أما بعــد:
فكما وعدتكم في الدرس الماضي، فإن هذا الدرس سوف يكون عن "أسباب سقوط الدول"، ورقم هذه الحلقة: (18) وهي تنعقد في مساء الأحد ليلة الإثنين: 7/صفر/1411هـ.
إخوتي الكرام: الدهر دول، والأيام قُلَّب، ولو بقيت الدنيا لمَنْ قَبْلَنا لما وصلت إلينا، ولو بقي المُلك في أيدي السابقين لَمَا وصل إلى اللاحقين، يقول الله عز وجل: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140].
فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساءُ ويوم نسر |
ويقول عز وجل: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251] هكذا قرأها الجماعة: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ [البقرة:251] وقرأها آخرون: وَلَوْلا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [البقرة:251] بكسر الدال في (دفاع) والمعنى واحد.
أي: أن الله يدفع الناس بعضهم ببعض، فيدفع هذا بهذا، وهذا بهذا، يدفع الكافر بالمؤمن، ويدفع البلاء عن الفاسقين بالمطيع، وهكذا يبتلي الله بعض العباد ببعض، يبتلي المؤمن بالكافر، ويبتلي الكافر أيضاً بالمؤمن.
وهذه الآية تبين لنا سنة إلهية، يسميها بعض العلماء: سنة الخلفية، والخلفية يعني: أن كل شيء في هذه الدنيا له خلف لا يـبقى، فالإنسان -مثلاً- يموت ويخلفه أولاده من بعده، وهكذا سائر الحيوان، وكذلك النبات يكون البذر فيه، فإذا مات منه شيء نبت شيء آخر، وهكذا الحال في العناصر الكيميائية، وفي غيرها مما هو موجود في هذه الدنيا؛ فإن كل شيء يخلفه شيء آخر، وقد جعل الله عز وجل في طبيعة هذا الشيء أنه قابل لأن يكبر عن شيء آخر يَضْمَحِلُّ ويزول.
وهكذا الشأن تماماً في الدول، فإننا نعلم الآن أن التاريخ - وقد مر في هذه الدنيا حقب، وعصور، ودهور طويلة - يشهد نهاية دولة وقيام دولة أخرى، وقد يطول عمر الدولة وقد يقصر، لكن النهاية عليها محتومة، كالموت بالنسبة للإنسان، فقد يمتد عمر الإنسان إلى مائة سنة، ومائة وعشر، ومائة وعشرين سنة، لكن في النهاية لا بد أن يموت، ويكون من بعده ورثته وذريته.
وهكذا الشأن في الدول، فقد يطول عمر الدولة، حتى تصبح كما كانت دولة بني العباس، أو دولة العثمانيين، تنيف على خمسة قرون، لكن أتتها النهاية فانتهت، وزالت، وبادت، وقد يقصر عمر بعض الدول حتى تكون سنين قصيرة، أو عشرات السنين على أكثر تقدير.
ولو كُتب للإنسان أن يقرأ تاريخ أمة من الأمم، أو دولة من الدول لتعجب من كثرة الملوك، والحكام الذين مروا عليها، وهذا إذا حصل للإنسان فإنه يعطيه إحساساً بالتاريخ، ومعرفة بتغير الأحداث.
وأذكر كتاباً أو قصيدة بالأصح لرجل يمني اسمه نشوان بن سعيد الحميري، ونشوان هذا كتب قصيدة يؤرخ فيها للتبابعة ملوك اليمن، وهم يزيدون عن ألف ملك.
وقد كتب قصيدة جميلة حلوة، فيها عبرة وعظة يؤرخ فيها لهؤلاء الملوك، وهي قصيرة مطبوعة مع شرح لها بعنوان: "خلاصة السيرة الجامعة لملوك اليمن التبابعة" وهذه القصيدة يقول في مطلعها:
الأمر جد وهو غير مزاحِ فاعمل لنفسك صالحاً يا صاحِ |
كيف البقاء مع اختلاف طبائعٍ وكرور ليل دائمٍ وصباحِ |
تجري بنا الدنيا على خطرٍ كما تجري عليه سفينة الملاحِ |
تجري بنا في لج بحرٍ ما له من ساحل أبداً ولا ضحضاح |
إلى أن يقول - بعدما سرد مجموعة من الملوك -:
وملوك حمير ألف ملك أصبحوا في الترب رهن ضرائح وصفاحِ |
إلى آخر تلك القصيدة.
المهم: أنه يسرد لك أسماء الملوك، وكم عاشوا، وما شيدوا وبنوا وحكموا وقتلوا وسفكوا، وفي النهاية أفناهم الدهر، ثم انتهت أيامه ولياليه، وأصبح خبراً وأثراً بعد عين.
المرحلة الأولى: بعدما يحصل للدولة النصر والظفر والتمكين، يكون القائمون عليها أقوياء، فيهم شظف العيش، والبداوة، والبسالة، والشعور بالجهد والتعب الذي بذلوه في تحصيل المُلك، فيكون عندهم قوة، وحزم، وصبر، وتحمل، وحسن سياسة للأمور. فهذا الجيل الأول.
ويأتي بعدهم الجيل الثاني: وهذا الجيل أقل من الأول وأضعف منه، فإنه قد أتى إلى دولة قائمة مستقرة، وورث ملكاً عن أبيه ثابتاً، وفي الوقت نفسه يكون لهؤلاء من الترف والدَّعة وأنواع الأموال ما يجعلهم يميلون إلى نوع من التساهل، والعناية بالمآكل والمشارب والمراكب والمناكح والملاذ بهذه الدنيا؛ مع أنهم قد ورثوا شيئاً من القوة، إما لأنهم عاشوا بعض زمن قيام الدولة، أو سمعوا من أخبار آبائهم وحديثهم ما يجعلهم أقوياء أشداء إلى حد ما.
ثم يأتي بعد هذا الجيل الجيل الثالث: الذي ما عاش شيئاً من قوة الدولة، وتكاليف نهوضها وقيامها، ولا سمع الأخبار تتلى ممن شاهدوا وعاينوا، ووجد ملكاً موطأً، ووجد مالا، وجاهاً عريضاً، فيميل إلى الراحة والدعة والاسترخاء، وعلى يد هذا الجيل غالباً ما تكون نهاية تلك الدول.
فقسم ابن خلدون الدول إلى ثلاثة أجيال:
الجيل الأول، الذي أنشأ الدولة، وأقامها.
ثم الجيل الأوسط.
ثم الجيل الأخير، الذي يميل إلى الراحة والدعة والترف، وتكون نهاية الدول -غالباً- على يد هذا الجيل.
ذَكَر الطور الأول منها: وهو أنها أول ما تقوم يغلب عليهم نشوة الظفر، والحصول على المطلوب، فأي مجموعة من الناس، أصحاب عصبية، أو قبيلة من القبائل جاهدت وقاتلت حتى حصلت على المُلك، تجد أنهم في المرحلة الأولى مجتمعين؛ لأن المُلك حصل لهم جميعاً، فبينهم تعاون وتظافر وتلاحم؛ لأن هذه هي العصبية التي قامت عليها الدولة.
وبعد ذلك يأتي الطور الثاني: وهو أن يعمل بعضهم على الاستئثار بهذه الدولة وبهذا الملك العريض الذي ورثوه، فيحرص أحدهم على أن يكون المُلك فيه وفي بنيه من بعده -مثلاً- وأن يكون له السمعة الحسنة، والجاه العريض، فيعطي الناس العطايا، ويصنع الصنائع، ويُحسِن ليُذْكَر، ويقال: عَمِل فلانٌ، ويُنسى مَن عداه، وهذه هي المرحلة الثانية، وسماها ابن خلدون مرحلة أو طور الاستبداد عن المشاركين والانفراد عنهم بالسلطان.
ثم الثالثة: مرحلة أو طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات المُلك.
والرابعة: هي مرحلة الخنوع والمسالمة والتقليد للسابقين؛ بحيث يقول الإنسان: ما كان عليه آباؤه وأجداده هو السليم، والخروج عنه قد يؤدي إلى الانهيار.
وأخيراً: مرحلة الإسراف والتبذير؛ حيث يصطنع الحاكم قرناء السوء، ويقربهم منه، ويُبْعِد الجلساء الصالحين الناصحين، فيحملون عليه ويحقدون، ويتمنون زواله.
زوال مِلَّة.
وزوال دولة.
وأصبح الإسلام غريباً، حتى أنَّ ذِكْرَه اندَرَسَ في بلاد الأندلس، فلا يكاد يذكره أحد، ولا يكاد يسمع به أحد، وهكذا أصبح الأمر كما ذكر أبو البقاء الرندي:
حتى المساجد قد صارت كنائس ما فيهن إلا نواقيس وصلبان |
حتى المآذن تبكي وهي جامدة حتى المنابر تبكي وهي عيدان |
وهكذا الحال في عدد من البلاد الأوروبية التي حكمها الإسلام، على عهد دولة بني عثمان، فقد بسط العثمانيون سلطانهم على كثير من أنحاء أوروبا، وحكموها بالإسلام، ودانت لهم ردحاً من الزمن، ثم زالت دولة بني عثمان، وتحولت تلك البلاد إلى ديانتها النصرانية الأولى، وعادت إلى ما كانت عليه، فهذا زوال ملة.
مثلاً: زالت دولة الخلفاء الراشدين، وخلفتها دولة بني أمية، ثم زالت دولة بني أمية، وخلفتها دولة بني العباس، وزالت دولة بني العباس، وجاءت دولة المماليك, وزالت دولة المماليك، وجاءت دولة الأتراك، ثم زالت دولة الأتراك وجاءت دول الطوائف، فأصبح كل بلد منفرداً بحكم خاص، فهذه ليس فيها زوال الملة -غالباً- وإنما فيها زوال الدولة.
ولا شك أن زوال الملة هو الأخطر، ولذلك كثر بكاء الشعراء على الدول التي خرجت من بلاد، وتحولت تلك البلاد إلى بلاد الكفر، كـالأندلس -كما ذكرت- وقريبٌ منها فلسطين، فأن اليهود احتلوها، وكادوا أن يفعلوا بها كما فعل النصارى بـالأندلس، ولذلك سماها بعض الشعراء أخت الأندلس، يقول:
خلتُ فلسطين من أبنائها النجب وأقفرت من بني أبنائها الشهب |
طارت على الشاطئ الخالي حمائمُه وأقلعت سفن الإسلام والعرب |
يا أخت أندلس صبراً وتضحية وطول صبر على الأرزاء والنوب |
ذهبتِ في لجة الأيام ضائعة ضياع أندلسٍ من قبل في الحقب |
وطوحت ببنيك الصيد نازلة بمثلها أمة الإسلام لم تُصَب |
وهكذا ما كان يحاوله الروس في أفغانستان، فإنهم لم يكونوا يحاولون تغيير الدولة، بل كانوا يحاولون تغيير الملة، وإبادة خضراء المسلمين وهدم المساجد على رءوس المصلين!! وهكذا فعلوا أو حاولوا أن يفعلوا في عدن؛ فإن الشيوعية حين احتلت عدن لم يكن حكماً بديلاً عن حكم، بل كان ديناً بديلاً عن دينٍ وملةٍ أخرى.
ولذلك قضوا على الإسلام فيها قضاءً مبرماً، أو كادوا، وعلقوا جثث العلماء والمشايخ على الأعواد في الميادين العامة، وهتكوا الأعراض، ومنعوا الدروس وحِلق العلم، حتى حصل من أمرهم ما حصل، ومع ذلك فالإسلام يتمرد على هذه القيود، وينتفض مرة بعد أخرى، كما نلاحظ في أفغانستان، وفلسطين، وعدن، بل حتى في أسبانيا؛ فإن الذين يزورون بلاد أسبانيا التي كانت تسمى: الأندلس يذكرون أن الإسلام الآن بدأ ينتعش فيها من جديد، وبدأت النشاطات الإسلامية فيها على قدم وساق، وظهرت مراكز إسلامية في عدد من مدن أسبانيا.
خذ على سبيل المثال: وجود دول نصرانية أو يهودية في وسط إسلامي، أو وجود دول شيعية فاطمية في وسط سُنِّي، فإن هذا من الأسباب المؤذنة بالزوال.
ولذلك لما حكم العبيديون في مصر وغيرها، تسلطوا وطغوا وبغوا، وفرضوا سلطانهم وقتاً من الزمان، ومنعوا قراءة صحيح البخاري، ومنعوا تداوله، وحاربوا السنة وأهلها.
ولكن مع ذلك فإن المصريين وغيرهم ممن حكموهم لم يقبلوا دينهم، ولم يرضوا بهم، بل كانوا يتربصون بهم الدوائر، فإذا حصل تهديد للعبيديين الفاطميين، فرحت بذلك الشعوب التي يحكمونها، وقالوا: يذهبون غير مأسوف عليهم.
وهكذا بالنسبة للدول النصرانية التي قامت إبَّان الحروب الصليبية في الشام وغيرها، فإنها سرعان مازالت وبادت، وقُلْ مِثْلَ ذلك في دولة إسرائيل التي تعيش الآن بين المسلمين، فعلى الرغم من أنها أقوى دول المنطقة بلا منازع، وتملك من قوة الحديد والسلاح والمال والاقتصاد والنجاح في برنامجها السياسي ما لا تملكه جميع الشعوب العربية بلا شك، وكذلك تملك من الدعاية الغربية الشيء الكثير، حتى إن الغرب يعتبر أن إسرائيل هي الدولة الناجحة في الشرق الأوسط، وأنها دولة حضارية متقدمة في وسط عالم عربي همجي متأخر.
فهذا تصوُّر الغربيين عن إسرائيل، ومع ذلك فقد ظهرت -الآن- أصوات كثيرة حتى في أوروبا نفسها، تقول: إن إسرائيل بذرة غربية في جو غريب، وأنه لا بقاء لها، ولذلك أُذِيع في التلفزة الغربية فيلم يسمونه بالانتفاضة الفلسطينية، يتكلم عن بداية الهزيمة لـإسرائيل، والنصر الساحق للشباب والأطفال والنساء الذين يحملون الحجارة، ويقاتلون الغزاة اليهود المحتلين، وقد كان لهذا الفيلم الذي عُرض أَثَرٌ كبير في نظرة الغربيين؛ حتى أن اليهود قاموا بحربه، وحاولوا محاربة القنوات التي قامت ببثه، حتى حاربوه فعلاً ومنعوا تداوله.
لكن مع ذلك بدأت الأصوات تقول -حتى من اليهود أنفسهم-: إن إسرائيل بذرة غربية في وسط لا يمكن أن يقبلها، فهي أشبه ما تكون بجسم غريب زرع في بدن لم يقبلْه، كما لو زرعت كِلْية في بدن ولم يقبلها، ولم يسرِ فيها الدم بصورة طبيعية، ولم يتقبلها الجسم، فإنها آيلة إلى الموت، ولا بد من تغييرها واستبدالها.
إذاً: فمن أهم أسباب الزوال: أن تكون الدولة نشأت في مكان أو زمان غير مناسبَين وغير طبيعيَين؛ فهي لا تصلح فيه، ولابد أن تزول.
وذلك أن الله عز وجل أعطى كل إنسان عقلاً وفهماً وإنسانية وشخصية، فإذا أهدرتَ عقلَ الإنسان أو شخصيتَه، فإنه لا ينفعه أن تعطيه الدنيا كلها، أرأيت إنساناً تزدري عقلَه وتحتقرَه وتهينَه، أو تستخفَّ به، أو تعاملَه بخلقٍ سيء، هل ينفعك معه أن تعطيه المال الكثير الوفير؟!
هذا لا ينفعه أبداً.
ولذلك يُقال: إن فرعون الطاغية المتجبر، المتأله الذي كان يقول: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] كان يقال: إن فرعون باذخاً في العطاء والإنفاق على الفقراء والمحتاجين والمساكين والمُعْدَمين، إذ كان يعطيهم في كل سنة مائتي ألف دينار فرعوني، يخصِّص هذا للفقراء والمساكين والمحتاجين، ويخصِّص مثلها لرجال الملة والدين -رجال دينهم- الذين يقومون بتعليم الناس طقوسَهم وعباداتهم، ويخصِّص مثلها لذوي الحاجات ومن تنـزل بهم الفاقة، وكان يعطي عطاءاً كبيراً، وكان يحضر على مأدبته ووليمته أعداد غفيرة من الناس؛ يكرمهم ويطعمهم، ويجعل لكل فرد منهم ألواناً خاصة من الطعام، حتى يأكل منها ما يشاء ويدع ما يشاء.
ومع ذلك كان الناس يكرهونه، وآلَ أمْرُه إلى الزوال والفناء، لماذا؟
لأنه استخف بعقول الناس واستبد، وصادر حرياتهم الدينية وحرياتهم الفكرية.
فأما بالنسبة للحرية الدينية: فكان يقول: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] وكان يدَّعي أنه يجري في عروقه دمٌ إلهي، وأن على الناس -كلهم- أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً...!
وأما بالنسبة للحريات؛ حرية الفكر، والرأي، والمشورة: فإنه كان يقول لهم: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29] فأصبح ليس هناك رأي، ولا مشورة، ولا تفكير، إلا بما يقوله فرعون نفسه، وما يمليه على مَن حولَه، وكان يتهدد كلَّ مَن يخالفه بالرأي، ويأتي برأي غير رأيه، أو مذهب غير مذهبه، أو يجتهد في أمر بخلاف ما يريده فرعون؛ بالقتل والسجن، ولذلك قال لموسى: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29] والمعنى: المسجونون كثيرون، لكن أنت ستكون منهم إن خالفت ما آمرك به، وما أمليه عليك.
ولذلك نلاحظ أن الحكومات الدينية الشرعية كانت تهتم بالشورى، فالحكومة التي أقام بنيانها محمد صلى الله عليه وسلم، كانت تقوم على الشورى، قال تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159] وقال: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38] ولذلك لم يكن أحدٌ أكثر مشورة لأصحابه من النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن الله تعالى أيده بالوحي، وكثيراً ما كان يقول: {أشيروا علي أيها الناس} ومن ذلك ما حصل في معركة بدر، وفي معركة أحد، وفي صلح الحديبية، وغيرها من المناسبات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من مشاورة أصحابه؛ وذلك ليعلمهم المشورة من بعده.
ولذلك لما تولى أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وبقية المؤمنين، كانت حكوماتهم حكومات شوروية، لا ديمقراطية -كما يقولون بلسان العصر الحاضر-.
فكانت حكومات شورية، ربانية، على منهاج النبوة، ولم تكن حكومات استبدادية يقول فيها القائل: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29] فكان كل فرد يشعر بأن الرأي رأيه؛ إذا تشاوروا في الأمر، فإن كان صواباً فالحمد لله، وإن كان خطأ لم يُلْقُوا باللوم على الحاكم، ويقولون: استأثرت بالأمر دوننا، وفعلت هذا الأمر بمحض رأيك، ولو أخذت رأينا لخالفناك، وبَيَّنَّا لك وجه الصواب؛ لا يقولون له ذلك؛ لأن الرأي صدر عن مداورة ومشاورة بينهم جميعاً، ولهذا كان لها من النفوذ والقوة والبقاء الشيء الكثير.
ويكفي أن نقول: إن الحكومة الشرعية الدينية ظلت باقية قروناً طويلة.
صحيحٌ أن الدول تغيرت من الخلافة الراشدة، إلى الأمويين، إلى العباسيين، إلى العثمانيين، لكنها كلها كانت حكومات تقوم على أساس الحكم بالشرع.
ولم تقم دولة من الدول في عصر من العصور السابقة كلها تنادي بحكم غير حكم الله ورسوله قط، بل كانت تقوم على أساس الشريعة الإسلامية.
وحين دب إلى الدولة العثمانية الاستبداد، وطغى خلفاؤها المتأخرون، ثارت عليهم الثورات في كل مكان، ولم يفدهم بعد ذلك أنهم أعلنوا الدستور، وجعلوا هناك ما يسمونه بمجلس الشورى، أو مجلس نيابي شكلي يختارون فيه أفراداً يعيِّنونهم، لم ينفعهم ذلك، فسقطت دولتهم لأسباب كثيرة من أهمها: إهمال الشورى، وضياع الحياة الدستورية الصحيحة في بلادهم.
وقل مثل ذلك بالنسبة للدول المعاصرة، فنحن نشهد في هذه الأيام سقوط الشيوعيةt/ في عدد من الدول التي حكمتها عشرات السنين، فسقطت هذه الدول التي هي مدججة بالحديد والنار والاستخبارات والقوة الأمنية، ومع ذلك سقطت أمام تيارات الجماهير التي تصرخ وتنادي بحريتها في عدد من البلاد، بل أصبحت تتهاوى كما تتهاوى لَبِنات البناء المتهالك القديم إذا تعرض لإعصار شديد أو لضربة قاضية!! وهاهي روسيا التي هي أم الشيوعية
فسقوط الشيوعية منبئ عن أهمية الشورى، ومعرفة قيمة الفرد، وأن كل دولة تقوم على الحديد والنار، وتبطش بالناس، فإنها آيلةٌ للزوال والفناء؛ فالقوة لا بقاء لها.
وهكذا الشأن في نظام شاه إيران، النظام الفاسد الهالك.
فإن شاه إيران كان يحكم الناس بالسلطة والحديد والنار والقوة، وكان نظام المخابرات عنده المعروف بنظام (السافاك) يلاحق خصوم النظام في الداخل والخارج، ويلتقطهم واحداً بعد آخر، وينكل بهم شر تنكيل، وكان شاه إيران يحلم بإقامة امبراطورية فارسية، ويعيش على هذه الآمال العريضة، وما هي إلا أيام حتى ضج الناس من بطشه وطغيانه، فلما سمعوا بالثورة الإيرانية التي يقودها الخميني الهالك، وتناقلوا أشرطته التي كانت تندد بما يسميه (الشاهٍ شاه) الذي يحاول أن يستأثر بالملك، بل يحاول أن ينازع الله تعالى في ملكه، فيتشبه به بهذا الاسم ملك الأملاك (شاهٍ شاه) ولا مَلِك إلا الله، وكانت أشرطته تمشي في شوارع إيران، وهي تفعل في الناس كما تفعل النيران بالأشياء المتهالكة والهشيم...!
وما هي إلا أيام وشهور حتى زال الشاه، وخرج من ملكه، ثم ورثه بعد ذلك وجاء من بعده: شاهٌ آخر، لَبِسَ جُبة وعمامة، ولكنه عاد إلى الأساليب نفسها التي سلكها سلفه، ولذلك فإن السُّنَّة الإلهية لابد أن تمضي على ما يسمونه بالجمهورية الإسلامية، كما مضت على جمهورية شاه إيران من قبل، ولابد أن تزول بنفس السبب، وهو سلوكهم أسلوب الدكتاتورية والتسلط والحكم الفردي، وأخذ الناس بقوة الحديد والنار: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29] بالأسلوب الفرعوني في الحكم.
وفي مقابل ذلك، فإننا نجد الأنظمة الغربية الآن في أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، إذا أردنا أن نكون واقعيين وصرحاء؛ فإن هذه الأنظمة أكثر استقراراً من الأنظمة الشيوعية بلا شك، وأكثر استقراراً من الأنظمة العربية والإسلامية المعاصرة كلها.
وليس ذلك لأن الأنظمة الغربية تقوم على مبدأ.. كلا! بل إن الأنظمة الغربية لا تقوم على مبدأ، فهي ليست أنظمة دينية، بل هي أنظمة علمانية.
ولذلك في أمريكا -مثلاً- يمنعون من تعليق صور المسيح في المدارس والمؤسسات الحكومية، ونحن المسلمون نعرف أن الصور ممنوعة، وتصوير الأنبياء والصالحين وتعليقها شرك يؤدي إلى عبادتهم، وكذلك سائر العظماء، بل تعليق الصور مطلقاً لا يجوز، وموقفنا من التصوير واضح، لكن النصارى أنفسهم يعتبرون الصور رمزاً لدين وعبادة عندهم؛ لذلك يعلقون الصور في الكنائس والمعابد؛ لكن أصدرت الحكومات أوامر بمنع تعليق صور المسيح وأمِّه في المدارس والمؤسسات، لماذا؟ لأنهم يقولون: نحن دولة علمانية، لا نريد أن ينشأ الأولاد عندنا في المدارس على التَّديُّن بدين معين، أو تعظيم شخص معين؛ فالذي يريد الدين يذهب إلى الكنيسة.
فهذه دول علمانية، كذلك هي دول ليس لها مبدأ معين، إنما مبدؤها المادة والمصلحة، ومع ذلك فهي حكومات ودول مستقرة إلى حد بعيد، لماذا؟
لأنها حكومات لم تقم على منهج الحكم الديكتاتوري المتسلط، بل هي أعلنت ما تسميه -هي- بالحكم الديمقراطي، وهم يقصدون بالحكم الديمقراطي: أن الفرد هو مصدر السلطات، فالإنسان المواطن هو مصدر السلطة عندهم، لماذا؟ لأنه لا يوجد عندهم دين، فالسلطة، والحرام والحلال هو ما أحله أو حرمه الشعب عندهم، وكذلك الأنظمة هي ما تختارها الشعوب، ويسمون ذلك بـالديمقراطية.
وبغض النظر عن موقف الإسلام من هذا النظام، وأن الإسلام لا يعتبر أن الأمة مصدر السلطات، بل إن القرآن والسنة هما مصدر السلطات، إذا قصدنا بالسلطات: الشرائع، والأحكام، والحلال، والحرام، فإن الإسلام لاشك يؤمن بقيمة الفرد؛ ولذلك فإن الحكومة التي تهتم بالفرد وتعطي الفرد عناية واهتماماً، وتأخذ رأيه هي أولى بالبقاء والاستمرار من تلك الحكومة التي تهدر قيمة الفرد، وتحكمه بالحديد والنار، وتسلك الطريقة الفرعونية في الحكم: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29].
فهذه الدول الغربية الديمقراطية الانتخابية في أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وغيرها هي الآن باقية مستقرة، لأنها بإزاء حكومات ديكتاتورية متسلطة؛ لكن إذا واجَهَتْها في يوم من الأيام حكوماتٌ إسلامية شوروية صادقة، تحكم بالكتاب والسنة، وتطبق منهج الله عز وجل، وتعطي الفرد قيمته التي أعطاه الله تعالى، فلا شك أنها حينئذٍ سوف تزول وتنهار، فالدهر -كما ذكرتُ لكم- دولٌ، وهذه ساعة آتية لا ريب فيها.
والمؤسف: أن كثيراً من البلاد الإسلامية، بل -إن صح التعبير- نقول: إن البلاد الإسلامية أصبحت تحكم بنظام حكمٍ أقرب إلى النظام المتسلط منه إلى النظام الذي يضع قيمة الفرد باعتباره، فإننا نجد أن الفرد في البلاد الإسلامية ليس له قيمة.
وكم هو مؤسف -أيها الأحبة- أن نجد أن الكفار أصبحوا يأخذون برأي شعوبهم وأفرادهم في قضايا لا تخصهم كثيراً، بل هي تخصنا نحن، فمثلاً: إذا أرادت أمريكا أن تعلن الحرب على العراق، فإنها تأخذ برأي شعبها وأفرادها، وتعمل استبيانات من خلال مراكز لمعرفة رأي الناس، وهل هم يوافقون أو لا يوافقون، يؤيدون أو يعارضون، فتظهر النتائج -مثلاً- أنه في أمريكا (70%) من الناس يؤيدون ما يسمونه بالتدخل في الخليج، وضرب العراق، وهكذا الشأن في فرنسا، وفي غيرها.
وقل مثل ذلك في أمور كثيرة جداً، يأخذون استبيانات وآراء الناس في هذه الأمور، ويطبقون ما آلت إليه؛ وذلك لأن الحاكم نفسه يدري أن الناس إذا كرهوه فإنه يسقط في الانتخابات، أما في البلاد الإسلامية فإنه حتى القضايا التي تهمهم وتعنيهم، فإنه يُفْرَضُ عليهم فيها رأي معين، هو في الغالب رأي فرد، تشقى به البلاد والعباد، وليس لأحد في ذلك نظر ولا رأي ولا كلام، والويل لمن يفكر بأن يبدي رأياً آخر.
ولعل هذا من آثار الاستبداد، فإن الطاغية المستبد تعوَّد ألا يسمع كلام نقد أو ملاحظة، تعوَّد أن يسمع كلام الثناء، ولذلك يختار الناس الذين يثق بأنهم سوف يكونون معه على طول الطريق.
ومن الطرائف والنكت التي تناولتها الصحف في يوم من الأيام، هي نكتة يضحك منها الناس، لكنها في الجانب الآخر تشبه الحقيقة التي تُعَايَش في البلاد الإسلامية، تعرفون أن جمال عبد الناصر حكم دهراً، وضحك على الناس وقتاً، واستخف بعقولهم وعواطفهم، وأودع من يخالفه في الرأي في غياهب السجون، وكان مِن أول ضحاياه زملاؤه في الثورة، ممن يسمونهم بالضباط الأحرار، ثم قضى على الدعاة والعلماء والمسلمين، ونصب لهم المشانق.
فالمهم: مِن النكت التي كانت تتداولها الصحف وقت جمال عبد الناصر، يقولون: إنه زار حديقة الحيوان، فمر على حمار، فوقف عنده - قلت لكم: إنها أسطورة، لكن لها معنى مثل قصص كليلة ودمنة- قال له: من الذي جعلك في هذا المكان؟
قال له: وضعوني فيه فجلست، قال: ماذا تأكل؟
قال: آكل ما يقدم لي، قال: ماذا تشرب؟
قال: أشرب ما يقدم لي، قال: ومتى تخرج؟
قال: إذا فتح الباب.
والمهم: أنه كلما سأله عن شيء بيَّن أنه مطيع، إذا أُمِر بشيء نفَّذ، وإذا نُهي عن شيء انتهى، وإذا قدم له شيء أكله، وإذا مُنع من شيء امتنع، فقال لمن حوله: إن هذا يصلح عضواً في مجلس الشعب، اذهبوا به إلى مجلس الشعب، أي: أنه يختار ممن حوله أعواناً إذا قال شيئاً أمَّنوا على ما يقول؛ لأنه تعود ألا يسمع رأياً مخالفاً، ولذلك ينفعل، ويطير صوابه، إذا سمع صوتاً يقول له كلمة الحق، لأنه ما تعود.
وأذكر أننا سمعنا -جميعاً- في الإذاعة، أن الزعيم الهالك -زعيم مصر السابق- كان في إحدى الاحتفالات يتكلم، فقام إليه أحد الشباب، وسُمِع هذا في الإذاعة؛ لأن الحفل كان يُنْقل على الهواء، فسمعناه في الإذاعة وهو يقول: أنا أبو الأسرة المصرية، ونحن أسرة واحدة. فقام وقال له بلهجته المعتادة: (إزَّاي) -كيف تقول- إننا في دولة العلم والإيمان، وأنت قد أبعدت المؤمنين والصادقين، وقربت المنافقين، وفصلت الخطباء الذين يقولون كلمة الحق، وانطلق هذا الشاب كالسيل الهادر يتكلم بشجاعة وجرأة، فبُهِت الرجل وانـزعج! وجلس فترة لا يكاد يستطيع أن يتكلم، فوجئ بما لم يكن له في حسابه، وانشدت أعصابُه، وبعدما استرد شيئاً من هدوئه تكلم بكلمات شديدة غليظة تدل على التشنج والانفعال، لماذا؟
لأنه ما تعود أن يسمع هذا الكلام من أقرب الناس إليه من الوزراء ورجال الدولة، فضلاً عن أن يسمعه من مواطن عادي.
فالطاغية المستبد تعود ألا يسمع إلا ما يوافقه: ما تقوله أنت هو عين الصواب، وما تراه هو الحق، وما تقترحه فلا خير ولا عزة ولا مصلحة للأمة إلا فيه، تعود هذا الكلام، ولذلك تحجب عنه الحقائق من خلال هؤلاء الأعوان، يختار أعواناً بيده يحجبون عنه الحقائق، وما يعانيه الناس من آلام وما يعانيه الناس من فقر، ويحجبون عنه ما يعانيه الناس من كبتٍ للحريات وما يعانيه الناس من اضطهاد ومن تسلط الأمراء والوزراء والولاة عليهم، ويقولون له: إن كل شيء على ما يرام، فيرتاح لهم ويقربهم ويُدنِيهم.
فإذا جاءه إنسان آخر ناصح، وقال له: إن الأمور على عكس ما يقال لك، وإنه يوجد في مكان كذا مضايقات، والطاغية الفلاني يؤذي الناس، والحاكم الفلاني يعتدي على الأعراض، وفلان ينهب الأموال، وفلان يأخذ كذا؛ فإنه يكره هذا الناصح؛ ويبغضه ويقصيه ويبعده؛ لأنه عكر مزاجه، وقال له كلاماً لم يتعود أن يسمعه.
ولذلك فإنه -من جهة- يكون من أهم أسباب زوال الدولة وفسادها: أن الطاغية المستبد يبعد المؤمنين الصادقين الناصحين ويقرب المنافقين.
ومن جهة أخرى، فإنه في كثير من الأحيان يكون المقياس الذي يقرب به الأفراد، ويولَّوْن المسئوليات والمناصب، ويكونون أعواناً، يكون مقياساً مختلاً، فإن المقياس الصحيح هو الكفاءة: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص:26] فإذا وجد في إنسان قوةٌ وأمانةٌ في كل شيء بحسبه، أصبح صالحاً للولاية في مجاله، ولكن قد يختل هذا الميزان -أحياناً- وتصبح القضية أن هذا يولَّى لأنه من قبيلة كذا، أومن بلد كذا، أو لأمر من الأمور، أو لمصلحة من المصالح، أو لمراعاة شيء ما.
ولو جردتَ هذا الإنسان من اسمه، وجردتَه من نسبه، وجردتَه من شرفه، لأصبح لا يصلح أن يكون أميراً على اثنين، أو والياً على أدنى ولاية! ليس لديه عقل راجح يُمدح به، ولا بصر نافذ، ولا خلق حسن، ولا تجربة تنضجه! كل ما في الأمر أنه يملك شرفاً أو سؤدداً أو مكانة معينة، فأصبح بها أهلاً للولاية، فلو جردته من هذا الشرف، أو النسب، أو السؤدد لوجدته شخصاً عادياً، أو في كثير من الأحيان أقل من العادي.
ولذلك قد يصل الأمر في كثير من عصور التاريخ الإسلامي إلى ما سماه النبي صلى الله عليه وسلم: إمرة الصبيان، وإمرة السفهاء، فقد يولى على المسلمين صبي عمره أربع عشرة سنة، أو خمس عشرة سنة، أما عشرون سنة، وخمس وعشرون، وثلاثون، فهذا -والله المستعان- حدِّث عنه ولا حرج، في كل زمان وفي كل مكان، لكن في كثير من العصور كان يحكم المسلمين أمير عمره أربعة عشر عاماً، لماذا؟
لأنه مات أبوه، ولم يبقَ إلا هو، وتكون أمه هي التي تدير أمور الولاية باسم هذا الصبي الصغير، وتدير أمور الحكم.
حتى أن أحد العلماء كتب كتاباً فيمن ولِّي بلاد الإسلام قبل بلوغ الاحتلام، فعدد الذين تولوا السلطة في بلاد الإسلام قبل أن يبلغوا الحلم، فقبل أن يصل الواحد منهم إلى سن الخامسة عشرة يصبح أميراً، أو خليفة مشاراً إليه بالبنان، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من إمرة الصبيان، كما قال أبو هريرة: [[أعوذ بالله أن تدركني سنة ستين أو أمرة الصبيان]]. وذُكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من إمرة الصبيان؛ لأن الصبي ليس لديه خبرة، فيأتيه كريم قوم، ويأتيه عزيز، أو شيخ قبيلة، أو إمام، أو عالم جليل، أو ذو مكانة، فلا يأبه به، ولا يكترث له، بل قد يهينه، ويتكلم عليه بالكلام البذيء، وقد يعتدي عليه، وقد يسقط حقه، ولا يعرف لذي قدر قدره، ولا لذي مكانة مكانته.
في حين إذا جاءه بعض السفهاء الذين يسرون عن خاطره بالنكت والطرائف، ويتكلمون معه بالكلام، فإنه يقربهم ويدنيهم، ويأخذ مشورتهم ورأيهم.
ومما يروى عن كسرى أنو شروان وهو أحد ملوك فارس، أنه كان يقول: الملك بالأعوان. انظر! كيف تَخْرُج الحِكَمُ حتى من أفواه الكفار الذين خبروا الأمور وجربوها. يقول: الملك بالأعوان، لأن الحاكم مهما كان، فليس كالشمس سيشرق على الدنيا كلها، وإنما يستطيع أن يعرف الأحوال بالأعوان، (فالملك بالأعوان، والأعوان بالمال، والمال بالخراج، والخراج بالرعية، والرعية بالعمارة، والعمارة بالعدل) لاحظ هذا التسلسل، تجد أنه ينطبق انطباقاً تاماً على الواقع.
ولذلك يقولأبو مسلم الخراساني، وقد سئل عن سبب سقوط دولة بني أمية، يقول: لأن دولة بني أمية قرَّبت الأعداء، حتى تأمَنَ شرَّهم، وأبعدت الأصدقاء ثقةً بهم، فقرَّبت الأعداء لتأمَنَ شرهم، فإذا وجدوا شخصاً يخافون منه؛ أعطوه ولاية، وأعطوه منصباً؛ حتى يأمنوا شره، وأبعدوا الأصدقاء ثقة بهم، واتكلوا على حسن الثقة بينهم وبينهم، فأبعدوا الأصدقاء، يقول: فلم يتحول العدو إلى صديق، بل تحول الصديق إلى عدو، والعدو بقي على عدوانه، واستغل منصبه في تحقيق مطامعه، لكن الصديق الذي يمكن أن تصطنعه وتوليه وتثق به تحول إلى عدو؛ لأنه رآك أبعدته، وقربت أعداءك ومناوئيك.
وهكذا الشأن في كثير من الدول، فبعض الدول يكون فيها أحزاب منحلة منحرفة، أحزاب علمانية، أو بعثية، أو قومية، أو يسارية، أو شيوعية، فهذه الدول تريد أن تأمن شر هذه الأحزاب وتحتويها، فتحاول أن تعطيهم بعض المناصب والوزارات والولايات، وتقربهم، وتشاورهم في بعض الأمور، وتظن أنها بذلك سحبت البغضاء والعداوة من قلوبهم، ولا تدري أن هؤلاء لا يزالون يتغلغلون ويتخلخلون ويتآمرون؛ حتى يقتحموا ويسقطوا هذه الدولة أو تلك بما مكنت لهم وأعطتهم في الوقت الذي لا يكون لها أنصار؛ لأن الأنصار الحقيقيين الذين كانوا أعواناً لها لم تخف الدولة منهم، ولذلك لم تعطهم المناصب والولايات، ولم تأخذ برأيهم في النوازل والملمات.
ورُبَّ دعوة مظلوم تُسقِط دولة؛ ولذلك جاء في الحديث: {اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب} وجاء في مسند الإمام أحمد وغيره بسند حسن: {اتق دعوة المظلوم ولو فاجراً -وفي رواية ولو كافراً-} ففجوره على نفسه، فإن الظلم من أعظم أسباب زوال الدول، ولذلك قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن الله تعالى ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ويخذل الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة.
فالعدل أساس الملك -كما يقال- وكثيراً ما تجد سبب زوال دولة ظلم، إما ظلم عام، أو ظلم خاص.
فمن الظلم العام -مثلاً-: نهب أموال الرعية، وأخذ أراضيهم، والمحسوبية في الشركات والأعمال والوظائف وغيرها.
ومن أنواع الظلم: التفاوت والطبقية في الناس، بحيث إنه إذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق الشريف تركوه، فكأن هناك أناساً يجري في عروقهم دم مقدس، إن سرقوا، أو زنوا، أو فجروا، لا تقام عليهم الحدود، فيتركون وربما يؤدبون بأدب معين، كأن يسجن، أو يوبخ، أو يجرد من منصبه، أو ما أشبه ذلك، لكن لا يقام عليه حد وحكم الله تعالى، فإذا سرق ضعيف من سائر الناس، فإنه يقام عليه الحد؛ فهذا من الظلم، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أسباب هلاك الأمم، فلما كُلِّم في المخزومية التي سرقت قال صلى الله عليه وسلم: {إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف قطعوه -وفي رواية أقاموا عليه الحد- وإذا سرق فيهم الشريف تركوه، وايم الله لو أن
والعدل -أيها الأحبة- ليس مجرد تهريج وخداع وتضليل للناس، فأحياناً بعض الحكام يريد أن يتظاهر بالعدل، فيصنع مناورة في جهاز من أجهزة إعلامه، يضحك بها على الخلق، ويخيل إليه أن الناس غُفَّل وسذج، يصدقون ما يقول.
وأذكر -على سبيل المثال- أن أحد الحكام في دولة عربية -ولا يزال موجوداً- في يوم من الأيام كان له ولد يقوم على جهاز من أجهزة الأمن، هو المسئول عن استخبارات بلده، فهذا الولد كان كأبيه سفاكاً للدماء قتالاً، فقتل مجموعة من الناس، ومن ضمن من قتل رجل كان خادماً عند أبيه، وسأل: أين فلان؟
فقيل له: قتله ولدك فلان! فغضب وهاج وماج، ووجد أهل القتيل غاضبين لماذا يقتل وهو يعمل في بلاط الرئيس؟!
إلى غير ذلك، فأراد الحاكم أن يصنع موقفاً يضحك به على عقول البلهاء والسُذَّج، فأعلن أنه سوف يقتل ولده، وشاع هذا في أجهزة الإعلام، حتى في أجهزة إعلامنا هنا نشر الخبر، أن الرئيس سوف يقتل ولده قصاصاً، ما شاء الله تبارك الله..! إلى هذا الحد.. العدلُ...؟!
لكن تدخل أهل القتيل، وأعلنوا للرئيس أننا نحن متنازلون، وولدك في الواقع ولدٌ لنا، وقتلك له قتل لنا، ونحن نتنازل عن دم ولدنا، ونريد أن تحقن دم ولدك الذي قَتل، وهكذا حقن دم ولده، وأعاده إلى عمله!
فهذه ألعوبة، ليس هذا هو العدل، العدل هو أن يكون الحاكم يجري الأحوال والأمور والحدود والأحكام على القريب والبعيد والعالي والنازل والشريف والوضيع على حد سواء، وإلا فليأذن بزوال مملكته ودولته عاجلاً غير آجل.
وأذكر لكم قصة شهدتها بلاد الأندلس، وهي تدل على أثر الظلم في زوال الدول واضمحلالها.
كان هناك رجل اسمه المعتمد بن عباد حاكماً لبعض هذه الولايات، وكان رجلاً شجاعاً قوياً كريماً طموحاً فيه من خصال الخير ما فيه، ولكن كان فيه ترف وبذخ وإسراف في تضييع الأموال، استعان به رجل من بني جهور، قد هاجمته قوة مجاورة، فاستعان بـالمعتمد بن عباد وقال له: تعال، احمِ دولتي من الغازي الذي هو ابن ذي النون، الذي يريد أن يقضي على مملكتي.
فجاء المعتمد بن عباد ليساعد ابن جهور ويحمي دولته، جاء بجيش قوي كثيف، ومعه جنده وأعوانه، فصار على حدود مملكة بني جهور، فلما رأى ابن ذي النون الغازي هذا الجيش انسحب وهرب.
إذاً المهمة التي جاء من أجلها المعتمد بن عباد انتهت، والجيش الذي أتى ليطرده قد هرب بنفسه.
وخرج الحاكم من بني جهور في الصباح الباكر ليودع جيش المعتمد بن عباد، ويشكرهم على نجدتهم وعونهم، فلم يرعَ إلا والمعتمد بن عباد قد بثَّ جيوشه في المدينة وحوالي القصر، وجعل الشرطة في كل مكان، واحتل المدينة! وكما يقولون -بلغة العصر الحاضر-: اجتاحها، اجتاح المدينة وسيطر عليها تماماً كما فعل العراق بـالكويت؟! في صبيحة يوم لم يكن يخطر ببالهم شيء من ذلك!!
فالجيش جاء ليحمي المدينة وإذا به يحتل المدينة! فأصيب الحاكم من بني جهور بصدمة عنيفة، وقبض عليه، وقبض على والده، وكان والده قد أصيب بالفالج "الشلل النصفي" ومالَ شدقُه، ومات شقه، وكان يعيش حالة صعبة.
فقُبض عليه، وأخذت أموالُه، وأودع أولاده في السجن، أخذ عَبيدَه، وسُبِيت زوجاتُه، ثم أخرج من المدينة بهذه الصورة، ونفي إلى مدينة أخرى، فكان أبو الملك وهو الذي أصيب بالفالج، ومال شدقه، كان يقول لولده: -والله- إن هذا لأثر دعوة مظلوم ظلمناه بالأمس. يقصد الذي أصابنا.
ثم رفع الأب المشلول بصره إلى السماء، وقال: اللهم كما انتقمت للمظلومين منا، فانتقم لنا من الظالمين، إذاً الآن الدور واقف على المعتمد بن عباد.
وظل المعتمد بن عباد في ملكه فترة، حتى اجتاحت مُلْكَه دولة المرابطين، وأسر المعتمد بن عباد، وأخذت أمواله، وأخذ أولاده، وقَضَى حياته في أغمات في مدينة بـالمغرب أسيراً أثقلت القيود يديه ورجليه، ومات في السجن!
وكانت بناتُه بالأمس (بنات الملك) لهن من الترف ما سوف أذكره لكم في قصة طريفة بعد قليل، فأصبحت بناتُه يشتغلن بالغزل في الشوارع، يَغْزِلْنَ للناس، حتى إن إحدى بناته وقفت في يوم من الأيام تغزل لرجل، فلما نظرت إلى هذا الرجل كان أحد العرفاء -أحد الشرطة- عند والدها! تغزل له مقابل مبلغ يسير من المال تقتات به، وتطعم والدها الذي أصبح في السجن..!
فانتقم الله تعالى أيضاً من المعتمد بن عباد، كما انتقم قبل من بني جهور..
إذاً كم من دعوة مظلوم أسقطت دولة! والعدل أساس الملك.
فالمسئولون لهم سلوك خاص، فقد يكون المسئول -مثلاً- منحرفاً، فقد تجد أميراً يشرب الخمر، أو يرتكب الفواحش، أو يترك الصلاة مع الجماعة، أو يعصي الله عز وجل، فهذا نسميه: سلوكاً شخصياً.
ولكن هناك السلوك العام، وهو: سلوك الأمير أو الحاكم أو الوزير أو الوالي مع الرعية. فهذا السلوك عام: هل هو حَسَن المعاملة للناس، يعطي الناس حقوقهم، وينصف المظلومين من الظالمين، ويوصل الأموال لأهلها أم أنه باطش جبارٌ معتدٍ أثيم؟
فالرقابة من أهم الأسباب لضبط سلوك المسئولين الشخصي، والسلوك العام أيضاً، ولذلك نجد أن الدولة النبوية الإسلامية كانت تراقب سلوك المسئولين بطريقة غريبة جداً، ولعل من أبرز الأمثلة: عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، بلغ عمر بن الخطاب أن سعداً بنى في العراق قصراً، وأنه وضع فيه باباً ولا يدخل عليه الناس إلا بإذن، فـعمر رضي الله عنه حالاً أرسل رسولاً، وقال له: اذهب لقصر سعد فاحرق الباب مباشرة!
فانظر! كيف كان علاج تصرفات المسئولين التي لا تعجب عمر، ما ذهب يوبخه ولا يسأله ولا يحقق معه، بل أرسل واحداً وقال: توقد على الباب، وتحرق الباب، ثم أرسل إلى سعد يعاتبه، وينهاه أن يحتجب عن الرعية.
ومرة أخرى بلغ عمر بن الخطاب أن خالد بن الوليد مدحه شاعر فأعطاه مالاً كثيراً، فأرسل عمر إلى خالد بن الوليد أن يؤتى به ويدُه مغلولة -كما تقول بعض الروايات- حتى جاء لـعمر وسأله عما فعل.
ومن أعجب القصص عن عمر رضي الله عنه في الرقابة الشديدة على المسئولين: أن عمر رضي الله عنه كان لا يولي أحداً من قرابته، فما كان عمر يقول: هذا نوليه لأنه من بني عدي، ولو كان أجهل الناس، وأغبى الناس، وأفسق الناس، وما ولى من بني عدي إلا رجلاً واحداً؛ لأنه رجل رأى عمر فيه صلاحاً، وجدارة في المنصب، وكان اسمه النعمان بن عدي.
وفي يوم من الأيام جاءت الأخبار إلى عمر عن النعمان بن عدي هذا، فقالوا له: يا أمير المؤمنين إنه يتغنى بأبيات من الشعر، قال: ماذا يقول؟ قالوا: إنه يقول:
ألا هل أتى الحسناء أن حليلها بنعمان يسقى في زجاج وحنتم |
إذا شئت غنت لي دهاقين قرية وصنَّاجَةٌ تجثو على حرث منسم |
إذا كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم |
يعني إذا كنت نديمي في شرب الخمر، فاسقني بالكأس الكبيرة، ولا تسقني بالكأس الصغير المنكسرة.
لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا في الجوسق المتهدم |
أي أنه يقول: لو علم عمر فسيسوؤه ذلك.. وهذا شعر ما له حقيقة، فغضب عمر، وكتب إليه كتاباً، فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم * حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر:1-3].
أما بعــد:
فإنه قد بلغني أنك تقول: لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا بالجوسق المتهدم، نعم إنه والله ليسوؤني ذلك، فإذا أتاك كتابي هذا فلا تَلِ لي عملاً، واقدُم علي.
جاء الرجل إلى عمر رضي الله عنه، فقال له: والله يا أمير المؤمنين ما شربت الخمر قط، وإنما هي أبيات من الشعر كنت أتغنى بها. قال له عمر: أظن ذلك، لكن -والله- لا تلي لي عملا.
فمجرد كونك تتغنى بمثل هذه الأبيات الخليعة التي تدل على أنك تجاهر بشرب الخمر، ولو كنت عفيفاً لا تشرب الخمر.. فبهذا لا يمكن أن تلي لي عملاً.
إذاً: من الخطورة بمكان أن أولي إنساناً، ثم لا أضع رقابة على سلوكه الشخصي؛ لأن سلوك الحاكم أو الوالي الشخصي ينعكس على سلوك الناس؛ فكيف يضرب الحاكم الناس في الخمر وهو يشرب الخمر؟!
أو يأمر الناس بالصلاة وهو لا يصلي؟!
لاشك أنه مطالب بإقامة الحدود، وأمر الناس بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وإن ارتكب هو ما ارتكب، لكن الناس لا يقبلون منه ذلك، ولا ينصاعون لأوامره، وأخطر من هذا كله الغفلة عن مراقبته في سلوكه العام: في طريقة إدارتة -مثلاً- وفي ظلمه، ومعاملته للناس، وفي سلوكه معهم، وفي ما يقدم لهم.
وأضرب لكم مثلاً: أجهزة الإعلام في الدول كلها، هي اللسان الرسمي الناطق عن الدولة، فإذا أردت أن تعرف دولة، هل هي دولة عقدية شرعية دينية، أو دولة علمانية لا دينية، أو دولة شيوعية، أو دولة رافضية، فانظر إلى إعلامها.
فإذا أتيت إلى إعلام الشيعة الرافضة -مثلاً- ماذا تجد؟
لو سمعت إذاعة إيران تجد إذاعات أخذت على عاتقها الدعوة للمذهب الرافضي الباطني الخبيث بكافة الوسائل والأساليب التي يحسنونها. فتأتي إلى تلفازهم، فتجد أنه أخذ على عاتقه نشر المذهب الرافضي الخبيث والتمكين له.
وتنتقل إلى دولة شيوعية تجدها حاولت من خلال أجهزة الإعلام: من تلفزة، وإذاعة، وصحافة، وغيرها، أن تصبغ الشعب كله بالصبغة الشيوعية.
وتأتي إلى دولة علمانية تجد إعلامها خليطاً: يهتم بالإثارة الجنسية، وبالأغاني، وبالموسيقى، ويهتم بالأخبار العلمية البحتة، ويهتم بالرياضة وأخبار الشباب، وما أشبه ذلك، لأنه علماني -لاديني-.
وتأتي إلى الدول الإسلامية، فماذا نجد في إعلامها؟
هل هناك رقابة على إعلام هذه الدولة، أو على المسئولين في الإعلام؟
ماذا يقدمون للناس؟!
إذا أردنا أن نحسن الظن، قلنا: ليس هناك رقابة، ولذلك أصبح الإعلام في البلاد الإسلامية -أيضاً- على أحسن الأحوال، إعلام علماني، فربما يكون أحسن إعلام من الناحية الدينية -فقط- هو في المملكة، ومع ذلك يقولون -هم-: إن البرامج الدينية في التلفاز لا تزيد على (25%) إذاً ماذا تكون بقية البرامج، ثم ما نوعية هذه البرامج التي تقدم؟!
أما إذا انتقلنا إلى الإذاعات الأخرى: فإنك تجد العجب العجاب، تنظر -مثلاً- في بعض الإذاعات، وماذا تقدم من برامج للطفل وللمرأة وللمواطن تجد شيئاً مذهلاً!! أنا -مرة من المرات- كنت أسمعهم يشرحون حديثاً نبوياً على أنغام الموسيقى!! وأحياناً ما بين قراءة القرآن وبين الموسيقى إلا المذيع الذي يقدم أو يقول كلمة أو كلمتين، ثم يأتي العزف...!
وفي كثير من الأحيان تقدم مسرحيات وتمثيليات فيها محادة لله ورسوله، وحرب لله ورسوله، وقد سمعت مرة مسرحية تقدم في إذاعة البرنامج الثاني، امرأة -حسب المسرحية- تحكي قصة رجل دخل عليها وتزوجها، ماذا يفعل الزوج مع زوجته؟
طبعاً نحن في الإذاعة لا نرى لكن نسمع، نسمع همسات الحب، وكلمات الغرام، والألفاظ الرقيقة التي تكاد تذوب رقة وتودداً وتقرباً وحباً؛ حتى إن الإنسان الذي يسمعها قد تتحرك عاطفته، وتثور غريزته، فكيف بالذي يمارسها ويفعلها؟!
المذيع نفسه أو المذيعة نفسها.. كيف نتصور؟!
مع أنه قطعاً ليس زوجاً لها بالحقيقة إنما هذا تمثيل.
وكم نسبة الأغاني في إذاعاتنا؟!
كم نسبة البرامج الهازلة؟!
تجد عجباً عجاباً، وذلك لضعف الرقابة، أو غياب الرقابة، وأنه تسلل إلى هذه الأجهزة كما تسلل إلى الصحافة من قبل أناس لا خير فيهم من العلمانيين أو غيرهم الذين لا يأبهون بدين الناس.
ومن ناحية أخرى: ما هي ضوابط المسئولين عن الرقابة في الإعلام؟
الآن توجد أجهزة رقابة ولاشك، على التلفاز أو الفيديو أو غيرها، ما هي الضوابط عندكم -يا مسئولون عن الرقابة-؟
على أي أساس تمنعون هذه المادة أو تسمحون بها؟
أليس من المؤسف -يا أحبتي- أن يأتي شيخ يتكلم في برنامج فتوى دينية عن تحريم حلق اللحية، فتلغى هذه الفتوى ولا تأتي، لماذا لا تأتي؟
لأنه صعب أن ننشر فتوى أن حلق اللحية حرام في التلفزيون.
فترى -كما حدثني بعض الشباب- رأس الشيخ إذا اهتز علامة على أن هناك شيئاً حذف في برنامج فتاوى، مع أني أعتقد أن العالم في مثل بلدنا يجب أن تكون كلمته هي الأخيرة، فلا أحد يستدرك عليه، ولا أحد يراقب فتواه أو قوله، لكن في مقابل ذلك تأتي إلى الرقابة على أجهزة وأشرطة الفيديو، فتجد أنهم يجيزون مواداً -أستطيع أن أقول بكل ارتياح وأنا مسئول عما أقول-: خليعة، صحيحٌ أنهم لا يسمحون بظهور الرجل فوق المرأة؛ فهم يقطعونه أو يمنعونه، لكن من ابتلوا بهذه الأشياء، قد يرون المرأة -وهذا موجود، حتى أنه يلاحظه الإخوة العاملون في تلك الأجهزة- يرون المرأة وهي لم تستر إلا سوءتها الكبرى، وعليها لباس لا يكاد يواري إلا سوءتها فقط، وقد تكون على شاطئ نهر أو مع مجموعة من الشباب.
إذاً: ما هو الضابط الذي بسببه نمنع مادة، ونجيز مادة أخرى؟
إذا كنا نقول إنه يوجد تساهل وتفريط، فلماذا لا يكون هذا التساهل والتفريط حتى في البرامج الدينية؟
وليس تساهلاً أو تفريطاً في حق واجب، ولكن على حد زعم هؤلاء المراقبين، وإذا كان هناك تشديد إلى هذا الحد، فلماذا لا تراقب البرامج الأخرى ويبعد منها كل ما يخالف الدين؟
وأنا أثق أنه لو أبعد من تلك البرامج التي تعرض كل ما يخالف الدين، لما عرض ولا عشرة بالمائة منها؛ لأن أي تمثيلية تقدم في التلفزيون -مثلاً- لا يمكن إلا أن يكون فيها امرأة! وامرأة كاشفة عن شعر رأسها، ورقبتها، وكفيها، وذراعيها، وقدميها، وساقيها، وهي مع رجال أجانب!! فهذه أقل مخالفة، وهذا مثال في قضية أهمال الرقابة، وإلا فليس الحديث حديثاً عن الإعلام.
ومن الملاحظ فيما يتعلق بالمال -أيها الأحبة- أن كل الناس يسخطون له، فالأمور الدينية يسخط لها طبقة من الناس، إذا حكومة من الحكومات أساءت إلى الدين، وتعرضت للمتدينين، أو انتهكت حرمة، فإنما يسخط لذلك المتدينون، وهم طبقة من الناس، وفئة من المجتمع.
وفي مقابل ذلك إذا قامت دولة من الدول، أو حكومة من الحكومات بالقضاء على بعض مظاهر الفساد، من القضاء -مثلاً- على مواخير الدعارة والبغاء، أو منع شرب الخمور، أو ما أشبه ذلك، غضب لهذا الإجراء طبقة وهم المفسدون والمنحرفون والضالون.
لكن هناك شيء يغضب له الجميع: الطيِّب والخبيث، المؤمن والفاسق، الكبير والصغير، ألا وهو المال! فإن أي دولة إذا مست الناس في أموالهم، كسبت بذلك سخطهم وكراهيتهم، يستوي في ذلك الطيب وغيره، فالإنسان الصالح إذا أَخَذْتَ مَالَه أبغضك، والخبيث إذا أخذت ماله أبغضك، فإذا أرادت الدولة، أو إذا أراد المندسون في الدولة والذين يريدون بها شراً أن يوقعوا بينها وبين شعوبها، عملوا على الإكثار من فرض الضرائب والإتاوات والرسوم وغيرها، فالمشي في الطريق له رسوم، وكل شيء له رسوم، ووقوف السيارة عند الباب له رسوم، وفتح الباب على الشارع له رسوم.. إلخ.
بحيث أصبحت الضرائب تثقل كواهل الناس، وتجعلهم يئنون تحت وطأتها، ويتمنون زوالها وزوال من فرضها عليهم.
وأحياناً تتكلم الصحف وغيرها عن ثورة الخبز، ماذا يقصدون بثورة الخبز؟!
يقصدون ثورات تقوم في الشوارع، وهيجان وغليان بسبب قلة المواد التموينية، يسمونها ثورة الخبز، كما سموها في الجزائر قبل سنتين أو قريباً من ذلك، وفي غيرها.
وفي الواقع أنه ليس الثورة ثورة خبز، لكن هذا هو الفتيل، أي أن الناس ساخطون كلهم بسبب قلة ما في أيديهم، وبسبب الضغط عليهم وسوء تصريف الأموال، فيأتي إنسان يستغل هذا السخط لمصلحته، فإن كان إنساناً متديناً استطاع أن يستفيد من سخط الناس في القضاء على المنكرات ومقاومة الفساد الموجود.. وإن كان خبيثاً شيوعياً أو غيره، استطاع أن يَنْدَسَّ مع الناس، ويستفيد من ثورتهم في تحقيق مطالبه ومآربه، فيرفعون لافتات تؤيد مذاهبهم التي ينتمون إليها، وإن كان جمهور الناس لا يؤمنون بهذه المبادئ ولا يتحمسون لها، ولا يغضبون لها.
ومن سوء التصرف في المال: العطايا التي ليس لها مبرر إلا المزاج الشخصي، ولذلك قالوا في الحكمة: من علامة إدبار الملك أن تكون عطاياه وعقوبته بسبب أغراض نفسه، أو أغراض أتباعه، ومن علامة إقبال الملك أن تكون عطاياه وعقوبته تحت الإيجاب بالعقل والشرع وطول الامتحان، أي: أنك إذا وجدت أن دولة تعطي الناس المال عطاء في محله يقبله العقل والشرع، فاعلم أن هذا من علامة قوتها ورسوخها، وإذا وجدت أن المال يضرب به يمنة ويسرة دون ضابط ولا مقياس إلا المزاج الشخصي؛ فاعلم أن ذلك من علامات الإدبار.
وانتشار الرشوة في أي بلد على مستوى الفرد وعلى مستوى المسئولين من أسباب زوالها واضمحلالها.
ومن ذلك احتكار الأشياء لأشخاص معينين، سواء في ذلك احتكار السلع، بحيث إنهم هم الذين يستوردونها ويوفرونها للناس، أو احتكار الشركات لأفراد معينين، أو احتكار الأعمال والوظائف فإن هذا من علامات الإدبار.
السبب السابع: إهمال تربية الشعب وعدم اصطناع الرجال:-
فإن الحكم في الرجال، ولذلك يقال في الحكمة: ليس الحاكم من ملك العبيد، بل من ملك الأحرار، وتملك الأحرار ليس بأن تشترى ذممهم بالأموال، ولكن بالاصطناع، وحُسن المعاملة، والاحترام، والتقدير، ومشاورتهم في الأمور، وإشعارهم بأن الأمر أمرهم وأن لهم دوراً في الأحداث وأنه يؤخذ بقولهم فيما أصابوا فيه، فهذا اصطناع الأحرار، وبهذا نجحت الدول وتقدمت.
فالأمة بأفرادها، وعند الأزمات تظهر الحقائق، فتبين الشعوب الضعيفة الواهنة التي لم تتدرب إلا على الأكل والشرب والنوم والتلذذ، من الشعوب التي تربت على القوة والإقدام والاستعداد لكل طارئ، ولاشك أن الحاكم -أحياناً- يحلو له أن يحكم قطيعاً من الغنم.
قطيع يساق إلى حتفه ويمشي ويهتف للجازرين |
ولكن إذا نـزلت الأزمات والملمات، أدرك حينئذٍ أهمية صناعة الرجال الأقوياء الأشداء، وكما قيل:
ستعلم حين ينكشف الغبار جواداً تحت رجلك أم حمار |
وهذا لاشك يورث الغفلة عن صيانة الدولة وصيانة الملة، ويجعل الناس مشتغلين بشهواتهم ولذاتهم، وقد ذكرت لكم المعتمد بن عباد قبل قليل.
وأذكر لكم قصة طريفة تتعلق بالترف، وبلاد الأندلس أكثر البلاد التي شهدت الترف والإسراف والتبذير، لكن هذا ليس مجالاً لأن نفيض فيه، وإنما أذكر هذه القصة.
كان عند المعتمد بن عباد زوجة وبنات في النعيم والترف والقصور والحبور، وفي يوم من الأيام اشتهت زوجته أن تخوض في الطين -لاحظ أذواق المترفين- فهي عندها كلُّ الطعام، والشراب، والفراش الوفير، وأشياء كثيرة كل ما تريده موجود، لكن جاءتها رغبة، قالت: أريد أن أحمل قربة على كتفي وأخوض في الطين!! لكن أين الطين؟!
قام المعتمد بن عباد وعمل على أن يؤتى بالمسك والكافور ويُخلط بماء الورد، ويوضع طيناً على الأرض على مسافات هائلة، ويرش عليه ماء الورد، ثم أعطيت هذه القرب الفاخرة التي فيها خيوط من حرير، وصارت تحملها هي وبناتها ووصيفاتها على كتفها وتمشي في هذا الطين، فتحققت بذلك لذاتها...!
فهذه لذات المترفين...!
والمعتمد بن عباد قلت لكم: إنه مات في أغمات، وبناته كن في الأطمار البالية، لا تكاد تجد الواحدة ما يستر سوأتها وعورتها، فلما رأى هذا المشهد وكان شاعراً فحلاً، قال أبياتاً كثيرة يتذمر فيها من حاله ومآله، ومن ضمن هذه الأبيات:
في ما مضى كنتُ في الأعياد مسروراً فساءك العيـد في أغمات مأسـورا |
تــرى بنـاتك في الأطمار جائعة يغزلن للناس مـا يملكن قطمــيرا |
بَرَزْنَ نحـوَكَ للتسليـــم خاشعةً أبصارُهنَّ حسيراتٍ مكـاســيرا |
يَطَــأْن في الطـين والأقدام حافية كـأنها لـم تطـأ مسكاً وكافورا |
تذكر الوضع السابق! الآن صارت تطأ في الطين فعلاً وأقدامها حافية.
مَنْ بَاتَ بَعْدَكَ في مُلْكِ يُسَرُّ به فإنه بات في الآمال مغرورا |
فاليهود -مثلاً- والنصارى أعداء، والمنافقون والمشركون أعداء، فمن المؤسف أن المسلم تتحول عداوته لهؤلاء إلى ثقة وصداقة، ويصبحون إخواناً وحلفاء وأعواناً لنا في كثير من الأوقات، فتختلط عندنا الأمور ولا نميز بين العدو والصديق..!
ولو أردتُ أن أتكلم عن كيد اليهود والنصارى والمنافقين للمسلمين، فأعتقد أن هذا أمر يطول، لكن أعطيكم عناوين فقط. فمثلاً:
ضد الرسول صلى الله عليه وسلم: كم مؤامرةِ حاكها اليهود ضد الرسول صلى الله عليه وسلم؟
ضد أبي بكر رضي الله عنه: دورهم في حروب الردة.
ضدَّ عمر: وآخرها مقتل عمر رضي الله عنه، ومواقفهم مع الفرس في حركات الفتوح.
ضد عثمان: وكان مقتله بمؤامرة يهودية.
ونشوء الفِرَق الإسلامية من الرافضة، والخوارج، وغيرها: لليهود والنصارى دور بارز في مثل هذه الأحداث.
وفي الأندلس: دور اليهود والنصارى بارز معروف، وكان من أهم أسباب سقوط الأندلس تولية اليهود الوزارة، واستخدامهم، والثقة بهم، وكانوا عوناً لإخوانهم النصارى على المسلمين.
وكذلك العثمانيون: فمن أهم أسباب سقوط دولة بني عثمان، أنها وثقت باليهود والنصارى في مجالات كثيرة، وكانت تعطيهم بعض المناصب.
فمثلاً: السلطان محمد الفاتح على الرغم من أنه من خير أمراء بني عثمان وقوادهم، إلا أنه وثق بيهودي، كيف وثق به؟!
وثق به لأنه أصبح طبيباً عنده، وهذا اليهودي تظاهر بالإسلام وسمى نفسه يعقوب باشا، وصار هو الطبيبَ الخاص للسلطان محمد الفاتح الذي فتحت القسطنطينية على يديه، فدس له نوعاً من السم يسمى العاقور! وهو سم مفعوله قوي وفعال وسريع، وهو بلون الماء، فدس له السم فشربه وقتله...!!
ومع ذلك فعدد من الخلفاء وثقوا باليهود والنصارى، وولوهم ولايات كبيرة تصل أحياناً إلى مستوى وزارات عليا.
ولذلك أقول: إن ثقتنا بأعداء الله تعالى من اليهود، أو النصارى: الأمريكان، أو البريطانيين، أو الفرنسيين، أو الشيوعيين الروس، أو البعثيين، أو العلمانيين، أو المنافقين، أو الحداثيين، إن ثقتنا بهؤلاء جميعاً في غير محلها، وهؤلاء صحيح قد يدفعون عنا خطراً -في تصورنا- نتوقعه، لكنهم يجرون إلينا خطراً أكبر.
وقبل قليل ذكرت لكم قصة المعتمد بن عباد، وكيف أنه لما استدعاه ابن جهور لحماية مملكته، كان هو الضحية، فإنه قد يقاتل عدوك حتى يدفعه، ثم ينثني عليك، ونحن نعرف مطامع الغربيين وأعداء الإسلام من النصارى واليهود في بلاد الإسلام، وخاصة في البلاد التي أعطاها الله تعالى هذه الثروة الكبيرة (البترول) ويعتبرون أنه لابد لهم من المحافظة عليها وحمايتها وصيانتها.
وكم هو مؤسف -أيها الإخوة- أن أصبح رجل الشارع -وهذا أيضاً كما ذكرتُ سابقاً مسئولية الإعلام- أصبح رجل الشارع العادي لا يتوكل على الله، بل يتوكل على بوش! يقول أحد العوام: من يوم جاء بوش أصبحنا ننام في الحوش!! هذه كلمة أصبحت الآن دارجة، سبحان الله!! أليسوا هم نصارى؟!
أإلى هذا الحد أصبح المواطن العادي يثق بهم، ويعتمد عليهم؟!
وربما يدعو لهم أحياناً! ونسي البراءة من الكافرين، ونسي قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] ونسي العداوة التي قررها الله تعالى في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مع النصارى، والآن أصبحت العداوة مركزة مع اليهود، حتى العداوة مع اليهود: ثقوا ثقة تامة أنها سوف تمحى وتزول، لماذا؟!
لأنه قد يكون هناك خطط مستقبلية للصلح مع إسرائيل، "ولا داعي لمواجهة إسرائيل في حرب قد تأتي على الأخضر واليابس"! "ونحن لسنا على مستوى حربها"!
إذاً: لا بد من الصلح معها، ويحدث كما حدث في مصر بما يسمونه بالتطبيع، إذ منعوا الكلام عن اليهود وإسرائيل في أجهزة إعلامهم، وربما يساءل الخطيب لماذا تتكلم عن اليهود...؟
وما بقي إلا أن يمنع القراء من قراءة الآيات التي فيها ذمُّ اليهود والنصارى وذكر عداوتهم للمسلمين!!
وأحد الولاة جمع الخطباء والأئمة، وقال لهم: انتبهوا لديكم تعليمات ألا تتكلموا عن اليهود ولا عن النصارى، لأننا لا نريد أن نفرق الدولة، ولا أن نمزق الشمل، وعندنا أوامر تقضي بذلك، فلا أحد يتكلم عن اليهود ولا عن النصارى! فأحد الخطباء النجباء الأذكياء قال له: يا طويل العمر! إذاً لازم ما نقرأ سورة الفاتحة؛ لأن فيها قول الله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7] والمغضوب عليهم: هم اليهود، والضالون: هم النصارى! فظن المسكين أن السؤال على وجه وأنه جاد، فقال: لا! اقرأوها لكن لا تفسروها للناس، ولا تشرحوها.
فقد تقوم دولة من الدول على الجهاد، كما قامت دولة الأيوبيين في الشام ومصر، فقد قامت دولة صلاح الدين الأيوبي على الجهاد ضد الصليبيين، فلما تركت الجهاد فقدت المقوم الذي كان هو سبب وجودها فسقطت خلال ثمانين سنة.
وبعض الدول -مثلاً- قامت على أساس الدين، قامت الدولة لحماية الدين والدعوة إلى الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحكيم الشريعة، فكانت هذه هي عصبيتها، لأن كل دولة لها عصبية.
فعصبية هذه الدولة -مثلاً- أنها قامت على أساس الدين، بمعنى أن هؤلاء الناس الذين ناصروا هذه الدولة وقاموا معها وبذلوا جهودهم وأرواحهم وأموالهم من أجل قيامها، لا من أجل فلان أو علان، بل قاموا لأنهم يريدون التمكين للدين والملة وتحكيم الشريعة، فما دامت هذه الدولة التي قامت على أساس الدين ملتزمة بالأساس والهدف الذي قامت من أجله، فهي لابد أن تكون قوية عزيزة منيعة، لأن الناس يلتفون حولها على هذا الأساس.. لكن إذا فقدت الهدف الذي وجدت من أجله، وهو تحكيم الدين وإقامة الشرع، حينئذٍ فقدت سبب وجودها، فتخلى عنها أنصارها الأولون، لأنهم شعروا أنها تركت الهدف التي قامت من أجله، ولم تكتسب أنصاراً جدداً، وبذلك كان هذا هو سبب زوالها.
وهو كيد الأمم الخارجية، وبروز دول وقوى جديدة؛ لأن الدهر دول -كما سبق-، فهذه دولة تضعف وتلك تقوى، حتى تأكل الدولة القوية الدولة الضعيفة وتَضُمَّها إليها.
السبب الثاني عشر هو: عواقب الخلاف والانشقاق في داخل الدول:-
الانشقاق: سواء في حكامها أو في رعيتها.
الجواب: الذي أعتقدُه أن الحرب مع العراق -والله تعالى أعلم- لن تكون بشكل حرب مع العراق! الآن الدول الغربية أحضرت أسلحة وقوى هائلة تستخدم لأول مرة في العالم، وهذه القوى أحضرت من أجل ألا يكون هناك حرب بين أمريكا والعراق، وإنما من أجل أن تضرب أمريكا ضربتها لـالعراق! وتنهي قوته خلال سبع دقائق، ولا يكون هناك حاجة للحرب أصلاً، فهذه خطتهم، وهذا تفكيرهم.
وبحسب إمكانيتهم فإن هذا الأمر ليس أمراً مستبعداً، ويكفي أن عندهم من الطائرات ما يسمونها بطائرات (الشبح) التي خلال حركة بسيطة -وهي لا تُكَْشَف بالرادار- تستطيع أن تدمر جميع وسائل الاتصال في الدولة المحاربة من الكهرباء والهاتف والخطوط وغيرها.. وبذلك تَنْشَل حركة الدولة، ويسهل القضاء عليها.
فلا أعتقد أن هناك حرباً حقيقة سوف تقوم، ونحتاج إلى أن نجند أنفسنا في هذه الحرب، لكن المؤمن يجند نفسه في كل وقت؛ لأن زوال الخطر ليس معناه زوال خطر العراق فقط، فقد يكون الخطر من النصارى أنفسهم أو من اليهود! زلماذا نستبعد هذا؟
فالمؤمن يجب أن يستعد، ويتدرب على التسلح، ويربي نفسه تربية عسكرية، أما هذا السؤال، فإنني أقول للأخ السائل أبشر بطول سلامةٍ -إن شاء الله-.
الجواب: لعل ما تسمعه في الصحف والإذاعات من أخبار صدام، هو بعض الحقيقة وليس كل الحقيقة، أي: أنه جزء من أخبار هذه الطاغية.
يكفي أن صدام قضى على أعظم حركة ودعوة إسلامية في العراق.
يكفي أن صدام أجهز على العلماء العاملين ولم يبق إلا مجموعة من المرتزقة باسم الدين.
يكفي أن صدام استضعف أهل العراق، واستخف بهم، ونهب أموالهم وخيراتهم، وجعلهم يعيشون في شظف من العيش، وفي بلاء لا يعلمه إلا الله.
ويكفي أن صدام ضرب بلاد الأكراد، وما يُسمى بـ(حَلْبَجَة) وما حولها بالأسلحة الكيماوية، وقتل منها عشرات الألوف، لكن السؤال الذي -فعلاً- من الممكن أن يطرح: أين هذا الكلام بالأمس؟
من الطريف أنه يوجد شريط يحكي مأساة الأكراد في (حَلْبَجَة) هذا الشريط عمره سنتان ونصف، يعني الدول والإعلام الغربي الكافر النصراني عرض مأساة المسلمين الأكراد قبل سنتين ونصف...!
نحن هنا يمكن أن نعرض الشريط بعد سنتين ونصف من الحادث!!
لماذا نتفطن الآن؟!
لماذا نسكت عن جرائم صدام كل الوقت الذي مضى؟
ثم ننفجر عليه مرة واحدة، ونكشف الأوراق كلها؟!
حتى انتصاره على إيران أصبحنا نشكك فيه، ونقول: إنه هزم في سبعين معركة، وكذا وكذا وكذا...!
ثانياً: حزب البعث ليس صدامـاً فقط، فـالبعث أكبر من صدام، والبعث موجود في سوريا، والبعث موجود في أحزاب في معظم البلاد العربية، وموجود في أشخاص معروفين.. فلماذا يكون العداء لبعث صدام، ونسكت عن بعث غيره.؟!!
هذا الذي أفقد الناس الثقة بإعلامنا، أنه أصبح إعلاماً موجهاً، ينفخ فيه بحسب الحاجة ويسكت عنه! فالذي كفرناه بالأمس نسكت عنه اليوم! وقد يدل السكوت على أنه تحول إلى رجل صالح، فيستقبل استقبال الفاتحين، ويُثنى عليه ويُعطى عبارات التبجيل، وتتكلم عنه الصحافة بلهجة مختلفة...!
أين كلامنا بالأمس عن معمر القذافي؟!
أين الرد الشافي على معمر القذافي؟!
أين كفره؟!
أين إنكاره للسنة النبوية؟
أين... وأين؟!
هذه هي القضية -فعلاً- التي تحتاج إلى سؤال.
أقول بصراحة: الذي يجب أن يكون عليه أهل العلم، وأهل الدين، وأهل الفكر: أن يكون لديهم إمكانية، وقوة، وشجاعة أن يتكلموا بالحق في أوانه، ولو لم يكن يرضي جميع الأطراف، بحيث إذا قالوا كلمة الحق في مناسبتها، وتكلموا عن صدام، قَبِل الناس كل ما يقولونه؛ لأنهم يعرفون أنهم لا يتكلمون تبعاً لعواطف آنية، ولا بتحريض من جهة معينة، بل يتكلمون بالحقيقة.
الجواب: الراجح: أن القنوت في النوازل مشروع، وقد قنت الرسول صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو على أحياء من العرب، فلا بأس أن يقنت الإنسان إذا نـزلت بالمسلمين نازلة، في صلاة الفجر أو في غيرها، لا بأس في ذلك.
لكن إن كان القنوت مدعاة للإثارة من قبل العوام والاستغراب، فممكن للإنسان أن يقنت سراً، إذا رفع رأسه من الركوع يدعو بينه وبين نفسه دون أن يسمع المأمومين.
الجواب: مع الأسف كلمة الشرعية -الآن- أصبحت لعبة.
الآن يقال: نحن مع الشرعية في لبنان، ما هي الشرعية في لبنان؟ الشرعية في لبنان: عودة حكامها النصارى!
كذلك يقولون: مع الشرعية في الكويت: عودة حكامها الذين أخرجوا منها.
وفي الواقع: إنني أقول: إننا لسنا متعبدين بالطاعة، لا لـصدام حسين، ولا لآل صُباح، ولا لغيرهم، نحن صاحبنا هو الذي يرفع راية "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، ولو كان أعجمياً، أو كردياً، أو من أي نحلة كان، أو من أي أمة كان، أو من أي دولة كان، صاحبنا هو الذي يرفع راية الإسلام، هذا نفديه بأرواحنا وما ملكت أيدينا.
والواقع: أن حكومة الكويت ما كانت تحكم بالشريعة الإسلامية، وما كانت تحكم بما أنـزل الله، بل كانت تحكم بالقوانين الوضعية.
الجواب: في الواقع لست أقصد المدح لهم مطلقاً، إنما أقصد أن هؤلاء في أنظمة حكمهم أقرب إلى رعاية حقوق الناس من غيرهم، وهذا أمر استفاد الناس منه، حتى المسلمون استفادوا منه، فكثير من المسلمين مع الأسف، يهربون من ليبيا، أو سوريا، أو العراق إلى أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا! وقد زرتهم بنفسي، ورأيتهم في تلك البلاد قد أعطوا حرية بناء المساجد، حتى إنه في فرنسا أكثر من ألف مسجد، معظمها بناها إخوة من الجزائر، والمغرب، وتونس، وأناس هربوا من بلادهم، وكذلك الحال في أمريكا يوجد فيها جماعات كثيرة من الإخوة الليبيين الهاربين والفلسطينيين الذي لم يجدوا من يأويهم، ويقومون بالدعوة على خير وجه.
فأنا لست أجهل حقيقة هؤلاء القوم، بل لي أحاديث خاصة عن هذا الأمر، وخلاصة كلامي يمكن أن تراجعه في محاضرة "(حي على الجهاد)".
وخلاصة كلامي أنني أقول: هؤلاء القوم يسكتون عن الإسلام لأنه لم يصبح خطراً يهددهم الآن، ولا يزال دون مستوى الخطورة، لكن حين يصبح الإسلام خطراً عليهم سوف تعرفون كيف تكون ضراوتهم في حرب الإسلام، واجتماعهم عليه، لكنني أقصد أن أنماط حكمهم لشعوبهم -الآن- أفضل من أنماط الحكم الديكتاتوري الغاشم في البلاد الشيوعية أو في البلاد الإسلامية.
هذا والله تبارك وتعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر