يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد: أيها الإخوة:
قبل أن أدخل فى الموضوع الذى أحب أن أتحدث به في هذه الليلة المباركة, أحب أن أشير إلى مسألة مهمة, وهي -أيضاً- معروفة، ولكن من قبيل التذكير، فأقول:
إن الله تبارك وتعالى إنما أنـزل الكتب وأرسل الرسل من أجل أمر واحد، وهو إقامة الحجة على العالمين, قال تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165], إذاً فكل ما نـزل من الكتب وكل من بعث من الرسل, إنما كان من أجل إقامة الحجة علينا نحن؛ كما يقوم ذلك بإقامة الحجة على غيرنا من الأجيال والقرون الغابرة أو اللاحقة, وإذا كان ذلك كذلك، فيجب علينا أن نعرف أن من يعرف ليس كمن لا يعرف, فمن يعلم ببعثة الرسل, ويدري بإنـزال الكتب, ليس كمن لا يدري عن ذلك شيئاً.
ولذلك قال الله تبارك وتعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19] يعني ومن بلغه هذا القرآن فهو منذر لهم، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا القرآن: {والقرآن حجة لك أو عليك}, فالقرآن حجة ولابد, كل من سمع القرآن فالقرآن حجة بالنسبة له, لكن إما أن يكون هذا القرآن حجة له، وذلك لمن عمل وأخذ به وامتثل أوامره واجتنب نواهيه, وإما أن يكون حجة عليه, وهو من أعرض عن هذا القرآن.
ومن العجيب -أيها المسلمون- أننا نتلو هذا القرآن بكرة وعشية, ونسمع من يقرأه بكرة وعشية ثم لا نتأثر من هذا القرآن فى بعض الأحيان, وربما تجد الإنسان قد يتأثر بأقوال الناس أكثر مما يتأثر بقول الخالق جل وعلا.
وأضرب لذلك مثلاً واضحاً.
تجد هذه الآيات التي تتلى، والتي يقول الله عز وجل عنها: لَوْ أَنـزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21], هذه الآيات التى لو أنـزلت على جبل لتصدع منها, تجد الإنسان منا قد يسمعها فلا يتأثر، ثم يسمع داعياً يدعو في خروجه أو غيره؛ أو واعظاً يعظه فيتأثر وقد يبكي ويلين قلبه, فنقول: هذا دليل على ضعف القلوب، وخلل الإيمان فيها، وإلا فإن الله عز وجل لما ذكر كتابه قال: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [المرسلات:50], وفي الآية الأخرى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية:6], يعني إذا لم تتأثر أيها الإنسان بهذا القرآن وتستجيب له, فكيف تتأثر وتستجيب بغيره؟!
فالقرآن كلام الله عز وجل في غاية الفصاحة, والبلاغة, والقوة, والإعجاز, والتأثير, حتى أن من يقرأون هذا القرآن بقلوب حية يتأثرون منه تأثراً عظيماً.
وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعرفون بأسه وقوته وشدته في الحق, ومع ذلك كان يقرأ الآية من القرآن فى صلاة الفجر وهو يصلى بالناس فيسمع نشيجه وبكاؤه من وراء الصفوف, وكان يقرأ الآية من القرآن فيمكث فى بيته مريضاً يعالج أياماً طويلة.
وقد حدثنا بعض الثقات أنه إلى وقت قريب كان هناك بعض الصالحين إذا سمع الإمام يقرأ في صلاة الفجر بعض الآيات يتأثر بها ويسقط مغشياً عليه, حتى يظن أن به مساً من جنون وما به ذلك، وإنما غلب الخوف على قلبه, ولست بهذا الأمر الذي أشرت إليه أذكر بعض ما يأتي في كتب الصوفية وغيرهم من أن فلاناً صعق صعقة فمات وغير ذلك.
فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يسمعون هذا القرآن ولا يصعقون -وهم أكثر الناس تأثراً به- لقوة قلوبهم، أما أولئك القوم إن صح عنهم ما يروى فذلك لضعف قلوبهم وقله تحملها صارت إذا سمعت المواعظ تأثرت حتى يغلب عليها الخوف فيصعق الواحد منهم أو يغشى عليه أو ما أشبه ذلك.
المقصود أن كثيراً من الصالحين إذا سمعوا هذا القرآن تأثروا به واستجابوا له لأنه كلام الله تبارك وتعالى.
بل إني أحدثكم عن رجل ليس منا نحن العرب, ولا يعرف لغة العرب, وإنما هو من جنس آخر وقد ذكر بعض الشيوخ أنه اجتمع معهم فى مجلس -وكان هذا الشيخ قارئاً للقرآن- فحضر وقت صلاة العشاء قال فقام الشيخ يصلى بهؤلاء القوم ويقرأ القرآن بصوت ندي مؤثر, يقول: فلما انتهينا من الصلاة كان هذا الرجل غير العربي غير المسلم جالس ولم يصلِّ معنا, فلما انتهينا من الصلاة جئت وجلست إلى جنبه، يقول: فوجدت معه المناديل ووجدته يمسح الدموع عن عينيه, فتعجبت لذلك! رجل كبير السن يبكى كما يبكى الأطفال, يقول: فأعدت له شيئاً من هدوئه ثم التفت إليه وقلت له: يا أخي ما شأنك!لم تبك؟
قال: إنني لا أدرى لماذا أبكي, لأنني لست بعربي, ولا أعرف اللغة العربية، ولكنى أشهد أن الكلام الذى سمعته منك قبل قليل -يعني وهم يصلون- أنني أحسست بقلبي يتحرك لهذا الكلام, ويتأثر منه حتى كاد قلبى أن يطير, من عظمة ما أسمع مع أنني لا أعرف ماذا تقول, ولا أفهم المعنى, قال: ثم شرح له ودعاه إلى الإسلام فهداه الله تبارك وتعالى وأسلم.
فهذا القرآن -أيها الإخوة- هو أعظم الحديث، والقرآن كما قلنا هو حجة للإنسان, فكل ما تسمع من آية لا تظن أيها الأخ أنك سمعت الآية وانتهى الأمر, هذه الآية هي إما حجة لك أو عليك, كل ما تسمعه من القرآن أو من غيره من المواعظ فهي حجة لك أو عليك.
انظروا أيها الإخوة: هناك فرق بين من سمع باسم محمد صلى الله عليه وسلم، وباسم الإسلام وبرسالة الإسلام, وبين لم يسمع.
من مات وقد عرف الإسلام وعرف القرآن وعرف محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم مات غير مسلم فهو قطعاً من أهل النار خالداً مخلداً فيها أبداً, لا يطمع له بنجاة, ولا يجوز أن يدعى له بالمغفرة بحال من الأحوال.
وقد سألت عائشة رضي الله عنها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما في صحيح مسلم عن رجل من أهل الجاهلية يقال له عبد الله بن جدعان وكان هذا الرجل كثير الصدقة، كثير الصلة، كثير العتق، محسناً إلى الناس حتى أنه عقد في بيته حلف في الجاهلية لنصرة المظلوم, والاقتصاص من الظالم, وحماية الضعيف, مما يدل على أنه رجل كان يحب الإحسان إلى الناس, فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول أرأيت ما كان يفعله عبد الله بن جدعان في الجاهلية, هل ينفعه ذلك؟
فأجابها الرسول صلى الله عليه وسلم: {كلا يا عائشة، إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين}, يعني: مات لم يسلم ولم يدعُ الله عز وجل، ولم يتوجه إلى الله بالعبادة، فلا ينفعه ما كان عمل, لأنه لم يهتدِ بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
فكل من سمع بالإسلام، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن، ثم لم يتبعه, نقطع له بأنه من أهل النار، وفى الحديث الآخر الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار}, أما الإنسان الذي لم يسمع بالإسلام أصلاً، ولم يعلم بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم, أو لم يكن أهلاً لذلك، كمن مات وهو طفل, أو مجنون, أو في بلد بعيد لم يعرف الإسلام ولم يدرِ عنه شيئاً, أو في زمن الفترة, فهذا لا يقطع له بأنه من أهل النار, إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك.
فهناك فرق بين من علم وبين من لم يعلم, وهناك فرق بين من سمع وبين من لم يسمع, فالكلام الذي تسمعونه أيها الإخوة في خطب الجمع, وفى المحاضرات, في الكلمات وفى جميع المناسبات, سواء من كلام الله تبارك وتعالى، أو من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم, أو من كلام أهل العلم والوعاظ والمهتدين, يجب أن تعلموا أنه إما حجة لكم أو عليكم.
وهذا يجعل الإنسان من جهة حريصاً على استماع المواعظ والحضور إليها، ولكن يجعله من جهة أخرى حريصاً على أن يفهم ماذا يقال فيها، وأن يطبق ما يقال ليكون الكلام حجة له لا حجة عليه.
وأصحاب الرسول عليه الصلاة السلام كانوا يأتون إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فيسألونه هذه الأسئلة في أمور دينهم, حتى نـزل قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنـزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ [المائدة:101], فصار المهاجرون والأنصار القريبون من الرسول عليه الصلاة والسلام منهيين عن السؤال عن كثير من الأمور، ولذلك قال أنس بن مالك رضي الله عنه: [[كان يعجبنا أن يأتي الرجل من البادية العاقل، فيسأل الرسول صلى الله عليه وسلم]] لأنه يسأله عن أشياء يستفيدون هم منها، وهم لا يستطيعون أن يسألوا الرسول عليه الصلاة والسلام, فكانوا -أي: أهل البادية- يسألونه عن أمور دينهم، حتى جاء رجل والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر، وانظروا إلى خلق محمد صلى الله عليه وسلم وحسن معاملته للناس.
الرسول عليه الصلاة والسلام واقف يخطب على المنبر, فيدخل رجل من الباب حتى يقف قبالة الرسول عليه الصلاة والسلام ويقول: يا رسول الله! رجل جاهل جاء يسأل عن دينه، بصوت جهوري, فما قهره الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نهره, وإنما نـزل من المنبر ووضع له كرسياً قبالة هذا الرجل فجلس, وعلمه علوم دينه الأصلية، ثم رجع إلى خطبته صلى الله عليه وسلم, وهذا حديث في الصحيح.
ويأتيه رجل آخر يقول: يا رسول الله! بين لنا ديننا كأنا خلقنا له. فكانوا يعترفون بأنهم يحتاجون إلى العلم الذي يبعد عنهم الجهل, والجهل لا شك داء قاتل.
إذاً: نحن محتاجون إلى نوعين من الوعاظ:
يجب عليك إذا سمعت قول الله أو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصغي له سمعك وتنظر ما يقول, خير تؤمر به أو شر تنهى عنه فانتهِ.
جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قوم من العرب في الجاهلية, كانوا يعرفون الله عز وجل ويؤدون بعض المناسك, فكانوا يحجون, ويصومون, ويصلون.
أما الحج فكانوا يحجون كما تعرفون جميعاً, أما الصيام فكانوا يصومون يوم عاشوراء حتى في الجاهلية, كما ذكرت عائشة رضى الله عنها, وكانوا يصلون الصلاة, ولكنهم يعبدون أصنامهم وآلهتهم من دون الله، يقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3], وكانوا في نسكهم وتلبيتهم يهلون بتلبيات كثيرة منها التلبية التي ذكرها بعض أصحاب السنن كما في صحيح مسلم أنهم كانوا يقولون: {لبيك لا شريك لك لبيك}, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {ويلكم كفى حسبكم} يعني يكفيكم هذه التلبية، لكنهم لا يكتفون بذلك؛ بل يضيفون إليها كلمه شركية فيقولون: {إلا شريكاً هو لك} -يقصدون الصنم- {تملكه وما ملك} فهذا الشريك يقولون إنه يقربنا إلى الله زلفى.
ولماذا عبدوا هذا الشريك؟
عبدوه لأنه بزعمهم رجل صالح. [اللات] الذي كانوا يعبدونه, رجل صالح كان يطعم الحجاج ويسقيهم, فأعجبوا بعمله فلما مات بنوا على قبره مسجد أو أقاموا صنماً فعبدوه, ظانين أنه يقربهم إلى الله زلفى, فكانوا يعرفون الله عز وجل, ومع ذلك جاء الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يعرفهم بالله. كيف يعرفهم بالله وهم يعرفونه؟
نعم يعرفهم بالله لأن معرفتهم الأولى ما نفعتهم شيئاً، فكانوا يعترفون بأنه الخالق الرازق المحيى المميت ثم يعبدون غيره, فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: إذا كنتم تعلمون أن الله هو الخالق الرازق المحيى المميت, فاعلموا أنه لا يستحق العبادة إلا من كانت هذه صفاته، كيف تقرون له بهذه الصفات ثم تعبدون غيره؟
ممن لا يخلق ولا يرزق ولا يحي ولا يميت ولا ينفع ولا يضر.
فيا ترى هل مجرد حفظنا لتسعة وتسعين اسماً من أسماء: الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهمين العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور العزيز الحكيم.. إلى غير ذلك من الأسماء الواردة في القرآن؟!
وفي صحيح السنة؛ هل حفظنا لهذه الأسماء وترديدنا لها هو إحصاء ومن فعل ذلك دخل الجنة؟
أقول: ليس الأمر كذلك، وليس هذا هو مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث؛ بل الرسول عليه الصلاة والسلام قصد أمراً آخر, فهو يقول: {إن لله تسعه وتسعين اسماً} وهذا ليس معناه حصر أسماء الله في تسعة تسعين, لا. بل أسماء الله كثيرة ولا يحصيها إلا الله تبارك وتعالى, وكلنا إذا دعونا ندعو فنقول: {اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك, أو أنـزلته في كتابك, أو علمته أحداً من خلقك -ثم نقول- أو استأثرت به في علم الغيب عندك} فيجب أن نفهم من هذا أن هناك أسماء لله تبارك وتعالى استأثر الله بها في علم الغيب عنده, لا يعلمها ملك مقرب, ولا نبي مرسل.
وفى حديث الشفاعة أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه الناس فقالوا: اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه يقول لهم: {أنا لها، أنا لها، ثم يأتي فيخر ساجداً تحت العرش. قال: فيفتح علىّ بمحامد يعلمني الله إياها في ذلك الوقت لا أعلمها الآن}.
إذا: لله أسماء كثيرة ليست تسعة وتسعين اسماً فقط, لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن من أسماء الله تسعة وتسعين اسماً، من خصائص هذه الأسماء التسعة والتسعين أن من أحصاها دخل الجنة.
إحصاء هذه الأسماء يعني أمور عديدة.
الأمر الأول: أن نعرف هذه الأسماء ونحفظها عن ظهر قلب، بحيث يكون بإمكان الواحد منا أن يعدد هذه الأسماء ويسردها سرداً, كما ذكر الله في آخر سورة الحشر وغيرها، فهذا الأمر الأول المطلوب من الحديث.
الأمر الثاني: أن يعرف الإنسان ما معنى كل اسم من الأسماء، فقد يحفظ الإنسان الاسم، ثم لو قلت له: ما معنى هذا الاسم؟
لوقف يقلب كفيه ولا يعلم ما معناه, مثلاً: كلنا نعلم أن من أسماء الله تبارك وتعالى (القدوس) فقد يأتي سائل فيسألك فيقول لك: الله هو (القدوس)، ما معنى (القدوس)؟
فتجد أنه سؤال لم تستعد له، وربما أنك لا تعرف معنى (القدوس).
قد يسألك سائل فيقول: من أسماء الله تبارك وتعالى (السلام), فما معنى (السلام)؟
ويأتيك ثالث فيقول: من أسماء الله تبارك تعالى (المتكبر)... إلى أسماء كثيرة جداً ربما أن كثيراً منا لو سئل عنها لانتبه لأول مرة أنه لم يعرف معاني هذه الأسماء.
إذاً: فالأمر الثاني المطلوب منا فيما يتعلق بأسماء الله تبارك تعالى بعد أن نحصيها ونحفظها أن نعرف معنى كل اسم من هذه الأسماء، ما معنى الله؟
ما معنى الرحمن الرحيم؟
إلى آخره.
الأمر الثالث: هو أن ندعوه سبحانه وتعالى بهذه الأسماء, قال تعالى وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180], لم يوجب الله تبارك وتعالى لنا أن ندعوه إلا بأسمائه وصفاته, اللهم إلا ما ورد من أن الإنسان يجوز أن يدعو الله بأعماله الصالحة, فيقول: اللهم إني أسألك بأنني آمنت بك وصدقت برسولك وأديت الصلاة أن ترحمني, وقد صح هذا في الحديث الذي تعرفونه جميعا وهو حديث الثلاثة الذي انطبقت عليهم الصخرة في الغار من بني إسرائيل, فقالوا: {اعلموا أنه لن ينجيكم من ذلك إلا عملكم الصالح, فأولهم تذكر من عمله أنه كان يحلب الحليب, فيأتي لأبويه ليسقيهم, فتأخر ذات يوم فوجد أبويه قد ناما, فوقف على رءوسهم كراهية أن يوقظهم والصبية يتضاغون -أي: يبكون شوقاً وحاجة إلى هذا الحليب- فلم تطب نفسه أن يسقى الصبية قبل أن يسقي أبويه, قال: فما زلت على ذلك حتى برق الفجر فاستيقظا فسقاهما ثم سقى الصبية, اللهم إن كنت تعلم أنني إنما فعلت ذلك ابتغاء ما عندك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرج ثلث الصخرة. ثم قال الثاني: أنه استأجر أجيراً فأعطاه أجرته، فكأن الأجير تقال هذه الأجرة فلم يأخذها, فنماها له حتى صارت وادياً من البقر, ووادياً من الغنم, وبعد سنين طويلة, جاءه الأجير, وقال له يا هذا اتق الله واعطني أجرتي, قال الرجل: انظر إلى هذا الوادي من الإبل، وإلى هذا الوادي من البقر، وإلى هذا الوادي من الغنم خذها كلها فهذه أجرتك, قال: أتستهزئ بي, قال: إني لا أستهزئ بك، قال: فساقها كلها, اللهم إن كنت تعلم أنني إنما فعلت ذلك خوفاً منك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرج الثلث الثاني، لكنهم لا يستطيعون الخروج. ثم ذكر الثالث: أنه كانت له ابنة عم أحبها حباً شديداً، وكانت من أحسن النساء، فأرادها على نفسها, فأبت حتى أصابتها سنة -يعني حاجة شديدة- فجاءت إليه تستدينه فرفض أن يعطيها إلا أن تخلى بينه وبين نفسها ففعلت على كره منها -الحاجة ساقتها إلى ذلك- فلما وقف منها موقف الرجل من امرأته, قالت له: يا هذا! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه, قال: فانصرف عنها, اللهم إن كنت تعلم أنني إنما فعلت ذلك ابتغاء ما عندك فافرج عنا ما نحن فيه, فانفرجت الصخرة وخرجوا
الشاهد من هذه القصة: أن الإنسان يجوز له أن يدعو الله تبارك وتعالى بأعمال صالحة, فيقول: اللهم إني أسألك بأني آمنت بك وصدقت برسولك أن تغفر لي وترحمني وتتوب علىّ إلى غير ذلك, كما ينبغي له أن يدعو الله عز وجل بأسمائه الحسنى, كما أمر الله: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180], تقول: اللهم يا غفور اغفر لي, يا رحيم ارحمني, إلى غير ذلك من الأسماء, وتأتى لكل اسم بما يناسبه من الدعاء, وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو, هذا هو الأمر الثالث وهو أن ندعو الله بهذه الأسماء.
الأمر الرابع -وهو أهم هذه الأمور وإن كان لا يمكن أن يتحقق إلا بها كلها- هو: أن تكون معرفتنا بهذه الأسماء وهذه الصفات لله عز وجل أمراً يدعونا إلى فعل الخير ويمنعنا من فعل الشر, بمعنى أنك تعرف أن الله رقيب عليك, مطلع على عملك, لا تخفى عليه خافيه, فإذا عرفت هذا الأمر واستقر في قلبك صرت تشعر وأنت في الخلوة أن عليك رقيباً, ولذلك كان أبو الدرداء رضى الله عنه وأرضاه كثيراً ما يقول:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علىّ رقيب |
ولا تحـسبن الله يغـفل سـاعة ولا أن ما يخـفى عليه يغيب |
فمعرفتك بأسماء الله تجعلك تخاف من الله, وتحب الله, وترجو الله, بل تجعلك لا تخاف إلا من الله, ولا تحب الحب الحقيقي حب العبادة إلا الله, ولا ترجو إلا الله, ولذلك صح فى الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن}.
لا. أبداً, بل في حديث أبي ذر لما ذكر الإيمان؛ وأن من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة، قال أبو ذر: وإن زنا وإن سرق، قال صلى الله عليه وسلم: {نعم إن زنا وإن سرق وإن شرب الخمر}، فإنه يدخل الجنة متى شاء الله، بعد أن يعذب بذنوبه، فمن مات على الإيمان والتوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة, فهو يدخل الجنة متى ما شاء الله, لكن لا يخلد فى النار.
معنى نفي الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان عن هؤلاء حال فعلهم المعصية هو ما أشرت إليه فى موضوع معرفة أسماء الله, أن الإنسان حينما يقع فى المعصية لو تذكر عظمة الله, واستحضر أن الله شهيد عليه, لم يطق أن يفعل هذه المعصية, وأضرب لذلك مثلاً بسيطاً: أرأيت لو أن واحداً من هؤلاء القوم كان يزنى -أعاذنا الله وإياكم من ذلك- ثم اطلع عليه رجل ممن يستحي منه, من صالح قومه, هل يصبح هذا الأمر طبيعياً عند هذا الإنسان ويستمر فى زناه؟
الجواب: لا, بل إن هذا الإنسان لو أحس أن شخصاً يراه, فسينتفض انتفاض الفزع ويقلع عنه, وكذلك السارق لو كان وهو يمد يده ليختلس شيئاً ويسرقه, وبصر به إنسان يستحي منه أو يخافه, هل سيستمر في سرقته؟
لا سيكف عن هذا العمل وبسرعة, وهكذا الحال في شارب الخمر، وفى غيرهم من أصحاب المعاصي.
إذاً: ما الذي دعاهم إلى أن يخافوا من هؤلاء الناس, أو يستحيوا منهم ولا يستحيوا من الله عز وجل؟
الذي دعاهم إلى ذلك هو غيبة الإيمان عن قلوبهم في حال مواقعة المعصية, وربما لو أتيت لبعض هؤلاء لوجدته يحفظ أسماء الله الحسنى, ويعدها عن ظهر قلب, ولربما يعرف معنى كل اسم من هذه الأسماء, لكن هذه الأسماء لم تتحول إلى علم حقيقي يدخل في القلب, بل إنها علم في اللسان, والحسن البصري يقول: العلم علمان -وروي هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم- علم في القلب, فذلك العلم النافع, وعلم في اللسان فذلك حجة الله على ابن آدم.
علم اللسان حجة على ابن آدم، فلا بد أن نعرف معنى كل اسم من أسماء الله, ونربى أنفسنا على التأثر بهذه الأسماء, والخوف من الله عز وجل, والرجاء في الله, وطلب ما عند الله.
وإنما مثلت بهذا الحديث وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة} وإلا فهناك أشياء كثيرة جداً نحن نعلمها بألسنتنا لكن لم تدخل إلى قلوبنا, فلا تكون هذه الأمور حجة لنا إلا إذا دخلت إلى قلوبنا, أما إذا كانت في ألسنتنا فيجب أن نعلم أنها حجة علينا، كلنا مؤمنون بيوم الحساب لكن كم واحد منا يحسب الحساب ليوم الحساب في كل عمل من أعماله, ويعمل هذا العمل وهو ينتظر أن يجزى عليه غداً, ويترك هذا العمل وهو ينتظر أنه يجزى على تركه غداً.
الكافر يعرف أنه سيموت، وكما حكى الله تبارك وتعالى عنهم في القرآن أنهم يقولون: أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق:3], فهم يعرفون أنهم سيموتون, بل وسيكونون تراباً, ومع ذلك مرة أخرى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث رواه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه وهو حديث صحيح-: {لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقبر}.
لقد عَدَّ الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان بالموت ركناً من أركانه في هذا الحديث، ويؤمن بالموت، هنا أنا أسألك كيف يؤمن بالموت؟
وهل هناك أحد في الدنيا لا يؤمن به؟
بل قال بعض العلماء: حتى الدواب والمواشي تعرف أنها ستموت, كل الدنيا تؤمن بالموت, فما معنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعله من شروط الإيمان؟
ليس هو الإيمان الذي نردده بألسنتنا، نقول: كلنا نعرف أننا سنموت, وندعو الله بحسن الخاتمة, وإذا سمعنا أن فلاناً مات قلنا: هذا مصير جميع الناس ونهايتهم إلى غير ذلك من الأشياء التي نرددها, ليس هذا هو الإيمان بالموت.
الإيمان بالموت هو أن تعمل والموت نصب عينيك, تفعل الطاعة وأنت تعتقد أن هذا آخر ما سوف تؤديه, تصلى صلاة مودع, وإذا همت نفسك بالمعصية تذكرت الموت فأقلعت عنها؛ لأنك تعرف أن الموت قد يفاجئك وأنت على هذه المعصية.
لكن ضَعُفَ الإيمان بالموت في نفوسنا فصرنا نشيع الموتى غدواً ورواحاً ولا تتحرك والله منا شعرة, ولا تهتز القلوب سبحان الله طغى علينا حب الدنيا, والتعلق بها والأمل حتى صرنا لا نتأثر بهذا المشهد.
والموت من المشاهد المروعة، فنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى جنازة قام -كما في الصحيحين- فقالوا يا رسول الله إنها جنازة يهودي، فقال: {إن للموت لفزعات، إن للموت لفزعات} وفى حديث آخر في صحيح مسلم: قالوا: إنها جنازة اليهود, قال: {أليست نفساً}؟
فالموت مشهد مرعب, لأنه من مشاهد الآخرة نشاهده في الدنيا، لكنا تعودناه وألفناه فصرنا لا نخافه, بل ربما يموت القريب من أقربائنا, فنتأثر لمدة يسيرة أياماً معدودة إن طال التأثر, ثم ينسى هذا الأمر.
فالإيمان بالموت ليس معناه: أن يعرف الإنسان أنه سيقع، بل معناه: أن تعمل الخير وأنت تدرك أن الموت قد يفاجئك, وتترك الشر وأنت تدرك أن الموت قد يفاجئك.
ففرق بين إنسان يردد بلسانه أن الشيطان عدوي، وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم, وبين إنسان يعرف بقرارة قلبه أن الشيطان عدو مسلط عليه, وأن الشيطان لا يألوه جهداً بالكيد والمكر، وهذا واقع في حياة الناس؛ لو عرفت أن إنساناً من الناس عدو لك, وهو في دائرة من الدوائر الحكومية مثلاً, لقلت: هذا إنسان عدو لي، وحاولت جهدك أن تتقى كيده مكره, وإذا كان لك حاجة فى هذه الدائرة بذلت جهدك، فهكذا العدو مع عدوه.
والشيطان كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم ينصب عرشه فى الماء على البحر ثم يبعث سراياه للناس يكيدون له, فأقربهم عنده منـزله أكثرهم كيداً, حتى يأتيه الرجل فيقول: ما تركته حتى جعلته يقع في معصية، فيقول: ما فعلت شيئاً, إنه يتوب ويستغفر فيغفر له، حتى يأتيه الشيطان فيقول: ما تركت فلاناً حتى فرقت بينه وبين زوجته, فيدنيه ويقول: أنت أنت.
وهذا دليل على أن الشيطان -أيها الإخوة- يكيد لنا فى أمور ديننا ودنيانا الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] فالشيطان حريص على أن الإنسان يعيش فى تعاسة حتى فى دنياه, وحريص على أن الإنسان يحصل بينه وبين زوجته ما يحصل, ويحصل بينه وبين أولاده ما يسوء, فالشيطان يكيد لنا في أمور ديننا وفى أمور دنيانا, وعداوتنا للشيطان لا يكفى فيها أن نستعيذ منه فقط -وإن كانت الاستعاذة منه واجبة- ولا بأن نعرف فى عقولنا أنه عدو فقط، وإن كان هذا واجباً، ولكن مع هذا وذاك أن تقف منه موقف العدو من عدوه.
أيها الإخوة! أظن أنني أطلت عليكم بهذه الكلمة، ولذلك أختم هذا الموضوع بزبدة عسى الله أن ينفعني وإياكم بها, زبدة الموضوع أن هذه الكلمة كغيرها هي إما حجة لك أو عليك.
وخلاصته أن العلم الذى يفيدك ليس هو العلم الذى تسمعه بأذنك، أو تعرفه بعقلك، أو تقوله لغيرك، لا؛ بل هو العلم الذى يصل إلى قلبك, فيجعلك تنشط للطاعة، وتبعد عن المعصية, هذا هو العلم النافع، ونحن بحاجة إلى من يعلمنا ما نجهل من أمور ديننا, كما أننا بحاجة إلى من يذكرنا بأن نستفيد مما نعرفه سابقاً مثل: معرفتنا بالله، ومعرفتنا بالرسول صلى الله عليه وسلم، ومعرفتنا بالجنة، ومعرفتنا بالنار، ومعرفتنا بعداوة الشيطان، وغير ذلك من الأمور.
أسأل الله تبارك تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً, وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا منا شقيا ولا محروما, وأن يكتبنا فى هذه الساعة من الناجين من النار, وأن يكتبنا من أهل الجنة دار القرار, وأن يثبتنا بقوله الثابت في الحياة الدنيا وفى الآخرة, وأن يتوفانا على الإسلام, ويختم لنا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, ويغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين, وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الجواب: أقول كما يقال في المثل: إذا جاء أمر الله بطل أمر غيره, فالقرآن الكريم محكم ونصوصه صريحة في خلود الكفار في النار خلودا أبدياً لا انتهاء له, وقد ذكر الله عز وجل تأبيد الكافرين في ثلاثة مواضع من القرآن منها قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [الأحزاب:64-65] وفي السنة النبوية من هذا الكثير، والأحاديث في هذا صريحة, مثل الحديث الذي ذكرته قبل قليل عن أبي هريرة وغيره.
وأما أن علماء السنة انقسموا فإنني أرى أن في هذا شيئاً من الفساد في التعبير, وإن كان بعض المصنفين ذكروا ذلك كالإمام شارح العقيدة الطحاوية وغيرها, وأعتقد أن في هذا شيئاً من الفساد؛ لأن علماء السنة متفقون أولهم وآخرهم على خلود الكفار في النار خلوداً أبدياً لا انتهاء له, ولا يخرجون منها أبداً -نسأل الله السلامة والنجاة من ذلك-.
أما القول بأنهم يخرجون منها أو ينتهون فيها, فهو قول حادث نسب لشيخ الإسلام ابن تيمية, ونسب لتلميذه ابن القيم وأقوالهم في ذلك مضطربة، فهم في بعض الكتب يقولون ذلك وفى بعضها يقولون غيره, فيجب ألا نقلد أشخاصاً مهما كانت عظمتهم، فإن الله تعالى أبى أن يكون الكمال إلا لكتابه، فهو كتاب محكم من الزيادة والنقصان والخطأ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإذا تحقق القصد بأنهم مخلدون فيها أبداً، فإن الواحد منا أحياناً إذا تأمل وجد المسألة فيها صعوبة كيف أنه مخلد لا مطمع له في الخروج من النار أبداً خلوداً سرمدياً.
فأقول: يا أخي يهون عليك هذا، ويجعلك لا تفكر فيه أصلاً أن تدرك أن الذي يعاقب ويحاسب هو الله الذي من أسمائه: الرحمن، الرحيم, الودود, اللطيف, الحليم, الكريم, البر, كل هذه من أسماء الله سبحانه تعالى, ولو علم الناس قدر رحمة الله لطمع في جنته حتى الكفار, فرحمة الله واسعة, فإذا علمت أن هذا الرحيم هو الذي عاقبك, أدركت أنك مهما كنت, فلن تكون أرحم من الرحيم, فكيف تظن أنه لن يخلد مع أنه هو نفسه سبحانه قال: سيخلد فيها أبداً.
هذا أمر يجب على الإنسان أن يكله إلى الله سبحانه تعالى, لأن هذه أمور من أمور الغيب، ويكفيك أن الرسول صلى الله عليه وسلم وما صح عنه حديث واحد في هذا الموضوع, إنما روي عنه حديث في تفسير عبد بن حميد لا يصح في خروجهم من النار, أو فنائهم, وعمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول: لو علم أهل النار أنهم ماكثون في النار عدد رمل عالج لفرحوا واستبشروا, يعنى: مثل ما نقول صحراء الربع الخالي, أو غيرها، لو علموا أن مكثهم في النار من الأيام التي هي أيام الآخرة عدد رمال هذه الصحراء لفرحوا, لكنهم يعلمون أنه ليس لهم خروج أبداً، ولذلك يقولون: يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:77-78].
فإذا يئسوا من الموت, جاءوا بطلب آخر، فيقولون لخزنة جهنم: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ [غافر:49], انظروا أيها الإخوة ما دمنا في زمن الإمهال، انظروا إلى لغة الأمر وشدته وصعوبته إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [الطارق:14], وما طلبوا في هذا أن يخرجوا منها, لا, بل طلبوا التخفيف فقط ومع ذلك فالله لا يجيبهم, بل يقال لهم: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [غافر:50], ألم تقم عليكم الحجة؟
قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غافر:50], فيقول لهم الخزنة: لن ندعو ربنا ليخفف عنكم, ادعوا أنتم ودعاؤكم في ضلال, يعنى: فدعاؤهم ضائع لا يستجاب له, ويقول الله تبارك وتعالى في الموضع الثالث وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا [فاطر:36] نص من رب العالمين أنهم لا يموتون لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر:36] وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا [فاطر:37] يعنى: يضطربون ويصرخون ويقولوا: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا [فاطر:37] يتمنون هذه اللحظات التي نحن فيها الآن رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37] ويعاهدون الله على ذلك فيقال لهمك أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر:37] نعم أيها الإخوة احتج الله عليهم بالعمر الذي أعطاهم، العمر الذي هو حجة علينا، هو الحجة وهو النذير المبين أن الإنسان بلغ حتى عقل وعرف الأمر والنهى الذي يعاقب فيه وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37] ويقول الله عز وجل: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً [الإسراء:97], ويقول: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا [النساء:56] إلى غير ذلك من الآيات.
فأهل النار من الكفار خالدون مخلدون فى جهنم أبداً لا مطمع لهم فى الخروج منها, ولا مطمع لهم فى الموت, فضلاً عن أن يكون لهم مطمع فى الجنة, فهذا أمر من أشد المحال.
ومما سبق أيها الإخوة أنه لعلكم سمعتم كثيراً أن الذي يموت وقد بلغ سن البلوغ, وهو لا يصلي الصلوات المفروضة, فإنه كافر, وهذا الأمر يفتى به لا أقول جماهير العلماء بل جميع الصحابة, جميع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, أعلم الناس بالدين، والذين شاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم, وعاشوا وسمعوا كلامه، ورأوا تنـزل الوحي عليه يقول عنهم التابعي الجليل عبد الله بن شقيق فى الأثر الصحيح: [[كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة]] واستدلالهم بهذا من القرآن والسنة، ولو كان المجال يتسع لبسطنا أدلتهم.
وهذا يجعلني أؤكد عليه -أيها الإخوة- بضرورة تعاهد أولادنا ومن حولهم, وما تحت أيدينا وجيراننا فى موضوع الصلاة، والله لو علم الواحد منا أن هذا الابن الذى يحبه ويشفق عليه سيكون في النار فضلاً عن أن يخلد فيها لطار صوابه, فيجب أن يتحول هذا العلم من علم باللسان وبالعقل إلى علم بقلوبنا, يحرك قلوبنا إلى أن نأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر, فإذا عجزنا قامت الحجة عليهم, وحينئذ نقول كما قال الله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].
الجواب: أقول: قرن الله تبارك وتعالى شياطين الإنس مع شياطين الجن فى القرآن الكريم, قال: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:112] سبحان الله! سُنَّة الله عز وجل فى خلقه ما خلقنا الله عز وجل إلا ليبتلينا، ولو شاء الله لخلقنا ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون, لكن لحكمته خلقنا بشراً فينا خير وفينا شر, وقابلين للهداية وقابلين للضلال, وأنـزل علينا الكتب، وأرسل إلينا الرسل، ليهتدي من يهتدي, ويضلل من يضل فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [يونس:108] هذه حكمة الله في خلق البشر.
ولذلك الرسل في طرف, وأعداؤهم في الطرف الثاني, وأعداؤهم هم: يقول الله تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً [الأنعام:112] ثم فسر لنا ذلك بقوله شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:112].
فالشياطين نوعان: شيطان الإنس, وشيطان الجن, ولا أدخل الآن في أيهما أخطر وأشد، ولكنى أحذر من شياطين الإنس, لأن شيطان الجن يجرى من ابن آدم مجرى الدم -كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم- وقد يخفى عن الإنسان شأنه في بعض الأحيان ويلتبس, أما شيطان الإنس فمن رحمة الله وحكمته أنه واضح وضوح الشمس في كثير من الأحيان لمن وفقه الله, فتجد بعض المنحرفين -أعاذنا الله وإياكم من ذلك- يتقرب لبعض الصالحين من الأبناء الطيبين فيغريهم بالمعصية شيئاً فشيئاً, ويبدأ معه بصغار الأمور قبل كبارها, وهذه سياسة أخذوها عن شيخهم وأستاذهم الشيطان الأكبر إبليس -أعاذنا الله وإياكم منه- يبدأ بالأمر الصغير شيئاً فشيئاً, حتى يوقع الإنسان في المهالك وهو لا يدري, ودائماً السفر الطويل يبدأ بخطوة, وهكذا طريق الشر والعياذ بالله يبدأ بخطوة واحدة، إما يغريه بالتدخين مثلاً, أو أن يغريه أن يخرج معه إلى طريق غير طيب, ثم يغريه بعمل آخر سيئ, ولذلك قال بعضهم: إذا رأيت على الإنسان المعصية فاعرف أن لها أخوات، هذه الظاهرة ولها أخوات خفية لو فتشت لوجدتها.
فالإنسان منا يجب أن يكون حذراً على أولاده، وهذا -يا إخوة- والله من المشكلات التي تقلق القلوب، وتقلق الغيورين, قضية الأبناء الذين أصبحوا يقضون في الشوارع أكثر مما يقضون في البيت, وأصبح الأب دائماً يعتذر فيقول: كبر الابن وكبر عمره وحجمه، ولو أنني أردت أن أضربه أو أنهره فربما يعتدي عليّ, هكذا يقول كثير من الناس، فنقول له: سبحان الله لقد فرطنا في الماضي, وضيعنا ثم بدأنا نتعلل ونتعذر بأشياء هي من صنيعنا نحن.
فالأمر الذي أريد أن أنبه عليه في هذه العجالة عن الأبناء الصغار الذين لا زالوا قادمين في الطريق، علينا أن نفقه أيها الإخوة كيف نوجههم.
الله خلق الإنسان على فطرة معينة، لا يمكن أن نغير هذه الفطرة ولا يمكن أن يصبح الطفل مثل الكبير، ربما أحيانا يُنتقد الطفل على بعض الأشياء التي يلعبها, إذا لعب أو سأل ننتقده, لماذا ننتقده؟
هو طفل ونحن لما كنا في مثل سنه الصغير كنا نفعل كما يفعل, فهو طفل ولا يحاسب ولا يلام إلا إذا بلغ مبلغ الرجال.
فأقول: علينا أن نعاملهم فعلاً كما لو كانوا أطفالاً، ونأتيهم بالطرق التي تناسبهم، من الأمثلة على ذلك: أولاً: أسلوب القصص، القصة تؤثر في الطفل تأثيراً كبيراً جداً, وتجعله ينشدها، فلو أن كل واحد منا إذا ذهب إلى بيته بدلاً من أن يضيع الوقت في أمور لا فائدة منها أخضر لأطفاله بعض مثل القصص الإسلامية التي تربي عندهم الإيمان، من جنس قصة الثلاثة التي ذكرتها منذ قليل، أو غيرها من القصص التي تسمعونها من الأئمة والفقهاء، وبدأت تذكر لهم هذه القصة بالأسلوب الذي يناسبهم، ستجد أن هذا الإنسان أو الطفل يستفيد منها كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر