أما بعد:-
فهذه المحاضرة بعنوان "وقفات مع إمام المدينة النبوية".
إن من السهل على كل إنسان أن يرجع إلى كتاب من الكتب المؤلفة في التراجم، ليقرأ سيرة الإمام الفذ الكبير الحجة، مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي المدني، الذي ولد عام ثلاث وتسعين للهجرة.
في تلك السنة التي مات فيها أنس بن مالك، صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعوض الله تعالى الأمة بهذا الإمام خيراً، وقد روى هذا الإمام عن شيوخ كثيرين من التابعين، يعدون بالمئين، بل بما يزيد على ذلك.
وكان ابن معين يقول: [[إن
كان الإمام مالك محدِّثاً، أخذ عنه الحديث أممٌ من الناس، وكتابه العظيم الشهير الموطأ هو كما قال الشافعي أيضا: [[هو أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى]] وإنما قال الشافعي هذه الكلمة في وقت لم يكن كتاب صحيح البخاري وكتابصحيح مسلم موجودين في أيدي الناس، فكتاب "الموطأ" لـمالك في وقته كان هو أصح كتب الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان فقيهاً ملأ مذهبه الآفاق، انتشر مذهبه في المغرب، والأندلس، وكثير من بلاد مصر وبعض بلاد الشام، واليمن، والسودان، وبغداد، والكوفة، وبعض خراسان، وبعض بلاد الأحساء، وما زال مذهبه أحد المذاهب الأربعة الشهيرة المتبوعة.
ودفن رحمه الله تعالى، ورضي الله عنه، بمقبرة البقيع الشهيرة بـالمدينة النبوية.
لقد أصبح الإسلام زعزع ركنه غداة ثوى الهادي لدى ملحد القبر |
إمام الهدى ما زال للعلم صائناً عليه سلام الله في آخر الدهر |
قال أسد بن موسى: [[رأيت
قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه : {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} وكانت هذه الرؤيا الصالحة التي رآها بعض الصالحين، أمارة على حسن الختام لهذا الإمام، وأن الله تعالى قد أنـزله منـزل صدق، وبلغه منازل الصالحين في الجنة.
وهذا الكلام تجده في كل كتاب، وفي كل مُصَنَف، ولم أكن لآتي فيه بجديد، ولا كان قصدي ووجدي ووكدي أن أجمعكم لأقول لكم: مات مالك عام كذا، وولد مالك عام كذا، وتوفي عام كذا، وتعلم من فلان وعلم فلان، فهذا تجدونه في الكتب، وإنما أتيت لأحدثكم عن وقفات خمس عظيمة في سيرة هذا الإمام الجليل العظيم.
إذًا: هذا يؤكد لنا البيئة التي تربى فيها شاب، مثل الإمام مالك في عهود السلف الصالحين، فأولاً: لم يكن القدوة في ذلك المجتمع إلا طالب العلم، فكان الشاب الصغير ينشأ وهو يرى الناس يشيرون إلى العالم بالبنان، فإذا أقبل أطرقوا رؤوسهم وطأطئوا، وأخلوا له الطريق، وسلموا عليه، وحيَّوه، ومسوه بالخير وصبحوه، وأجَلّوه وعظموه، لا لأنه يملك الأرصدة العظيمة، ولا لأنه يتربع على عرش وظيفة رسمية، ولا لأنهم يستفيدون منه مغنماً دنيوياً؛ لكن لأن هذا العالم يطوي بين جنبيه هداية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلم الصالحين، فهم لذلك يُوَقِرونَه ويعظمونه، ويرون أن توقيره من توقير دين الله عز وجلّ وتعظيمه، فينشأ الصغير وهو يحمل الود والإجلال والإكبار لهذا العالم، وينظر إليه على أنه هو الأسوة والقدوة، وأنه يتمنى أن يكون في مثل مقامه ومنـزلته.
وهكذا ينشأ الصغير، يتلقى عملياً دروس الإجلال والإكبار للعلماء والفقهاء، وأهل الدين والعلم والدعوة والجهاد.
وقد كانوا إذا عدوا قليلاً فقد صاروا أقل من القليل |
وقد كان للإمام مالك مع أمه قصة معروفة في سيرته، إذ أنها كانت تحرضه على طلب العلم، وتنفق عليه من الأموال الموجودة لديها، حتى يستغني عن التجارة.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: [[لو كلفت شراء بصلة ما فهمت مسألة]].
وكلام الشافعي هذا كالرمز، وإلا فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم كانوا يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويبيعون ويشترون، ويزرعون، ويجاهدون، ويتعلمون، ومع ذلك كانوا هم أعلم العلماء.
وإنما المقصود أن المجتمع يجب أن يكون سنداً ومعيناً لطالب العلم، منذ نعومة أظفاره وصغره في تحصيل العلم وتهيئة أسبابه.
أما إذا كانت المسألة على النقيض، فكان المجتمع كله يحرض طالب العلم على الانصراف، فإذا جاء إلى المسجد وجد الإعراض، والأسباب غير مهيأة، والأبواب أحياناً مقفلة، والإضاءة غير كافية، والوسائل التي تعينه على البقاء ليست مكتملة، فإذا ذهب إلى البيت وجد المعوقات والمثبطات والمغريات والصوارف، وإذا ذهب إلى الشارع وجد قرناء السوء، الذين يغرونه بالمجالس السيئة التي لا خير من ورائها، فإذا ذهب إلى المدرسة، وإلى الجيران، والأصدقاء وجد أن المجتمع كله حجر عثرة أمامه في طريق التحصيل، فحينئذٍ لا ينجح ولا يفلح في ذلك إلا أصحاب الهمم العالية والنفوس الصلبة، الذين يواصلون ويصرون ويدأبون ويقدرون على تخطي هذه العقبات.
ونعلم أن الكثيرين -أيضاً- انصرفوا للتجارة والبيع والشراء وأمور المعاش، التي لا قوام لحياتهم إلا بها، وأن الكثيرين أقبلوا على الزهد، وعلى أمور الآخرة، وعلى العبادة، وأعرضوا عن الناس، واعتزلوهم إلا فيما لابد لهم منه، هذا كله كان يقع.
ليس صحيحاً أن كل شباب السلف الصالح، كانوا في مجالس العلم الشرعي، وإنما كان منهم من تقوم بهم الكفاية، ويتحقق بهم الأمر الرباني وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122].
والإماممالك، يقف اليوم بين أيدينا نموذجاً لرجل متخصص، رأى أن مواهبه وإمكانياته ومَلَكَاتِه تمكنه أن يخدم الإسلام في مجال حفظ العلم، ونشره وتعليمه والعمل به.
التقى الإمام مالك بالكثيرين من أصحاب الدنيا، فأغروه بترك العلم، فأشاح عنهم بوجهه، وأعرض، ورأى أن ما عند الله خير وأبقى، والتقى بالكثيرين الذين دعوه إلى أن يشتغل بالجهاد ويترك العلم، فرأى أن ما اشتغل به خير، وأن ما اشتغلوا به هم -أيضاً- خير، وأن فروض الكفايات لا يغني بعضها عن بعض، وكلٌ على ثغرة من ثغور الإسلام.
والتقى بالزهاد، كما التقى بعبد الله بن عبد العزيز العمري، الذي كان إذا خلا بالإمام مالك حثه على الزهد والانقطاع والعزلة عن الناس، فكان مالك يصغي إليه ويدعو له، لكن لا يأخذ برأيه، واليوم أين عبد الله بن عبد العزيز العمري؟ من منا أو منكم يعرف هذا الرجل مع أنه كان إماماً في الزهد والتقوى والورع والعزلة والانقطاع عن الناس؟! لكن من منا بل من المسلمين كلهم من لا يعرف الإمام مالك إمام المدينة النبوية وإمام المسلمين؟!
لقد نسي الناس العمري الزاهد، ولكن ما زالت الأمة كلها عبر ثلاثة عشر قرناً من الزمان تتذكر الإمام مالك، الذي حفظ على الأمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حجة من حجج الله تعالى على خلقه كما قال يحيى بن معين.
فهذا هو العلم الشرعي الذي يحفظ الله تعالى به الدين على الناس، ويحفظ الله تعالى رموز هذا العلم، فلا يزال لهم لسان صدق في الآخرين.
ثم سأل الخليفة أبو جعفر المنصور مالكاً عن أشياء، قال الإمام مالك: سألتني عن أشياء منها حلال ومنها حرام، فأفتاه مالك بما يسعه أمام الله تعالى، ثم قال الخليفة لـمالك: أنت والله أعقل الناس، وأعلم الناس. قال له مالك: لا، والله يا أمير المؤمنين، قال: بلى، ولكنك تكتم ذلك عني، ثم قال أبو جعفر: والله لئن بقيت لأكتبنّ قولك كما تكتب المصاحف -أكتب اجتهاداتك، وآراءك الفقهية، ومذهبك، كما يكتب القرآن- ولأبعثن به إلى الآفاق والأمصار فلأحملنهم عليه ولألزمن الناس به.
ولكن الغريب في موقف الإمام مالك:
أنه لم يوافق أبا جعفر المنصور على حمل الناس على مذهبه، وقال له: "يا أمير المؤمنين! إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، ونشر كل منهم علمه"، وفي رواية أن مالكاً قال له تلك الكلمة العظيمة المضيئة، التي تكتب بماء الذهب: [[يا أمير المؤمنين! لا تفعل]] -يعني لا تحمل الناس بالقوة وبالسلطان، وبالنظام والقانون، على مذهبي ورأيي- لا تفعل، فإن الناس سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وما أتوا به وعملوا بذلك ودانوا به، وكل ذلك من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اختلاف من بعدهم من التابعين، ورد الناس عما اعتقدوه ودانوا به أمر صعب شديد، فدع الناس وما هم عليه ودع أهل كل بلد وما اختاروا لأنفسهم.
وهذا الموقف العظيم الكبير، لي معه وقفات:-
أعظمها: أننا نلاحظ أنه عبر التاريخ كان يوجد صنفان من العلماء:-
الصنف الأول: من تمكنوا من الموقع السلطوي فأعطاهم الله تعالى مكانة عند السلاطين والخلفاء، فكانوا يَغْشَوْنَهُم في مجالسهم، ويحوزون ثقتهم، وكان الخلفاء يرجعون إليهم فيما أشكل عليهم من الأمور، كما كان الزُّهْري -مثلاً- الإمام لبني أمية.
الصنف الثاني: من العلماء من أعطاهم الله تعالى التمكين، ليس في مواقع السلطان، ولا عند الخلفاء، وإنما في قلوب العامة، فكانت العامة تنجفل إليهم، وتقبل على مجالسهم، وتستمع إلى علمهم، وتأخذ بفتواهم، ولا تعدل بهم أحداً أبداً، ومقتضى أمر الله تعالى: (واعتصموا) ومقتضى أمره الآخر: (ولا تنازعوا) أن كلاً من هذين الصنفين كان ينبغي أن ينتفع بما أعطاه الله تعالى، وما مكنه في تعزيز الطرف الآخر، كذلك العالم الذي تمكن من أذن السلطان، كان حقاً عليه شرعاً أن يكون مدافعاً عن أعراض العلماء والدعاة في مجالس السلاطين، محسناً لصورتهم، دافعاً لما يلصق بهم من الأباطيل والتهم والأقاويل، حريصاً على أن يكون قلب السلطان نقياً لكل مؤمنٍ وعالمٍ وداعيةٍ، من أهل الخير والحق والهدى. وبالمقابل ذلك العالم الذي مكنه الله تعالى من آذان العامة، فأنصتوا إليه واستمعوا إليه، كان جديراً وحرياً به أن يستفيد من هذا الأمر الذي أعطاه الله تعالى، في أن يقول للناس قولاً حسناً، وأن يدافع عن أعراض أهل العلم، ويمنع العامة من الوقوع فيه، أو اتهامهم بما هم منه براء، أو إشاعة القالة عنهم، أو قبول ما ينشره بعض الخصوم، مما أقله حق وأكثره باطل، فيكون بذلك مدافعاً عن أعراض العلماء، منافحاً عنهم حريصاً على تحسين صورتهم في نفوس العامة، وأي خير للأمة إذا انفصل علماؤها عن عامتها، أو انفصل عامتها عن علمائها، وهذا هو الذي كان في عصور كثيرة من تاريخ الإسلام، لكن لا يعدم الإنسان عبر التاريخ من أحوال تكون الأمور فيها على النقيض، فيستغل عالم -مثلاً- مكانته عند السلطان ليشهر بفلان، ويتهم علاَّن، ويتقول على هذا، ويتهم ذاك، ويحاول أن يوغر صدور من يملكون القرار، على منافسيه وخصومه، ليبطشوا بهم أو يوقفوهم أو يمنعوهم، أو غير ذلك، وكان ذلك شراً على الجميع.
كما لا يخلو التاريخ -أيضاً- من إنسانٍ مكنه الله من قلوب العوام، فكان يستغل هذا التمكين في الوقيعة في أهل العلم والفقه من مخالفيه، والتشهير بهم، وإيغار صدور العامة عليهم، حتى إنك تقرأ في تراجم بعض العلماء، أن العامة ربما لاثوا به وأحاطوا به وضربوه وآذوه، ولعلك تستغرب أن يكون رجل كـابن تيمية، اجتمع عليه الناس يوماً من الأيام، في إحدى زياراته إلى مصر، أرض الكنانة، وأحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم، ورفعوا أصواتهم عليه، وكادوا أن يبطشوا به، نظراً لتلبيس بعض علماء السوء، حتى وقف الإمام ابن تيمية وقفة صامدة، وتكلم، وظل من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، يشرح تفسير سورة الفاتحة، ويتكلم مع الناس بكلام عظيمٍ جزلٍ كبيرٍ مؤثر، حتى أقبل الناس عليه، يقبلونه ويدعون له ويستغفرون الله تعالى عما بدر منهم؛ فإن الكمال الذي تحصل الأمة منه على خير كثير، أن يكون أهل العلم والدعوة على سنن الوفاق والاتفاق، لا على جادة الخلاف والتطاحن والتباغض، وأن يحرص كل امرئ منهم أن يتخذ ما أعطاه الله تعالى ذريعة إلى نصر الإيمان والتوحيد وأهله، وخذلان الباطل: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ [القصص:17].
لقد رفض الإمام مالك رحمه الله تعالى، استخدام السلطة لفرض رأيه الشخصي، ولو كان رأياً فقهياً استنبطه، وخالف فيه غيره، رفض أن يُفرض هذا على الأمة بقوة القرار السلطوي، وهذه آية العقل عند الإمام مالك؛ لأنه لا مدخل للسلاطين في أحكام الشريعة، فالشرع فيه قال الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى الإمام البخاري، روى الإمام مسلم، وروى أحمد في مسنده، وأجمع أهل العلم، وليس في شريعة الله اعتمدوا أو يعتمد، إن هذا دليل على أن الإمام مالك جمع مع العلم الصحيح ومع الورع والتقوى، جمع العقل النير البصير وبعد النظر، وهذا يذكرنا أيضاً بموقف آخر للإمام مالك، يدل على عقله، وبعد نظره، وحسن سياسته.
فهمّ أبو جعفر أن يعيد بناء الكعبة مرة أخرى على قواعد إبراهيم، فقال له الإمام مالك: [[يا أمير المؤمنين لا تفعل]] قال: لماذا؟ قال: [[إني أخشى أن تكون الكعبة ملعبة للملوك، هذا يهدمها وهذا يبنيها]] وكلما جاء حاكم جديد رأى أنه لابد أن يغير سنة من قبله، ليثبت للناس أنه جدد وأصلح وغيّر وبدّل، وأن من قبله كانوا وكانوا وكانوا، أما هو فكان بخلاف ذلك كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [الأعراف:38] كما هو الواقع من الحكام الجاهليين في كل زمان ومكان، فلذلك سد الإمام مالك الطريق على هذا التلاعب، ورأى أن تبقى الكعبة كما كانت؛ دفعاً لأن تكون ملعبة للملوك، كما عبر رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه.
جاء في حلية الأولياء لـأبي نعيم، والسير للذهبي، أن مالكاًـاً رحمه الله قال: [[ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني، هل تراني موضعاً لذلك؟ قال: سألت
يعني: أن الإمام مالكاً لما بلغ عمره إحدى وعشرين سنة لم يستعجل في أن يجلس للتعليم، ولا أن يتصدر للفتيا حتى سأل الشيوخ، وقال لهم: أنا تلميذكم وأنتم تعرفونني، هل ترون أني أهل لأن أفتي وأتكلم وأعلم العلم الشرعي؟ قالوا له: نعم أنت أهل فاجلس وعلم، قيل له: لو منعوك تمتنع، قال: نعم أمتنع؛ لأنهم أعلم مني وأبصر مني، فلابد أن أتوقف حتى أسأل من هو أعلم مني.
وكانت هذه عادة متبعة عند السلف، لم يجلس المزني -مثلاً- حتى سأل الإمام الشافعي وهو شيخه فقال له الشافعي: اجلس يا أبا عبد الله، فقد آن لك والله أن تجلس، والشافعي نفسه قال له أحد شيوخه: اجلس فقد آن لك أن تجلس، فحينئذٍ جلس للتعليم.
وما زال العلماء يعرفون عبر التاريخ ما يعرف بالإجازة، أي: أن العالم كان يعطي تلميذه مثل الشهادة، على أنه تلقى منه كتاب كذا وكتاب كذا، وكتاب كذا، وأنه من الممكن أن هذا التلميذ يروي هذه الأحاديث، أو هذه الكتب للناس ويعلمهم إياها، وهي ما تشبه اليوم الشهادة.
والملحوظ في سيرة السلف الصالح وهديهم، في ذلك ثلاثة أمور:-
أنهم كانوا يراعون ثلاثة أوصاف في كل إنسان يرشحونه لهذا المقام، وهي كالتالي:-
الأول: السن، فكانوا يتربصون بالإنسان، ويتريثون حتى يبلغ السن التي يتم بها عقله، ويكتمل بها نضجه، وإن كان هذا يتفاوت عندهم بين شخص وآخر، فمنهم من يجعل الإنسان قد اكتمل نضجه في سبع عشرة سنة، وآخر في العشرين، بل منهم من يوصل الأمر إلى الأربعين، المهم أنهم كانوا يراعون عامل السن، ولا يسمحون للإنسان أن يتصدر ويعلم، ويتكلم في الشرعيات علانية، إلا بعدما يبلغ سناً معينة.
الشرط الثاني: العلم، فلابد أن يكون مع سنه قد حصل على علم، ومعرفة بالكتاب والسنة، وقواعد الاستنباط، ومواطن الاجتماع والاختلاف؛ حتى يكون مرشحاً لئلا يخالف الاجتماع والإجماع، ولا يخالف نصاً شرعياً، ولا يقول ما ليس له به علم.
الشرط الثالث: وجود قدر معقول من الاعتدال في نظرات هذا الإنسان، والاعتدال في آرائه وفي اجتهاداته، وألا يعاب هذا الشخص أو يذم أو ينتقص بخلل في فهمه، أو ضعف في عقله، أو نقص في تفكيره، أو وجود بعض الملاحظات عليه، وقصص هذا كثير، وكانوا يحذرون من مثل هذه الشذوذات التي تقع من فلان أو علاَّن، وقد يرون العلم لا يبذل لكل أحد.
الأمر الأول: الحاجة الشديدة إلى ضبط المسيرة العلمية لشباب الصحوة الإسلامية؛ فإن خطر التعجل كبير، خاصة إذا كان هذا التعجل في الهجوم على العلم الشرعي؛ فإن العلم الشرعي هو تعبير عن دين الله تعالى، والمتكلم في العلوم الشرعية لا يعطينا شيئاً من رأيه الخاص، أو مزاجه، أو كيسه، وإنما هو معبر عن دين الله تعالى، ومترجم عن رب العالمين، وموقع عنه كما سماه الإمام ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين فهو ترجمان للقرآن والسنة، ولذلك من الخطورة بمكان، أن يتكلم في ذلك من لا يحسن.
ومجرد الشهرة -مثلاً- لا تكفي، وكبر السن وحده لا يكفي، وقراءة الكتب وحدها لا تكفي، بل لابد أن تتوافر مجموع صفات -كما أسلفنا- في الإنسان تجعله أهلاً لمثل هذا المقام الرفيع العظيم، الذي أسنده الله تعالى إلى رسله، فجعل لهم أمر الفتيا، وكذلك كان العلماء الصالحون هم ورثة الأنبياء.
المصيبة ليست فقط في أن هناك من يتعجل في الهجوم على العلم الشرعي؛ فإن من العلم الشرعي، أشياء ظاهرة معروفة قد يدركها الكثيرون، لكن المصيبة أنك قد تجد من المبتدئين في طلب العلم، من يهجم على المشكلات العويصة، والمسائل الدقيقة، أو ما يعرف بالأغاليط، والقضايا المشكلة التي تحتاج إلى علم غزير، وإلى عقل واسع نافذ، وإلى تبصر، وإلى طول تأمل، فقد تجد إنساناً يسارع في الهجوم على هذه الأمور.
المسائل الشائكة التي لا نص فيها -مثلاً- أو المسائل التي ظاهر النصوص فيها التعارض، وتحتاج إلى بحث وتأمل، وعمق ونظر وعقل، وقد تجد الكثيرين يميلون ويندفعون إلى البحث في هذه القضايا والمسائل، قبل أن يبحثوا في القواعد الشرعية المعروفة، وقبل أن يلموا بالأصول الكلية، والقواعد المرعية في الشريعة، فهذا شاب -مثلاً- يجتهد في مسألة من مسائل الاعتقاد، التي استقر رأي الأمة فيها منذ زمن بعيد على قول واضح صحيح، ثم يستحدث في هذه المسائل رأياً جديداً، يظن أنه غاب عن عقول الجهابذة والعظماء، وفُتح عليه فيه على رغم صغر سنه، وهذا آخر يجعل نفسه حكماً بين أهل العلم فيما شجر بينهم، فيضيع وقته في غير طائل، ويذهب الناس بالعلم النافع المقرب إلى الله تعالى، أما هو فما في جرابه إلا: قال فلان وقال: علان.
ولم نستفد من كدنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا |
هذا أصاب، وهذا أخطأ! وهذا طلع، وهذا نـزل! وهذا قال، وهذا لم يقل! فما يجد أنه جمع على طول الوقت وكثرة الطلب، إلا شيئاً لا يسمن ولا يغني من جوع؛ فإنه لا يُسأل يوم القيامة عن أقوال الناس، إنما يُسأل:مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65] أما أقوال الناس فهي كثيرة، والإحاطة بها صعبة والرد عليها أصعب، ودعك من هؤلاء، أخطأوا أم أصابوا، المهم أن تقبل على شأنك فتصلح ما بينك وبين الله، وتقبل على علم الشريعة، فتأخذ مما أقدرك الله عليه، وتشتغل به عن الآخرين، {وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس}.
هب أن هناك من أخطأ في العلم الشرعي، فلماذا تجعل من نفسك رقيباً عليه؟! ألا تدري أنك لو لقيت الله تعالى، وأنت لم تلعن فرعون، فرعون الذي هو أكفر الناس في زمانه، لو لقيت الله تعالى يوم القيامة وأنت لم تلعن فرعون، سوى أنك قرأت القرآن، ما عاقبك الله تعالى لماذا لم تلعن فرعون أو هامان أو قارون؟
إذاً لا يضيرك أن تكون أعرضت عن فلان أخطأ، وفلان زل، وفلان قال، وفلان لم يقل، المهم أن تقبل على علم الشريعة، وعلى "قال الله" "قال رسوله" الذي هو نور القلوب، وحياة النفوس، وجلاء الأفهام، وزوال ما في الصدور، ولا تشغل قلبك ببنيات الطريق، التي تحول بينك وبين الوصول إلى الحق، وإلى الطريق المستقيم.
وهذا شاب رابع: يرى حاجة الناس إلى علم الشريعة فيستعجل الخطوات، ويختصر المسافات، فيقرأ -مثلاً- كتاباً من كتب أهل العلم ككتاب المحلى للإمام العظيم ابن حزم، فيجد في هذا الكتاب من روعة الأسلوب وقوة الحجة، وبراعة الإحراج للخصوم بطريقة ابن حزم رحمه الله، ما يجعل هذا الشاب المقبل على العلم أسيراً لعقلية الإمام ابن حزم وعلم ابن حزم وحجة ابن حزم، فلا يخرج عن رأيه طرفة عين، ويفتي بمذهبه، ويقرأ على الناس في المحلى، ويركض وراءه؛ فإن رقى جبلاً رقى وراءه، أو هبط سهلاً أو وادياً، أو تجشم صعباً لا يلوي على شيء؛ وذلك لأنه لا يملك من العلم والتأصيل وقوة النظر، ما يجعله يميز بين الاجتهاد الذي أصاب، وبين الاجتهاد الذي لم يصب، ولو أن هذا الإنسان أو ذاك، أعطى نفسه بعض الوقت، وصبر وصابر، حتى ينضج على نار هادئة، ولو أنه لم يستجب لنوازع الشهوة الخفية في النفس، لنفع وانتفع، وكان شيئاً مذكوراً.
إننا ونحن نعاني الخلاف المرير في أوساط أهل السنة، الذين هم أهل السنة، نرى أن معظم هذا الخلاف لم يصدر من العلماء الكبار، الذين تلتف الأمة حولهم وتأخذ بفقههم وعلمهم ورأيهم، ولكن غالبه إنما يكون من صغار الطلبة المغمورين، الذين لم يُعرَفُوا بكبير علم ولا جهاد ولا بلاء ولا عمل، هذا أمر.
الأمر الثاني: مع أن الإمام مالكا -كما أسلفت- لم يتجرأ على الجلوس للتعليم، حتى أمره شيوخه بذلك وأفتوه به، إلا أنه مع هذا كله كان يرى أن العلم لا ينتهي، فظل مع جلوسه يأخذ العلم ممن جاء به، لا يفرق بين أحد، حتى إنه أخذ من بعض طلابه مسائل، وعلى سبيل المثال فإنه رجع إلى مذهب بعض طلابه، كما في ترجمة عبد الله بن وهب، ورجع إلى قوله في مسألة تخليل الأصابع في الوضوء، وكان الإمام أحمد يقول: وقد رئي معه كتاب، ومعه دواة الحبر ومعه القلم: فقيل إلى متى يا أحمد؟ قال: مع المحبرة إلى المقبرة، يعني: لا أتوقف عن طلب العلم حتى الموت، وكان الإمام الشافعي رحمه الله يقول:-
سأطلب علماً أو أموت ببلدةٍ يقل بها سكب الدموع على قبري |
فإن نلت علماً عشت في الناس سيداً وإن مت قال الناس بالغ في العذر |
إذا ما مضى يوم ولم أكتسب هدى ولم أستفد علماً فما ذاك من عمري |
والإمام مالك مع أنه تأهل وترشح وطلب العلم، كان يقظاً حذراً عاقلاً، لا يتكلم فيما لا يحسن، ولا يهجم على كل شيء.
يعني: هذه المسألة التي تطرحها الآن ليس لها قيمة؛ لأنها لا تقرب من الجنة، ولا تباعد عن النار، ولا تصلح ديناً ولا دنيا، فلا شأن لي بها، فإذا رأيتني يوماً من الأيام -ولن تراني- جالساً للبطالين وأهل الباطل، فتعال حتى أجيبك معهم، أما الآن فلا أشتغل بما تقول، إذًا فكثير من المسائل إذا تأملتها وجدتها لا تغني في دنيا ولا في دين.
ولهذا -أيضاً- جلس رجل في مجلس مالك فقال: يا إمام! قال الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟! فأعرض عنه الإمام مالك حتى علاه الرحضاء، وتصبب منه العرق، ثم قال: [[الاستواء غير مجهول]] يعني: معروف المعنى في لغة العرب، [[والكيف غير معقول]] يعني: تكييف الصفة مما لا تحيط به العقول، ولا يطيقه الإنسان، ولا يعلم كيف الصفة إلا الله جل وعلا، [[والاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا رجل سوء]] ثم أمر الإمام مالك بهذا الرجل فأخرج من مجلسه.
إذًا هذه الأغلوطات، وهذه المسائل، وهذه الإشكالات، وهذه المهاترات، ليس مكانها مجالس العلم، ولا مجالس الذكر، فالعلم هو أشرف وسيلة يتقرب بها إلى رضوان الله تعالى والجنة، وليس وسيلة إلى كسب الأتباع، ولا إلى الشهرة، ولا إلى كسب الدنيا والمال، ولا إلى غير ذلك.
فمتى انحرف العلم عن هذا الهدف؛ فإن الجهل حينئذٍ يكون خيراً منه، لهذا كان من أقوال الإمام مالك، وهي أقوال عظيمة مضيئة:
كان يقول: "لا أحب علماً ليس تحته عمل". يا أخي بالله عليك! تأمل ما تشتغل به أنت من العلم الشرعي قل أو كثر، هل هو من العلم الذي تحته عمل؟ هل هو يثمر لك خشوعاً في قلبك؟ أو طاعة لربك، أو تحسيناً وإصلاحاً لعبادتك، أو نظافة لضميرك، أو صلاحاً لظاهرك، أو حتى نفعاً لدنياك؟! فحبذا، إن كان علمك علماً مقرباً إلى الله، ترى أنه صحح قلبك، وصحح نيتك، ونور بصيرتك، وقربك إلى الله، وجعلك أكثر خشوعاً وزهداً وتقوى وطاعة، فهذا هو العلم النافع، أو ترى أن علمك الذي تشتغل به -أيضاً- علم دنيوي نفعك في زراعة أو حرث أو تجارة أو إدارة أو صناعة، أو كسب، أو معيشة، فهذا -أيضاً- من العلم الذي يحتاج إليه، ولا غنى للإنسان عنه، فإن لم يكن هذا ولا ذاك، فأنصحك أن تراجع ما تشتغل به.
وكأن الإمام مالك يقدم لك النصيحة نفسها، في كلمة أخرى مضيئة فيقول لك: "رحمك الله، انظر ما ينفعك في ليلك أو نهارك فاشتغل به"، انظر ما ينفعك: يعني في دينك أو دنياك في ليلك أو نهارك فاشتغل به.
إذًا هو مجلس ليس مجلس الجدل والخصومات، وليس مجلس الفلسفة والسفسطة والقيل والقال، إنما هو مجلس تَحفُّه الملائكة، وتغشاه السكينة، وتتنـزل عليه الرحمة، فهو مجلس الهدوء والإيمان والتقوى، ليس فيه لغط ولا رفع أصوات، ولا جدل ولا قصد الظهور، ولا الكلام في الناس، وإنما هو المجلس الذي إذا رآه عامة الناس، رأوا أنه المجلس الجدير بما ذكر الله تعالى عن أهل العلم. ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32].
وكان مالك نفسه يقول: جُنّة العالم لا أدري، فإذا أغفلها أصيبت مقاتله.
قال الإمام ابن عبد البر المالكي: صح عن أبي الدرداء أن لا أدري نصف العلم.
إذًا لم ير مالك أن تصدره معنى أنه قد بلغ الغاية والكمال، بل رأى أنه كما قيل:-
فقل لمن يدعي في العلم معرفة حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء |
ولهذا كان يعتصم بـ"لا أدري" ويقول: من تركها أصيبت مقاتله، ولا أدري نصف العلم، وربما سئل عن أربعين مسألة اعتذر عن أكثرها، فإذا قال له السائل: ماذا أقول لأهل البلد؟ قال: قل لهم يقول مالك: لا أدري.
هذا هو العلم، وأحلف بالله أن ثمة مسائل، ربما من هذه المسائل الثمان والأربعين أو غيرها، لو عرضت على مالك لاعتذر عنها وقال: لا أدري، ولكنها لو عرضت اليوم عليّ أو على بعض طلبة العلم ممن هم أقل شأناً، وأقل علماً، لهجموا عليها دون تردد، وتسارعوا إلى الكلام فيها والفتيا.
وربما مسألة لو عرضت على عمر، لجمع لها أهل بدر، لكن لو عرضت على واحد من صغار الطلبة، لرأى أن هذه المسألة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، ولا تحتاج إلى كلام، وكما كان السلف الصالح يتدافعون الفتيا، وكل واحد يحيلها على الآخر، أصبح الكثيرون اليوم يتنازعون الكلام، وكل واحد منهم يحاول أن يقول ويتكلم، ويفتي قبل أن يسبقه غيره إلى ذلك.
وله مواقف أخرى، قال الإمام مالك: [[والله ما دخلت على ملك من هؤلاء الملوك حتى أصل إليه إلا نـزع الله هيبته من صدري]].
عَظُمَ الله تعالى في قلب الإمام مالك، ورزقه الله تعالى هذا العلم العظيم الشريف النبيل، فهان عنده أهل الدنيا، فكان لا يراهم كما يراهم الناس، ولا يغتر وبهذا الصولجان وهذه المكانة، وإنما كان الله تعالى ينـزع هيبة أهل الدنيا من صدره، فيراهم كسائر الناس، بل ربما رآهم أقل من غيرهم شأناً، فلا يهابهم ولا يداهنهم في حق، ولا يجاملهم في دين.
ثم أمر الإمام مالك دفعاً للإشكال، بعض الحاضرين أن يقرءوا على الخليفة شيئاً، من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذًا: هو يلقن هؤلاء دروساً عظيمة في عزة العالم وقوته وشجاعته، وأنه لا ينظر إلى أهل الدنيا؛ لأن الدنيا عنده لا تساوي شيئاً، فأهلها عنده مثل غيرهم على حد سواء، فالغني والفقير، والشريف والوضيع، والكبير والصغير، والمأمور والأمير في ميزان الإمام مالك سواء، لا فضل لأحد منهم على أحد، إلا بالإيمان والتقوى، والعلم يبذل لهم جميعاً على قدم المساواة.
يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما |
أرى الناس من داناهمُ هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أكرما |
ولم أقض حق العلم إن كان كلما بدا طمع صيرته لي سلما |
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة؟! إذًا فاتباع الجهل قد كان أحكما |
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في الصدور لعظما |
ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما |
إنه نموذج لقوة العالم المعتد بعلمه، المستغني بما أعطاه الله تعالى عن الدنيا وزخارفها، والتقرب إلى السلاطين، الذي لا يخضع للإغراءات الدنيوية، ويحفظ شخصيته عن أن تهان، إن حفظ الشخصية هنا مطلوب، وليس من التواضع أن يجيبهم إلى ما سألوا، ولا أن يسعى إليهم، ولا أن يذل لهم، هذا ليس من التواضع.
يقول أحد الشعراء:-
من الله فاسأل كل أمر تريده فما يملك الإنسان نفعاً ولا ضرا |
ولا تتواضع للولاة فإنهم من الكبر في حال تموج بهم سكرا |
وإياك أن ترضى بتقبيل راحة فقد قيل عنها: إنها السجدة الصغرى |
لا تُقَبِّل راحة العظماء والكبار وتعد هذا تعظيماً لهم، وعرفاناً بحقهم، فإن هذا لا يليق؛ فإن كان مقبولاً من الخدم والحشم والأتباع، فإنه غير لائق ولا جدير للعالم أو طالب العلم أو ذي المكانة في الدين.
وفي بلاد العالم الإسلامي اليوم -مع الأسف الشديد- جهات كثيرة جداً لم يبق لها من أمر الدين -وقد تكون مسئولة عن الفتيا أحياناً، أو عن الشئون الإسلامية- لم يبق لها إلا أن تعلن عن دخول شهر رمضان أو خروجه، بل حتى دخول رمضان وخروجه، أصبح يعرف عندهم، في أكثر من بلد، عن طريق الحساب، فلم يبق للمفتي إذن من شأن ولا مكانة ولا منـزلة، وأصبح العالم بجبته وعمامته وثيابه أصبح مستعداً في أكثر من بلد إسلامي؛ لأن يقول بتحليل الربا، إذا كان هذا يخدم هوى ورأي السلطان، وأن يصدر فتوى بجواز الصلح مع اليهود، والجلوس معهم على طاولة المفاوضات، وتسليمهم بلاد الإسلام، والإقرار لهم بالوجود في الأراضي المقدسة، التي بارك الله حولها، إذا كان هذا يرضي أهواء السلاطين، وأصبح العالم بجبته وعمامته وطيلسانه، أصبح يجلس مع النصارى الكفار أعداء الله على مائدة تسمى مائدة الإخاء الديني، والوفاق بين الأديان، وتلتقط له الصور وتعرض في التلفاز وتشاهد في الصحف، ويتحدث عنها القريب والبعيد، ويتكلم هذا المنسوب إلى العلم عن الإخوة الدينية، والوحدة الوطنية، وأن أبناء هذا البلد أو ذاك يجب أن يكونوا إخوة في الوطن وإن فرقتهم الأديان، لماذا؟! لأن هذا العالم أو ذاك أو غيرهما ممن ضربت بهم الأمثلة، وممن لم أضرب أصبحوا مجرد موظفين، جاءوا إلى مناصبهم بقرارات، ومن الممكن أن يزالوا عنها بقرارات، فصاحب الدنيا الراغب في المنصب، العبد للكرسي، يراعي ولي نعمته، ويداري سخطه، وتغير خاطره عليه، ولهذا يسعى جهده وطاقته إلى البحث عن رضاه، ولو كان هذا على سبيل دينه، وعلى سبيل شريعة الله عز وجل، ولم يعد العالم مراقباً أو محتسباً على المجتمع المسلم بقيادته وشعبه، يصحح الخطأ، وينتقد ويعدل، كما كان الأمر في الماضي، بل أصبح تابعاً ذليلاً، يركض في أهواء سادته ويطيعهم، ويبحث عن الكلمة أن يقولها، بمجرد أن يصدر أول حرف منها من فم ولي النعمة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
رجل عزيز منيع شريف كبير القدر عالم، مع ذلك رضي بالسجن وبالجلد وبالإهانة، ورضي بأن يبعد ويسخط عليه؛ لأنه لا محاباة ولا مجاملة في دين الله تعالى، وإذا فتحنا أبواب التأويل فإن هذا الباب لا يغلق أبداً، وما أفسد الدين -أصوله وفروعه عقائده وأحكامه- إلا كثرة التأويل في دين الله تعالى وصرف النصوص عن ظواهرها.
دخل هؤلاء في تفسير نيات الإمام مالك ومقاصده، وماذا يقصد من وراء الكلام، فحاسبوه على كلام لم يقله، وغفلوا عن الكلام الذي قاله، مع أن شريعة الله تعالى لا حساب فيها، على الإنسان في هذه الدنيا إلا على ما قاله بلسانه، وتلفظ به أو فعله بنفسه، ولكن كثيراً من الظالمين والمتعجلين والحاسدين لا يعلمون.
قال الإمام الواقدي: والله مازال مالك بعد في رفعة وعلو.
هل ترى أن هذا الضرب أساء إلى مالك أو حط من قدره؟! كلا، بل كان هذا جزءاً من تاريخه، وأنت إذا قرأت سيرة عالم، فوجدت أنه ضرب وسجن وأوذي ومنع وحورب كبر في عينك، وعظم في نفسك، وعرفت أنه رجل مواقف ورجل مبادئ، ورجل صدق ورجل إخلاص، فكل هذه الأشياء تسجل في تاريخه، وتكتب في صحائفه، ولهذا قال الواقدي: والله مازال مالك بعد في رفعة وعلو.
قال الإمام الذهبي في "سير أعلام النبلاء" قال: هذه والله ثمرة المحنة المحمودة، إنها ترفع العبد عند المؤمنين، نعم قيل لـالشافعي رحمه الله: أيهما أحسن للإنسان أن يمكَّن أو أن يبتلى؟ قال: [[لا يمكّن حتى يبتلى]] إنه جزء من تاريخ العالم الصادق، أن يصبر على دين الله، وعلى شريعة الله، ويقول ما يعتقد أنه الحق، ويصبر في سبيل ذلك.
وظلت الراية ينقلها ويحملها الواحد بعد الآخر، حتى وجدنا في هذا الزمان من العلماء من صبروا وصابروا ورابطوا، حتى لقوا الله تعالى غير مغيرين ولا مبدلين.
يا شهيداً رفع الله به جبهة الحق على طول المدى |
سوف تبقى في الحنايا علماً هادياً للركب رمزاً للفدا |
ما نسينا أنت قد علمتنا بسمة المؤمن في وجه الردى |
إننا حين نذكر الإمام مالك، أو الإمام أحمد، أو ابن تيمية، أو عبد العزيز البدري، أو سيد قطب أو غيرهم، لا نقصد أبداً أن نختصر تاريخ الإسلام العظيم، وتاريخ العلماء الأبطال في خمسة أو عشرة أو مائة أو ألف، والتاريخ حافل بهؤلاء، لكن هذه بعض الأمثلة والنماذج السريعة من أدنى الذهن، أما الأمثلة فهي كثيرة، وأما العلماء أصحاب المواقف الشامخة وأصحاب البطولات الراسخة فهم أكثر من أن يأتي عليهم العد والحصر في مثل هذا المقام، ولكن لا يخلو عصر ولا زمان ولا مكان من قائم لله تعالى بحجة يدعو إلى الله تعالى، وينفي عن دين الله تعالى تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ويصبر في ذلك حتى يلقى الله تعالى، فيحكم وهو أحكم الحاكمين.
إذاً: كانت نية الإمام مالك في العلم نية صالحة، ما تعلمه ليصرف وجوه الناس إليه، ولا ليلتف الناس حوله، ولا ليعمر به المجالس، إنما تعلمه لنفسه ليعمل به، ويدعو إليه، ويصبر عليه، وينور له طريقه إلى الله تعالى، وإلى الدار الآخرة، صبر في هذا الطريق وتعلم فاحتاج الناس إليه، وكثروا حوله، وكان الإمام مالك يقيم حلقة عامرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتيه الناس إليها، ويضربون أكباد الإبل من بلاد الأندلس، والمغرب والشام والعراق ومصر، وأنحاء الجزيرة العربية وغيرها، وكانت حلقته حلقة عظيمة.
فلجئوا إلى أمر آخر، وهو التشهير والوشوشة حول سمعة الإمام مالك، وعلم مالك، من هو مالك؟ وماذا قال مالك؟ حتى إن الإمام مالكاً قال يوماً من الأيام لـمطرف: ماذا يقول الناس فيّ؟ قال له: يا إمام أما الصديق فيثني عليك خيراً، وأما العدو فيقع فيك ويطعن في عرضك، فقال الإمام مالك: [[الحمد لله الحمد لله، مازال الناس كذلك ولكن نعوذ بالله من تتابع الألسنة كلها]].
إذا مت كان الناس صنفين شامتاً وآخر مثنياً بالذي كنت أصنع |
فالناس ما اتفقوا على أحد، إلا أن يتكلموا في هذا أو ذاك، أو ينتقدوه أو ينتقصوه، فالإمام مالك يقول: لا ضير عليّ أن ينال مني عدوي، المهم أن الناس لم يجتمعوا عليّ ولم تتابع ألسنتهم كلها عليّ، ولم يكن ذلك؛ لأنه يكره الذم، أو يخاف أو يحب المدح لذاته؛ ولكن لأنه يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: {أنتم شهداء الله في أرضه} فإذا أثنى عليك أهل الخير أو جلهم، كان ذلك عربوناً ودليلاً على قبولك عند الله، إن شاء الله تعالى.
ولذلك جاء رجل فسأل الإمام مالكاً عن مسألة -من هؤلاء الناس الذين يأخذون ببنيات الطريق، وهمهم إثارة التشويش- فأجابه بما يعلم، فماذا كان رد هذا الإنسان؟ قال لـمالك: أنت من الناس، أحياناً تخطي وأحيانا لا تصيب، قال له الإمام مالك: صدقت، هكذا الناس، ما تفطن الإمام مالك؛ لأن الإنسان الكريم الشريف صاحب المروءة، وصاحب المقام، وصاحب الإعراب، لا يلتفت إلى أساليب الغدر، وأساليب اللف والدوران والطي والنشر، يأخذ الأمور على ظاهرها، وعلى الجادة وليس لديه استعداد للدخول في مهاترات، فلما قال هذا الرجل لـمالك: أنت من الناس أحياناً تخطي، وأحياناً لا تصيب، ظن الإمام مالك أنه يقول: أحياناً تخطي وأحياناً تصيب، فقال له: صدقت، هكذا الناس، فلما ذهب الرجل قال التلاميذ لـلإمام مالك: ألم تعِ ما قال؟ قال: ماذا قال؟ قالوا: إنه يقول لك: أحياناً تخطي، وأحياناً لا تصيب، يعني: كأنه يرى أن الإمام مالكاً ما أصاب يوماً من الأيام، فقال لهم الإمام مالك: [[أنا عهدت العلماء لا يتكلمون بمثل هذا الكلام، وإنما أجيب على جواب الناس]] أي: ما عهدت أحداً من أهل العلم يتهم الإنسان بأنه لا يصيب أبداً؛ لأنه ما من إنسان إلا ويؤخذ منه ويترك، كما كان مالك نفسه رحمه الله يقول: "ما من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر" ويشير إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو يرى أن البشر يجتهدون، فيخطئون ويصيبون، فإن اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإن اجتهدوا وأخطئوا فلهم أجر واحد، على حديث عمرو بن العاص المتفق عليه.
قال الإمامأحمد: [[ما أغضبت أحداً قط فقبل منك] تغضبني وتشتمني وتسبني وتتهمني، ثم تريد مني أن أقبل منك! قد يكون هذا لو أنني صاحب خلق عظيم، وصاحب قدرة كبيرة على التحمل، وأنني تخلقت بالأخلاق التي ورثها الناس عن الأنبياء، فصرت صابراً مثابراً قوياً محتملاً، لا أغضب لنفسي، لكن من يملك مثل هذا؟! أكثر الناس لا يملكونه، ويتأثرون بالأسلوب والكلمة، ولهذا تجد أن أهل العلم الصادقين الغيورين المخلصين، وأضرب -مثلاً- منهم في هذا العصر بالإمام الكبير عبد العزيز بن باز، يخاطب حتى بعض الذين نسبت إليهم البدع، وبعض المخالفات الشرعية، وبعض الضلال في مسائل من الشريعة، فضلاً عن بعض المخالفات الفرعية الاجتهادية، يخاطبهم بالأسلوب الحسن.
وقد وقفت بنفسي على رسالة بعث بها سماحته إلى رجل من أعلام الفكر والدعوة في هذا العصر، ولكن عليه ملاحظات وأسئلة، وحوله بعض الكلام، وله اجتهادات في مسائل عديدة، قد لا يوافق على جميعها، فكُتب إلى الشيخ عبد العزيز بن باز عن هذا الرجل، فماذا فعل؟! كَتَبَ إليه رسالة، وقد وقفت بنفسي على كل هذا، وبجله ومدحه وأثنى عليه، وقال: إلى فضيلة الأخ الداعية العالم الدكتور المفكر فلان بن فلان حفظه الله، ثم سلم عليه، وأثنى عليه، ودعا له وشكره على جهوده في خدمة الدين، وعلى بذله وبلائه وصبره وعلى وعلى... وبعدما هيأ نفسه للقبول، قال: بلغنا من بعض الناس كيت وكيت وكيت، ثم ذكر كل ما نسب، وقال: فأحببنا أن نتثبت وألا نقول إلا ببينة، ورأينا أنك أقرب من نخاطبه في ذلك ونسمع منه، فنحب أن تبين لنا في ذلك، فكتب هذا الرجل إلى الشيخ عبد العزيز بن باز ما كتب.
فتشعر بأن الإمام عبد العزيز بن باز لم يكن همه أن يشهر بهذا الداعية، أو يحط من قدر ذاته، أو يشوه صورته؛ لأن العامة من المسلمين إلى أين يذهبون، إذا سقط هذا وسقط هذا، وسقط هذا، من بقي للناس؟! هب أنك أفلحت أن تقنع الناس، بأن (س، من الناس) غير مناسب، ولا جيد، وليس على الجادة، ولا على السنة، ولا على الطريق، ويجب أن يترك، و(ص، من الناس) مثله، و(ع، من الناس) كذلك، إذاً، من بقي للناس؟ المهم البناء وليس الهدم، والناس لا يتركون شيئاً إلا بشيء، وليست القضية قضية منافسة، فالساحة ملأى، ونحن نرى أن الأمة وقعت ضحية تضليل كثير من أهل الفساد، والإلحاد، والعلمانية، والزندقة، وأصبح يمثل الأمة أحياناً، في محافل دولية، وأدبية وفكرية ملاحدة، وزنادقة وأهل الإلحاد، وأهل الحداثة، وأهل الكفر، فضلاً عن أهل البدعة والضلالة، المعلنين المعروفين المشهورين.
فلماذا نستغرب أن تقع الأمة ضحية، وهب أن الأمة اغترت بفلان، ولم يكن من هؤلاء ولا من أولئك، يجب عليك أن تسعى إلى إنقاذ الأمة من أن تغتر بهؤلاء الزنادقة، وتسعى إلى إنقاذها من أن تغتر بهؤلاء المبتدعة المعلنين بالبدعة، قبل أن تسعى إلى إنقاذ الأمة مما تظنه أنت اغتراراً بفلان في مسائل إن كان ما تعتقده أنت صواباً، فالخطب يسير، والأمر لا يدعو إلى كفر وإيمان، وليس هدىً أو ضلالاً، وإنما المسألة مسألة اجتهاد، يخطئ ويصيب، ومسألة قول راجح أو قول مرجوح.
هذا بعض ما أحببت أن أقوله عن الإمام مالك، وفي سيرة الإمام مالك الكثير مما لا يتسع المجال لذكره.
الجواب: بلى، ونحن لا نرى العصمة إلا للنص الشرعي ولا نقول إلا كما قال مالك: [[ما منا إلا راد ومردود عليه]] وأنا أنادي وقد ناديت على هذا في محاضرة " لماذا نخاف من النقد "، أن نكون في كلامنا وفي سياستنا وعلمنا وتربيتنا، نربي الناس على بناء شخصياتهم، وليس على إهدار شخصياتهم، بمعنى أني لا أفرض عليك رأياً، ولا ألزمك باجتهاد، لكن الشيء الذي ننادي به أن يكون ذلك مضبوطاً بضوابط الأدب الشرعي والخلق الإسلامي، وأن لا يغير هذا قلوب بعضنا على بعض، وأن لا يجعل الصف مختلفاً، أو يجلعني مشتغلاً بك عن الخصوم، وأرى أنك أخطر على الإسلام من فلان العلماني، أو فلان الرافضي، أوغير هؤلاء؛ لأن شرهم معروف، أما أنت فشرك غير معروف، فإلى الله المشتكى، والله المستعان.
الجواب: تعرف ذلك من خلال مواهبك، فإنني لا أعتقد أن أحداً من الناس أعلم منك بالمواهب التي منحك الله تعالى، فانظر في موهبتك، وحاول أن توظف هذه الموهبة في خدمة الدين، وكل ميسر لما خُلق له, وأنا حريص على أن أوضح أننا اليوم نحتاج إلى كوكبة من طلبة العلم النابهين الأذكياء، يتفرغون ويتجهون إلى العلم الشرعي، عقيدةً، وتفسيراً وقرآناً، وسنة وأصولاً، وغير ذلك، ويتعلمونه ويؤصلون لهم، ويكون في ذلك ترشيد وضبط لمسيرة الصحوة الإسلامية، فنحتاج ذلك، وأرجو أن يكون من بين من يستمعون هذا الكلام من ينتدبون أنفسهم لهذه المهمة؛ لأنه لا توجد جهة رسمية اليوم يمكن أن ترشحهم لذلك، ونحتاج في الوقت نفسه، إلى مجموعة ينتدبون أنفسهم لتبني قضايا المسلمين والدفاع عن حقوقهم المسلوبة في كل مكان، فهناك مجاعة، وهناك مقتلة، وفي بلد ثالث مصيبة، وفي رابع كارثة، وفي خامس ميدان جهاد، فيركضون كلما سمعوا هيعة طاروا إليها، يُشْعِرون المسلمين بالإخوة والمواساة، ويثيرون هذه القضايا ويجعلون هم المسلم الواحد هماً للأمة كلها في كل أرجائها:-
تذوب حشاشات العواصم حسرةً إذا دَميت في كف بغداد إصبع |
ولو بردى أنَّت لخطبٍ أصابها لسالت بـوادي النيل للنيل أدمع |
ولستُ أدري سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سياني |
وحيثما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني |
بـالشام أهلي وبغدادَ الهوى وأنا بـالرقمتين وبـالفسطاط جيراني |
ونحتاج إلى كوكبة ثالثة، تتفرغ للدعوة، والإتصال بالشباب، وبالعامة، وبالجماهير، وبأهل الرياضة، وبأهل الأسواق، وبأهل الأندية، وبطلاب المدراس، بكل فئات المجتمع، توصل إليهم الكتاب، والشريط، والكلمة النيرة، وتوزع عليهم الابتسامات الطيبة، والكلمات الحلوة المؤثرة، وتقيم معهم الجسور والعلاقات، وتحرص على ربط قلوبهم بحلقات الذكر، وربطهم وكسب ولائهم وقلوبهم إلى دين الله، وشريعته ودعوته وملته وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونحتاج إلى أصناف وأصناف من الناس.
الجواب:
أولاً: أن تخلص نيتك لله، فلا تجعل طلبك للعلم لتتصدر به، ولا لتشهر، ولا ليسافر الناس إليك، ولا أن يشار إليك بالبنان، ولكن اجعل طلبك للعلم. كما قال مالك: [[اطلب العلم لوجه الله]] وكل ذلك سيحصل، والعالم إذا طلب وجه الله أعطاه الله الدينا، فهذا عبد الله بن المبارك لما جاء إلى مرو، كان الخليفة هارون الرشيد، قد جاء إلى مرو، فنظرت أمه وكانت في موكب هارون الرشيد -أم ولد- أن الموكب هنا، والناس كلهم قد انجفلوا إلى مكان آخر، وتزاحموا وارتفع الغبار وتقطعت النعال، وارتفع الصياح، فتعجبت، وقالت هل الناس لا يعرفون موكب الخليفة؟! موكب الخليفة يمينهم وهم قد ذهبوا شمالاً، فما الخطب؟! قالوا لها: هذا أمير المؤمنين في الحديث عبد الله بن المبارك قد قدم، فانجفل الناس إليه وتركوا الخليفة في الغبار، فإذا صحَّت نية العبد، وفقه الله ورزقه العلم النافع، ومكنه من قلوب الناس، وجعل علمه حجة له، لا حجة عليه.
ثانياً: لا بد من الصبر، وأنت تعود نفسك أن تثني ركبك، ولا تتعجل فإن الكثير من طلبة العلم يبدءون بهمم عالية، وحماس منقطع النظير، لكن إذا رأوا طول الطريق، انقطعت بهم الأسباب، وتراجعوا وتفرقوا فلا يصبر بالنهاية إلا القليل، فلا بد أن يوطن الإنسان نفسه الصبر على الطريق، وعدم العجلة.
الأمر الثالث: أن تزكي علمك، تزكيه بالعمل الصالح، فلا قيمة للعلم إلا بالعمل، وأي ثمرة لعلم لاينتفع به صاحبه؟! يقولون: لو كان حقاً لكان هو أول المستفيدين منه.
ومن زكاته أيضاً أن تبذله للناس لا تنتظر أن تكون كالإمام مالك حتى تعلم؛ لأننا لا نشترط أن تقيم حلقة عامرة، يأتي الناس إليها من كل مكان، لا،وإنما {بلغوا عني ولو آية} أدِ زكاة علمك، فالعلم ليس له نصاب، والزكاة واجبة في كل علم، ولو آية ولو حديثاً {بلغوا عني ولو آية} {نضر الله أمرأً سمع منا حديثاً فوعاه فبلغه فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه} وعليك أن تبدأ أولاً: بالقرآن، وهو أساس العلوم بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49] ثم تبدأ بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك تبدأ بصغار المتون، متن مختصر كـالآجرومية في النحو، ومتن مختصر كـالورقات في الأصول، ومتن مختصر في سائر العلوم الأخرى، وبعد ذلك تترقى في العلوم شيئاً فشيئاً، ولا بد أن يكون لك أشياخ تستفيد منهم، لا لتنسخ شخصيتك في هؤلاء، ولكن لتنتفع بهم وتراجعهم، وتسألهم وتتعلم منهم الأدب، والتربية والأخلاق، والسلوك والعلم.
الجواب:هذه الأقمار الصناعية التي انتشرت اليوم في أسطح بيوتنا في كل مكان، ورأيناها في هذه البلاد، في طولها وعرضها، تنذر بشر خطير؛ لأنها قنوات ونوافذ تهب من خلالها رياح الكفر النصرانية، فإن مجلس الكنائس العالمي، ومن ورائه الفاتيكان، قد أستأجر عشرات المحطات الفضائية، فضلاً أنه يملك أصلاً محطات أخرى كثيرة، هدفها الوحيد هو تغيير عقائد المسلمين، وفيها محطات موجهة خصيصاً إلى منطقة الشرق الأوسط ذاتها؛ لأنها من أهم وأخطر المناطق في نظر مجلس الكنائس العالمي، أما اليهود فهم الآخرون قد وجهوا محطات مخصصة إلى البلاد العربية، وبعضها محطات تبث الجنس والدعارة الصريحة، تبث من إسرائيل نفسها، وتبث من بعض المواقع في إفريقيا التي استأجرتها إسرائيل، أو استولت عليها بطريقة أو أخرى، فضلاً عن الذين يتبعون الشهوات، والذين أخبر الله عنهم فقال:وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27] فلذلك من الخطر الكبير الداهم أن يسمح المجتمع بسلطاته وعلمائه وأفراده، بوجود هذا الشر المستطير بين أظهرنا، إنه بلاء ووباء، هل تعتقد أن هناك أحداً وضع هذا من أجل أن يستمع الأخبار؟! أنا لا أحكم على ضمائر الناس، وقد يوجد من الناس، لكن هذا يشكل (1%) من الذين يعرفون اللغات المختلفة، ويستطيعون أن يفهموها، الذين يهتمون أصلاً بتتبع الأخبار والتحاليل ومعرفة أحدث التطورات وأدقها، أما جمهور الناس، فنحن نعلم أن الكثير منهم لا يسمع الأخبار في الراديوا مثلاً، لا يقرأ المجلات، ولا يتتبع الأخبار، ولا يهتم بها أصلاً، ومستوى الوعي والمتابعة الإخبارية عند الأمة، ما زال أقل بكثير، من أن نتصور أن الناس قد وضعوا هذا، ليتابعوا الأخبار، ثم هب أن هذا صحيح، أليس في البيت النساء والمراهقون؟ فتيات وشباب في سن المراهقة، والشهوة تتأجج في أعصابهم، دون أن يوجد ما يثيرها، أو بمثير سهل يسير، فما بالكم بهذه الفتاة، التي تقرأ في المقرر والمرأة كلها عورة، إلا وجهها في الصلاة، ثم تشاهد على الشاشة بنات جنسها، اللآتي خلقن كما خلقت هي، والطبيعة واحدة، والجبلة واحدة! تشاهدهن وهن بملابس السباحة! أو تشاهدهن وهن مع أصدقائهن في رحلة بالخلاء! أو تشاهدهن في بيوت الدعارة! وأماكن البغاء والرذيلة، أو تشاهدهن وهن يمارسن ألوان الرياضة! إلى غير ذلك من الصور والمشاهد، كيف سيكون وضعها وكيف سيكون مستقبلها وتفكيرها؟! أقل ما ستكون أنها فتاة متناقضة، لا تدري هل تقبل ما تقرأ، والمرأة كلها عورة إلا وجهها في الصلاة، أو تقبل هذا الأمر الذي يعرض عليها مطعماً بأحدث وسائل التكنولوجيا، وما تفتقت عنه العقلية الإنسانية في مجال الإعلام والإبداع، وفن التصوير والرسم، والنقل والإثارة، إلى غير ذلك، سنفاجأ على الأقل بجيل ممزق، لا يحمل مبدأ ولا عقيدة ولا ديناً، ولا يتحمس لشيء، ولا يأخذ أمور الحياة كلها بجدية، حتى أمور الدنيا، ليس عنده قدرة على التعلم، ولا على أن ينجح في الاقتصاد، ولا على أن ينجح في التصنيع، ولن يقدم الأمة والبلاد خطوة واحدة إلى الأمام، إذا نشأ بهذه الصورة، وقل مثل ذلك في الشاب، الذي يشاهد هذه المثيرات فتثور عاطفته، فيتجه إلى أن يشبع هذه العاطفة، فيكون مسماراً يدق في نعش المجتمع؛ لأن هذه الصورة التي شاهدها، فحركت عاطفته وجعلته يذهب كالمسعور، يبحث في المجتمع عن إشباع لهذه الغريزة، التي ثارت ولو بالحرام، خاصة إذا كانت أسباب الحلال مغلقة أو صعبة أحياناً، فعلينا أن نقوم بحملة صادقة في مقاومة مثل هذا الوباء والبلاء.
هذا وأسأل الله أن يكون هذا الإجتماع، اجتماعاً طيباً مباركاً مرحوماً، إنه على كل شيء قدير، وأن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضاه والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر