ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري: {من رأى منكم منكراً، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان}.
أيها الإخوة: حول هذا الموضوع ألقي الضوء على مجموعة من النقاط المهمة، وإن كان الوقت لا يتسع لكل ما يتعلق به.
فأولاً: ما هو المقياس، في معرفة المعروف والمنكر؟
كيف يعرف الإنسان المعروف من المنكر؟
المعروف: مأخوذ من المعرفة، وهي في أصل اللغة العربية: اسم لما يعرفه القلب ويطمئن إليه وتسكن له النفس، ولذلك سمي المعروف معروفاً لأن النفوس تألفه وتسكن إليه، وتطمئن إليه، وهو اسم جامع لكل ما يحبه الله من طاعته والإحسان إلى عباده.
والمنكر: هو اسم لما تنكره النفوس وتنبو عنه، وتشمئز منه ولا تعرفه، فهو ضد المعروف، وهو أيضاً اسم جامع لكل ما عرف بالشرع والعقل قبحه، من معصية الله تعالى وظلم عباده.
أولاً: أن المقياس في معرفة المعروف والمنكر ليس هو عرف الناس وتقاليدهم والأمر الشائع بينهم، فإن عرف الناس متقلب، وقد يعرف الناس اليوم شيئاً ويألفونه ويعتادون عليه، وينكرونه غداً، وقد ينكرون اليوم شيئاً ويقومون ضده ثم يستسلمون له غداً ويألفونه ويعملون به، فالمقياس في تحديد المعروف والمنكر هو الشرع وليس العرف، وكم جرى في أعراف الناس من المنكرات الكبيرة.
أرأيت -مثلاً- إعفاء اللحية إنه معروف في عرف الشرع، أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة وابن عمر وغيرهما في الصحيح، لكن قد يشيع عند الناس ضد ذلك من إزالة الشعور وحلقها، فيصبح إعفاء اللحية في بعض البيئات والمجتمعات، أمراً منكراً مستغرباً، لم يعتده الناس ولم يألفوه.
أرأيت تشمير الثياب ورفعها إلى ما فوق الكعبين أو إلى منتصف الساق أو إلى ما دون الركبة، هذا أمر ثبت في الشرع، ولكن كثيراً من المجتمعات لا تعرف هذا الأمر، إنما تعرف إطالة الثياب وإرخاءها وإسبالها، خاصة في الرجال، أما النساء فعلى العكس من ذلك، فإذا رأوا رجلاً قد رفع ثوبه إلى نصف الساق أو دون ذلك أو فوقه؛ بدأوا يتغامزون ويتناظرون وقد يتضاحكون، فهذا معروف بالشرع، لكنه منكر في بعض البيئات والمجتمعات.
أرأيت احتجاب المرأة هو أمر عرف بالشرع قرآناً وسنة أنه ثابت ومعروف، لكن قد يجهل بعض المسلمين هذا الأمر في بعض المجتمعات، فإذا رأوا امرأة قد تسترت وتحجبت، ضحكوا منها! وقالوا: ما شأن هذه المرأة تمشي وكأنها خيمة؟
وكما قال بعضهم، وقال آخرون: هذه المرأة إنما تسترت لأنها دميمة، فتريد أن تستر قبحها عن الناس.
في مثل تلك المجتعمات أصبح منكراً يستغرب فاعله، وعلى الضد من ذلك، كم من منكر أصبح مألوفاً ومعروفاً في بعض المجتمعات.
الغناء -مثلاً- حين يقوم إنسان يحرم الغناء ويذكر الأحاديث الصريحة فيه، تجد كثيراً من الناس يفغرون أفواههم ويفتحون عيونهم مستغربين! هذا الغناء الذي نسمعه في الإذاعات وأجهزة التلفاز وأشرطة التسجيل، وربما يسمعون -أحياناً- من بعض المنتسبين إلى العلم من يبيحه، لا يقع في آذانهم قط أنه منكر، بل قد ألفوه وعرفته نفوسهم وسكنت إليه، فصار في عرفهم معروفاً، وهو في الشرع منكر.
أرأيت الربا الذي شاع وذاع بين المسلمين في بنوكهم وصارفهم ومؤسساتهم حتى لا يكاد يخلو منه إلا القليل، وأصبح الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري: {يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء فيما أخذ من حلال أو من حرام؟} حين يتحدث الإنسان عن تحريمه، أو عن تحريم بعض صوره الشائعة عند الناس، تجد كثيرين منهم يفاجئون ويستغربون، وقد يرمون هذا المتحدث بالعظائم؛ لأنه يستنكر أمراً ألفوه وعرفوه واطمأنت إليه نفوسهم، فصاروا لا يظنون إلا أنه عين المعروف، وهو في الشرع منكر.
أرأيت الصور، وخاصة الصور الخليعة من صور النساء الفاتنات التي انتشرت بين المسلمين اليوم عبر الكتاب والمجلة والشريط والمسرحية، أو التمثيلية، أو غيرها.. هذه الصور التي أصبحت تقابل عين الإنسان في الطائرة، في السيارة، في البقالة، في البيت، في السوق، في المدرسة، في كل مكان، حين ينشأ عليها الإنسان ويألفها تصبح عادية في نظره، وحين يسمع إنساناً يقول: إن النظر إلى صور النساء في المجلات والأفلام وغيرها لا يجوز! يستغرب ذلك، ويقول: هذا مسكين، إن الناس اليوم يعانون من النظر إلى الفواحش والمشاهد الجنسية المؤذية واللقطات.
ولا أقول -كما يقول بعض المتفائلين-: المخلة بالحياء، بل اللقطات التي تقضي على الحياء وتئده، وتراهم يقولون: الناس مشغلون بهذه الأشياء بينما هذا الإنسان لا زال يتحدث، عن منع النظر إلى الصور، صارت القضية معروفة عند كثير من الناس، لماذا؟
لأن القضية انتشرت وذاعت وشاعت، فأصبحت تقابل الإنسان في كل مكان فتَطبَّعَ عليها واعتادها، وأصبح لا يستنكرها.
وهكذا تبرج النساء والاختلاط وغير ذلك من المنكرات، قد يعتادها الناس في مجتمع ما، فتصبح في عرفهم معروفاً، لكن عرف الناس لا يغير الشرع، ولهذا ينبغي أن نلاحظ من خلال تعريف المعروف والمنكر، أن المعروف: هو ما عرف بالشرع والعقل حسنه، لأن كل ما جاء به الشرع فالعقل يدل عليه، كل ما جاء الشرع بتحسينه، فالعقل يدل على تحسينه، العقل السليم والفطرة السليمة، وأن المنكر: هو كل ما دل الشرع والعقل على قبحه وفساده، وكل ما جاء الشرع بتقبيحه، فالعقل يدل على تقبيحه.
أما أعراف الناس فلا عبرة بها؛ لأن أعراف الناس قد تصبح سقيمة في وقت من الأوقات، فترى المنكر معروفاً والمعروف منكراً.
الأمر الآخر الذي يلاحظ من خلال هذه التعريف، أن الأصل في المجتمع المسلم أنه يعرف المعروف ويقره ويرضاه ويأمر به، وأنه ينكر المنكر ويرفضه ويأباه وينهى عنه، هذا هو المجتمع السليم.
ولذلك كان أسلم المجتمعات هو مجتمع الصحابة رضي الله عنهم، فكانوا يعرفون المعروف وينكرون المنكر، ولذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في الأثر الصحيح الذي رواه الحاكم وغيره قال: [[ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح]].
ثم ضرب لذلك مثلاً بأن المسلمين -أعني الصحابة-، اتفقوا على اختيار أبي بكر للخلافة، فحينئذ عُلم أن هذا أمر يحبه الله ويرضاه، ولهذا أصبح من جملة عقائد أهل السنة والجماعة تفضيل أبي بكر على من عداه من الصحابة، والإقرار بأنه أول الخلفاء الراشدين، ومن بعده عمر كذلك، ثم عثمان ثم علي، هذا مثال لهذه القاعدة.
ولهذا أجمع المسلمون على قبول إجماع الصحابة رضي الله عنهم وأنه حجة فيما بينهم وبين الله، فإذا اتفق الصحابة على أمر، أصبح المسلمون من بعدهم متعبدين بهذا الأمر وهو من ضمن الأدلة الشرعية، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين.
ولذلك كان الإمام مالك رحمه الله يأخذ بعمل أهل المدينة، فما وجد عليه عمل أهل المدينة في القرن الأول اعتبره من ضمن الأدلة الشرعية، وهذا أصل خاص بالإمام مالك، وكان رحمه الله يفسر ذلك بأن عمل أهل المدينة إنما هو على النبوة.
أما عمل الأمصار الأخرى فإنه على أوامر الملوك، وكذلك المجتمعات الخالفة من بعدهم، ما كان من هذه المجتمعات يقبل المعروف ويرضى به ويدعو إليه، فهو مجتمع سليم، وما كان يرفض المعروف ويأباه ويقر المنكر فهو منحرف.
وحين تلقي نظرة تحاول أن تطبق فيها هذه القاعدة على المجتمعات الإسلامية اليوم، تجد أن هذه المجتمعات بلا شك تتفاوت تفاوتاً كبيراً، ولكن يغلب على هذه المجتمعات في الجملة، أنها تتقبل المنكرات وتألفها وتنتشر بين أفرادها بشكل سريع ذريع، ما أسرع -مثلاً- ما تنتشر الموضات والأزياء الأجنبية في أوساط النساء، بمجرد ظهور مغنية أو ممثلة أو فاجرة أو داعرة بزي معين، لا يمر غير وقت قصير إلا وتجد هذا الزي قد شاع وذاع، وأصبحت نساء المؤمنين تتبارى عليه، وتتنافس فيه، وما إن تظهر مغنية أو ممثلة أو داعرة بتسريحة معينة من تسريحات الشعر، إلا وتجد المسلمات خلفها يطبقن ما رأين تطبيقاً دقيقاً أميناً، وما إن تجد شباب الغرب، يسيرون خلف تقليد من التقاليد، إلا وسرعان ما ينتشر بين شباب المسلمين.
هل نعتقد أن الظواهر التي نلاحظها في شبابنا اليوم في ملابسهم، في طريقة شعورهم، في طريقة تصليحهم لسياراتهم، في بعض الظواهر التي قد تشيع -أحياناً- بين الشباب، هل نعتقد أنها نشأت من فراغ؟
كلا، إنها أشياء يلاحظونها في المجتمعات الكافرة، سواء حين يسافرون إلى تلك المجتمعات ويشاهدونها عياناً، أو من خلال الأفلام والمسرحيات التي تعرض الأوبئة الموجودة في بلاد الروم أمام أعين نظارة المسلمين، وقد تكون -أحياناً- نوعاً من الخدع في التصوير، فيغتر بها شبابنا ويطبقونها مثلما يقع في ما كان منتشراً ما يسمى بعملية (التفحيط) وغيرها! هل نعتقد أن انتشار هذه الأشياء، أمر طبيعي؟
كلا، إنه يدل على وجود فراغ في عقول ونفوس هؤلاء المسلمين، وانحراف يجعلها قابلة للمنكر.
ولذلك لا يمكن القول بوجود جاهلية مطبقة في الأمة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها، في زمان ما إلا قبيل قيام الساعة، حين يبعث الله تعالى الريح الطيبة، فلا تدع أحداً في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان إلا قبضته، فحينئذٍ يبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر، ويتسافدون تسافد الحمر، يفعلون الفواحش على قارعة الطريق، وأفضل إنسان في ذلك الوقت إذا جاء وهم يفعلون الفاحشة، قال: يا فلان لو اعتزلتم الطريق، لو ما فعلتم الفاحشة في وسط الطريق على الأقل اعتزلوا هذا الطريق، وهؤلاء تقوم عليهم الساعة.
وهنا تلاحظون سراً عظيماً من أسرار هذه الشريعة، هذا السر هو: أن الله عز وجل، أنـزل القرآن، وبعث الرسل، وأوجد هذه الكعبة، وأبقى هذه الطائفة المنصورة، لتحقيق الحجة على الناس، وإقامة الدين والشعائر، فإذا تعطلت منافع هذه الأشياء أذن الله بزوالها، وحينئذٍ يبعث الله ذا السويقتين، من الحبشة، فيهدم الكعبة ويستخرج كنـزها، لأنه لم يعد من يحج ولا يعتمر ولا يصلي إلى الكعبة، ويرفع الله هذا القرآن من المصاحف وصدور الرجال حتى لا يبقى في الأرض منه آية، ويبعث الله ريحاً طيبة فتقبض أرواح المؤمنين، الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، لأنه لم يعد يوجد من يسمع لهم ولا من يستجيب، وبعد ذلك تقوم الساعة، المقصود أن مجتمعات المسلمين لا يزال فيها من يهدي بالحق، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
الحالة الأولى: أن يتآمروا بالمعروف، ويتناهوا عن المنكر، وهذه هي الحالة التي وصف الله بها المؤمنين: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:110] وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71].
الحالة الثانية: أن يأمروا بالمنكر، وينهوا عن المعروف، وهذه حال مَنْ؟
هذه حال المنافقين: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ [التوبة:67].
الحالة الثالثة: هي خليط، يتآمرون بمعروف وبمنكر، ويتناهون عن بعض المعروف وعن بعض المنكر، فيقع منهم حق وباطل، ويلتبس هذا بهذا، وهذا حال المقصرين والعصاة والمسرفين على أنفسهم ونحوهم.
وتلاحظون في الآيتين السابقتين: التفريق بين المؤمنين والمنافقين، قال الله تعالى في شأن المؤمنين: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:72] وقال في شأن المنافقين بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ[التوبة:67] وهذا في باب الرأي قد يتساءل الإنسان، كان الذي يتوقعه الإنسان أو يظنه ربما يسبق إلى ذهنة، أن علاقة المؤمنين بعضهم ببعض أمتن.
ولذلك قد يعبر عنها بـ(من) قال تعالى:وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] وأن علاقة المنافقين بعضهم ببعض أقل.
ولذلك يعبر عنها بـ(أولياء) لكن الله تعالى قال في محكم: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] وقال عن المنافقين بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التوبة:71] والسر في ذلك مما يظهر والله أعلم أن علاقة المؤمنين بعضهم ببعض ليست علاقة تناصر على الباطل، إنما هي علاقة اتفاق على الدين الذين يدينون به وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71].
ولذلك يتوالون فيه، أما المنافقون فهم لا يتوالون من أجل دين ولا من أجل عقيدة، وإنما يتوالون ويتناصرون بالباطل، فكلما ذهب بعضهم إلى شيء وافقه الآخرون عليه مهما كان، فلذلك قال تعالى: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التوبة:71].
والمقصود أن الأمر والنهي ضرورة بشرية، وكل إنسان لا بد أن يأمر وينهى ويُؤْمر ويُنْهى، إما بخير أو بشر أو بأمر مختلط من هذا وذاك، ولذلك يجب أن نعلم أن المجتمع إما أن ينتشر فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما أن تكون الأخرى وهي أن ينتشر فيه الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، أو الأمر ببعض المعروف وببعض المنكر، والنهي عن بعض المعروف وبعض المنكر.
حتى في السنن التي وضعها الله في المجتمعات (السنن الاجتماعية)، مثلاً: ربما أكون مثلت بموضوع التبرج والتستر، لنفترض أن مجتمعاً من المجتمعات، يحافظ على الشروط الإسلامية لحجاب المرأة ولباسها، فإذا وجدت امرأة أو اثنتان متبرجتان، وجدت المجتمع كله ضد هذه الظاهرة، يحاربها، حتى الذين قد يكون ليس لديهم دين، يحاربونها لأنها تعتبر ظاهرة شاذة في المجتمع، ولذلك سرعان ما تتلاشى هذه الظاهرة، لماذا؟
لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوي في هذا المجتمع، والغلبة هي لهما، لكن اعكس الصورة، وتصور مجتمعاً يشيع فيه التبرج كمجتمعات المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وقد رأيناها وسمعنا عنها، تجد أن العرف السائد في المجتمع أن الفتاة تخرج إلى المدرسة، وإلى السوق، وإلى جميع أعمالها، وقد لبست ثوباً يظهر ذراعيها، وعضديها، وساقيها، فضلاً عن الوجه والشعر والرقبة والنحر، وهذا هو اللباس المعتاد الشائع، فإذا رأيت امرأة قد سترت شعرها، وذراعيها، وساقيها، اعتبرت هذا الأمر غير مألوف في ذلك المجتمع، تصور كم تعاني هذه المسلمة في مثل تلك المجتمعات؟!
كم تعاني من الكلام من الأبوين، من الزميلات في المدرسة، من القريبات، في المناسبات والزواجات، في الشارع كم تعاني؟!
تعاني الأمرين؛ لأنها تسبح ضد التيار -كما يقال- إذاً المجتمع له قوة، فإما أن تكون قوته أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وأخذاً على يد السفيه، أو تكون العكس، نهياً عن المعروف وأمراً بالمنكر.
وهذه قضية ينبغي أن ينتبه لها، إن المجتمعات لها خط بياني صاعد أو نازل، إذا نـزل المجتمع بدأ يهبط، لاحظ أن هبوطه لا يقف عند حد.
ولذلك شرع الإسلام موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهنا نلاحظ قضية في غاية الأهمية في هذا الموضوع، وهي أن أصل وجود المنكر قليل مُسْتَخْفٍ، هو أمر طبيعي مألوف، ليس بغريب، حتى في أفضل المجتمعات وأكثرها استقامة على أمر الله ورسوله: مجتمع الصحابة، وهو المقياس -كما أسلفت- ومع ذلك كان فيه المنافقون، الذين قال الله عنهم: يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ [التوبة:67] وكانوا موجودين، والمسلمون أنفسهم منهم من يواقع بعض المعاصي، وفي الصحيحين من ذلك أشياء.
مثل قصة الرجل الذي زنى، وهو ماعز بن مالك رضي الله عنه، فتاب توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، ومثله الغامدية التي جادت بنفسها لله عز وجل، ومثلهم الرجل الذي أصاب من امرأة ما دون الزنى، لكنها حالات نستطيع أن نقول عنها: إنها فردية، ولذلك فهي مستترة مستخفية.
ولذلك -أيضاً- انظر! كيف موقف الواقع في المنكر نفسه، ما أسرع ما يستيقظ ضميره، وما أسرع ما يتوب إلى الله عز وجل، ولا يحتاج إلى متابعة ورقابة، رقابته قلبه، خوفه من الله عز وجل، يقوده إلى أن يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! زنيت فطهرني، يعرض عنه الرسول ذات اليمين عليه الصلاة والسلام، ويأتي إليه من قبالة وجهه، يعرض عنه ذات الشمال يأتي إليه، أربع مرات في مجلس واحد: يا رسول، زنيت فطهرني، فيقول عليه الصلاة والسلام:بك جنون} هل هو سكران؟
لا هذا ولا ذاك، لم يقام عليه الحد.
وأعجب من ذلك المرأة! تشهد على نفسها بالزنا، ثم يأمرها الرسول صلى الله عليه وسلم أن تذهب حتى تلد، لأنه عندما رأت أنه يريد أن يردها، قالت: لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً، أي هي عارفة ما هو مصيرها، ما جاءت وهي لا تدري ماذا سيفعل الرسول عليه الصلاة والسلام بها، بل تعرف مصيرها، وأنها سترجم.
ثم تأتي وتقول: يا رسول، زنيت فطهرني، فترى أن الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يردها وتقول: وهي تريد أن تقطع الطريق: يا رسول الله، كأنك تريد أن تردني كما رددت ماعزاً، والله إني لحبلى من الزنى، قال عليه الصلاة والسلام: {أما لا، فاذهبي حتى تلدي} ذهبت تسعة أشهر، يمكن أن يقول قائل: لما جاءت أول مرة كانت حرارة الندم في قلبها، لكن تسعة أشهر وهي لا زالت يقظة الضمير، بعد تسعة أشهر تأتي بالصبي.
فيقول صلى الله عليه وسلم: {اذهبي حتى تفطميه} أيضاً ربما جلست سنتين أو أقل من ذلك، حتى فطمته، ومبالغة منها في إثبات أنها فطمته، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده كسرة خبز، وقالت: يا رسول الله! لقد فطمته، فيأمر بالصبي إلى بعض الأنصار ويرجمها، إن هذا يدل على قوة الإيمان في نفوسهم، أي: كانوا رجالاً حتى حين يقعون في المعصية، فيسارعون بالتوبة والإقلاع والندم، الذي يجعلهم يفعلون مثل هذه الأفعال.
إذاً: مجرد وجود معاصٍ قليلة مستترة أمر عادي، وبعضهم يشبهون هذا بما يقوله الأطباء والمراقبون على الصحة العامة، حينما يقولون: إن هذا المجتمع سليم من الأمراض، هل يقصدون أن هذا المجتمع جميع أفراده أصحاء (100%)، كلا! إنما يقصدون الأمراض العامة، والأوبئة الفتاكة والمعدية، وأنها ليست موجودة، أما وجود حالات مرضية فهو أمر طبيعي في أي مجتمع من المجتمعات.
لكن هذه نظرة السطحيين من الناس، أو الذين لا يستنيرون بنور الوحي، أما الذين يستنيرون بنور الوحي، فإنه يقف عند قول الرسول صلى الله عليه وسلم، في الحديث المتفق عليه عن زينب بنت جحش رضي الله عنها، {أن النبي صلى الله وعليه وسلم دخل عليها فزعاً، وهو يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، قالت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! انتبهوا! يا إخوة لهذا الحديث، فقال عليه الصلاة والسلام:- نعم، إذا كثر الخبث!
ولذلك قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [النور:19] ثم إن انتشار هذا المنكر يغري الآخرين بتطبيقه والإسراع إليه ويقلل من خطورته في نفوسهم، فأول ما يرى الناس المنكر تجدهم يشمئزون منه، ويتحدثون عنه بقلوب محزونة، لكن بعد أشهر تجد الأمر أصبح عادياً وسكت الناس عنه، وشغلوا بما هو أعظم منه، وشيئاً فشيئاً تصبح هذه المنكرات تتطبع في نفوس الناس، يألفها الناس ويتربون عليها فتكثر عندهم.
إذاً: العقوبة الأولى إن إظهار المنكر يؤدي إلى كثرته وانتشاره في المجتمع.
ولذلك قال عمر بن عبد العزيز الخليفة الملهم، حين كتب كتاباً إلى أمير المدينة وأمره أن يأمر علماء المدينة بأن يجلسوا لإفشاء العلم في المساجد، قال: [[وليفشوا العلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً]] هذه عقوبة كبرى، وأي عقوبة أشد من أن ينتكس المجتمع، فيصبح المعروف عنده منكراً، ويصبح المنكر عنده معروفاً! وأي عقوبة أشد من أن المسلم يعاني ما يعاني في تطبيق شعائر الإسلام وهو بين قوم مسلمين.
هذه العقوبة أن لا يموت هؤلاء الناس إلا أن يصيبهم الله بعذاب، كما في حديث جرير أيضاً عند أبي داود: {ما من قوم يكون فيهم رجل يعمل بينهم بالمعاصي، يستطيعون أن ينكروا عليه، ثم لم ينكروا، إلا عمهم الله بعقاب من قبل أن يموتوا} وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه الذي رواه الترمذي وصححه وأبو داود وغيرهم، روي مرفوعاً وموقوفاً، أن أبا بكر رضي الله عنه قال: [[أيها الناس إنكم تسمعون هذه الآية وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه؛ أوشك أن يعمهم الله بعقاب}]].
وكما ذكرت فالحديث روي مرفوعاً وموقوفاً، والراجح أنه موقوف، لكن له حكم المرفوع، لأنه مما لا يقال بالرأي، والله أعلم.
وقد تصل هذه الأزمات في بعض المجتمعات الإسلامية إلى حالة من الفقر يرثى لها، حتى إنك تجد أن الإنسان يتعب وراء لقمة العيش فلا يجدها، وهذا يؤدي بهم إلى أنواع من التقصير الشرعي -أيضاً- لأن الإنسان إذا انشغل بالبحث عن لقمة العيش قد ينسى كثيراً من أوامر الدين -أيضاً- فيعاقب -أيضاً- بعقوبة أخرى حتى في دينه، والمنكرات سلسلة إذا بدأ الإنسان فيها تسلسلت بعضها وراء بعض.
فلو رأيت بكاهم عند بيعهم لهالك الوجد واستهوتك أحزان |
ويقول قائلهم -وهو من آخر ملوك الطوائف- يخاطب نفسه:
ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال |
وما حدث في فلسطين، من تسلط اليهود، وطردهم للمسلمين، وتنكيلهم بهم، حتى صارت أخت الأندلس، وذهبت -كما يقول القائل-:
ذهبت في لجة الأيام ضائعة ضياع أندلس من قبل في الحقب |
وطوحت ببنيك الصيد نازلة مثلها أمة الإسلام لم تصب |
ومن المآخذ اللطيفة التي تلاحظ في هذا الباب، أي نموذج من نماذج التفرق، لو لاحظت في عدد غير قليل من المجتمعات، أذكر أن بعض الصحف كانت تنشر منذ سنوات خبراً أو سلسلة من الأخبار المتتالية، تقول هذه الأخبار: إن هناك في إندونيسيا، حيث تشيع المنكرات -وهي على قدم وساق من الفواحش، والفجور , والبغاء، والخمور، والتبرج وغيرها، كما في كثير من بلاد الإسلام الأخرى- قالت تلك الأخبار: إن هناك مجموعة من الناس لا يعرف من هي؟
بدأت تتصيد المجرمين خفية وتضحي بهم، فإذا وجدوا من إنسان -مثلاً- أنه يقوم على بيت دعارة، أو منكرات علنية أو فساد ظاهر، فإنهم يقضون على هذا الإنسان، وظلت الأخبار متتالية لفترة غير قليلة عن مثل هذا.
هذا خبر يمكن أن نقرأه ونمر عليه سراعاً، نسمع اليوم عن أخبار تجري في عدد من البلاد الإسلامية، في مصر -مثلاً- وغيرها.
أن بعض الغيورين المتحمسين يقومون بأعمال إنكار بعض المنكرات، مثلاً: أعلن في جامعة، أظنها جامعة أسيوط عن حفل غنائي مختلط، فيه ما فيه، الله أعلم ما فيه، فقام عدد من الطلاب ضد هذا المنكر، وأتوا المكان، واستطاعوا أن يدخلوا بقوة، وحطموا آلات الفسق والمنكر والغناء، ومنعوا إقامة الحفل في تلك الليلة، هذا الخبر يعتبرونه على أنه حدث مخل في الأمن إلى آخره.
وقد يتطور الأمر، قد يحصل تعجل من هؤلاء الناس واندفاع، هذا نموذج للتفرق الذي يحصل في المجتمع بسبب ترك الأمر بالمعروف، وبسبب عدم وجود قنوات رسمية شرعية يستطيع المسلم من خلالها أن يمارس أو يطبق ما يدين الله به من وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يجد الوسيلة والقناة الشرعية، فتفرق الناس في مداخل وطرقات كثيرة متعرجة.
لكن لو وجد الإنسان طريقاً شرعياً للإنكار، بل ولبعض الإنكار، لو كان يستطيع أن ينكر بلسانه، ويقف ضد هذا المنكر، لكان من الممكن ألا يلجأ إلى مثل هذه الطريقة، وهذا الطريقة تُوجد تفرقاً كبيراً في المجتمع الواحد، سواء في طريقة الإنكار، أم في نتائجه، أم في الموقف منه، إلى غير ذلك..، فيحصل التفرق والاختلاف في داخل المجتمع ويتفاقم الأمر، هذا نموذج -فقط- من نماذج الاختلاف الذي يحصل في المجتمعات بسبب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وينبغي أن ننتبه جيداً لهذا.
وبالمناسبة أذكر قصة، ذكرها الخلال في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي قصة طريفة: فقد ذكر أن هناك بيتاً في بغداد كانت فيه منكرات، كان فيه عزف وطبل، وأصوات غناء، فجاء أناس إلى هؤلاء ونصحوهم مرة ومرتين وثلاثاً، فأصروا على ما هم عليه، فجاء رجل من الصالحين، وكان ذا صوت حسن عذب لتلاوة القرآن، فطرق الباب عليهم وأمرهم ونهاهم، فلم يطيعوه، فماذا صنع؟!
جلس على باب الدار في السوق، واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم وسمى وبدأ بصوته العذب الشجي يتلو آيات من القرآن الكريم، فتجمع الناس حوله وهم يبكون خاشعين لهذه الآيات المؤثرة المزلزلة، وقد تكون آيات مناسبة للموقف، مثل الآيات التي فيها الوعيد بالآخرة، وما فيها من الأغلال والنكال للعصاة، أو فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو ما أشبه ذلك، ثم جاء أهل المنكر خجلين مما هم فيه، وكسروا مزاميرهم وطبولهم، واعتذروا إلى هذا الرجل وإلى الناس، ولم يعودوا إلى فعلهم.
ومثل هذا، ما حصل أن أحد طلاب العلم سمع بأن في مكان ما احتفالاً غنائياً يجتمع فيه أعداد كبيرة من الشباب، وهو شخص له مكانته، فما كان منه إلا أن أتى إليهم فنصحهم فما امتثلوا، فجلس في مكان قريب مجاور لهذا الأمر، وبدأ يتحدث بصوت جهوري وحوله مجموعة قليلة من أصحابه، فمازال الناس يكثرون وهو يتحدث حديثاً عاطفياً مؤثراً، حتى تجمعت أعداد كبيرة، ثم ترك أولئك ما كانوا فيه، أو ما عزموا عليه من الغناء، وجاءوا يستمعون وتأثروا، وأمكن زوال المنكر بطريقة أفضل مما يفعله كثير من الناس من التعجل وإزالة المنكرات بأسلوب قد يضاعف هذا المنكر.
الأمر الذي أريد أن أقوله: إن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسبب تفرق المجتمعات.
يتجهون إلى الله عز وجل يدعونه، لكن بعد خراب البصرة، كما يقال، ولهذا لا يستجيب الله لهم.
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليبعثن الله عليكم عذاباً من عنده، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم} والحديث رواه أبو داود والترمذي، وهو حديث صحيح وله شواهد كثيرة، عن عائشة وأبي هريرة وغيرهما، "ثم تدعونه فلا يستجاب لكم"، إلا أن يعودوا إلى الله تبارك وتعالى عودة صادقة، ويقوموا بما أخلوا به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيرفع الله تبارك وتعالى ما بهم، فلا بد أن ننتبه إلى هذه العقوبات التي تنتظر كل مجتمع تخلى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وحين أقول: تخلى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أعني المفهوم الشامل لهذه الكلمة، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له دوائر كثيرة، تبدأ من الإنسان نفسه، من أمره نفسه، بالمعروف ونهيها عن المنكر، مروراً بالبيت، والجيران في الحي، والزملاء في العمل، وانتهاء بالمجتمع الواسع الكبير، كل إنسان بحسبه، وبحسب طاقاته وإمكانياته.
الموضوع مهم، والوقت ضيق، وجمعاً بين الأمرين أختصر النقط الباقية ليبقى وقت ولو يسير للأسئلة بناء على رغبة الإخوة.
الحالة الأولى: إذا لم يعلم بالمنكر غيرك، فأنت مطالب حينئذٍ بالإنكار، لأنه لا يقوم بالكفاية غيرك.
الحالة الثانية: إذا لم يستطع تغيير المنكر إلا أنت، أو إلا فلان من الناس، أصبح واجباً عليه أن يغيره، على سبيل المثال: هناك منكرات تشيع في طبقة معينة من طبقات المجتمع، يمكن أن يغيرها كل إنسان، لأنهم أناس ليس لهم ثقل ومكانة، فأي إنسان يستطيع أن يأمرهم وينهاهم وينكر عليهم، لكن هناك علية القوم من الوجهاء والتجار والمسئولين وغيرهم، ليس في مقدور كل إنسان أن ينكر عليهم، إلا إذا كان ذا مكانة وقوة، فيتعين عليه حينئذٍ أن ينكر؛ لأنه لا يستطيع الإنكار غيره.
الحالة الثالثة: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين على كل من ولاه الله تبارك وتعالى أمراً من أمور المسلمين، بدءاً بالسلاطين الذين ائتمنهم الله تبارك وتعالى على رقاب الأمة، فإنهم إنما وضعوا من قبل الشرع، وإنما شرع الإسلام الولاية العظمى لهذا الغرض، لتحقيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا غير، وكل مصلحة يحتاجها الناس تدخل في المعروف، وكل مفسدة يخافها الناس تدخل في المنكر، سواء كانت من أمورهم الدينية أم الدنيوية.
ومن الطريف يحدثني أحد الإخو:ة أنه رأى رجلاً في الشارع ومعه امرأته سافرة في السيارة، قال: فوقفوا عند أحد المحلات في طرف البلد، فاستغربت هذا الأمر، فأتيت إلى هذا الرجل وسلمت عليه، وقلت له، لماذا؟!
قال: يا أخي، والله لعلك تأتي وتكلمها، يقول -بكل جدية- يقول: لأني رأيته يصلي الضحى، أي نـزل من السيارة وفرش السجادة يصلي، فأغراني هذا بأن أعاتبه مما رأيت من سفور امرأته، قال: لعلك تكلمها! أي: ما بقي إلا أن يأتي الناس ويكلموا زوجتك، وأمروها بالمعروف وينهوها عن المنكر، ما بقي إلا هذا!
أقول: من السهل أن نلقي بالمسئولية على الآخرين، لكن الشيء الذي يجب أن نعلمه، أن كل إنسان عليه مسئولية بحسبه.
فإن كنت -مثلاً- مدير مؤسسة، مدير مدرسة، رئيس قطاع أو شعبة أو قسم، فإنك مسئول عما تحتك، وإذا كنت لا هذا ولا هذا، فأنت رب أسرة، تحتك زوجة وأولاد، أنت مسئول عنهم أن تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، وهذا لابد منه، فهو فرض عين عليك؛ لأنه داخل في سلطتك، ومثل ذلك أنه يتعين على من نُصبوا لهذا الأمر، وهم رجال الحسبة الذين كلفوا من قبل ولاة الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر بقدر ما يستطيعون، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، هذه حالات ثلاث يتعين فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الصفة الأولى: العلم،لا بد أن يعلم أنه منكر حتى ينكره، وأن هذا معروف حتى يأمر به، وأن يعرف الطريقة المثلى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلابد من العلم، ومن أنكر بجهل فقد يفسد أكثر مما يصلح، بعض الجهال ينكرون مالم يألفوه.
صليت يوماً من الأيام إلى جوار بعض العوام، فتنفلت راتبة الفجر، ثم تناولت المصحف لأقرأ شيئاً من القرآن، فالتفت إلي وقال: لا يصح هذا، لابد إذا انتهيت من الصلاة تسلم على من يمينك، ثم تسلم على من شمالك، ثم ترفع يدك وتدعو بما تريد، ثم تقرأ، فقلت له: سبحان الله! هل تعلم دليلاً ورد في مشروعية سلام الإنسان إذا انتهى من النافلة على من يمينه أو على من شماله؟!
قال: لا، والله ما أدري، قلت: هل تعلم دليلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في مشروعية واستحباب رفع اليدين بعد صلاة النافلة؟!
قال: لا، والله ما أعلم، قلت له: لماذا تنكر إذاً؟!
فقال: علمني -جزاك الله خيراً- فأخبرته إن هذه الأشياء أقل ما يمكن أن نقول أنها ليست سنة ينكر على من تركها، أي هي مترددة بين أمرين، إما أن تكون مباحة، أو تكون غير مستحبة، وفى هذا الموضع بالذات، وإلا فأصل السلام مشروع، وأصل الدعاء مشروع، لكن التزام ذلك عَقِبَ صلاة النوافل فيه نظر، فلابد أن يكون المُنْكِر عالماً على الأقل بما ينكر وبما يأمر.
لم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام |
يا ليتك تترك هذا الأمر حتى يحصل لك -إن شاء الله- خير كثير، فتكون عادلاً في معرفة فضائله وعدم النسيان، وكذلك عادلاً لو ترتب على ذلك أمور أخرى، فلا تظلمه وتجور عليه، وأحياناً قد يترتب على الإنكار أن القضية تطول وقد تصل إلى المحاكم -أحياناً- لذا عليك أن تكون عادلاً بحيث تقول الحق ولو على نفسك.
فشد مروان يده من أبي سعيد وارتقى المنبر ثم خطب، فلما انتهى، قال له أبو سعيد: [[خالفت السنة]] أو قال له: [[غيرتم والله]] فقال: يا أبا سعيد: [[قد ترك ما تعلم]] ما تعهده وتخبره من كون الصلاة قبل الخطبة ترك، تركه الناس؛ لأن معاوية رضي الله عنه -أيضاً- قد خطب قبل الصلاة، [[فقال له: قد ترك ما تعلم، قال
وهذا دليل على أن الناس قد يصابون بنقص في أمور دينهم، فيجرهم النقص إلى نقص آخر، فغفلة الناس وإهمال المجتمع لاستماع الخطبة؛ جعل الله عز وجل يسلط عليهم ولاة يخطبون قبل الصلاة! لاحظ هذا يُصْدُق على ما ذكرت قبل قليل من العقوبات، فكون الناس لا يستمعون الخطبة، سلط الله عليهم بذلك أمراء يخطبون قبل الصلاة، كـمروان بن الحكم.
مرة أخرى قام مروان في أحد الأعياد، وجاء ليرتقي المنبر ويخطب، فقام إليه رجل -وهذه الرواية في صحيح مسلم عن طارق بن شهاب- وقال له: يا مروان [[خالفت السنة]] باسمه الصريح: يا مروان فقال له مروان: [[قد ترك ما هنالك]] قال أبو سعيد -معلقاً على الموقف-:
أما هذا فقد قضى ما عليه -قام بما يجب عليه- سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} ولذلك كان التغيير بالقلب واجباً على كل إنسان -بلا خلاف- (وذلك أضعف الإيمان)، لماذا أنكر هذا الرجل علناً؟
لعدة أسباب:
أولاً: لأن المنكر كان علانية، فمن أعلن بالمعصية أعلنّا له بالإنكار، ومن أسرّ بالمعصية، أسررنا له بالإنكار.
ثانياً: لأن هذا الرجل الذي أنكر على مروان، كان رجلاً -كما ذكر الإمام النووي- معتزاً بظهور قبيلته وقوته ونفوذه فما كان يخاف، أي له مكانة ووجاهة.
ثالثاً: لأن أبا سعيد -والله أعلم- سبق أن أنكر على مروان فأصر، وحينئذٍ استدعى الأمر أن يعلن له بالإنكار، إضافة إلى أسباب أخرى.
أعجب من هذا كله، أن ابن تيمية استطاع أن يكسب قلوب الناس، بصدقه ونصحه، وبذله الجهد حتى في مصالح الناس الدنيوية، كما قال الذهبي: أنه كان يتعب في خدمة الناس ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، بلسانه وقلمه، وجاهات، وإصلاح، وخدمة، ونفع، ودفع ظلم، وما يستطيع.
ولذلك كان له نفوذ كبير في نفوس الناس، هذا الأمر جعله يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على مستوى رفيع، ذهب إلى السلطان المملوكي في مصر، لما جاء التتار إلى بلاد المسلمين، وقد رأى أن سلطان مصر قد أبطأ في المجيء إلى الشام، فقال له: -انظروا الأسلوب الذي يتكلم به ابن تيمية-: إن كنتم قد أعرضتم عن الشام، وتركتموه فإننا -لاحظوا الضمير- نجعل له من يحوطه ويحميه في زمن الخوف ويستغله في زمن الأمن، ثم تلا قوله تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
فجاء السلطان إلى الشام، وكان من ضمن ما قال له -أيضاً- أنه قال: لو قُدر أنكم لستم حكام الشام، ولا ملوكه، واستنصركم أهله؛ وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وملوكه، لا يسعكم إلا الخروج، وجاء معهم فجاءوا وكان رضي الله عنه ورحمه يخرج مع الناس في المعارك، ويثبت قلوبهم بالوعظ والتذكير والآيات والأحاديث حتى انتصر المسلمون، وكان يقول لهم: إنكم منصورون، فيقولون له: يا إمام، قل: إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، وهكذا كان فعلاً.
والأمثلة والنماذج في هذا الباب كثيرة، أكتفي منها بما سبق وأرجو الله أن يجعلنا جميعاً من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والحافظين لحدود الله، والله تعالى أعلم.
الجواب: الحديث: صحيح، ولكن ظن السائل أنه متطابق مع الواقع، وهذا غير صحيح، وهذا الحديث يطول الكلام عنه، هذا بحد ذاته موضوع مستقل، لكن أشير إلى أن هناك قاعدة عامة: أن الناس إذا أرادوا تقويم واقع ما، أو الحديث عن هذا الواقع يتفاوتون، فبعض الناس يبالغ في التفاؤل، حتى لا يرى إلا الجانب المشرق، لا يرى إلا الأشياء الطيبة، وبعض الناس يبالغ في التشاؤم حتى لا يرى إلا الأشياء السيئة والرديئة، وبعضهم يضرب لهذا مثلاً، فيقول: إن اثنين أحدهما متفائل والآخر متشائم، عُرض أمام أعينهما كأس، نصفه ماء - فيه ماء إلى نصفه- فتجد المتشائم يقول: هذا الكأس نصفه فارغ، وتجد المتفائل يقول هذا الكأس نصفه ملآن، والحقيقة واحدة، والإنسان الثالث معتدل المزاج، ينظر نظرة متوازنة، فيقول: هذا الكأس نصفه فارغ ونصفه ملآن.
والمقصود بذلك أن من الناس من ينظر اليوم للمجتمع، فيقول: يا أخي! المجتمع ولى وأدبر وانتشرت المنكرات، ثم يذكر لك قصص شباب، وقصص انحراف جماعية وفردية وكذا، حتى تَسْوَدّ الدنيا في عينيك، ولا يهنأ الإنسان -أحياناً- بعيشه إذا سمع مثل هذه الأخبار.
وآخرون -إذا جلسوا- ذكروا لك قصص الخير والصلاح، وفلان اهتدى، وفلان استقام، والمدرسة الفلانية والمكان الفلاني، والمسجد الفلاني، وذكروا لك من قصص الدعاة والعلماء وطلاب العلم والمشايخ، ما يبهج النفس، وهذا موجود في العالم كله.
ولذلك أسأل السائل وغيره سؤالاً: إن الذي يدعو إلى الله عز وجل، هل يجد من يستجيب له أو لا يجد؟
لا أعتقد أن أحداً يقول: لا يجد، وهذا دليل على أنه ما وصلت القضية إلى إعجاب كل ذي رأي برأيه، بمعنى أن الضابط في ذلك؛ متى يُتْرك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
الآن ألسنا عرفنا وجوبه بالقرآن والسنة والأحاديث المحكمة الصريحة؟
بلى، ولكن متى نخرج عن هذا الوجوب المحكم الظاهر المستيقن؟
لا نخرج إلا بيقين -أيضاً- ومتى يحصل اليقين بأنه ليس عليك أن تأمر ولا تنهى؟
الجواب: وهو الضابط إذا صرت في حال تأمر فلا تطاع، وتنهى فلا تطاع، وعملت على ذلك بما تستطيع من الوسائل والأساليب والحيل، فما استجيب لك. حينئذٍ أنت في حِلٍ من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا متى يكون؟
كما أسلفت في أول الحديث: هذا لا يكون في مستوى الأمة كلها إلا قبيل قيام الساعة، وبعد قبض أرواح المؤمنين، لا يكون في الأمة كلها إلا في ذلك الوقت، فانتبهوا لهذا حتى لا تطيش الموازين في نفوسنا.
الجواب: هذه من المسائل التي اختصرتها لضيق الوقت، وهي: الفاسق أو العاصي أو الواقع في المنكر، أيحتسب ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أم لا؟
والجواب: نعم! حكمه كغيره من المسلمين، هذا القول الصحيح الذي عليه جماهير العلماء من السلف والخلف، أن الإنكار عليه واجب ولو كان واقعاً في المعصية، ولذلك يقول ابن عطية في كتابه المحرر الوجيز، يقول: الإجماع على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب لمن أطاقه وأمر بمعروف، وأمن الضرر على نفسه، وليس من شرط الآمر والناهي أن يسلم من جميع الذنوب والمعاصي، ثم قال: وقال بعض الأصوليين: حق على من يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضاً.
وقال بعض السلف -أظنه الحسن البصري-: لو لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر، إلا من كان سالماً من ذلك، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى أحد عن منكر، قال الإمام مالك -تعليقاً على هذا-: من ذا الذي ليس فيه شيء، من هو سالم من المنكرات والمعاصي؟!
والدليل على هذا أن تعلم أن الله أمرك بأربعة أشياء:-
فعل المعروف، والأمر به، وترك المنكر، والنهي عنه، والإخلال بواحد من هذه الأمور لا يبيح لك في شرع الله ودينه أن تخل بالآخر.
وهذه القضية ظاهرة، ولهذا يقول الله عز وجل عن بني إسرائيل بعد أن ذكر لعنهم قال: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة:79] أليس العتاب لهم الآن لأنهم لم ينتهوا عن المنكر الذي فعلوه؟! إذاً كان يجب عليهم أن يتناهوا عن المنكر وهم يفعلونه، كان يجب عليهم أن يتناهوا عن المنكر الذي فعلوه، وهذه قضية استغرب أن كثيراً من الناس حين يسمعونها يتعجبون منها، يا سبحان الله!، هل تقصيرك ووقوعك في المنكر يجيز لك أنك تقع في معصية أخرى وهي ترك النهي عنه، من قال هذا؟!
طبعاً بعض الناس قد يتمسكون بأدلة يفهمونها فهماً على غير وجهها، مثل لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2] ومثل أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة:44] ومثل حديث أسامة {في الرجل الذي يلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع إليه أهل النار، يقولون: يا فلان مالك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه
والجواب: أن هذه الأدلة فهمت على غير وجهها، فمعنى قوله تعالى: لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2] أن الإنسان لا يصح أن يقول ما لا يفعل، كأن يدعي شيئاً ليس فيه، فيقول: قاتلت، جاهدت، فعلت، وهو لم يفعل، فإن الله يمقت على الإنسان أن يدعي ما لا يفعل: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3].
أما الآية الأخرى في بني إسرائيل والحديث، فإن العقوبة ليست لأنهم أمروا بالبر أو لأن الرجل كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا!، إن عقوبة بنى إسرائيل لأنهم نسوا أنفسهم، فعذبوا لأنهم وقعوا في المنكرات، وعقوبة الرجل لأنه كان يأتي المنكر ويترك المعروف، إذاً: العقوبة ليس لأنه أمر ونهى، وإنما لأنه فعل المنكر وترك المعروف، فلينتبه لهذا.
وأضرب أمثلة تقرب الموضوع لكم: افترض أن والياً أو مسئولاً في جانب من جوانب الحياة، أو في مكان ما، يقع في بعض المعاصي، قد يشرب الخمر؛ فهل شربه للخمر يجعله يسمح للناس أن يشربوا الخمور في الشوارع، أو في بيوتهم، هل يقول أحد بهذا؟!
ما قال أحد من المسلمين بهذا -أبداً-!، فيجب عليه أن يمنع الناس وينكر عليهم، ولو كان في ذاته واقعاً فيها.
مثلاً: أب في بيته واقع في معصية، لنفترض التدخين -مثلاً- أو سماع الغناء، أليس واجباً عليه أن يمنع أبناءه؟
بل يجب عليه أن يقول لهم: يا أبنائي! أنا وقعت في هذا المنكر، وعسى الله أن يتوب عليَّ، وربما الخروج منه صعب بعد أن تورطت، ولكن أنتم ما دمتم بعيدين فانجوا بأنفسكم ولا تتورطوا في هذا الأمر، لكن يشترط ألا يكون على سبيل السخرية، أما أن يقوم أحد بإعطاء الآخر كأس الخمر، ويقول له: تفضل، اشرب ترى هذا حرام، هذا يسخر.
بل يلومون أنفسهم: إنما نحن مخطئون، عسى الله أن يتوب علينا، هذا لا شك في تحريمه، نحن مقرون بذنوبنا، وما أشبه ذلك، فهذا يكون إنكاراً بلطف على نفسه وعلى من حوله.
الجواب: الإنسان يدعو بالقدوة، وينظر إلى الدين على أنه كل لا يتجزأ، أعني أن الدين كله دين وكله شرع، وهو يريد أن يدعو الناس إليه أصولاً وفروعاً وواجبات وسنناً، ولذلك ظهور الإنسان أمام الناس بالمظهر المتبع للسنة، قد يكون نوعاً من الدعوة، لكن -أحياناً- بعض السنن تكون غريبة على بعض البيئات، أو بعض الأشخاص، وهو يريد أن يدعو هذا الإنسان أو ينكر عليه منكراً عظيماً، أو يأمره بمعروف عظيم تركه، ويرى أنه لو فعل أمامه هذه السنة، لترتب على ذلك فوات ما هو أعظم منها، فها هنا يدخل باباً واسعاً ومهماً للغاية، خاصة في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو باب المصالح والمفاسد، وهذا الباب له قواعد وأصول.
فمثلاً: يترتب على ذلك بعض المفسدة أن يترك سنة من السنن، وإن رأى أن هناك مفسدة أعظم ولا مصلحة أو المصلحة أقل، ترك هذه المصلحة القليلة تجنباً للوقوع في المفسدة، مثل: لو كان سيرتكب محرماً، وفى نفس الوقت قد يكون المنكر الذي سيغيره قد يكون أقل مما وقع فيه أو مثله أو أكثر لكن أمله في الإصلاح ضعيف، أما إذا تساوت المصلحة والمفسدة فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة -كما يقال- وتطبيق هذه المصلحة يختلف من شخص إلى آخر، وهناك ميدان رحب للاجتهاد، لكن الأصل أن الإنسان لا يرتكب محذوراً شرعياً.
الجواب: هذه المجلات الواردة من أنحاء الدنيا، والتي تعرض أمام ناظري المسلمة أزياء الفتاة البريطانية أو التايلاندية أو الفلبينية أوغيرهن من الكافرات، لا يسوغ لمسلمة أن تشتريها، ولا أن تقتنيها، ولا أن تتشبه بها أصلاً، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام حكم أن: {من تشبه بقوم فهو منهم} فأخذ الأزياء وتسريحات الشعر من المشركين والكفار واليهود والنصارى لا يجوز، وتقليدهم ومحاكاتهم في ذلك حرام، وكذلك يحرم على المسلم، صاحب المكتبة -مثلاً- بيع مثل هذه المجلات الهدامة، التي فيها مظاهر فاضحة، وصور عارية أو شبه عارية، وفيها إثارة للشباب وتحريك لغرائزهم.
الجواب: أولاً: قول الأخ السائل (رأي الشرع) أي هو بين أمرين، إما أن يسأل عن رأي المتحدث، رأي المتكلم فهو رأي، وأما أن يسأل عن حكم الشرع، لأن ما جاء في الشرع لا يعتبر رأياً، وإنما هو حكم، ثم المثال الذي ضربه الأخ لا ينطبق على السؤال، لأن السؤال عما إذا كان الأمر بالمعروف يأتي بالضرر الدنيوي، أما السؤال فهو عن فعل المعروف، ولذلك أترك السؤال وإن كان في ظني هو المقصود، وأجيب على الجزء الأول، وهو إذا كان الأمر بالمعروف يأتي بالضرر الدنيوي للإنسان.
فإذا كان الإنسان يخاف على نفسه، أو على ولده، أو على ماله، خوفاً يقرب من التحقق والوقوع، فله أن يترك هذا الاحتساب، خاصةً إذا لم يكن فرض عين عليه شخصياً، لكن كثيراً من الناس اليوم مبتلون بالجبن والهلع، فيظنون أن أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر يحدث لهم ذلك.
والواقع أنه لا يضيرهم شيئاً أن يأمروا أو ينهوا، وخاصة إذا كان الإنسان يأمر بالحكمة وبالكلمة الطيبة، أظن أنه في أي دولة من دول الدنيا، سواء في الدولة التي ينتمي إليها الأخ أو غيرها، حتى الدول الكافرة، حتى دول اليهود والدول النصرانية، إذا كان إنسان يتكلم بالكلام الطيب، وينكر المنكر بلسانه، فلا أحد يعترض عليه، يقول، يتكلم، لا يوجد مانع، صحيح أنهم لا يسمحون له أن ينكر بالقوة، وهذا معروف، أما أن ينكر بلسانه فهذا ممكن في معظم الأحيان.
الجواب: أولاً: سددوا وقاربوا، فالإنسان الحكيم يراعي أن يوفق بين التزامه بالشرع، وبين ما يقتضيه وجوده في المنـزل، فآخر الحلول أن يقال للإنسان: اخرج من بيتك، هذا آخر الحلول، لكن الأصل أن تبقى في منـزلك، وتحرص على أن لا توجد في الأوقات التي تكون المنكرات فيها موجودة، وإذا بقيت فلا تستجب لهذا المنكر، أي إذا سمعت منكراً بأذنك، وأنت لم تقصد سماعه ولم تصغ له، فلا عليك في هذا، من حيث السماع، لكن يأتي عليك واجب شرعي من حيث الإنكار، إنما أتكلم الآن عن موضوع موقف الشاب في بيته، هل يبقى مع وجود المنكر أو يخرج فيترك الأهل؟
لكن نأتي للنقطة الثانية: وهي أن يقوم الشاب بمسئوليته في بيته، في الإصلاح، في الدعوة، لا تبق سلبياً تأكل وتشرب وتنام في المنـزل فقط! ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125] حاول أن تؤثر في أهلك، في إخوانك، في أخواتك، وسبق أن ذكرت مراراً أن هناك حوادث كثيرة يعرفها الجميع، يتغير البيت كله بسبب واحد من الأولاد اهتدي، فأثر على أخيه الآخر، ثم على أخته، ثم على أخته الأخرى، ثم على الأم، ثم على الأب، ثم أخرج التلفاز، وسُفِّر السائق، وسُفِّرتْ الخادمة، وبقي البيت بيتاً نظيفاً، أُخرجت الأغاني، ودخلت الكتب والمجلات الإسلامية، الأشرطة المفيدة، وحلقات العلم والذكر، والسبب هو بتوفيق الله فرد واحد.
فليجعل الإنسان من مهمته إصلاح هذا البيت، وتغييره جذرياً، بتعيير نفوس أهله وتعريفهم بالمنكر والمعروف، وهذا أمر يحتاج إلى نوع من الصبر، والوقت، والأناة، وسعة البال، فإذا قدر أن الإنسان استفرغ وسعه في هذا الطريق ويئس، حينئذ ليس أمامه إلا الخروج -كما أسلفت- فليبحث مثلاً عن قرينة صالحة، ويستقل في بيت، ويبني هذا البيت بناء إسلامياً.
الجواب:أولاً: معرفة دوافع الإنسان أمر ليس متيسراً، حقيقة الدوافع التي تدفع الإنسان لأي عمل من الأعمال، فالإنسان الذي يراقب نفسه بدقة يستطيع أن يعرف دوافعه أحياناً، وأحياناً أخرى قد يكون عند الإنسان دوافع خفية لا يعرفها، على أي حال ربما يكون ما ذكره الأخ الآن نموذج لما أسلفت من أن الإنسان إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يمكن أن يبقى كذلك، بل ربما يتحول إلى استساغة المنكر، ثم إلى والعياذ بالله فعل المنكر وترك المعروف، وربما يتحول إلى الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وهذا كما يقع في شأن مجتمعات يقع في شأن الأفراد.
ولذلك على الأخ أن يأمر نفسه بالمعروف، يستدرك، ويصلح بيته، ويأمر من حوله بالأسلوب الحسن، بالكلمة الطيبة، بالموعظة، وبالرسالة أو بالاتصال الهاتفي أو بأي وسيلة، ولو لم يغير بالأساليب التي قد تكون جرت له مشاكل كما قال فيما مضى، حتى لا يكرر نفس المشكلات، وربما الإنسان يستهلك -أحياناً- في مجالات معينة، فمجالات خدمة الإسلام واسعة لا تنتهي عند حد.
الجواب: قبل هذا السؤال لابد من تحديد الجهة التي سوف تقوم بتنفيذ العقوبة.
الجواب: إذا كان الأمر مجرد اعتراف بتقصير علماء المسلمين فهذا حق، وما أظن أنه يختلف فيه اثنان، ولا ينتطح فيه عنـزان، علماء المسلمين مقصرون، خاصة خبراء الاقتصاد، بل إنه يمكن أن يقال: أين خبراء الاقتصاد الذين يجمعون بين العلم الشرعي الصحيح وبين المعرفة بالجوانب الاقتصادية المعاصرة، ووسائل الاستثمار وطرقه، أشياء كثيرة..، هؤلاء قلة وذلك أن الأمة الإسلامية بدأت تفيق.
ولذلك يلتفت الإنسان الواعي إلى كثير من الجوانب فيجد فيها نقصاً، ويجد فيها تقصيراً، هذا موجود، لكن لعل البوادر -إن شاء الله- تشير إلى أن هناك وعياً، ويكفي أن تلاحظ مثلاً واحداً: عدداً من البنوك -الآن- بدأت تطرح عمليات تجارية ومضاربات وغيرها، وتتحدث عن أنها ليست ربوية، وأنها وفق الشريعة الإسلامية، لماذا؟
لشعورهم بأن صاحب المال المسلم، أراد وبدأ يفكر ألا يستثمر ماله إلا في طريق الحلال، وهذه بداية جيدة تعني -والله أعلم- أن أي مشروع استثماري أو غيره إسلامي سينجح لإقبال الناس عليه، ويبقى دور خبراء الاقتصاد من المسلمين في مثل العمل الذي أشار إليه الأخ، وأسأل الله أن يوفقهم لذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر