الحمد لله الذي أنـزل الكتاب تبياناً لكل شيء، وفصّل فيه كل شيء تفصيلاً، فما من فعل من أفعال المكلفين أو أمرٍ يُلِمُّ بهم إلا ولله تعالى فيه حكم، إما أمرٌ أو نهي أو إباحة، علم ذلك من علمه وجهله من جهله.
وكما أن كل ما يقع في الكون من الأقدار والأحداث فبإذن الله ومشيئته، فلا يقع إلا ما شاءه الله وأراده وقدره وقضاه؛ فكذلك كل ما يقع للمكلف من أمر فإنه لا يَنْفَكُّ عن شرع الله تبارك وتعالى، ولا بد لله فيه من حكمٍ ينبغي للمكلف علمه واتباعه.
هذه القضية وهي قضية شمول الشريعة لكل أفعال المكلفين من القضايا الأساسية المهمة التي يجب أن نفقهها ونعلمها ونعيها حق وعيها.
والجواب على هذا الاستشكال يكون من ثلاثة أوجه:
هذا هو الوجه الأول أن نقول: إن هذه الأفراد التي يرى الناس أنها جديدة هي في الحقيقة ليست جديدة في أصلها، بل يمكن إرجاعها إلى أصولها التي تتفرع عنها.
إذاً، دل هذا الحديث بعمومه على منع البدع والمحدثات القولية والفعلية والاعتقادية، ودل على تحريم جميع أفراد هذه البدع، ودلالته على هذه الأشياء هي دلالة طردية؛ لأن هذا هو المعنى المباشر للحديث، ولكن الحديث أيضاً يدل دلالة عكسية على أن العمل المقبول هو ما شرعه الله عز وجل؛ وجاء وِفْقَ القرآن والسنة بعد انضمام الإخلاص والنية الصالحة إلى ذلك.
فما دام كل عمل ليس عليه أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو رد، إذاً فالعمل الذي يقبل هو ما كان عليه أمر الله وأمر رسولـه، وهذه القضيـة التي فهمناها من الحديث فهماً عكسياً -كما قلت من مفهوم العكس- جاءت نصوص كثيرة تدل عليها دلالة طردية صحيحة، لكنني أردت فقط أن أبين ما معنى الدلالة الطردية والدلالة العكسية.
إذاً، فالوجه الثاني الذي يبين شمول الشريعة وكمالها أن نقول: إن الشريعة جاءت بقواعد كلية وقضايا عامة تدخل تحتها أنواع وأفراد كثيرة.
وأحال النص الشرعي أيضاً على القياس، وإلحاق ما ليس بمعلوم بما هو معلوم إذا اتفقت العلة.
وكذلك من المصادر الشرعية: المصلحة المرسلة، واستصحاب الحال... وغير ذلك من المصادر الشرعية التي دل النص على اعتبارها.
إذاً فالوجه الثالث الدال على شمول الشريعة وكمالها وأنه لا تخلو حادثة من الحوادث المتعلقة بالمكلفين من حكم للشريعة فيها: أن النص الشرعي أحال على مصادر تشريعية ثَرَّة متجددة كالقياس والإجماع والاستصحاب والمصلحة المرسلة وغيرها، وهذه القضية المهمة تحدث عنها عدد كبير من علماء الإسلام، وخاصة علماء الأصول، ومن أجمل ما كتب فيها ما كتبه الشيخ الإمام/ ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه: (إعلام الموقعين عن رب العالمين) في الجزء الأول حيث تكلم عن هذه المسألة، وبيَّن المذاهب فيها ووجه الحق.
إن الناس انقسموا إزاء موقفهم من هذا الشرع إلى قسمين لا ثالث لهما:
إذاً: الإسلام مكون من ركنين: الركن الأول: هو النية وهي عمل القلب. الركن الثاني: هو عمل الجوارح من القول والفعل، فمتى تخلَّف أحد هذين الركنين بالكلية، يكون الإنسان الذي تخلف عنه الركن كافراً بلا شك.
فمثلاً: لو أن إنساناً قال: إنني أعلم وجوب الإذعان لله والانقياد له بالطاعة، ولكنني لا أمتثل لذلك، أو قال: أعلم وسأمتثل؛ ولكنه لم يمتثل أيَّ أمرٍ من الأوامر الفعلية أو القولية على الإطلاق، فلم يقل قولاً يرضي الله، ولم يفعل فعلاً يرضي الله البتَّة؛ حينئذٍ نقول: إن هذا الإنسان قد خرج من الإسلام! لماذا؟ لأن الشهادة وهي: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله) هي قول اللسان، هي قول، فهي نطق، فهي فعل إذن، وقد تخلفت عن هذا اللسان؛ لأننا قلنا: إنه لم يفعل فعلاً بالكلية مما أراده الله، ثم لم يُصَلِّ، وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن تارك الصلاة بالكلية يكفر ولو أقر بوجوبها، إذاً من تخلف عنه العمل بالكلية فهو كافر؛ لأنه تخلف عنده ركن أساس من أركان الدين والإسلام والإيمان.
كذلك لو تخلف عنده الركن الثاني وهو النية وعقد القلب، فهو كافر أيضاً ولو عمل بجوارحه، مثال ذلك: أن يقول إنسان من الناس: أنا لا أرى وجوب طاعة الله، ولا وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا وجوب الإذعان والانقياد لهما، ولكنني أرى أن من المصلحة أن أمتثل الشرع -مثلاً- يرى أن صلاح المجتمعات الإسلامية مرهون باتباع الشرع؛ لأن الناس يمكن أن يذعنوا كلهم للشرع، فمن هذا المنطلق يرى اتباع الشرع، وقد تجد بعض الناس يقول لك: إنني لا أرى وجوب الصلاة -مثلاً- ولكن يصلي، لماذا يصلي وهو لا يرى وجوب الصلاة؟ لا يصلي لله ولا طلباً لما عند الله ولا خوفاً من عقاب الله، لكن يصلي؛ لأنه يقول: إن الصلاة تعطي الإنسان مكانة اجتماعية؛ فأهلك وجيرانك وأقاربك حين يرونك لا تصلي لا يهتمون بك، ولذلك أنا أصلي لهذا السبب فقط، أو يقول: إنني جربت الصلاة ووجدتها تساهم في ضبط وقت الإنسان بصورة جيدة، فيصلي حتى يحصل على هذه المصلحة، أو يصلي من أجل الرياضة، أو من أجل أي هدف آخر؛ المهم أن الباعث على فعل هذه الشعيرة أو غيرها ليس هو الباعث الديني الإيماني، إنما هو باعث آخر لا يمت إلى الإيمان بصلة، فحينئذٍ نقول: إن هذا الإنسان أيضاً غير مسلم؛ لأنه تخلف عنده الركن الآخر، وهو الأساس من أركان الدين والإيمان والإسلام، وهو انقياد القلب وطواعيته وإذعانه.
فالإسلام:
أولاً: العلم بوجوب الانقياد والإذعان والاستسلام لله عز وجل.
وثانياً: نية الانقياد والإذعان لله عز وجل.
وثالثاً: عمل الجوارح الذي هو الترجمة العملية لهذا الإذعان والانقياد المستتر في قلبك، هذا هو الإسلام.
والمسلم وإن كان مذعناً منقاداً قد يقع منه الخطأ، ولكن المسلم وهو يخطئ يعرف أنه عبد وأن الله ربه؛ فلذلك إذا بدرت منه المعصية قال: يارب! إني أذنبت ذنباً فاغفر لي، فيعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، فهو مسلم حتى وهو يعصي، ولذلك روى الإمام البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن رجلاً ممن كان قبلكم أذنب ذنباً أو قال أصاب ذنباً فقال: يا رب! إني أذنبت ذنباً أو أصبت ذنباً فاغفره لي، فقال الله عز وجل: أَعَلِمَ عبدي أن لـه رباً يغفر الذنب ويأخذ به؟ قد غفرت له! ثم مكث ما شاء الله، فوقع في الذنب مرة أخرى، فقال: يارب! إني أصبت ذنباً أو أذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال الله عز وجل: أَعَلِمَ عبدي أن لـه رباً يغفر الذنب ويأخذ به؟! قد غفرت له، ثم مكث ما شاء الله، فأذنب مرة ثالثة، فقال: يا رب! إني أصبت ذنباً أو أذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال الله عز وجل: أَعَلِمَ عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب؟! اعمل ما شئت فقد غفرت لك} والحديث في صحيح البخاري كما ذكرتُ.
فالمسلم لا يخرج من الإسلام حتى وهو يخطئ ما دام مقراً مذعناً منقاداً، إذا لم يقع في مُكَفِّرٍ يُخْرِجُه من الإسلام بالكلية، والمكفِّراتُ معروفةٌ، وشأنها معروفٌ، وشروطها معروفة، وهذا هو الموقف الأول من مواقف الناس تجاه هذه الشريعة المحكمة، وهو موقف الإذعان والانقياد والقبول.
فمـثل هذا هـل تعتـبرونه مؤمناً بقـوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32]؟! هل تعتبرون مثل هذا الإنسان الذي يظهر من حاله الاستخفاف والاستحلال وعدم المبالاة بقول الله وقول رسوله؛ هل تعتبرونه مؤمناً بقوله تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً)؟!
أقول: لا لو كان مؤمناً لما افتخر بفعلته، ولما اعتبرها من خصال الرجولة والفتوة والكمال، ولما وصم من لم يفعلها بنقص الرجولة والقوة، ولما كتب القصائد التي يتغنى فيها بأفعال اللواطة والزنا، ويمدح فاعليها ويتغزل بأهلها! ولما سجل هذه القصائد على أشرطة، ووزعها بين الناس، فأفعاله كلها تدل على أن وراء هذا الفعل الذي هو الزنا قلباً خرباً غير مؤمن بالله ولا رسوله ولا منقادٍ لأمر الله ورسوله...!
وها هنا يظهر لك جلياً أن الموقف الثاني: وهو موقف المتنكر لشرع الله الرافض لحكمه المستكبر على الانقياد، هذا الموقف عقدٌ بالقلب، يترجم أيضاً في صورة أعمال، وهذه الأعمال قد تكون كفراً لا شك فيه كالسجود لصنم، أو سب الله ورسوله، أو إهانة القرآن، وقد تكون في الأصل ليست كفراً، ولكنها صارت كفراً لما لابسها من القرائن الدالة على الاستخفاف والاستحلال وعدم المبالاة وعدم الإيمان بأصل الحكم.
ومثل هذا الإنسان لا نقول عنه: إنه فاسق أو عاصٍ، بل نقول: إنه مشرك؛ لأن القضية تعدت المعصية، وأصبحت نوعاً من التدخل في الحكم والتشريع، فهو قد عَدَلَ نفسه بالله عز وجل؛ فالله يقول عن الزنا: ِإنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32] وهو يقول غير ذلك، الله يحرم وهو يحل!
إذاً هو قد جعل نفسه نِدّاً لله عز وجل، أو جعل غيره ممن أطاعه في هذا التحليل وفي هذا العمل وفي هذا المدح - جعل هذا الغير نِدّاً لله عز وجل، وهذا هو الشرك؛ لأن الله عز وجل وصف المشركين بقوله: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] أي: يجعلونه شريكاً وعديلاً ونداً لله كما ذكره: مجاهد والسدي وغيرهما من أئمة المفسرين، فمن عَدَلَ بالله عز وجل غيرَه في أي أمر مِن الأمور فقد اتخذه نداً وعبده مع الله أو من دونه.
إذاً، هؤلاء وقعوا في مظهر من مظاهر الشرك بالله عز وجل؛ وهو رفض الانقياد لحكم الله تعالى وحكم رسوله، وهذا هو قبول حكم غير حكم الله وقبول شرع غير شرع الله.
انظروا ما هو السبب في هذا الكفر الذي وقعوا فيه..!
هذا الكفر العملي الذي وقعوا فيه: بيّن الله سبحانه وتعالى أن وراءه كفراً عقدياً في القلب فقال: (ذَلِكَ) أي ما وقعوا فيه من رفض الانقياد لحكم الله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [آل عمران:24].
إذاً فكلما رأيت إنساناً يرفض الانقياد لحكم الله وحكم رسوله؛ فاعلم أن وراء هذا الرفض فساداً وخراباً في عقيدته، وانحرافاً متأصِّلاً في قلبه.
تأمل أيها المسلم هذه الآية، هناك في الدنيا منهجان:
المنهج الأول: منهج الأنبياء والمرسلين وهو طاعة الله في كل شيء، بما في ذلك طاعته في الحكم والتشريع، ولذلك ستجدون في آخر الآيات قوله تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً [الأنعام:114] أي لا أبتغي حكماً غير الله؛ لأنني على منهج الأنبياء السابقين.
المنهج الثاني: منهج أعداء الأنبياء، من هم أعداء الأنبياء؟ إنهم شياطين الجن والإنس، قال تعالى: جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام:112] ثم بيّن الله عز وجل وحي هؤلاء الشياطين، فقال تعالى: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112] أي: أنهم يخترعون ديناً وشرعاً لم يأذن به الله، ثم يزخرفون هذا الدين وهذا الشرع بالقول الحسن الجميل الذي يخدع ويبهر السذج والغوغاء والدهماء من الناس فيتبعونه وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:112].
إذاً هذه الآية هي في حق كل مشرع من دون الله من طواغيت الشرق والغرب، من المقننين الذين يضعون الأنظمة والدساتير والقوانين لتنظيم شئون الحياة كلها، هذه الآية في حقهم.
ثم تحدثت الآية التي بعدها عمن قبل هذا الشرع وهذا الحكم وانقاد له وأذعن، فقال الله عز وجل: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الأنعام:113] من هم الذين يصغون إلى هذا الزخرف الباطل من القول الذي وضعه حثالات البشر من اليهود وغيرهم؟ من الذين يصغون إلى هذا القول؟ يقول ربنا عنهم: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الأنعام:113].
إذاً نرجع للقضية الأساسية وهي أن كل من اتبع شرعاً غير شرع الله أو حكماً غير حكمه، أو ديناً غير دينه؛ فإننا نعلم أن هناك فساداً في قلبه وإنكاراً للآخرة؛ لأن الله عز وجل قال: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام:113].
إذاً زعم الإيمان كذب، والحقيقة أنهم منافقون رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً [النساء:60].
فربنا عز وجل يقسم بذاته المقدسة أنهم لا يمكن أن يؤمنوا إلا إذا حَكَّموا الرسول، فيقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65] فيلتزمون التزاماً ظاهراً بحكمه فيما يعرض لهم من الخصومات والمنازعات وغيرها حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] فأكد الفعل بالمصدر الذي يدل على انتفاء أدنى قدر من الحرج أو التردد أو التبرم أو الضيق أو الشك.
فالآية اشترطت للإيمان الشرطين: أولاً: عقد القلب، ثانياً: عمل الجوارح، وهذا ما قَرَّرْتُه في بداية هذه الكلمة، فلا بد من الإذعان العملي والقلبي لحكم الله عز وجل، وقد ورد في سبب نـزول هذه الآية روايتان:
الرواية الأولى: ما رواه عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي الحافظ المعروف بـدحيم في تفسيره عن عتيبة بن ضمرة عن أبيه أن رجلين من المسلمين تحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في خصومة كانت بينهما، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم لأحدهما على الآخر، فلما خرجا، قال المحكوم عليه: [[لا أرضى حتى نذهب إلى
الرواية الثانية: في سبب نـزول هذه الآية هو ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن رجلين من الصحابة أحدهما الزبير بن العوام، والآخر رجل من أهل المدينة من الأنصار، اختصما في شريج الحرَّة ومسيل الماء، فذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: {اسقِ يا
هم رفضوا الانقياد لحكم الله فلا يخلو أمرهم من ثلاثة أحوال: في قلوبهم مرض، أو ريب، أوخوف من أن يحيف الله عليهم ورسوله، وكل هذه الأشياء كفرٌ، بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [النور:50] إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:51] إذاً هم ليسوا بمؤمنين بل منافقون، أما المؤمنون فقولهم كما قال تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:51] فهذه حال المؤمن المصدق بالله ورسوله المنقاد لله ورسوله.
فالسبب الأول: هو ما رواه: مسلم، وأبو داود عن البراء بن عازب رضي الله عنه وأرضاه أن الرسول صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بيهودي محمَّماً مجلوداً -أي أن يهودياً من اليهود زنا، فقام اليهود وصَبَغوا وجهه باللون الأسود، وجلدوه ووضعوه هو والمرأة التي زنا بها على حمار، وجوه بعضهم إلى بعض، ومَشَوا بهم في الشوارع من باب التشهير والنكاية بهم، فمَرَّ اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الموكب المهيب- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود، ودعاهم: {أهكذا تجدون حد الزاني المحصن في كتابكم}؟ قالوا: نعم هذا حد الزاني المحصن في كتابنا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عالماً من علمائهم يقال له: ابن صوريّا - وفي بعض الروايات: أنه ذهب إليهم صلى الله عليه وسلم في بيت المدراس الذين يدرسون فيه الكتاب فقال لهذا العالم: {أنشدك الله أو أنشدك بالله الذي نـزّل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا! ولولا أنك ناشدتني بهذه النِشدة ما أخبرتك، -ثم بين هذا اليهودي ما هو السبب في نقضهم لحكم الله ورسوله- فقال: ولكنه كثر في أشرافنا -هذه رواية
إذاً: قوله تعالى: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ [المائدة:41]: يعني إن أوتيتم الحكم بالجلد، (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ) بل أوتيتم الحكم بالرجم (فَاحْذَرُوا)، يعني: إن تحاكمتم إلى مـحمد صلى الله عليه وسلم، فحكم لكم بالجلد، وهو الحكم الأخف، فخذوه واقبلوه؛ لا لأنه حكم الله، ولكن لأنه خفيف يوافق أهواءهم، (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ) بل حَكَمَ محمد صلى الله عليه وسلم بالرجم (فَاحْذَرُوا) ولا تأخذوا هذا الحكم...!
السبب الثاني في نـزول هذه الآية أو القول الثاني في سبب نـزول هذه الآية هو: ما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن اليهود كانوا قبائل، فكانت منهم قبيلة بني النضير وهي قبيلة شريفة عزيزة، وقبيلة بني قريظة وهي قبيلة ذليلة، فكانوا إذا قتل رجل من بني النضير الأعزاء رجلاً من بني قريظة الأذلاء لم يقتلوه به، بل اكتفوا بأن يدوه مائة وسق من تمر، فإن قتل رجل من بني قريظة الأذلاء رجلاً من بني النضير الأعزاء قتلوه به، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم حصلت بين اليهود مشكلة أن قتل رجل من بني النضير الأعزاء رجلاً من بني قريظة الأذلاء، فقال أولياء المقتول: هاتوه لنا نقتله، فقالوا: لا! إنما نعطيكم ديته مائة وسق من تمر، فأرادوا التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم لبعض -بنو النضير قالوا هذا القول فيما بينهم-: إن حكم لكم محمد بالدية فاقبلوها؛ لأنها أخف، وإن حكم بالقصاص فلا تقبلوه، وهذا الحديث أيضا إسناده صحيح، وقال ابن كثير رحمه الله: يحتمل أن السببين اجتمعا معاً فنـزلت الآية فيهما جميعاً، والله أعلم.
المقصود أن الله عز وجل حكم عليهم بأنهم يسارعون في الكفر؛ لأنهم رفضوا حكم الله عز وجل.
ثم بيَّن تبارك وتعالى أنهم ومن كان على شاكلتهم في رفض حكم الله ورسوله قد جمعوا خلالاً ثلاثاً:
الخلة الأولى: الكفر بالله عز وجل فقال: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] كافرون؛ لأنهم ستروا الحق -أخفوه وكتموه- وزعموا أن الحكم هو الجلد، وإنما هو الرجم، وهكذا حالهم في كل مسألة أخرى.
الخلة الثانية: أنهم فاسقون؛ لأنهم قد خرجوا عن حكم الله ورسوله إلى طاعة النفس والهوى والشيطان.
الخلة الثالثة: أنهم ظالمون؛ لأنهم حكموا على الناس في أموالهم ودمائهم وأعراضهم وأبشارهم بغير حكم الله ورسوله، وفضلوا بعضهم على بعض بما لم يفضل الله فيه بعضهم على بعض.
وهكذا كل من كان على شاكلتهم فهو من الكافرين الفاسقين الظالمين، وختم السياق بقوله تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
والله أعلم، وصَلَّى الله وسَلَّمَ على عبده ورسوله ونبيه محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الجواب: صُوَر الشرك كثيرة جداً، وأصل الشرك -كما ذكرتُ- عقد في القلب يصبح الإنسان به قد جعل غير الله من المخلوقين نِداً لله عز وجل معادلاً لـه في أمر من الأمور أياً كان هذا الأمر، فحينئذٍ يقع الإنسان في الشرك، أما الصور العملية لهذا الشرك فهي كثيرة جداً ذكرت منها صوراً ثلاثاً:
الأول: الشرك في الربوبية، وهو أن يظن أو يزعم الإنسان أن مع الله مُصَرِّفاً ومدبراً للأكوان.
الثاني: الشرك في الألوهية، وهو أن يصرف شيئاً من ألوان العبادة لغير الله.
الثالث: الشرك بالطاعة والاتباع، وهو أن يعتقد بوجوب طاعة أحدٍ غير الأنبياء والرسل الذين طاعتهم من طاعة الله عز وجل فيما لا يطاع فيه إلا الله، فيعتقد مثلاً بطاعة الأحبار والرهبان أو الرؤساء أو غيرهم من البشر المخلوقين في أمور التحليل والتحريم والحظر والإباحة والمنع والأمر... وهكذا.
الجواب: لا شك أن الإنسان محاسب على ما يخرج من فيه، وفي حديث معاذ الذي رواه: الترمذي وصحَّحه: {وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم أو قال على مناخِرهم إلا حصائدُ ألسنتهم} قال الله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] وقال: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:53] فينبغي لك أن لا تتسرع بالحكم على الناس، لا بكفرٍ ولا بغيره حتى تتأكد وتتثبت من ذلك، حين يوجد لهذا الأمر داعٍ يدعو إليه، أما المجازفة والتسرع في وصف الناس بالكفر أو الفسق فهو أمرٌ خطير، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في البخاري وغيره، أنه: {ما قال رجلٌ لأخيه: يا كافر! أو دعا عليه بالكفر إلا باء بها أحدهما} وهذا وعيد شديد في حق من يطلق ألفاظ الكفر على المسلمين، فعلى الإنسان أن يكون حذراً أشد الحذر من ذلك، ويتقي الله ولا يتسرع في هذا الأمر مهما أمكن، أما وقد حصل الأمر منك فإنني أنصحك أولاً: بكثرة التوبة والاستغفار لعل الله عز وجل أن يمحوَ عنك هذا الإثم، وأنصحك ثانياً: أن تحسن إلى هذا الرجل الذي قلت فيه هذه الكلمة، فإن كان مسلماً فأحسن إليه بتعليمه ما يجهل من أمور دينه، وبنفعه في أي أمر من أمور دنياه، وإن كان كافراً فابذل جهدك أن تدعوه إلى الإسلام لعل الله يهديه على يديك فتكون هذه الكلمة التي صدرت منك؛ وإن كانت شراً إلا أنها دعتك إلى أمر خير، فتكون ككلمة عمر رضي الله عنه يوم الحديبية، حين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، فما زالت هذه الكلمة تدفعه إلى أعمال صالحة كثيرة؛ حتى رجا أن تكون خيراً...!
الجواب: هذا السؤال يشير إلى أنه لم يستطع تدبر القرآن، فأقول: عدم استطاعته لأسباب لا بد من معرفتها والبحث في إزالتها ودفعها، فقد يكون عدم تدبرك للقرآن ناتجاً عن عدم معرفتك بمعانيه أحياناً، وحينئذٍ عليك أن تقرأ في كتب التفسير أو غيرها، أو تسأل أهل العلم حتى تعرف المعنى الذي دلت عليه الآية.
الأمر الثاني: أن يكون السبب انشغال قلبك في أمورٍ أخرى، وحينئذٍ يكون هذا السؤال مثل سؤال من يسأل فيقول: حاولت أن أخشع في الصلاة فلم أستطع مثلاً، فنقول: سبب عدم الخشوع وسبب عدم التدبر وسبب فعل كثير من العبادات بدون خشوع منا جميعاً -نسأل الله أن يتوب عليّ وعليكم أجمعين- أننا نفعلها بقلوبٍ خاوية، فالخشوع والتدبر والتأمل والتأثر كلها أفعالٌ قلبية من أعمال القلب، فإذا كان القلب مستعداً قام بها، لكن إذا كان القلب مشغولاً بشئونٍ أخرى كثيرة لاهية عن هذه الأشياء، فإنها تضعف بقدر انشغال القلب.
فمشغول القلب يصلي وهو لاهٍ ساهٍ، ويقرأ القرآن وهو لاهٍ ساهٍ، ويدعو وهو لاهٍ ساهٍ، شأن كثير منا في هذا الزمان! فعلى الإنسان أن يحرصَ على تفريغِ قلبه ما استطاع، لا أقول: عليه أن يترك الدنيا كلها! بل عليه أن يحرص على تفريغ قلبه ما استطاع من الشوائب، والإقبال بكليته على الأمر الذي يريده من العبادة، وتوفير أسباب التأثر ما أمكن، وحينئذٍ سيفعل القرآن فعله في النفس؛ فإن القرآن كلام رب العرش العظيم الذي خلق هذه القلوب، ومتى خلينا بين قلوبنا وبين القرآن سنجد من فِعل القرآن في هذه القلوب ما لا يخطر على بال.
وأذكر لكم قصة قرأتها لأحد الشيوخ الموجودين الآن، يقول هذا الشيخ: إنه جمعه مجلس مع بعض المستشرقين الفرنسيين فحانت صلاة العشاء، فقام يصلي بالقوم، فصلى هو والمسلمون، ثم رجعوا إلى مجالسهم، وكان بجواره أحد هؤلاء الفرنسيين وكان كافراً، وكان أيضاً لا يحسن العربية، يقول هذا الشيخ: فلما جلستُ بجواره وجدته قد أخرج منديلاً من جيبه، وهو يمسح دموعاً تتساقط بغزارة من عينه، يقول: فاستحييت من نفسي في هذا الموقف، ولكنني لم أستطع أن أتجاهله، وما حصل أمرٌ غريب، فسألته: ما السر في هذا البكاء؟ فقال: أنا والله لا أدري ما هو السر في هذا البكاء! ولكنني أشعر أن هذا الكلام الذي قلته في الصلاة -يعني القرآن- أشعر أن شيئاً بداخلي يتجاوب ويتحرك مع هذا الكلام، وأنني يجب أن أبكي حين أسمع مثل هذا الكلام؛ مع أنني لا أفقه ما تقول، ولا أدري ما هو، ولكنني أشعر باستجابة في داخلي لهذا الكلام..!
وهناك قصص مشابهة لا يتسع المجال لذكرها، فحتى الذي لم يعلم ما معنى القرآن، وجد في قلبه نوعاً من التأثر، ولا يلزم أن يكون هذا التأثر في كل إنسان، بل قد يوجد نوعٌ من الناس يوجد في قلوبهم هذه الحساسية والرقة والاستعداد للتأثر! والله أعلم..
الجواب: الذي يظهر من هذا السؤال أن الأخ الأكبر رجلٌ مستقيم كان قدوةً لأخيه فتغير سلوكه تجاهك، قد يكون والله أعلم بسبب تصرفات معينة قام بها الأخ الأصغر بعد هدايته، وهذه التصرفات لا أستطيع أن أعرف ما هي الآن، ولكنني أستطيع أن أذكر بعض التصرفات التي يكثر أن تقع من بعض الصالحين، فمن ذلك: التخلي عن أعمال البيت ومشاغله والإلقاء بها على غيره، فإن الإنسان قد يكون مهتدياً صالحاً، فيرغب أن يشغل وقته في أمورٍ نافعة فيما يحسب، وبناءً على ذلك قد يتخلى عن كثيرٍ من المشاغل التي لابد منها، ويُلقي بها على أبويه أو على إخوانه الآخرين أو غير ذلك، ومهما ألحوا عليه فإنه لا يقوم بذلك حق القيام، فهذا سبب من الأسباب التي قد تؤدي إلى وجود شيءٍ من النفرة أو القطيعة.
ومن الأسباب أيضاً: أن يتنكر الإنسان لغيره بعدما يهديه الله عز وجل، وقد يكون لـه دورٌ في هدايته، فربما بدأ يتجاهله ولا يأبه به، وربما أمره ونهاه بأسلوبٍ أيضاً غير مناسب؛ لأنه يقول: هذا حق، ولابد من بيانه مثلاً، ومن هذا المنطلق قد يسلك مع مَن عَلَّمَهُ ورَبَّاهُ أسلوباً منفراً غير صحيح ولا مشروع.
صحيح أن النصيحة من كل أحد لكل أحد، وليس في الإسلام كبيرٌ أو صغير، لكن الاحترام والأدب والتوقير للأكبر مطلوب، وحتى حين تريد أن تأمره أو تنهاه، يجب أن تصحب ذلك بالأسلوب الذي يجعله يستجيب لما تأمر وتنهى، وقد يكون هناك أسبابٌ أخرى يجب عليك البحث فيها، وإن رأيت أن لـه أصدقاء يمكن أن تستعين بهم في حل هذا، فهو أمرٌ طيب.
الجواب: الكلمات التي يمكن أن تقال لا يمكن أن نتحدث عنها الآن، وإنما يكتسبها الإنسان من خلال قراءاته في الكتب التي تبين الأسلوب المناسب للدعوة، ومن خلال اطلاع واسع ويحتاج إلى وقت، ولكن أقدم بعض الملاحظات حول هذا الموضوع الذي أشارت إليه السائلة:
الملاحظة الأولى -وقد سبقت-: وهي ضرورة أن يكون الأمر والنهي بأسلوبٍ طيب، وحين أرى من الذين أمرتهم أو نهيتهم عدم استجابة، لا ينبغي أن تثور أعصابي وأنفعل، ثم أحطم العلاقة بيني وبينهم، لا ينبغي هذا، بل أُبْقِي الجسورَ قائمة؛ لأن هناك فرصاً أخرى يمكن أن تستغل لأمرهم ونهيهم، وربما تأمرين اليوم فلا يستجيبون، وتأمرين غداً فيستجيبون، فالقضية ليست في يومٍ وليلة، وقد لاحظت كثيراً من الناس إذا أمر بأمر، وَبَيَّـنَه، ثم لم يستجب الناس؛ تبرم وضاق بهم، وينسى أن الناس تعودوا أشياء، وتربَّوا على أشياء، وتحيط بهم ظروف كثيرة، لا أقول: إنها تبرر ما فعلوا، معاذ الله! المعصية ليس هناك ما يبررها أبداً، لكن تجعلك تسلك معهم الأسلوب المناسب، وتتلطف معهم في المدخل، وتحرص على أن تدعوهم شيئاً فشيئاً، هذا هو الأمر الأول، وهو التطلف والتدرج في الأسلوب.
الأمر الثاني: أن هذا الوضع وهو كونه لا يستجيب للأمر لا يعني أبداً أننا يجب أن نترك الأمر والنهي، قال الله: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف:164] إذاً أنت حين تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر أول من نفعت، نفعت نفسك؛ لأنك أعذرت إلى الله عز وجل، وقمت بالواجب هذا أولاً، ثانياً: أنت تسببت في حماية المجتمع كله؛ لأن المجتمع حين يخلو من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يحل عليه غضب الله وعقوبته! وهذه سنة إلهية لا تتخلف، قال الله تعالى: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116] وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قولُه:{إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه} لهذا الحديث طرق يصح بمجموعها.
فأنت حين تأمر وتنهى ولو بالكلمة تكون تسببت في حماية المجتمع من العقاب الإلهي؛ لأنك تسببت في حمايته من المجاهرة بالمعصية والرذيلة وعدم المبالاة.
وثانياً: كل كلمة حقٍ تقولها، ثِقْ بأنها مؤثِّرَة، لكن لا يلزم أن يكون الأثر اليوم، قد تؤثر اليوم، وقد تؤثر غداً، وقد تؤثر أثراً بسيطاً، فيتكلم غيرك بكلمة أخرى، فتنضم إليها، وهكذا حتى يهتدي هذا الإنسان، ولذلك تجدون كثيراً من الناس اليوم يهتدون إلى الله عز وجل بدون سببٍ واضح، فنقول: هؤلاء القوم تأثروا بمجموعة مؤثرات: سمعوا نصيحة، ثم سمعوا أخرى، ثم زارهم أحد الصالحين ونصحهم ولم يقدر، ثم سمعوا شريطاً إسلامياً ثم قرأوا كتاباً، وهكذا حتى تجمعت مجموعة مؤثرات، وربما أحداث معينة، فهداهم الله عز وجل، فكلمة الحق لا تضيع، وعلى الإنسان أن يحرص على أن يقولها باستمرار على الأقل محافظة على المسلمين.
الجواب: لا يجوز للإنسان أن يُخرج الصلاة عن وقتها أبداً، قال الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ *الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7] لكن إن كان فوات الصلاة عن وقتها لعذر صحيح وبدون تفريط، فلا حرج على الإنسان، فلو بذل الإنسان الوسائل التي تدعوه إلى الاستيقاظ: كأن يكلف أحداً بأن يوقظه، أو يضع ساعةً منبهةً عند رأسه، أو ما أشبه ذلك من الوسائل التي يستطيعها، ثم مع ذلك لم يستطع أن يستيقظ إلا حين طلعت الشمس فحينئذٍ أقول لـه كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة} واللفظ الآخر: {ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى دخل وقت الصلاة الأخرى} وقد حصل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما في الصحيحين وغيرهما.
الجواب: أحبك الله! وأسأل الله أن يجمعنا جميعاً في مستقر رحمته، وأن يجعلنا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً!!
كلمة "العادات والتقاليد" تحتمل معنيين:
المعنى الأول: الأمور والأعراض الاجتماعية مما لم يأت به الشرع ولا يعارضه الشرع، فهذا لا بأس به، ولا مانع من أن يسمى عادة أو تقليداً، وإن كان في نظري أن كلمة "تقليد" فيها نظر من حيث اللغة العربية، لكن لا بأس أن تسمى عادة.
المعنى الثاني: أما إن كانت كلمة "العادات والتقاليد" تطلق على الدين نفسه، فهذا مفهوم غير صحيح؛ بل إن الدين ليس تراثاً بشرياً، وإنما هو دينٌ إلهي سماوي، فلا ينبغي أن يسمى عادات، ولا أن يسمى تقاليد، ويجب أن يُرْبأ به عن هذه المعاني، وأظن أن بعض المهزومين يقفون في بعض المواقف فيستحيون -مع الأسف الشديد- أن يصرحوا بقضية الدين والإسلام، أو يصرحوا أنهم رفضوا هذا -أيَّ مُحَرَّمٍ- من أجل الله، من أجل إرضاء الله، أو لأن الدين يرفضه، يستحيون من هذا المعنى، فيلفون القضية ويقولون: ليس هذا من عاداتنا وتقاليدنا؛ لأنهم متفقون جميعاً على أن عادات المجتمع ينبغي مراعاتها، والعادات والتقاليد الاجتماعية ينبغي مراعاتها، فلا بأس أن يقول: عاداتنا وتقاليدنا في زعمه، لكن يجدون حرجاً أن يصرحوا بهويتهم، وهذه مشكلة خطيرة يا إخواني! إن كثيراً من المسلمين صاروا يستحيون من المجاهرة بالدين وإعلان قضية الإسلام، وهذا بلاء عظيم جداً وخطر ليس بالبسيط!
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر