون على أمثالي وأنا أتأمر على أمثالك)، كان أبو بكر وعمر يتأمرون على علي وعثمان وطلحة والزبير وفلان وفلان من سادات الناس، ممن لا يخطئون الخطأ الفاحش ولا يعتدون على غيرهم؛ لكن عندما جاء الدور على علي كان هناك كثير من أطراف الناس وأراذلهم ليحكم فيهم.
إذاً: حينما يقف كل واحد من الناس عند حده يستقر الأمن وتحصل الطمأنينة، ويتوفر الخير، ويرتفع النزاع في كل جانب من الجوانب، وبهذا تكون هذه الجملة من الحديث القدسي وحدها كافية لإصلاح العالم كله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر