إسلام ويب

شرح القواعد السبع من التدمرية [5]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • طريقة الكتاب والسنة في صفات الله تعالى هي: التفصيل في مقام الإثبات، والإجمال في مقام النفي، هذا هو اللائق بكمال الله تعالى في أسمائه وصفاته. وقد جاء في القرآن الكريم استخدام الأدلة العقلية في إبطال طرق المنحرفين الذين يصفون الله تعالى بالنقائص والعيوب.

    1.   

    الإثبات المفصل والنفي المجمل في باب الأسماء والصفات

    قال المصنف رحمه الله: [ والله سبحانه وتعالى بعث رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل ]

    قوله: (والله سبحانه وتعالى بعث رسله):

    وهذا من فقه المصنف أنه عبر بكلمة (الرسل)؛ لأن دينهم وأصولهم واحدة.

    وقوله: (بإثبات مفصل):

    أي: بإثباتٍ لصفاته وأسمائه على التفصيل.

    وقوله: (ونفي مجمل):

    الكلام المجمل: هو الكلام الكلي الذي لا يفصَّل على معانٍ، وهذا مشهود معروف في عرف الناس وذوقهم وفقههم، وإن عبروا عنه من جهة اللسان أو المنطق أو غيرها بأسماء مختلفة.

    وقول المصنف: (والله بعث رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل) لا يريد بذلك أنه لا يقع في القرآن إثبات مجمل ولا نفي مفصل، وإنما يريد هنا أن يبين أصل القاعدة عند أهل السنة المخالفة لقاعدة المخالفين لهم، وإلا فإنه قد جاء في القرآن إثبات مجمل في أسماء الله، كما في قوله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الأعراف:180] فهذا إثبات مجمل، حيث لم تذكر الأسماء في هذا السياق، نحو: السميع، أو البصير، أو العزيز، أو ما إلى ذلك.

    وقد جاء الإثبات المجمل في الصفات في القرآن كقوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60] أي: الوصف الأعلى، فهذا مجمل، حيث لم يذكر الله في الآية صفة الرضا، أو المحبة، أو العلم، أو القدرة، أو ما إلى ذلك من الصفات، إنما قال: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60]

    ويأتي النفي مفصلاً في القرآن أحياناً؛ كقول الله تعالى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49] وكقوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] فهذا نفي لصفة السِّنَة، وصفة النوم، وصفة الظلم، وهو نفي مفصل.

    إذاً: قول المصنف: (والله بعث رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل) هذا من حيث الأصل والقاعدة، فإن الغالب في كلام الله وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم هو ذكر التفصيل في مقام الإثبات، وذكر الإجمال في مقام النفي، وإلا فإن هذا يقع وهذا يقع، لكنه ليس هو الأصل.

    النفي المفصل يتضمن الإثبات

    وكل نفي مفصل في القرآن فإنه يتضمن أمراً ثبوتياً؛ فلما نفى الله عن نفسه الظلم دل ذلك على إثبات العدل، ولما نفى عن نفسه السنة والنوم دل ذلك على كمال حياته وقيوميته؛ ولذلك فإن الله تعالى في كتابه الكريم لا يبتدئ بذكر النفي المفصل في أوائل الآيات، إنما الذي يُبتدأ به هي صفات الإثبات، ولذلك لما قال الله تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] قال سبحانه بعد ذلك: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] من باب تحقيق كمال حياته وقيوميته، ولذكر كمال عدله قال الله سبحانه وتعالى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49] فكان نفي الظلم يتضمن كمال العدل، ولذلك هذا النفي المفصل يقال: إنه يتضمن أمراً ثبوتياً وهو كمال الضد، ويقال:إنه إذا ذكر في حق الله -أعني: النفي المفصل- يذكر في مثل سياقه، وهذا هو المناسب له.

    قال المصنف رحمه الله: [ فأثبتوا له الصفات على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل ].

    قوله: (من التشبيه والتمثيل) هذا جمع حسن.

    قال المصنف رحمه الله: [ كما قال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65] قال أهل اللغة: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65] أي: نظيراً يستحق مثل اسمه، ويقال: مسامياً يساميه، وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس : هل تعلم له مِثْلاً أو شبيهاً ].

    هذا معناه واحد، سواء قيل: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65] أي: شبيهاً، أو مثيلاً، أو نظيراً، أو ما إلى ذلك.

    1.   

    استخدام القرآن للأدلة العقلية لإبطال طرق المنحرفين

    قال المصنف رحمه الله: [وقال تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:3-4] وقال تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] وقال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165] وقال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنعام:100-101] ].

    تأمل هذه الآيات تجد أن سياقها عقلي، يرد فيها الله سبحانه وتعالى ويبطل طرق المنحرفين عن الفطرة، وعن آثار الرسل ودينهم، في مثل قول الله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ [الأنعام:100] أي: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقهم، ومع ذلك جعلوا له هؤلاء الشركاء؛ ولذلك تجد في سياق الآيات كقوله تعالى: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:101] أن هذا المعنى من الإثبات يُقصد به بيان الامتناع، فإذا تأملت هذه الآية في ذكر إبطال ما ذكره المشركون من الشركاء من الجن، أو من الولد، أو غير ذلك مما لا يليق به سبحانه وتعالى، ولا بتوحيده، وربوبيته، وألوهيته، وعبادته، تجد أنه يستعمل في القرآن مبنياً على إثبات حقائق فطرية عقلية تكون مانعةً من هذا الطارئ الذي ادعاه المخالفون.

    فالله سبحانه وتعالى هو بديع السماوات والأرض، وهذا من الحقائق الفطرية العقلية الضرورية.

    ولذلك فإن الله ذكر في سياق الآية قوله تعالى: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:101] أي: لما كان سبحانه وتعالى هو بديع السماوات والأرض؛ امتنع أن يكون له شريك في الملك، أو أن يكون له ولد، أو نحو ذلك؛ ولذلك قال: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ [الأنعام:101] أي: يمتنع أن يكون له ولد وهو بديع السماوات والأرض.

    فهذه الطرق النبوية القرآنية في الرد على المخالفين للرسل عليهم الصلاة والسلام هي الطرق الصحيحة، وهي طرق عقلية، وبذلك يقضى على هذه الشُّبَه والطارئات بما هو من اليقينيات الضروريات.

    وهنا قاعدة شرعية وهي: (أن كل من ادعى غلطاً أو نقصاً فيما جاءت به الرسل، فلا بد أن في دين الرسل من اليقينيات والضروريات ما يدفع هذا الإشكال)، فمن ادعى نقصاً في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أو في حديث أو حرف من كلامه؛ فإنه يراجَع في أصل الإيمان بالنبوة، فإذا أقر أنه نبي وآمن بحقيقة النبوة؛ فإن حقيقة النبوة وحقيقة الرسالة معناها أنه لا ينطق عن الهوى.

    ولذلك إذا جاء شخص مثلاً متأثر بالغرب، أو مائل إلى شيء من طرقهم، أو منحرف عن الصواب، وأراد أن يجادل في بعض الحقائق الشرعية، فالإغلاق معه أن يُسأل: هل تقر بأن هذا شرعي أم ليس شرعياً؟

    أما أن يؤخذ معه على التفصيل فإن هذا قد لا يحيط به أحد؛ لأن الحكم الإلهية لم تفصِّل للعباد، والله تعالى لم يذكر لعباده سائر الحكم؛ بل ذكر جملة منها.

    قال المصنف رحمه الله: [ وقال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الفرقان:1-2] وقال تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُونَ [الصافات:149] ].

    هذا امتناع عقلي، وهذا من التنزيه لله سبحانه وتعالى؛ أنه يمتنع أن يكون له شيء من البنات، وكيف يجعل المشركون له البنات ولهم البنون؟! إلى غير ذلك.

    وقوله تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ [الصافات:149-150] هذا دليل عقلي بسيط يرد الله به زعم المشركين أن الملائكة إناث، فرد الله عليهم بقوله: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ [الصافات:150] أي: هم لم يشاهدوا ذلك، فكيف يقولون: إنهم إناث أو ليسوا إناثاً؟! فإن من بسائط وضروريات العقل أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فهم لم يشاهدوا خلق الملائكة، فكيف حكموا بأن الملائكة إناث؟!

    أقوال المشركين الباطلة المذكورة في القرآن على وجهين

    قوله: [ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الصافات:151-157] ].

    بيَّن الله سبحانه أنه ليس لهم سلطان ولا حجة، وإنما قولهم من باب الإفك، والله تعالى إذا ذكر ما تقوله الأمم المشركة فإن ما يذكره عنهم على أحد وجهين:

    الوجه الأول: أن يكون من باب الإفك، وهو الشيء الذي يقولونه وليس عندهم مادة تدل عليه، فهذا يسميه الله تعالى في كتابه إفكاً، وهو القول الذي يقولونه وهو مجرد عن أدنى مواد الاستدلال، كقولهم: الملائكة إناث، مع أنهم لم يشهدوا خلقهم.

    الوجه الثاني: أن يأتي ما يذكره هؤلاء في القرآن ويسمى ظناً، وهو المذكور في مثل قول الله تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ [الأنعام:116]

    والغالب في المسائل الخبرية أن القرآن يسمي ما يقولونه: إفكاً، وإذا عارضوا في مقام التشريع يسمى ما يزعمونه ويعترضون به: ظناً، وهذا هو اللائق في المقامين، فإن المسائل الخبرية تدور على التصديق والتكذيب؛ ولذلك فإنهم إذا اخترعوا قولاً فإنه يسمى إفكاً وكذباً.

    طريقة القرآن في الرد على المخالفين

    وقوله: [ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:158-160] إلى قوله: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182] ].

    هذه سياقات تامة ومحكمة، وهي آيات الله وكلماته سبحانه وتعالى، وفيها التحقيق لوحدانيته والدفع لسائر ما اعترض به المخالفون.

    وهذه الآيات فيها عبرة من جهة تفصيلها ومن جهة كليتها، فالعبرة الكلية فيها أن يقال: إن طريقة القرآن في الرد على المخالفين للرسل عليهم الصلاة والسلام هي رد المختلف فيه إلى المجمع عليه؛ فإن الحقائق -وحتى الحقائق الشرعية- قد تكون متفقاً عليها، وقد يقع في شيء من المسائل الشرعية ما يكون مختلفاً فيه، والفقهاء إذا نظروا في مسائل الفقه -فضلاً عن مسائل الرد على المخالفين- فإنهم يردون المسألة التي فيها نزاع إلى الأصول المتفق عليها في بابها.

    والحكم على المختلف يكون على ضوء القاعدة العقلية وهي: الحكم على المختلف بالمؤتلف، حتى لو خالف المخالف بالهوى، أو بالظن، أو بالإفك، وما إلى ذلك؛ فهؤلاء المشركون مع أنهم كذبوا، كما قال الله عنهم: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ [الصافات:151] ومع ذلك أبطل الله سبحانه وتعالى ما يذكرونه من هذا الذي يزعمونه مختلفاً مشتبهاً، أبطله الله سبحانه وتعالى بما هو عندهم من المؤتلف، فإن المشركين من المؤتلف عندهم والمستقر عندهم أن الله بديع السماوات والأرض..

    وهكذا إذا ناظرت أحداً ولو لم يكن من المخالفين لأهل السنة والجماعة؛ بل حتى في المسائل الفقهية، فإذا اختلفتَ أنت وآخر، أو قرأت في مسألة فقهية؛ تجد أن هذه المسألة الفقهية لها أصول في بابها، فترد المسألة المتنازَع فيها إلى أصول هذا الباب، فتقول: أنا أتمسك بهذا الأصل في هذا الباب، إلا أن يأتي دليل يخرج المسألة عن هذا الأصل.

    مثال ذلك: إذا اختلفتَ أنت وآخر في زكاة حلي النساء -ومن المعلوم أن بين الفقهاء خلافاً في هذه المسألة، وأن الأئمة الثلاثة لا يرون وجوب الزكاة فيها خلافاً لـأبي حنيفة رحمه الله- فلك أن تقول: إن قاعدة الشريعة في باب الزكاة: (أن أموال القنية والارتفاق ليس فيها زكاة)، فالإنسان ليس عليه في لباسه، ولا في سيارته، ولا في مسكنه زكاة، حتى لو سكن الإنسان بيتاً بمليون ريال أو أكثر فليس عليه فيه زكاة.

    وهذا الحلي الذي تستعمله النساء وتلبسه هو من قنيتها وارتفاقها، فمقتضى القاعدة في باب الزكاة أن مال القنية والارتفاق لا زكاة فيه؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة) .

    فتقول أنتَ: أنا أتمسك بهذا الأصل، إلا أن يأتي دليل يدل على أن حلي النساء يُستثنى من هذا الأصل، فتكون قد رددت المختلف فيه بين العلماء إلى المؤتلِف. فهذا منهج حسن في التفقه، وهو مستعمل في القرآن في تقرير الحقائق الشرعية، أو في الرد على المخالفين.

    1.   

    عامة الأمم لم يصفوا الله بالنقائص المطلقة

    قال المصنف رحمه الله: [ فسبح نفسه عما يصفه المفترون المشركون]

    عامة الأمم لم يصفوا الله بالنقائص المطلقة؛ بل كانوا مقرين بأن الله هو رب العالمين، وأنه بديع السماوات والأرض، ويقرون بأصل الربوبية إقراراً مجملاً، لكن عرضت لهم بعض المقامات من جنس ما ذكره الله عنهم في القرآن، والأمم التي غلب عليها مقام النقص في حق الباري سبحانه هم اليهود، فإن الله قد ذكر عنهم من تنقيصه سبحانه وتعالى ما هو معروف، وهذا مذكور في كتاب الله سبحانه وتعالى في مثل قوله تعالى: وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30] وقوله: وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [المائدة:64] وغير ذلك.

    قال المصنف رحمه الله: [ وسلم على المرسلين؛ لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك، وحمد نفسه إذ هو سبحانه المستحق للحمد بما له من الأسماء والصفات وبديع المخلوقات ].

    من طرق استدلال الأئمة على إثبات صفات الله: أن العرب في جاهليتها لما نزل القرآن تكلفوا في دفع ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل:103] وقالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه ساحر، وكاهن، وغير ذلك، ومع ذلك لما نزل القرآن وفيه ذكر للأسماء والصفات لم يعترض أحد من المشركين ويقول: إن هذا مخالف للعقل؛ فدل ذلك على أن باب استحقاق الباري لصفات الكمال، وأن تنزيهه سبحانه عن صفات النقص باب فطري من حيث الأصل، ولكن الشريعة فصلته؛ ولذلك لم يعترض عليه مشركو العرب.

    فإن قيل: إن المشركين تكلموا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية لـعلي رضي الله عنه: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل بن عمرو : أما الرحمن فلا أدري ما هو) .

    فالجواب: أن هذا لا يدل على أنهم كانوا ينفون الأسماء، إنما كان بعض العرب من الجاهليين يقف في هذا الاسم، أو لا يعرف هذا الاسم فينفيه، وهذا لا يدل على أنهم ينفون سائر الأسماء؛ بل كان من الجاهليين من يتسمى بعبد الرحمن، كـعبد الرحمن الفزاري الذي قتله أبو قتادة الأنصاري في غزوة ذي قَرَد، وقد كان هذا الأمر مألوفاً معروفاً في بعض بوادي العرب ومناطقهم.

    فالمقصود: أن كون العرب لما نزل عليم القرآن لم يطعنوا في الأسماء والصفات بحجة المخالفة للعقل، هذا يدل على أن هذه السياقات موافقة للعقل والفطرة، ولو كانت مخالفة لعقولهم أو فطرهم لكان اعتراضهم عليها بالعقل أولى من قولهم عن الرسول قولاً يعلمون سقوطه، وهو قولهم: إنه ساحر، أو كاهن.

    فيقول المصنف: إن الآيات السالفة هي من النفي المجمل، مع أنك إذا قرأت السياق وجدت فيه نفياً مفصلاً، وهذا ليس من باب أنها مقصورة على النفي المجمل، إنما أراد المصنف أن فيها تنزيهاً مجملاً، وإن كان فيها تنزيه مفصل، فالتنزيه المجمل في مثل ذكره سبحانه وتعالى لتنزيهه عن الولد، حيث بيَّن سبحانه وتعالى أنه منزه عن الولد وعن كل ما لا يليق به، وهذا معتبر بمراعاة السياق، ومراعاة سياق القرآن فيه حكمة شرعية لازمة لتحصيل المعاني.

    ولذلك نقول: إن هذه السياقات لا تُسْتَشكل فيقال: كيف قال المصنف: إنها دلت على النفي المجمل وفيها نفي مفصل؟ وذلك لأن فيها نفياً مفصلاً، ونفياً مجملاً، وكل نفي مفصل فإنه يُذكر في مقام رده على جهة التنزيه المطلقة المتضمنة لتنزيهه سبحانه عن هذا النقص المذكور، وعن غيره.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765796135