يقول أهل العلم في تعريف الورع: الورع هو: ترك ما قد يضر في الدار الآخرة.
ولذلك ينبغى أن ندرك الفرق بينه وبين الزهد, فإن الزهد هو: ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة، يعني: وإن كان لا يضر، فتركه ما دام أنه لا ينفع من الزهد, فإذا كان أمراً من الأمور لا ينفعك في الآخرة نفعاً مباشراً, ولا غير مباشر مثل كونه عوناً لك على فعل مستحب، أو على فعل واجب, فتركه من الورع.
أما إن كان ينفعك، فلا شك أن فعله أولى من تركه, سواء نفعك بصورة مباشرة كفعلك بعض السنن والمستحبات وغيرها, أو نفعك بصفة غير مباشرة كأن يكون عوناً لك على أمر آخر، فبعض الناس يعرف من نفسه أنه يستعين ببعض المباحات على فعل بعض السنن أو بعض الواجبات:
مثلاً: إنسان يريد أن يصوم يوم الإثنين أو الخميس, وهذه سنة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعرف أنه إذا تعشى في تلك الليلة بعشاء يغنيه ويشبعه، فإنه يكون عوناً له على أن يصوم, بخلاف ما لو تعشى بعشاء يسير، فربما أجهد من الصيام، وتعب، وفوت بالصيام مصالح أخرى, فمثل هذا العشاء الذي يعينه على أداء السنة ليس من الزهد.
فليس من الزهد أن تترك ما فيه منفعة لك في الدار الآخرة، أو ما يكون سبباً غير مباشر للمنفعة، إنما المباحات التي ليس فيها منفعة, مثل التوسع في المطاعم والمشارب والملابس وغيرها, فترك ذلك من الزهد.
لهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير لما ذكر الحلال والحرام: {إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس} والاشتباه ليس مطلقاً دائماً، أحياناً قد يكون مشتبهاً بالنسبة إليك، ولكن عند غيرك ظاهر الحرمة، أو ظاهر الحل, لكن ما دمت أنت قد وقع عندك شبهة قوية، فالورع في حقك أن تتركه.
ولذلك قال: {لا يعلمهن كثير من الناس -ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم- فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه} استبرأ لدينه أن يقع في الشبهة فتجره هذه الشبهة إلى الحرام, وقد يكون هذا المشتبه في واقع الأمر محرماً, واستبرأ لعرضه في الوقيعة فيه وكلام الناس فيه: {ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام -كان هذا سبباً وسبيلاً إلى تجرئه على الحرام- كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه} .
يقع اللبس في صور عديدة:
وأريد أن أسألكم: أرأيتم لو أن إنساناً وقع عنده شبهة في مال, فشك أنَّ هذا المال قد يكون محرماً, أليس من الورع أن يتركه؟!! بلى, أو اشتبه في فعل قد يكون هذا الفعل مكروهاً, أليس من الورع أن يترك هذا الفعل؟! بلى.
سؤال آخر: إنسان شك في أمر أنه قد يكون واجباً، أليس من الورع أن يفعله؟! بلى، من الورع أن تفعل ما يشتبه بالواجب، وإن اشتبه عليك أمر يمكن أن يكون مستحباً, أليس من الورع أن تفعله؟! بلى, فكما أنك تترك ما قد يضر في الدار الآخرة على سبيل الورع, فإنك تفعل ما قد ينفعك في الدار الآخرة على سبيل الورع أيضاً.
بمعنى: أن أمامك أمر يشتبه أن يكون محرماً ويشتبه أن يكون واجباً, وربما يكون وجوبه أقوى من تحريمه -على سبيل المثال- لو فرضنا أن رجلاً على أبيه المتوفى ديون ثقيلة، وحصل لهذا الرجل أموال طائلة, ووقع عنده شبهة يسيرة: أنه قد يكون هذا المال مصدره غير سليم.
مثلاً: وقع عنده شبهه أن يكون الشخص الذي أعطاه هذا المال قد حصل عليه بطريق الشر, فهذه الشبهة جعلت في المتورع شعور أنه ينبغي أن يترك هذا المال وأن يتخلص منه, على سبيل الورع, لكن ماذا وقع بالمقابل؟
وقع في أمر يشتبه أن يكون واجباً, بل هو واجب, فقضاء دينه أو دين أبيه المتوفى إذا أمكنه ذلك واجب عليه, وهذا المال الذي في يد، إن تركه على سبيل التورع, يكون قد تورع من جهة، لكن وقع في ضعف الورع من جهة ثانية، وهي: قضاء الذي عليه في ذمة أبيه المتوفى, ففي هذه الحالة ينبغي للإنسان أن يرجع إلى قضية مهمة -سبق الكلام عليها مراراً- وهي قضية المصلحة والمفسدة ومراعاتهما في الشريعة, وأن الإسلام جاء بتحصيل المصالح وتكميلها, وتقليل المفاسد وتعطيلها.
ولذلك قال الإمام ابن تيمية في الجزء العاشر من الفتاوى في (ص:511) يقول كلمة مهمة في هذا الباب: (وتمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين, ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها, وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية؛ فقد يدع واجبات ويفعل المحرمات، ويرى ذلك من الورع).
نعم من لم يدرك قضية المصلحة والمفسدة قد يدع واجباً، وهو يتصور أن هذا من الورع, وقد يفعل محرماً وهو يتصور أن هذا من الورع, كما في المثال السابق.
ومثال آخر، وهو: قضية من يترك الجهاد مع أئمة الجور, لماذا ترك الجهاد معهم؟! لأنه تورع لجورهم وظلمهم وفسادهم, لكنه وقع في أمر أقل ما يقال فيه أنه مستحب، وقد يكون واجباً وهو الجهاد, فهو فر من أمر، ووقع في أعظم منه!
لكن ينبغي أن تنتبهوا إلى أنه يمكن أن يترك الإنسان هذا على سبيل الزهد؛ لأن الزهد لا يلزم منه كراهية الشيء, أما الورع فتركه فيه نوع من الكراهة لهذا الشيء, فترك ما مصلحته ومفسدته متكافئتان على سبيل الورع غير صحيح، لكن على سبيل الزهد قد يتركه الإنسان.
ولذلك ذكر العلماء قديماً وحديثاً أن اللذة التي يجدها العابد في عبادته، قد لا يجدها الداعية في دعوته أو العالم في علمه, لكنه يجد أعظم منها لما يشعر به من أنه قام بواجبات لم يقم بها غيره, ولذلك كان عبد الله بن المبارك المجاهد يخاطب الفضيل بن عياض العابد بقوله:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا علمت أنك في العبادة تلعب |
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب |
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب |
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب |
ولقد أتانا من مقال نبينا ول صحيح صادق لا يكذب |
لا يُجمعان غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب |
هذا كتاب الله ينطق بيننا يس الشهيد بميت لا يكذب |
فبعض الناس يؤثر ترك الأمر والنهي والدعوة؛ لما يجد في ذلك من بعض المضار والمفاسد, فإذا خرج الإنسان وشاهد المنكرات, ماذا يحصل له؟! يحصل له تغيرات في قلبه تغيرات وضيق، بل بعض الناس إذا كثرت مشاهدته للمنكر حصل عنده نوع من ضعف الإحساس, ولذلك الإنسان الذي لا يرى المنكرات إذا رأى منكراً ولو كان يسيراً؛ تجده ينفعل من ذلك ويتأثر وقد يبكي وقد يمرض.
لكن إذا استمر مرة وثانية وثالثة، وكثرت مشاهدته لذلك, صار عنده نوع من التطبع، ولذلك كثرة الإمساس يقلل الإحساس.
فقد يترك الإنسان الأمر والنهي وهو واجب عليه؛ خوفاً من ذلك الجانب, ويعتبر هذا من باب الورع, ونسي أن من الورع أن يفعل هذا الواجب الذي ألزمه الله فعله من الأمر والنهي والدعوة وغير ذلك، ولو ترتب عليه بعض المفاسد اليسيرة أو بعض الجفاء في قلبه.
هذا يعتبره ورعاً, لكن نسي أنه من الورع أن يكون في المسجد ويصلي فيه؛ لأنه أَقْرَأ من غيره، ولأنه سيعظ المصلين ويذكرهم وينصحهم، ويقوم بما يجب عليه من قيام الدروس في المسجد، وينفع الله به، فمن الورع: أن تفعل ما يشتبه أن يكون واجباً عليك -بعض الأحيان- أو مستحباً.
قد تكون ظاهرة وقد تكون خفية, بل قد يكون عند الإنسان بعض البدع -أحياناً- أو بعض التقصير في سلوكه، ولكن قد يكون عنده خير من علم، أو فوائد يمكن الحصول عليها, فتجد بعض الناس يتجنب الانتفاع من هذا الإنسان الذي فيه الخير الكثير؛ لما يوجد في سلوكه من بعض التقصير، أو ترك لبعض السنن، أو وجود ما يشتبه أن يكون بدعة خفية لا يجاهر بها, أو لا يعتقد أنها بدعة، وينسى أن من الورع أن يستمع لهذا العلم الذي قد يكون سماعه واجباً عليه أحياناً.
هناك أخطاء كثيرة وفيهم عيوب، سواء في الجوانب العقائدية، فقد يوجد عند بعضهم التصوف، وقد يوجد عند بعضهم تعليق للرقى وللتمائم، وقد يوجد عند بعضهم انحرافات عقائدية كبيرة, وقد يوجد عندهم وعند بعضهم انحرافات في السلوك, كحلق اللحى وإسبال الثياب، أو التعصب للمذهب الحنفي, وهذه كلها أخطاء ولا ينبغي أن نغفل عنها ونتصور أن هؤلاء القوم عبارة عن صحابة، أو مثل الصحابة كما يريد بعض الناس أن يصورهم, لا.
يجب أن يعرف هذا كله, لكن -أيضاً- يجب أن يعرف أن فيهم خيراً وصلاحاً وأن فيهم أناس أهل سنة واتباع وتدين، وفيهم أناس حريصون على معرفة الحق واتباعه, وأنهم يواجهون عدواً لدوداً خطيراً, لا يقصدهم هم فقط، بل يقصد الأمة الإسلامية كلها, فهم يقاتلون بالنيابة عن الأمة كلها, فبمثل هذا الحال ليس من الورع أن تتقي مساعدتهم ومعاونتهم والدعاء لهم، والعمل على حل خلافاتهم بما استطعت؟ لا.
بل الورع وقد يكون الواجب في كثير من الأحيان أن تساعدهم بما استطعت من الوعظ والنصح والدعاء والمساعدة المادية ونحوها.
مثلاً: بعض الناس قد يترك عملاً من أعمال الخير, لماذا؟ قال: لأن هذا العمل فيه تمثيل, أو يلعبون الكرة, وهذه الأشياء هو لا يرتضيها, فنقول: حتى وإن سُلِّم لك أن في هذه الأشياء فيها ما فيها، فأنت ينبغي لك أن تشارك بقدر ما تستطيع, وتنصح وتعين، ولا يصدك ما قد يوجد، مما تعده أن من الورع تركه؛ لأن الخير أغلب إن شاء الله, أما حين تعتقد ديناً تدين الله عز وجل به بأن الشر أغلب، فإن الواجب عليك شرعاً أن تتقي هذا الأمر، وتبتعد عنه على حسب ما تقدم تقريره في قاعدة المصلحة والمفسدة.
وهكذا تدرك أن الورع قد يكون في ترك شيء تخشى أن يضرك في الدار الآخرة، وقد يكون الورع في فعل شيء تخشى أن يكون تركه يضرك في الدار الآخرة.
هذا ونسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد في الدنيا والآخرة، وأن يصلح أقوالنا، وأعمالنا إنه على كل شيء قدير.
أيها الإخوة.. الموضوع السابق هو تنبيهات حول موضوع الورع, وما يقع فيه بعض المتفقهة والمتعلمة من الخطأ في فهم الورع, حيث يفهم كثير منهم أن الورع يعني ترك ما لا ينفع، أو ترك ما قد يضر في الدار الآخرة, وينسون أن من الورع فعل ما قد ينفع في الدار الآخرة.
وقد ذكرت أن الذي نفهمه جميعاً ويفهمه كثير من الناس في معنى الورع أن تترك أمراً من الأمور تورعاً لاحتمال أن يكون محرماً, أو لاحتمال أن يكون مكروهاً, لكن قلّ من يفهم أن من الورع أن تفعل الشيء لاحتمال أن يكون واجباً, أو تفعله لاحتمال أن يكون مستحباً.
ولا يميلون إلى الفعل؟
وهي مسألة مهمة، وفيها فائدة عملية لنا في حياتنا؟
إن الإنسان يميل إلى الترك حتى إذا تشابه عنده أمران يخيل إليه أن الورع أن يترك, وأضرب في ذلك أمثلة, ربما يكون من المفيد أن أذكر بها الإخوة، خاصة بعض الذي لم يكونوا حاضرين.
مثلاً: قد يكون إنسان عليه دين, فحصل له مال، وهذا المال ربما وقع عنده فيه شبهة يسيره، جعلت في نفسه من الورع أن يترك هذا المال, ونسي أن يكون من الورع أن يأخذ هذا المال حتى تبرأ ذمته, أو ذمة والده المتوفى.
كذلك، مثلاً: قد يفهم البعض أن من الورع أن يترك الجهاد مع الإمام الجائر, لما عند هذا الإمام من الفسق والبدع, فيرى أن الورع ألا يلابس هذا الإمام ولا يقترب منه, وينسى أنه أخطأ، وأنَّ من الورع أن يجاهد معه، لأن الجهاد مطلوب ومستحب، وقد يكون فرض عين في بعض الحالات, فقد يترك بعض الناس عملاً من الأعمال كالإمامة والوعظ والتدريس وغيرها, معتقداً أن هذا من الورع؛ لأنه يرى أنه ليس أهلاً لذلك, فيقول: من الورع أن نتركه، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه, وينسى أنه قد يكون من الورع أن يفعل ذلك, ويتصدى له؛ لأن هذا الأمر قد يكون واجباً، وقد يكون مستحباً.
فتلاحظون أن التطبيقات العملية في واقع حياتنا كثيرة جداً -ليس من السهل حصرها- من هذا القبيل, والذي أدعو إليه كل واحد منكم أن يأخذ هذه القاعدة، وهي: أنه من الورع أحياناً أن تفعل ما يشتبه بالمستحب أو بالواجب، ويقارن، فسيجد في واقع حياته وواقع حياة كثير من الناس من حوله، أنهم لا يفهمون من الورع إلا الجانب الأول, لماذا؟
لكنه يريد أن يخادع الناس في أن قصده وتركيزه على جهة الشمال, هذا العدو الظاهر يشغلك بأمر بسيط ليس هو مقصوده الأصل، فعنده أمر عظيم يريده, فالشيطان أحياناً يحفر للإنسان حفرة واسعةً وهوة عميقة, ثم يحفر له حفرة صغيرة, ويشغل الشيطان الإنسان بهذه الحفرة الصغيرة القريبة منه, فيبدأ الإنسان ينظر إلى هذه الحفرة حتى لا يقع فيها, فيبدأ يبتعد عنها، وهو يحاذر أن يقع في الحفرة الصغيرة, فلا ينتبه إلا وقد وقع في هذه الهوة العميقة فسقط فيها!
فهذا الأسلوب من مكائد الشيطان: يخيل لك أن من الورع أن تترك هذا الشيء, وهو بذلك لا يريد أن تتقي هذا الأمر فعلاً، لكنه بذلك قد أوقعك فيما هو أعظم منه, قد يكون أوقعك في ترك واجب, كترك جهاد, أو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, أو التعلم, أو مجالسة مطلوبة!! لأنك تعرف أيها المسلم أن كل ما أعطاك الله عز وجل من العلم والعقل والفصاحة والجسم والقوة والإمكانيات والوقت والفرص الموجودة في المجتمع، فهو أمانة سوف تسأل عنها.
فإذا دعاك ما تعتقد أنه ورع إلى إهمال هذه الأشياء وتعطيلها, فأنت حينئذٍ تكون قد وقعت في شرٍ مما فررت منه.
لنفترض أنك أنت إمام في مسجد -مثلاً- أو مدرس للطلاب في مسجد، أو حلقة أو مدرسة أو غير ذلك, لا شك أنه خلال قيامك بهذه المجاهدة، أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, لا شك أن هذا الأمر يجعلك عرضة لنظر الناس, وربما تسمع شيئاً من ثنائهم, وربما يداخلك شيء من الإعجاب, أو من الفرح بما تسمع من مدح الناس, أو شيء من الشك في النية, أن نيتك غير صحيحة, إلى آخر المشاعر التي تثور في نفس الإنسان, هذه المشاعر في كثير من الأحيان هي التي تقعد بالإنسان, فيقول له الشيطان: ابتعد عن هذه المجالات كلها، وانجُ بنفسك، فمن خلال معاناته لهذه الأمور انفتح له باب مجاهدة, فبدأ يجاهد نفسه في إصلاح النية, وبدأ يجاهد نفسه في عدم الاغترار بثناء الناس ومدحهم, وإذا استمر على هذا العمل -سبحان الله من توفيق الله للعبد أنه إذا استمر في هذا العمل- فإن هذه الأمور تخف تدريجياً حتى تزول.
فمثلاً: إذا كان الإنسان يريد أن يلقي كلمة في مسجد -أضرب أمثلة أنا وجدتها في نفسي، وأعتقد أن كثيراً من الإخوة الذين جربوا في هذه الأمور وجدوها- لأول مرة فإنه يجد أن هذه المشاعر على أشدها في نفسه, الخوف من الرياء, ومن مدح الناس, ومن الإعجاب...إلخ؛ لأنه قد تكلف في هذه الكلمة، واستعد لها وشعر بأنها شيء عظيم, لكن إذا استمر هذا العمل فإنه يصبح عنده عادياً, ولا يشعر أنه عمل مهم وكبير حتى يخاف من الرياء, فيقوم بهذا العمل بشكل طبيعي، ولا يشعر بأنه عمل عظيم يخشى على فاعله من الرياء.
أقول يجب أن نفرق بين صنفين من الناس:
فهذا يدل على أن الدافع في الأصل دافع حسن, لكن قد يلابسة أحياناً شيء من المؤثرات الأخرى, وفي أحيانٍ أخرى قد لا يلابسه أصلاً, لكن من نعمة الله على المؤمن أنه لا يغتر بنفسه؛ لأنه والعياذ بالله لو قال الإنسان: إن نيتي صالحة وقصدي وجه الله, ولا أبالي بمدح الناس ولا ثنائهم, وظل معجباً بنفسه ونيته وعمله, فهذا مدخل من مداخل الشيطان.
فمن نعمة الله على الإنسان أن يجعل عنده في كثير من الأحيان شيئاً من مقت النفس, فتجده إذا خلا بنفسه لا يغتر بمدح الناس وثنائهم؛ لأنه يقول: ربما يكون هذا العمل الذي قمت به وجعل الناس يمدحونني، هو عليّ ليس لي! لأني أشك في نيتي, فهذا من نعمة الله على المؤمن, أن لا يغتر بنيته ولا ينخدع بها.
ولذلك أذكر كلمة قالها بعض السلف يقول: "المستمع ينتظر الرحمة، والمتكلم ينتظر المقت" أو نحو هذه الكلمة, والذي أفهمه من معنى هذه الكلمة: أن المستمع إذا سمع الوعظ والتذكير بكى وتأثر, لكن المتكلم لما يعلم من حال نفسه وضعفه وأنه قد يعظ الناس بأمر هو مقصر فيه, وقد لا يطمئن تماماً إلى حسن نيته, يصبح عنده خوف من المقت, هذا أحد معاني هذه الكلمة.
إذاً: انظر في نفسك, فإن كنت من الصنف الثاني: الذي لا يرضى عن نفسه أن يكون غاية قصده من دعوته وجهاده في ميدان الحياة مدح الناس وثناءهم, ولا الرياء والسمعة, إنما أصل قصده الغيرة على الدين, وحب النفع للناس, لكنه إذا تصدى لهذه الأمور قد يلابس قلبه بعض ذلك, فعليه أن يجاهد نفسه، ويحرص على الاستمرار في هذا الأمر, ويدرك أن من الورع أن يستمر -كما سبق- ولا ينقطع.
يعني: في داخل كل شيء صراع في داخله, بين شيئين, وهذا الصراع ينتهي بوجود شيء ثالث أحسن منهما, والشيء الثالث فيه صراع, ينتهي بوجود شيء آخر أحسن, وهم هكذا بحيث أن البشرية عندهم في تقدم مستمر لا ينتهي أبداً, حتى يصلوا إلى ما يسمونه بالفردوس الشيوعي، أو الجنة التي يعدون بها الفقراء والكادحين.
أصحاب الحداثة الذين ينادون بالتطوير المستمر, والثورة على كل شيء في المجتمع, ويمجدون ويعظمون الثوار في تاريخ الإسلام -الثوار على الدين- كـالزنادقة والصوفية والملحدين, والثوار بكل صورة من صورهم.
حين تنظر إلى هؤلاء، وهؤلاء تجد أن لديهم دفعة قوية إلى فرض أنفسهم في الواقع, وإبراز أنفسهم كقيادات مؤثرة في واقع الناس، رجالاً ونساءً على كافة المستويات, فتجد الواحد منهم لولباً لا يهدأ ولا يستقر, ينتقل من بلد إلى آخر, يؤلف ويكتب وينشر بصورة تجعلك تتعجب من هذا الجهد المستمر الثابت, مع أنه لا ينتظر من الله عز وجل أجراً ولا جزاءً.
وقد يدرك في قرارة نفسه أن هذا العمل الذي اعتذر منه، قد لا يقوم به أحد أصلاً, وأنه عمل فيه فائدة، لكن تجد أنه إما إيثار الكسل والراحة, وإما -مثل ما ذكرت قبل قليل- الخوف من عدم صلاح النية, أو من مداخلة شيء من الرياء, أو من مدح الناس, وفي أحيان أخرى يكون عنده الشعور بالرغبة في أن يظل بعيداً عن الأضواء, لأن الأضواء لها تكاليف؛ لأن الإنسان إذا عرف ولو في نطاق معين, يدفع ثمنها, بخلاف الإنسان المغمور, فتجده مرتاحاً مع أهله وأولاده في بيته يفعل ما يشاء, لا يوجد أحد يمكن أن يؤثر في حياته.
فتجد الإنسان يؤثر الهروب من مواقع التأثير, والقيادة الفكرية والاجتماعية, ويترك هذه المجالات لمن؟! كل واحد يجب أن يسأل نفسه, سؤالاً جاداً, هل هو يتركها فعلاً لمن يعتقد أنهم أكفأ منه وأحسن وأجدر؟!! الجواب: لا, إنما يتركها للعلمانيين والحداثيين, أو على أحسن الأحوال يتركها لأناس يدرك هو أنهم ليسوا أهلاً لهذه الأشياء.
الذي أدعوه لنفسي ولإخواني أن نفكر في هذا الكلام, فأنا أعرف أن ضيق الوقت يحول دون التفصيل، والأمثلة والتطبيقات الواقعية التي تجعل الإنسان يسلم بهذا الكلام, لكني أدعوكم إلى التفكير الجاد في هذا الكلام ومعرفة أن المسألة مسألة دين, فيحذر الإنسان من أن يكون قد وقع فريسة مخادعة النفس أو مخادعة الشيطان.
أسأل الله أن يعيننا على أنفسنا, وأن يوفقنا لصالح القول والعمل ويرزقنا الفقه في الدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر