وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الأحبة: تستنشقون في هذه الجلسة المباركة: نسيم الحجاز في سيرة الإمام عبد العزيز بن باز.
فنحن أمة لها رجال وقادة في الفكر والعلم، ولها رجال ٌوقادةٌ في السياسة والإدارة، ولها رجال وقادة في الحروب والمعارك، وتنشئة الجيل على تعظيم هؤلاء الكبار ضرورة تربوية لا بد منها.
إن المسألة ليست مسألة ابن باز فحسب، بل مسألة كل العظماء والكبار والأئمة والقدوات فبمن يقتدي الجيل؟! وأي شخصية يمكن أن نقدمها لشبابنا، ونربيهم على تقفي آثارها، والسير على خطاها والنسج على منوالها؟! ما بالك إذا نشأ الجيل وهو يشعر بأن الأمة تتنكر لعظمائها، وتتجاهل تاريخهم؟ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ [المدثر:35] إنها لكارثة عظمى.
فإما أن ينساق هذا الجيل مع ذلك التيار فيتنكر للكبار كما تنكر مَن قبله، فيصبح الجيل منسلخاً عن أصوله ومبادئه، بلا تاريخ وماضٍ، فهو مقطوع الصلة بماضيه، مبتوت العلاقة بتاريخه. وكما قال أحمد شوقي:
مَثَلُ القوم نسوا تاريخهم كلقيطٍ عَيَّ في الناس انتسابا |
وإما أن ينظر الجيل إلى هذه الأمة التي تنكرت لعظمائها نظرة انتقاد واعتراض، فينقم على ذلك المجتمع، ويشعر أنه مجتمع فاسد منهار.
وكلا الأمرين خطب عظيم.
إنه ليس من مصلحة الأمة في سابقها، ولا في حاضرها، ومستقبلها أن تتنكر لعظمائها، وفي الوقت الذي ننادي نحن وغيرنا بتبجيل شخصية كشخصية ابن باز، فإننا لا نعني؛ بل لا نقبل أن يكون هذا مصادرة للكبار الآخرين، والعظماء في كل ميدان، فإن الأمة الإسلامية عاشت فترة الاستبداد الذي يعني: اعتبار الفرد وطحن من سواه، سواء على صعيد السياسة، أو المال، أو على صعيد العلم، أو العمل، أو على صعيد التربية، وآن الأوان أن تعي الأمة أن تعظيم فلان لا يعني الحط من غيره، وأن المجال يتسع لأعداد كبيرة من العظماء، والكبراء، والقادة، والأئمة، وهذا المعنى الكبير العظيم لا بد أن نقرره قولاً وفعلاً.
وأنا إذ أتحدث عن شخصية نُكِنُّ لها جميعاً الحب، والتقدير، كشخصية إمامنا ابن باز وأزيد إلى تأكيد هذا المعنى، تأكيد معنى آخر: وهو أن الأمة ينبغي أن تعي وتتعلم أنها في الوقت التي تحتفي وتحتفل فيه برجل كـابن باز، يجب أن يتسع قلبها وصدرها أيضاً لرجال آخرين من أهل العلم، أو الدعوة، أو الإصلاح، أو التعليم، أو التربية، أو سوى ذلك.
فليس الحديث عن شخصية ابن باز مصادرة لشخصية عالم جليل آخر كفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، أو فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين، أو فضيلة الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود، أو فضيلة الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي أو فضيلة الشيخ عائض بن عبد الله القرني أو غيرهم.
فهذه الأمة فيها عظماء كثيرون، وفيها أئمة، وقدوات، (وكابينة) القيادة تتسع لهم جميعاً لأن كل فرد منهم في ثغرة وميدان لا يملؤه غيره ولا يسده سواه.
بل هم وجوه لعملة واحدة إن صح التعبير، ولا يجوز أن يكون ثناؤنا ثناء مغرضاً، فأنا أثني على فلان لكي أعرض بعلان، كلا. بل أنا أثني على فلان فأتحدث عنه كما لو لم يكن أمام ناظري غيره.
وقد أثني في موضع آخر على شخص آخر ممن يستحق الثناء فأتحدث عنه بالطريقة ذاتها، وليس الثناء مقصوداً لذاته وإنما الثناء كما سبق ثناء للجيل، ثناء لهؤلاء الشباب الذين ينتظرون القدوة التي يمشون وراءها.
فإن الإنسان بطبعه لا بد أن يتمثل أمام ناظريه شخصاً يعتبره في موضع الأسوة والقدوة، ويستفيد من علمه وأدبه وخلقه، والله تعالى حينما أنـزل الكتاب بعث الرسول أيضاً، والرسول عليه الصلاة والسلام ربَّى أشخاصاً نقلوا هديه ودينه إلى من بعدهم.
فكان ابن مسعود يربي في العراق، وكان ابن عباس يربي في الحجاز، وكان معاذ وأبو موسى يربيان في اليمن، وكان جابر، وكان فلان، وكان فلان...
فالجيل إذا فقد القدوة في الرجال الذين هم أهلٌ لأن ينظر في هديهم، ويقتدى بهم، فإنه سوف يلتمس القدوة من ذلك الأديب، أو الشاعر، أو المتحدث، أو الناقد الذي قد يكون منحرفاً في فكره، أو في اتجاهه، أو في خلقه، أو في سلوكه، ولكن أجهزة الإعلام نجحت في تقديمه للجيل على أنه نموذج ورمز.
خاصة ونحن نجد أن أرباب الفكر المنحرف يتبادلون ثناءً مغرضاً فيما بينهم، فكل واحد منهم يتحدث عن الآخرين، ويثني، ويطري، ويقدمهم للجيل. يقدم أعمالهم وإنجازاتهم، وكتبهم، وقصائدهم على أنها نموذج للأدب، والثقافة والوطنية، نموذج للقوة والصبر، فينشأ الشاب يقرأ الجريدة فيجد فيها ثناءً على فلان من الناس ذلك الأديب الكبير.
ويطالع المجلة فيجد فيها نقداً للديوان رقم عشرة أو عشرين للشاعر الوطني فلان، ويسمع الإذاعة فيجد فيها مقابلة مع الدبلوماسي الكبير فلان.
وهكذا يصبح الجيل نهباً لمثل هذه الشخصيات.
وقل مثل ذلك في رموز الفن والرياضة الذين مع كثرة الطرق على أشخاصهم، يصبح الصغير والكبير ينام ويصحو على الإعجاب بأشخاصهم، وتقفي سيرهم وخطاهم، وأن يتمنى أن يكون واحداً منهم.
إن هؤلاء الرجال الذين نطريهم رجالٌ برزوا يوم لم يكن في الساحة هذا الزخم الهائل من أولياء الإسلام، ودعاته، وشبابه، ورجاله، بل برزوا في وقت كثرت فيه قالة السوء، وانتشر فيه دعاة الضلالة، وبرزت فيه الدعوات القومية والبعثية وغيرها، وكان الواحد منهم صبوراً دءوباً على رغم قلة الناصر، والمعين، والمتلقي.
وبعض من ذكرت من الأئمة كان يجلس في حلقته فلا يأتي إليه إلا أربعة رجال، فإذا قرأ الواحد منهم نصيبه قام من الحلقة، ليس لديه وقت أن يجلس إلى نهايتها وإنما يقرأ ثم يذهب إلى عمله.
وآخر يجلس في وقت الظهيرة يثني رجليه في شدة الحر يوم لم يكن ثَمَّ مكيفات، فلا يجلس عنده إلا أفراد قلائل ممن لا شأن لهم، ولا وزن لهم في نظر الناس، ومع ذلك صبّروا أنفسهم كما أمر الله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28] ودأبوا، وضحوا، واستمروا ثم رأوا طلائع هذه الصحوة المباركة، وهذا الإقبال الكبير، وازدحمت حلقاتهم العلمية بالطلاب، وتكاثر حولهم المتلقون، واحتفلت الأمة بهم فلم يتغير من أمرهم شيء؛ لأن الدعوة التي يحملون هي واحدة يقولونها في حال الإقبال كما يقولونها في حال الإدبار.
وهذه ميزة من أبرز الميزات. فليس الفخر لأولئك الذين ظهرت أصواتهم وارتفعت في وهج الإقبال والاندفاع نحو الإسلام، وإنما العجب من أولئك الذين وفوا، وصبروا، وجاهدوا، وأعرضوا عن الدنيا يوم أن لم يكن في الساحة غيرهم.
فجدير بنا أن نؤدي بعض حقهم الواجب في أعناقنا بعد أن عرفنا ريادتهم وسبقهم في هذا الميدان الواسع الطويل.
إن الحديث عن هؤلاء الأشخاص يضع الحق في نصابه، فهو معرفة لبعض قدرهم وجهادهم وبلائهم، وإذا كان الحديث عنهم لا ينفعهم، ولا يقدم ولا يؤخر بالنسبة لهم فإنه على الأقل يشعرهم بأن بذلهم يَلقى آذاناً صاغية، وأن جهادهم محل حفاوة الأمة وملء سمعها وبصرها.
ما بالك إذا شعر العالم بأن الأمة التي تحتشد له، وتستمع إليه، وتأكل كل وقته أو جل وقته، وتحاصره في كل لحظة بأسئلتها عبر الهاتف، أو أسئلتها المباشرة، أو طرقها على بابه، أو مراسلتها، أو اتصالاتها، أو موافاته بمشكلاتها.
ما بالك إذا شعر العالم أن هذه الأمة التي تحتشد حوله باستمرار لا تفعل ذلك إلا بقدر ما يخدم مصالحها الشخصية فحسب، ثم لا يعنيها بعد ذلك من أمره شيء أن يصح أو يمرض، يُكرم أو يُهان، يفرح أو يحزن؟! إنها كارثة أخرى أن نتخلى عن أولئك الجهابذة الذين ضحوا من أجلنا، ولو لم يكونوا ينتظرون منا شيئاً، لكن: هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ [الرحمن:60].
إننا نلحظ أهل البدع فنراهم يمنحون رؤساءهم تعظيماً يصل أحياناً إلى درجة القداسة كشيوخ الصوفية مثلاً، أو زعماء الرافضة وسواهم، تَربَّى أتباعهم على معاملتهم عبر طقوس عجيبة لم يطلبها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم من أتباعهم، بل ولا يرضون منهم لو فعلوها.
فالمطلوب إذاً لأئمة أهل السنة قدراً معتدلاً من التعظيم، والإجلال اللائق الذي يحفظ لهم قدرهم ومكانتهم، ويربي الجيل على ترسُّم خطاهم.
إن الأمة التي لا حاضر لها لا مستقبل لها.
ونحن لا نعتقد أن الحديث عن رجلٍ كـابن باز يعني: اعتقاد العصمة له في كل ما يقول، أو يفعل، أو يأخذ أو يذر، ولا تقليده في كل اجتهاداته، ولا ارتهان الفكر والعقل في حدود ما وصل إليه. لا؛ بل إن من الوفاء لرجل كـابن باز وأمثاله: أن نكون أوفياء للمبادئ التي يحملونها، والتي من أهمها نبذ التقليد ومحاربته وذمه، وتربية الجيل على الأخذ من المنبع الأول من الكتاب والسنة، كما قال أحمد: لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي وخذ من حيث أخذوا.
إننا نريد أن نقول للناس في الوقت الذي نثني فيه على هذا وذاك من الأئمة الأعلام: إن مخالفة أحدهم للآخر في مسألة، أو عشر، أو مائة لا يعني تنقصه، أو مخالفته في المنهج. كلا. ألم تر أن الواحد من العلماء قد يخالف صحابياً، أو تابعياً، أو إماماً متبوعاً من الأئمة الأربعة، أو العشرة في مسائل قليلة، أو كثيرة فلا يعني هذا شيئاً سوى الوفاء للدليل، ولسان الحال يقول: فلان عزيز والحق أعز منه.
إننا نحتاج أن نرسخ هذا الميزان أيضاً في نفوس الناشئة ليغنيهم عن تساؤلات كثيرة وإحراجات وقلق لا يهدأ إلا بتصحيح التصورات وتعديل النظرات.
فإن بعض الناس لا يفهمون إلا أحد أمرين:
إما أن تكون صادقاً في ثنائك على فلان، وبناءً عليه ينبغي أن توافقه في كل شيء.
وإما أن تخالفه، فيكون معنى ذلك: أنك منابذ له في المنهج، مخالف له في الطريقة، مباعدٌ له في كل شيء.
وهذا خطأ عظيم. بل عادة العلماء الراسخين في العلم أنهم قد يثنون على العالم بما هو أهله، ويطرونه، ويمدحونه، ويدعون له، ولا يمنعهم هذا أن يخالفوه في مسألة أو عشر أو مائة من المسائل التي هي موطن اجتهاد.
كما أن الإمام ابن باز ليس ممن يحب المديح، ولا ممن يمدح لرغبة أو رهبة، ولكنني منذ جالسته وقاربته شعرت بأنفاس الصدق تتردد في صدره، وشعرت بعلامات اليقين تلوح في قسماته، ورأيت آيات الجهاد الدءوب تشرق في صفحات حياته، فكان من همي منذ زمن أن أخصص درساً أقول فيه لإخوتي من الشباب: إن جوانب عديدة في شخصية هذا الإمام يجب أن تحتذى، هذا كل ما كنت أريد.
وقبل أن أذكر هذه الجوانب أحب أن أقول: إن المديح ليس مذموماً دائماً، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه من مدح: فخير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالاتنا سلمة، وأبو بكر وعمر هما السمع والبصر، وعلي يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وعثمان تستحي منه الملائكة، وحواريي الزبير وهكذا.. وهلم جراً.
وقد صنف العلماء في كتبهم أبواباً خاصة في المناقب، ذكروا فيها ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم على رجال من أصحابه كالعشرة المبشرين بالجنة، وأمهات المؤمنين، وأهل الشجرة، أهل بيعة الرضوان، وأهل بدر وغيرهم. ثم صنفوا في مناقب القبائل والبلاد والطوائف وغير ذلك شيئاً كثيراً يطول وصفه.
إذاً: المديح أسلوب تربوي إذا كان في حدود الاعتدال، وإذا كان لغرض صحيح فهو محمود ممدوح.
أما إن كان المديح على سبيل الإطراء المجرد، أو على سبيل التزلف أو الرغبة، أو الرهبة، أو كسب المال والدنيا، أو البحث عن الرزق. فلا شك أن هذا حينئذ مذموم.
ومثله إذا كان الممدوح يخشى عليه أن يوصله المديح إلى شيء لا يرضي الله تعالى. فيدعوه إلى شيء من الغرور، أو بطر الحق، أو غمط الناس، أو ما شابه ذلك.
ماذا نأخذ من ابن باز؟ كيف يمكن لي أن ألخص ثلاثاً وثمانين سنة في ثلاث وثمانين دقيقة؟
ثلاث وثمانون سنة من الجهد والبذل غير المحدود، والعطاء الفياض.
إن تاريخ الأعلام لا ينحصر في أن أحدهم ولد عام كذا أو تخرج عام كذا، فهذا هو الجانب المظهري الذي يملك كل إنسان أن يدركه، ولكننا سنبرز جوانب القدوة التي نراها في شخص هذا العلم الكبير.
قد يشعر مستمع هذا الحديث بأن من النقص أن نعلن عن سيرة ابن باز، ثم نتجاهل المعلومات البسيطة التي ينبغي أن نقدمها، ومن أجل سد هذا الفراغ أقدم هذه المعلومات السريعة عن شخصية ابن باز.
كان مبصراً في أول حياته وأصابه المرض سنة 1346هـ وعمره آنذاك 16 عاماً؛ فضعف بصره إلى أن فقد بصره في مستهل محرم/ 1350هـ وعمره حينئذ 20 سنة.
حفظ القرآن عن ظهر قلب قبل أن يصل إلى مرحلة البلوغ.
منهم: محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ.
ومنهم أيضاً: صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسن قاضي الرياض. ومنهم: الشيخ حمد بن فارس وكيل بيت المال في الرياض، وله أخبار وقصص يعرفها الكثيرون، وكذلك من قبله الشيخ محمد والشيخصالح.ومنهم: الشيخ سعد وقاص البخاري من علماء مكة، وقد تلقى عنه الشيخ عبد العزيز علم التجويد سنة 1355هـ. ومنهم: محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ وقد لازمه الشيخ عبد العزيز نحو (10) سنوات وتلقى عنه جميع العلوم الشرعية ابتداءً من سنة 1347هـ - 1357هـ.
إلى ذلك له مجموعة من الأعمال الجليلة: كالمشاركة في العديد من المحافل الإسلامية، والمؤتمرات، والمجامع الفقهية والعلمية.
أما حياته اليومية: فهي جهد متواصل، يبدأ من الصلاة قبل الفجر ثم يلقي درساً بعد الفجر يومياً، ثم الإفطار، فالدوام، فالغداء في وسط جموع كبيرة غفيرة من الناس؛ يستغرب من يأتي إلى غداء الشيخ، فهو لا يجد طعم العيش إلا في وسط هذه الجموع التي تحضر إلى غدائه وتشاركه، والشيخ لا ينفك يهلِّ ويرحب، ويفرح بكل قادم مهما يكن.
ثم النوم بعد صلاة العصـر وبعد درس قصير يلقيه، ثم هو بعد ذلك للناس بعد صلاة المغرب، وحتى ساعة متأخرة من الليل ربما جلس إلى الساعة الثانية عشرة ليلاً أو بعد ذلك مع الناس.
ثم يخصص بعد ذلك وقتاً للمشي ربما كان ذلك ثلث ساعة أو نصف ساعة يتجول فيها في بيته وقد رتب ذلك ترتيباً دائماً.
ثم بعد ذلك يقوم ما تيسر له من قيام الليل، وهو إلى ذلك كله منتهى لآلاف المشاكل في طول البلاد وعرضها تأتيه من خلال أشخاص، أو رسائل، أو برقيات، أو مهاتفات تنوء بحملها الجبال الرواسي.فأين وقت النوم إذاً؟ وأين وقت الراحة؟ وأين وقت الشئون البيتية؟!! هذا مما يتعجب له الإنسان.
وإلى ذلك كله فأنت إذا جلست مع الشيخ وجدت صدره متسعاً للمشاكل، يعرف الناس، ويسأل عن أحوالهم، وكل من لقيه سأله عن أموره وأخباره.
نُمُوا إليه فزادوا في الورى شرفاً ورب أصل لفرع في الفخار نمى |
فالمنصب يشرف بوجود ابن باز فيه، وأمثال ابن باز من العلماء والدعاة وليس العكس.
واللقب العلمي يشرف بأن يكون ابن باز أو غيره من حملته وليس العكس.
لا يضيف إلى ابن باز شيئاً أن نقول: أنه ولي القضاء، أو درس في كلية الشريعة، أو تولى هذا المنصب أو ذاك، بل هذه المناصب تكبر في عيوننا أن يكون ابن باز أو غيره تولاها، فقد كبرت كلية الشريعة بـالرياض في عيوننا لما علمنا أن ابن باز درس فيها، ووطئت قدمه أرضها، كما كبرت في عيوننا الجامعة الإسلامية حين علمنا أن ابن باز كان نائباً لها ثم رئيساً، وقل مثل ذلك في الدعاة والعلماء، فهم لا يستمدون عظمتهم من مواقعهم؛ بل كل المسلمين.
العالم الإسلامي لم يعرف سماحة الشيخ محمد بن عثيمين لأنه مدرس في كلية الشريعة بـالقصيم -مثلاً- كلا، أو أنه كان مدرساً في معهد عنيزة العلمي، بل عرفه بأنه الإمام الفذ الجهبذ الفقيه المفتي الداعية المصلح، فأصبحت هذه الأعمال أقل من عيار العلماء، وهي تشرف بهم وليسوا هم من يشرفون بها، وهكذا أمثالهم من العلماء، بل ربما يكون كثيرون لا يعرفون ما هي وظيفة فلان، ربما لو سألت كثيرين ماذا يعمل فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين مثلاً؟ أو ماذا يعمل فضيلة الشيخ عبد الله بن قعود؟ أو ماذا يعمل فضيلة الشيخ سفر الحوالي؟ أو ماذا يعمل فضيلة الشيخ عائض القرني؟ فربما وجدت كثيرين لا يعرفون هذا؛ لكنهم يعرفون هذه الأسماء اللامعة المجاهدة من خلال جهادها، وبلائها، ودروسها، ومحاضراتها، وتأثيرها في القريب والبعيد، والقاصي والداني، وقد أصبح المسلم يتناول هذه الأسماء على أنها رموز كبيرة للدعوة إلى الله، والعمل، والعلم، والتعليم، والجهاد، والصبر فهذا ملحظ مهم.
أولاً: هذه الجوانب هي التي كنت معنياً بالحديث عن ابن باز من أجلها، فأنا لا أتحدث عن ابن باز من أجل ابن باز نفسه، فهو غني عن هذا الكلام، وهذا الكلام بالنسبة له لا يقدم ولا يؤخر، فهو لا ينفعه في الدنيا ولا ينفعه أيضاً في الآخرة؛ اللهم إلا إن نظرنا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: {أنتم شهداء الله في أرضه} وأرجو أن نكون من شهداء الله في أرضه، الذين نثني على هذا الإمام بخير، ونشهد أن هذا الرجل قد أبلى بلاءً حسناً في الدعوة إلى الله، والعلم والتعليم والجهاد.وإنما نتحدث عن ابن باز من أجل الأمة ومن أجل الناس.
فيأتي إنسان في قضية شخصية جداً لا تعني أحداً فتجد أنه يطول الكلام مع الشيخ، ويبدأ في التفصيل، والحديث المطول، ويأتي بمقدمات لا حاجة إليها، وأنت لا يعنيك الأمر، فأنت تأتي مجرد زائر للشيخ فتصاب بالضجر والملل من هذه التفاصيل التي لا حاجة إليها، أما الشيخ فإنه يطأطئ رأسه، ويهز رأسه، ويقول: نعم. ويصغي أذنه لهذا الإنسان حتى ينتهي من كل ما عنده ثم بعد ذلك يوجهه الشيخ بما يراه، فإما أن يوصيه بالصبر والاحتساب، وإما أن يأخذ أوراقه، ويعده أن يكتب معه، وإما أن يساعده بما يمكن، وهذا أمر يعجب منه الإنسان، منَّة حباها الله للشيخ قلما تتوفر في غيره.
وعلى كثرة من يأتيه، يأتيه بعض الأحيان أناس أخلاقهم سيئة، طباعهم غليظة، ليس عندهم أدب العلم، ولا معرفة أقدار العلماء، فربما رفع الواحد منهم صوته على الشيخ، وربما أغلظ له في القول، بل رأيت بعضهم وهو يمسك بجيب الشيخ بيديه، ويقف في وجهه، والشيخ يريد أن يمشي، ويهز يده في وجهه قائلاً: يا شيخ! اتق الله، ومع ذلك كله لا يخرج الشيخ عن طوره.
أغلظ كلمة تسمعها من فم الشيخ أحياناً أن يقول لبعض الحضور إذا زاد في الكلام أو تكلم فيما لا حاجة له: سبح سبح، أي: اشتغل بذكر الله والتسبيح والتهليل، وهذه صفة الحلم، وسعة الصدر، وعدم الضجر، هذه من أخلاق الأنبياء، فأنت لو تصفحت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدت أن الشيخ عبد العزيز حفظه الله قد اقتبس هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى كثرة من يأتيه من الناس، من الأعراب، وأهل البادية، والجفاة، والأقارب، والأباعد حتى من الأعداء والخصوم، كان صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم فسيحاً لهؤلاء جميعاً، ربما تأتيه الجارية تشكو إليه أذىً في بيتها من سادتها، فيفسح لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تتكلم بكل ما في نفسها، ثم يشفع لها عند سادتها ومواليها.
وقد يأتيه رجل يريد أن يشفع إلى امرأة هو يريدها وهي لا تريده، كما حصل في قصة مغيث وبريرة، عندما أعتقت بريرة فرفضت مغيثاً، فكان يبكي شوقاً إليها وحباً لها، حتى جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له أن يشفع إليها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة وقال لها: { ما لكِ عن
ونحن بحاجة إلى أناس على هذا الغرار، وهذه الوتيرة، تكون صدورهم مفتوحة للأمة، لمشاكل الأمة، لأحاديث العوام، يحرصون على أن يتعودوا على السماع من الناس، واحتمال جفوتهم، وغلظتهم، وقسوتهم، وسوء أدبهم حتى تجتمع حولهم الأمة قال الله عز وجل: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159].
إنه ليس من الحكمة أن نفتعل الخصومة مع الأطراف كلها حتى نثبت أننا شيء وهم شيء آخر، وأننا أصحاب منهج وهم أصحاب منهج آخر، أننا متبعون على حين أنهم أهل بدعة، أو أننا متجردون على حين أنهم أصحاب هوى وغرور، أو أننا ورعون على حين أنهم أصحاب تلبيس وتخليط، فليس هذا من الحكمة، بل صاحب الدعوة يسعى إلى أن يكسب الناس كلهم إلى دعوته بالحسنى وبالكلمة الطيبة، قال الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125] وهذا في رأيي من أكثر ما يفتقده الدعاة اليوم، فأكثر الدعاة في عجلة من أمرهم، بل من الدعاة من يتعمد أن يغاير الناس، ويخالفهم، وينابذهم، ويثبت أنه شيء وأنهم شيء آخر.
والواقع أنه لا حاجة إلى هذا ما دام أنني أستطيع أن أعلِّم الناس بالحسنى، وبالكتاب والسنة، فالتميز عن الناس ليس مطلباً شرعياً إلا أن يكون تميزاً بالحق، وباتباع الكتاب والسنة، وبلزوم المنهج، والطريقة.
أما التميز بالألقاب، وبالأسماء، والشعارات، وغير ذلك، فهذا مما ليس له داعٍ ما دام أنني أستطيع أن أجمع الناس على الحق وأدعوهم إليه.
وبعضهم يلتقون بالشيخ فيحادثهم مباشرة بينه وبينهم بالنصيحة التي يدين الله تعالى بها، فهذا جانب من شجاعة الشيخ.
الجانب الثاني: شجاعته مع الناس، فهذه شجاعة يجب ألا تجهل مع العامة، ومع بعض طلبة العلم أيضاً فهذا مهم أيضاً، هناك من الناس المحيطين بالكبار من يكون له لون من التلبس والحصار الفكري الذي يصعب الفكاك منه، أي أن: بعض طلبة العلم، وبعض الدعاة المعروفين، وبعض الكتاب، وربما بعض الفقهاء إذا صار حوله طلاب، فهؤلاء الطلاب لهم اتجاه، وفيهم قوة أو شدة، فإنهم يظلون يحيطون بالشيخ، ويتكلمون معه، ويكثرون حتى ربما أثروا عليه وأصبح من الصعب عليه أن يخالفهم، أما سماحة الوالد فهو شجاع مع الجميع، فإذا رأى أن الحق خلاف من حوله؛ قاله لهم ولا يبالي بهم، وإذا رأى أن الحق خلاف ما يعتاده العامة أيضاً قاله ولو خالفه من خالفه في ذلك، فله في هذا شجاعة ومواقف مشهودة واضحة، وهو يرى أن الشجاعة تكون على كل صعيد، فهي ليست مع الحاكم فقط؛ بل هي مع الحاكم والمحكوم وطالب العلم ومع الكل.
والبعض يستغربون المواقف الرسمية للشيخ، ويرون أن الشيخ يُستغرب منه ذلك، كيف قال كذا؟ وكيف تكلم بكذا؟ وكيف خاطب بهذا الخطاب؟ أو نشر هذا الكلام؟ أو أفتى بكذا؟ وأقول حسب معرفتي بالشيخ عن قرب: إن ذلك لم يكن من الشيخ -حفظه الله- مداهنة لأحد، ولا مجاملة لأحد، ولا كسباً لرضى فلان أو فلان، وإنما هذا ما يرى الشيخ المصلحة فيه، أو ما يراه الحق، فهو يقوله بغض النظر عن مدى موافقة الآخرين معه أو مخالفتهم له، لكنه لا ينطلق من مجاملة، أو مداهنة، أو مصالح شخصية، وإنما ينطلق مما يرى أنه الحق، أو ما يرى أن فيه مصلحة عامة للمسلمين، وهذا ينبغي أن يقال حقاً، وبغض النظر أيضاً عن هذه المواقف، وكونه ووفق أو خولف فيها، أو كونها توافق رأي فلان أو علان، لكن الشيخ ينطلق من منطلقات الإخلاص والنصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، هذا الذي أعتقده وأدين الله تعالى به.
ولذلك اجتمعت عليه الكلمة، واتفقت عليه الأمة، فقلما تجد أحداً يخاصمه أو يبغضه، اللهم إلا أن يكون مبتدعاً مصراً ضالاً، فهذا لا شك أنه يبغضه لأنه من حملة لواء السنة الداعين إليها الذابين عنها.
أما الباحثون عن الحق فيحبونه حباً شديداً ولو اختلف معهم، وما أحوجنا إلى هذا خاصة شباب الدعوة والصحوة، ونحن نجد أن الخلافات تمتد وتكبر، سواء الخلافات الفقهية في مسائل كثيرة، أو الخلافات العملية وتجد الكثير من هؤلاء قد يسمعون رأي الشيخ عبد العزيز نفسه في بعض هذه المسائل فلا يلتفتون إليه، ويقول بعضهم: الشيخ لا يعرف حقيقة الأمر، أو الشيخ تخفى عليه بعض الأمور، الشيخ الشيخ... يا أخي: الشيخ إمام، والشيخ حجة، ونحن لا نقول: إن الشيخ معصوم، من حقك أن تخالفه، أو تخالف غيره، لكن ينبغي أن تلتزم بالأدب مع الشيخ ومع غيره ممن تخالفهم.نحن لا نمنع أن يكون لك رأي، لكن هذا الرأي لا ينبغي أن تطرحه على أنه هو الدين، وهو الحق، وأنك أنت الناطق الرسمي باسم الكتاب والسنة، وأن من خالفك ليس من أهل الكتاب والسنة، أو ليس على الطريقة الصحيحة، أو ليس على الجادة، أو ما أشبه ذلك.اطرح ما لديك بتواضع، واعتدال، وتعقَّل، وقل: هذا رأيي وهو صواب يحتمل الخطأ -كما قال الشافعي رحمه الله- ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. لكن لا تجعل رأيك ديناً توالي وتعادي عليه، وتفاصل من أجله وتقارب.
اطرح رأيك باعتدال يا أخي! كما يطرح الكبار آراءهم، إن كثيراً من الشباب الذين لا يزالون في بداية الطلب يطرحون بعض آرائهم وهي آراء -والله العظيم- ضعيفة، فيطرحونها على أنها الحق، فإذا خالفهم فيها أحد أجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم، ونالوا منه بأقوالهم وأفعالهم، واتهموه في دينه، ونيته، وقصده، وفي...
أما الأئمة الكبار فيطرحون آراءهم باعتدال، وبكلمات مختصرة، وبعبارات هادئة، ولا يتحمسون لها ذلك الحماس، لأنه رأي واجتهاد، ليس نصاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فيا ليت أن شباب الصحوة يقتربون من سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز وأمثاله؛ ليتعلموا منهم حسن الأدب في تقديم الرأي، وحسن الأدب في معاملة المخالف، والاعتدال في الحماس.
إنه رجل العامة، منذ أن كان قاضياً في الخرج وإلى اليوم؛ لا يحجب الناس دونه، ليس عنده حجاب، وليس على بابه بواب، في مجلسه السوقة والأمراء، والكبار والصغار، والعوام والعلماء وطلاب العلم، لم يحتجب بهيبة العلم على وجود الهيبة والوقار على محياه، ولم تشغله أيضاً معاناة أمور الناس ومشاكلهم اليومية عن مواصلة الطلب والبحث، فهو لا يزال طالباً باحثاً في العلم.
الشيخ عبد العزيز يعيش مع العامة في مشاكلهم اليومية، وحاجاتهم المادية، وأمورهم الدنيوية، وفي مشاكلهم الاجتماعية.
ولذلك أصبح قريباً من نفوس الناس، لا تجد أنه يقول: هذا لا يعنيني، وهذا لا يخصني، أو إذا أتيته قال: اذهب إلى فلان، أو اذهب إلى علان، فهو يرى أن كل من قصده في شيء فحقه عليه أن يتقبل شكواه ويبذل وسعه على الأقل في شفاعة، يكتب له إلى فلان وعلان، أو إلى هذه الجهة أو إلى تلك، أو يبذل له هو ما يستطيع.
ولذلك يصح أن يطلق عليه (رجل عامة) ونحن نحتاج إلى هذا النمط من العلماء والدعاة وطلاب العلم الذين لا يحتجبون عن العوام، صحيح أننا لا نطالب أن يجعل الإنسان كل وقته للناس، فهذا أمر صعب فلكل إنسان خصوصياته، وأوقاته وظروفه، وهو يحتاج إلى وقت للتعلم وللقراءة، ووقت للتعليم وللتحضير، ووقت للفتوى إلى غير ذلك.
ولكن ينبغي أن يكون هناك أوقات، وأن يكون هناك استعداد نفسي وشخصي لتقبل مشاكل العامة، والبشاشة في وجوههم، والسؤال عن أحوالهم، ومواجهة مشكلاتهم، وبذل المستطاع في حلها، وهذا النمط من العلماء -أيها الإخوة- هم القواد الحقيقيون للمجتمع.
ويأسى لذلك ويحزن، وأحياناً يبكي وتنهل دموعه، وفي آخر مرة وقد تحدث بعض المشايخ، وكنا عنده عن بعض هموم المسلمين فرأيت الشيخ وقد أصابه الحزن والكآبة والهم من ذلك، وكأنه لا يملك شيئاً فقال: قد كتبنا لهؤلاء، كتبنا لرئيس تونس، وكتبنا لرئيس الجزائر، وكتبنا لرئيس اليمن، وكتبنا ولكن هؤلاء لا يردُّون علينا. فقلت له: يا شيخ! ادع الله تعالى لهؤلاء المستضعفين من المسلمين في تلك البلاد في الثلث الأخير من الليل، فقال لي: إنني في كل ليلة ادعو لهم وللمسلمين. فسبحان الله! هذا القلب يحمل هموم أمة بأكملها، ليس فقط الحزن لهم، بل تجد أنه يبذل المستطاع، يرسل الوفود هنا وهناك، ويرسل المندوبين، ويبعث بالأموال الطائلة إلى المسلمين في كل مكان، ويخاطب بعض المسئولين هنا وهناك فيما يعتقد أن فيه مصلحة، هذا ما يستطيعه، ويرى أن ذلك ينفع ويدفع بإذن الله تعالى.
ونحن نحتاج أيضاً إلى هذا الأمر، نحتاج إلى دعاة يخرجون من الهم المحلي إلى الهم العالمي، ويعيشون مشاكل المسلمين في كل بلد.
ليس فقط أن مسلماً ذبح، أو أن مسلماً مات جوعاً أو عطشاً هذا لا بد منه، ولكن المسلمين في بلاد العالم كلها يعيشون جهلاً وغيبة عن الإسلام، وكما يحتاجون إلى السلاح للدفاع عن أنفسهم، أو الطعام والشراب، يحتاجون أيضاً إلى من يعلمهم السنة والكتاب، ويربيهم على العقيدة الصحيحة.
أقول: إن للشيخ مندوبين ودعاة في كل بلاد العالم، أكثر من ألف داعية يتبعون المكتب الخاص للشيخ، ويقوم الشيخ بالإنفاق عليهم ودفع رواتبهم، وربما بعث من يتحرى أحوالهم، وهذا يذكرنا بتلك القصيدة التي كان يمدح بها بعض الزعماء السابقين ونحن نستعيرها لإمام من أئمة السنة وإن كان أصل هذه القصيدة ليس كذلك:
له خلف بحر الصين في كل بلدة إلى سوسها الأقصى وخلف البرابر |
رجالٌ دعاةٌ لا يفُلّ عزيمهم تهكّمُ جبارٌ ولا كيد ماكر |
إذا قال مروا في الشتاء تسارعوا وإن جاء حرٌ لم يخف شهر ناجر |
هموا أهل دين الله في كل بلدة وأرباب فتياها وعلم التشاجر |
وهذا الأمر يدعو إلى وقفة، عند الشيخ ألفُ داعيةٍ، وهذا أمر كبير وعظيم.
ولكن السؤال الذي يسأل نفسه: كم يوجد في العالم من داعية إلى النصرانية؟ وكم يوجد من مؤسسة وهيئة رسمية تتبنى أولئك الدعاة؟ وكم يوجد من دولة تسهر وراءهم؟ بل كم يوجد من مؤسسة تملك من الميزانية الضخمة والأوقاف الطائلة للصرف على هؤلاء؟ على حين أن المكاتب المخصصة للإنفاق على الدعاة الإسلاميين غالبها مكاتب تطوعية من المحسنين.
إن الشيخ فيما يبدو يكاد وكأنه يتحرك لوحده في هذا الميدان، ولذلك هو لا يستطيع أن يشرق على الدنيا كلها، ولا أن يحيط بأوضاع ألف داعية، كيف هم؟ وما مدى التزامهم؟ وما مدى قيامهم بالواجب؟ وما مدى صلاحيتهم؟ لا يستطيع، فاليد الواحدة لا تصفق.
فالشيخ أحياناً تشعر بأنه يتحرك لوحده، ونحن نطالب الدعاة بأن يكون كل واحد منهم يسد هذه الثغرة، فلو وجدنا مائة داعية في هذه البلاد كل واحد منهم تبنى عشرة من الدعاة في العالم الإسلامي ينفق عليهم، ويجمع من أموال المحسنين لدفع رواتبهم، وكل واحد من هؤلاء الدعاة له مكتب ومركز، وله مدرسة لوجدنا أننا غطينا مساحة كبيرة في ذلك.
إنني أدعو الدعاة وطلبة العلم بهذه المناسبة إلى أن يشاركوا في حمل هذا العبء الكبير، ونحن نسمع اليوم أن أطفال المسلمين في البوسنة والهرسك يلتقطهم النصارى في كل مكان، ويأخذون منهم، ويختارون على عيونهم من يعجبهم، ويربونهم في الكنائس ومدارس التنصير؛ ليتخرجوا لا أقول نصارى، بل قسيسين ومنصرين ودعاة إلى دين النصرانية.
فأين المسلمون اليوم؟! إنني أدعو الدعاة وطلبة العلم إلى أن يشعروا أن المسئولية ملقاة على عواتقهم قبل غيرهم، وأنه لا يجوز أن يلقوها على جهات أخرى رسمية أو غير رسمية، وأن يعتمدوا على الله عز وجل ثم على أنفسهم، وكل إنسان يستطيع أن يقوم بهذا المشروع في نطاقه الشخصي، ولو بصورة محدودة، فيحاول أن يحصل على تربية واحد أو أكثر من أطفال المسلمين مثلاً، أو يحرص الداعية أو طالب العلم على أن يتابع أوضاع عشرة من الدعاة في العالم الإسلامي ويتكفل برواتبهم، وينظم عملية جمع الأموال للصرف عليهم، ويتصل بالتجار والمحسنين من أجل ذلك؛ حتى نوجد القنوات السليمة التي تساعد هذا الجهد الكبير الذي يبذله الشيخ وتضاعف من بركته.
وهناك مواقف كثيرة للشيخ على المستوى العالمي رسمية، وغير رسمية ربما لا يبديها الشيخ ولا يعلن عنها رعاية لبعض الظروف القريبة والمحيطة التي يرى الشيخ أنَّ من المصلحة مراعاتها ووضعها بالاعتبار.
فالشيخ محدث من الطراز الأول يكاد أن يستحضر الصحيحين حفظاً ويستظهرهما، ولا يكاد يفوته شيءٌ من الكتب الستة؛ فإنه وإن لم يكن حافظاً لها إلا أنه يعرف أحاديثها لكثرة ترداده وسماعه لها.
وهو حريص على الحديث والاتباع، لا يقدم على السنة قول أحد من الناس كائناً من كان؛ فضلاً عن ذلك فإن للشيخ مسلكاً في الفقه عجيباً عظيماً.
ولعل الكثيرين لا يتابعون آراء الشيخ الفقهية، ولكن من خلال متابعتي لآرائه فيما يكتب ويُنشر، أو سؤالي له مشافهة عن كثير من المسائل تبين لي أن الشيخ عظيم في الفقه، وكما أن له باعاً طويلاً في العلم بالحديث له باع طويل في المعرفة بالفقه، وآراؤه الفقهية آراء سديدة قوية منسجمة مع القواعد والأصول انسجاماً كبيراً.
ولذلك فإنني أنصح بالعناية بآراء الشيخ الفقهية، ومتابعتها، والسؤال عنها، ولزومها وإن كنا نقول: هو كغيره بشرٌ غير معصوم، ولكن المنهج العام للتفقه عند الشيخ منهجٌ كبير وعظيم، ويا ليت أن الشباب لزموا ذلك المنهج واستفادوا منه.
ولذلك أقول: فيما يتعلق بعناية الشيخ بالعلم والفقه والحديث والسنة؛ لما عرضت على سماحة الوالد موضوع مسابقة السنة، وكان ذلك في شهر رمضان فرح بها فرحاً عظيماً وأثنى على هذا المشروع، ودَعَمهُ من ذات نفسه دعماً مادياً ومعنوياً، ولما طلبت منه الحضور للمشاركة في تخريج الحفاظ اعتذر لكثرة مشاغله ولم يبعد، ولكنه وعد إن لم يستطع الحضور أن يبعث من يمثله، أو يكتب ورقة، أو يتكلم في شريط ويخاطب الإخوة الحاضرين بما يناسب من الكلام.
وهذا أنموذج من عنايته بالمشاريع الإسلامية الخيرية وحرصه عليها جزاه الله خيراً.
وهناك موضوعات كثيرة لكن الوقت يمضي فأمر عليها باختصار:
ولذلك لا يحفظ الشيخ مثل هذه الأمور، وإنما قلبه قلب كبير لا يحفظ إلا الأمور الطيبة الحسنة الجميلة.
وأما الزهد:
فليس في يده من الدنيا شيء، رجل يخرج من الدنيا ولم يتلطخ منها بشيء، بل أحياناً تثقله الديون بكثرة نفقاته، وكثرة عطاياه، وكرمه وجوده، كرماً وجوداً لا يعرفه إلا من رآه بعينه، وأعتقد أنه ليس ثمة من أهل العلم في عياره في هذا المجال، ولا في صفات أخرى كثيرة تفرد بها سماحته حفظه الله، ومع ذلك فقد جمع بين الزهد والكرم.
وهو يملك القدرة على التعامل مع الجيل الحاضر الآن وكما لو كان واحداً منهم، ويعرف همومهم ومشاكلهم وأمورهم المستجدة نظراً لهذه الرواتب والقنوات التي صار متواصلاً بها مع الناس.
أما الشيخ عبد العزيز فإنه لا يلقي باللائمة على غيره، ولا يلقي بالحمل على سواه، بل يشعر بأنه هو المسئول. والمطالب، ويبذل ما يستطيع، ويوصي مع ذلك بمواصلة الآخرين، يعالج المواقف بالذي يقدر عليه، وبالذي يستطيع.
أما الأساليب التي يعالج بها المواقف فهي لا شك أساليب اجتهادية، وقد يستحسن هو شيئاً ويستحسن غيره شيئاً آخر؛ لكن المهم أنه لا يعول على الآخرين فقط ويتخلى هو، أو يبعد نفسه.
كلما جئته في قضية دقت أو جلت قال: نفعل إن شاء الله، ونبذل ما نستطيع، أقل ما يقول: نحن نشفع ونكتب والنتائج على الله، أما أن يقول: لا نستطيع أن نصنع شيئاً، أو لا طاقة لنا بهذا، فقلما تجد أن سماحته يقول ذلك.
وهنا نجد أننا أمام إنسان شعر بالمسئولية، لم يشعر أن الحمل على سواه من الناس، بل يشعر بأن الحمل عليه ويسعى إلى نجاة نفسه بما يستطيع.
ويا ليت كلاً منا يشعر بالمسئولية ذاتها، وكثير يقولون: هذا لأنه ابن باز، ولأنه رئيس إدارة البحوث، لأن تاريخه كذا، لأنه عالم الأمة. لا يا أخي! هناك أناس عندهم من العلم مقدار، وعندهم من المسئولية مقدار، وأنت أيضاً عندك من المسئولية مقدار؛ لكننا تعودنا وتربينا على التنصل من المسئولية، ونقول: فلان لماذا لا يفعل، وفلان لماذا لا يفعل، لكن لا نفكر نحن لماذا لا نفعل!!
وهذه هي أخلاق الكرماء من الرجال، وأذكر أنني اطلعت على أوراق وصلت إلى سماحته عن فلان من الناس داعية مشهور يتهم فيها بأنه مخالف للسنة ومبتدع وفيه كذا وكذا وكذا.
فرأيت أن الشيخ قد كتب لهذا الداعية رسالة فيها التبجيل، والتوقير، والثناء، والدعاء، وبعد ذلك قال: وصلت إليَّ أوراق بشأنكم فيها أنكم كيت وكيت، وأرجو أن يكون ما بلغني عنكم غير صحيح، ولكنني أرسلت إليكم أحببت التثبت من ذلك.
أجل: أنت ماذا تريد إذا قال لك إنسان: أنا برئ، وما نسب إليه كذب، وأنا أبرأ إلى الله من هذا القول الذي نسب إلىَّ، أو هذا الفعل. أنت لست مأموراً بأن تنقب عن أمور الناس! يكفيك أن يظهر الإنسان التزام السنة، ومجافاة البدعة، والدعوة إلى الخير، والنهي عن المنكر. فهذا كافٍ.
أما سرائر الناس ودخائلهم وبواطن أحوالهم فهذه أمرها إلى الله: { ومن تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته } كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
والكلام حول الشيخ يطول، ولكن هذا غيض من فيض، وقد أعطاني أحد الشباب الآن ورقة فيها قصيدة جميلة لمدح الشيخ عبد العزيز -حفظه الله- والقصيدة طويلة لكن أقرأ بعض أبياتها. يقول:
هل المدح إلا فيك يزجا ويوفد ألا كل مدح في سواك مفند |
رجوت نوال الله إذ مد شاعر بنفسٍ هلوعٍٍ نحو ما مدت يد |
حللت مكاناً كادت العين دونه تَكِلُّ فلا تدري بأيان تقعد |
جناح بزاة الطير ريش وإنما جناحاك يا باز التقى والتعبد |
وضاق فسيح الجو عنك فجزته فما لك إلا جنة الخلد مقصد |
ملكت مقاليد القلوب وإنها لمن دولة الدنيا أعز وأخلد |
عجبت لقلب واحد كم تفجرت به من عيونٍ حولها الناس رُكَّدُ |
مهيضُ جناح قد أتاك جبرته ومقطوع حاجات من الجاه يُرفد |
حميت حمى التوحيد ستين حجة تنافح عنه من به السوء يقصد |
فتاواك هل في صفحة الشمس سُطِّرت ففي كل قطر في الدنا لك منشد |
إذا ما اشتكى ذو العجز قبح زمانه كفى من جوابي أن تشير لك اليد |
ولم تخلف الأيام في الناس سيرة ولكن هُمُ للأرض لانوا وأخلدوا |
تهابك عين الناظرين كأنما رأت أسداً أو فارساً يتأسد |
وهل أبصروا إلا أناة ورأفة ولكن هي التقوى تبدت فأرعدوا |
وقالوا: ضريرٌ قلت: أعظم مفخرٍ ضريرٌ يقود العالمين ويرشد |
غريب الزمان لا المكان أيا ترى ضللت الطريق أم تأخر مولد |
فما أنت إلا من بقايا معاشرٍ هُمُ القوم سفيان وسهل وأحمد |
فقم يا أبي وانظر بنيك فإنهم يضيق فسيح الأرض عنهم ويجهد |
إمام الدنا عذراً فشعري قاصرٌ يوفيك بعض الحق فالكل أبعد |
الجواب: ينبغي أن يكون الاتصال مع حسن أدب وتلطف وصبر وأناة؛ لأنك تضع في اعتبارك أنه جاءهم غيرك، وتكلم معهم غيرك، وراسلهم سواك. فليكن كلامك واضحاً، وقوياً، وليكن كلامك صريحاً، ولكن ليكن أيضاً بشيء من الاحترام والتبجيل ومعرفة أقدار هؤلاء العلماء.
الجواب: هذا الشيخ له مواقف كثيرة قد لا يعلمها الناس، ويرى هو أن من المصلحة ألا يعلن عنها فتظل هذه الأشياء في طي الكتمان، وهي جزء من تاريخ الشيخ الذي يجب أن يعرف اليوم أو غداً.
الجواب: هذا أمر طيب. فأنا أدعوك وأدعو نفسي إلى أن تخصص للشيخ دعاءً في سجودك وصلاتك ولعلماء المسلمين ولدعاة المسلمين أيضاً، فتخص الشيخ ثم تعمهم.
صحيح هذا من أبرز ميزاته.
الفائدة الثانية: الشيخ درس على الشنقيطي في علم المنطق وكان في منصب مدير الجامعة، والشيخ الشنقيطي مدرساً فيها.
الجواب: لا. ليس الشيخ حافظاً للكتب الستة، لكن يظهر لي أن الشيخ عنده عناية كبيرة في الصحيحين، ولا يكاد يفوته من متونهما شيء.
الجواب: في الواقع أن الخلاف قديم، والخلاف الآن هو بين المليشيات التي كانت تقاتل المجاهدين في السابق على مدى أربعة عشر عاماً، وهي طرف أساسي في النـزاع اليوم.
والكلام في هذا الموضوع له ميدان آخر.
الجواب: أنا أدعو إلى القنوت لهم الآن في هذه الظروف الصعبة، أدعو أئمة المساجد، وخطباء الجوامع إلى القنوت لهم في مثل هذه الظروف، وكثرة الدعاء لهم لعل الله أن ينصرهم ببركة دعاء المسلمين.
، الوسائل التي يستخدمها المنصرون، ولعلك نسيت نوعاً أو وسيلة مهمة ألا وهي عن طريق أفلام الفيديو وسوف أثبت لك ذلك.
عندما كنت صغيراً كنت مولعاً بأفلام الرعب، وفي أحد الأفلام كان هناك جني تلبس بامرأة فجاءوا لها بقسيس فقرأ عليها من الإنجيل وأخذ يضع الصليب بين عيني المرأة فأخرج الجني من تلك المرأة -طبعاً هذا تمثيل- فقلت في نفسي وأنا صغير: إذا ما جاءني جني فسوف أصنع لي صليباً صغيراً لأخيف به الجن؟
الجواب: لقد ذكرت أن الأفلام -أفلام الفيديو وغيرها- بعض الوسائل التي ينصرون بها، ولو رجعت إلى الشريط مرة أخرى لوجدتني أشرت إلى ذلك، ثم أشرت أيضاً في الشريط الذي بعده وهو:
أما هذه القصة التي تذكرها فهي تمثيل لا حقيقة لها.
أسأل الله أن ينجيك والمسلمين. وجزاك الله خيراً أيضاً.
الجواب: نعم هذا شيء طيب.
الجواب: إن بعض أعداء الإسلام عملوا ذلك، وبعضه قد يكون نتيجة لسوء التربية أو اختلاف الاجتهادات أو غير هذا.
ولو رجعت إلى محاضرة (حقيقة التطرف) لوجدت الجواب لذلك.
الجواب: في الواقع أنه لا يظهر في التلفاز كمتحدث، وإن كان يفتي بجواز الظهور لبعض طلبة العلم إذا كان في ذلك مصلحة.
ولكنه قد يُرى في بعض المناسبات العامة.
أما رأي الشيخ عبد العزيز في التصوير فهو معروف أنه يراه محرماً.
هذا وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم إلى ما يحب ويرضى، وأن يرزقنا محبة هؤلاء العلماء والاقتداء بهم، وأن يحشرنا معهم ومع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر