إن رحمة الله تعالى لعبيده ببعثه هذا النبي المختار تتجلى في الدنيا وفي الآخرة، فأما رحمته تعالى لنا وللبشرية كلها في الدنيا ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فهي أن منَّ علينا بهذا الدين الذي ينظم جميع شئون دنيانا، سواء في علاقتنا بعضنا ببعض، أو علاقتنا بغيرنا، أو في علاقة الفرد بالمجتمع، أو في علاقة المجتمع بالمجتمعات الأخرى، كما منَّ علينا سبحانه بأن بعث هذا النبي المختار صلى الله عليه وسلم يحمل الدين والإيمان الذي من تمسك به يشعر بالطمأنينة والسعادة، كما وعد سبحانه حينما أهبط أبانا آدم إلى الأرض وأمنا حواء، فقال سبحانه: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123] وتوعد من أعرض عن هذه الهداية بالمعيشة الضنك في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة، فقال: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:123-127] وواعد سبحانه المؤمنين ذكراناً كانوا أو إناثاً أنه سيهبهم الحياة السعيدة في الدنيا فقال: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195] وفي الآية الأخرى: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97].
أيها إلاخوة: إن كثيراً من النعم لا يدركها ولا يعرف قيمتها إلا من فقدها، ولو نظرنا إلى ما يتمتع به مجتمعنا -والحمد لله- من الاطمئنان والسكينة والهدوء، وقسنا ذلك بما تعانيه الأمم الأخرى، لأدركنا عظيم نعمة الله علينا بالإيمان، هذا ونحن مقصرون ومفرطون، فكيف لو استمسكنا بعروة الله الوثقى؟! وحققنا مدلول الإيمان الحقيقي؟! إذاً لعشنا عيشة كما قال عنها بعض السلف: [[ لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف ]] إنكم تسمعون بين الفينة والفينة، بل تسمعون في اليوم الواحد أخباراً عديدة عن البلاد الأوروبية وغيرها، في أوروبا أو أمريكا أو روسيا أو سواها من بلاد العالم، التي تعيش في الجاهلية الجهلاء، والتي لم تستظل بظل الإسلام، ولم تستنر بنوره، ولم تقتبس من هدي محمد صلى الله عليه وسلم، تسمعون في اليوم الواحد أخباراً عديدة عن المآسي والمصاعب التي يعانونها، ويكفي أنهم يصدرون إحصائيات انتحار بالدقيقة أو ربما بما دون ذلك أحياناً....!
إن أي واحد منهم -نظراً لخواء قلبه وفراغ روحه وعدم شعوره بالهدف الذي خلق من أجله- يضيق من الحياة، ويتبرم منها لأدنى مشكلة يمكن أن تعرض له، وهذا وحده يكفي لنعرف عظيم نعمة الإيمان.
إن إيمان الإنسان بالله، وإيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم وإخوانه المرسلين، وإيمانه بالقضاء والقدر، لهو نعمة كبرى، تتجلى في الدنيا أولاً، وإذا كان هذا شيء منها فإن السعادة العظمى للمؤمن هي في الآخرة: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم:43].
فدعونا أيها الإخوة نتأمل قليلاً في معاني الكلمات التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من ينادي بها في الناس، إنه لم يأمر بالنداء بها إلا لأنها من القضايا التي يجب أن يعلمها العام والخاص، والصغير والكبير، والجديد والقديم في إسلامه.
القضية الأولى: أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، فمهما عمل الإنسان من الأعمال بدون إيمان بالله، فإن هذه الأعمال لا تقربه إلى الله، بل تبعده عن الله، ولا تدخله الجنة، بل تزيد من توغله في دركات النار!
انظروا -مثلاً- إلى المنافقين لقد كانوا يصلون مع الرسول صلى الله عليه وسلم ويحجون ويصومون، بل ويجاهدون معه صلى الله عليه وسلم! ومنهم من يقتل في المعركة، ومع ذلك لم تزدهم هذه الأعمال قربة من الله ولا قربة من الجنة، بل حكم الله عز وجل عليهم بأنهم أحط درجة في النار من الكفار أنفسهم ومن المشركين: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145] فالكافر الحقيقي والمشرك الحقيقي هو في النار فوق المنافقين، فأعمال المنافقين التي ظاهرها أنها أعمال صالحة لم تزدهم إلا انحطاطاً وسفولاً في دركات جهنم والعياذ بالله لماذا؟ لأنها فقدت الجذر التي تمتد به في الأرض، فقدت الأصل الذي تنتسب إليه فصارت أعمالاً حابطة لا قيمة لها، فقدت الإيمان بالله.
وانظروا إلى قوله تعالى في شأن المرائين: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4] هو مصلٍ، ولذلك يتوعد بالويل وهو العذاب؛ ليس لأنه مصلٍ ولكن لأنه كما قال تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:5-7].
إذاً هذا المصلي الذي تجشم المتاعب، وقد يكون قام لصلاة الفجر -مثلاً- واغتسل بالماء البارد، ومشى في الجو البارد، وصلى مع الناس، تجشم كل هذه المتاعب، ومع ذلك كان جزاؤه أن يتوعده الله عز وجل بالويل وهو العذاب، لأنه فقد الأصل -الإيمان- الذي تنسب إليه هذه الأعمال وتكون به أعمالاً صالحة.
فالمنافقون والمراءون لم تزدهم أعمالهم -التي قصدوا بها ما عند الناس- من الله إلا بعداً، ويوم القيامة يقول الله تبارك وتعالى لهم بعد أن يثيب المؤمنين: {اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء} وفي الحديث القدسي الصحيح يقول الله تبارك وتعالى: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه} وفي لفظ: {فهو للذي أشرك وأنا منه بريء} فكل عمل عمله الإنسان قصد فيه غير وجه الله، أو قصد فيه وجه الله مع أمرٍ آخر، فإن هذا العمل يكون حابطاً وهباءً منثوراً..! لا... بل لا يخرج الإنسان منه كفافاً لا له ولا عليه، بل إنه في موازين سيئاته يوم القيامة.
وهنا قد يقول قائل: إننا نجد كثيراً من الناس يقومون بأعمال صالحة تنفع الناس في الدنيا، فهذا فاجر -مثلاً- يتصدق وينفق الأموال الطائلة، ويحسن إلى اليتامى والمساكين، ويساعد المسلمين والمجاهدين وغيرهم فهل تقولون: إنَّ عمله حابط، وأنه هباء منثور، فأقول الجواب: نعم بدون تردد! إن كان قصده من هذا العمل أن يُمدح، أو يُثنى عليه، أو يُقال: إنه جواد أو إنه كريم، فإن عمله حابط، ويقلب عليه سيئات يوم القيامة، فيقول قائل: إذا كان الله لا يظلم أحداً ولا يضيع عنده شيء، ألا يجازي هذا الإنسان ولو بعض الجزاء؟!
فأقول: بلى.. إن الله لا يضيع عنده شيء مهما دق، وقد سمعتم: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة:7] مثقال ذرة، يعني الهباءة الصغيرة التي ترى في الشمس، أو الذرة النملة الصغيرة مثقال ذرة: لا يضيع عند الله خيراً أو شراً: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8] هؤلاء الذين ينفقون ويتصدقون من أجل أن يقال: إنهم أجواد كرماء، يجزيهم الله -تعالى- عن أعمالهم بالثناء الحسن في الدنيا، فيكتب اسمه في الجريدة -مثلاً- ويكتب اسمه في الإعلانات، (إن فلان بن فلان تصدق) فهذا جزاؤه من عمله؛ لأنه قصد هذا، فجازاه الله بأن كتب له ثناءً حسناً عند الناس أن فلاناً قد تصدق، وهذا هو كل حظه مما أنفق، ومثل الإنسان الذي يصلي من أجل أن يمدح ومن أجل أن يقال: إنه يصلي، فهذا جزاؤه في الدنيا عاجل غير آجل، أن يتكلم الناس عنه فيقولون: (فلان رجل صالح محافظ على الصلاة) هذا أجره وهذا جزاؤه، أما يوم القيامة فقد أخبرنا الله -جل وعلا- أن أعماله حابطة لا قيمة لها البتة، بل هي عليه -كما ذكرت -سيئات..!
إذاً: لا بد من الشرط الأول: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر:3] قبل أن يعملوا الصالحات لا بد أن يؤمنوا، فإذا آمنوا بنوا على هذا الأصل البناء وهو العمل الصالح: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3] انظر إلى هذا الرجل الذي ذكرت لكم شأنه، إنه مقاتل لا يدع شاذةً ولا فاذة، وقد أبلى البلاء الحسن حتى جرح جرحاً بليغاً في المعركة، وهذا أغلى ما يملك، ولذلك يمدح الشاعر رجلاً فيقول:
يجود بالنفس إن ظن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود |
فيمدح رجلاً بأنه يجود بنفسه، وأغنى ما يملكه الإنسان هو نفسه، إذاً أغلى وأقوى عمل يمكن أن يعمله الإنسان هو الجهاد في سبيل الله في المعركة، قتال الكفار، ومع أن ذلك الرجل الذي قاتل قتالاً مستميتاً يكون جزاؤه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتوعده بالنار، لماذا؟ لأن الأصل الذي يقوم عليه هذا العمل مفقود، وهو الإيمان، فيأمر صلى الله عليه وسلم من ينادي: {إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة} وهنا قبل أن أغادر هذه النقطة إلى النقطة الثانية، أذكركم بالحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وهذا الحديث يجب أن نخاف إذا سمعناه.
أولاً: قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] وأما الدليل الخاص في هذه المسألة فهو ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الطفيل بن عمرو الدوسي هاجر هو ورجل من قومه إلى المدينة، فكأن هذا الرجل المرافق للطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه لما سكن المدينة اجتواها واستوخمها، وأصابه شيء من حمَّاها، فضاق به المقام فيها، فقام هذا الرجل إلى مشاقص كانت عنده- وهي السهام العريضة - فقطع بها براجمة -والبراجم هي: المفاصل في كل أصبع- فصار دمه ينـزف حتى مات، فلما نام الطفيل بن عمرو في تلك الليلة رآه في المنام في هيئة حسنة، وقد غطى يديه بثوبه، انظروا إلى هذا العجب هذه الرؤية العجيبة؛ رآه في المنام في هيئة حسنة وقد غطى يديه بثوبه، فقال: ما صنع الله بك؟ قال غفر الله لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم قال: فما شأن يديك؟ لماذا أنت مغطٍ يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت من نفسك، فلما أصبح الطفيل، قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقص عليه هذه الرؤيا العجيبة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {اللهم وليديه فاغفر} فالشاهد من هذا الحديث أولا: هذه الرؤيا وهي رؤيا حق، وقد رأى الطفيل هذا الرجل في هيئة حسنة مع أنه قتل نفسه، وقد يقول قائل: إن الرؤيا لا يثبت بها حكم شرعي، وهذا صحيح.
الرؤيا لا يثبت بها حكم شرعي، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر هذه الرؤيا حين سمعها، بل وزاد عليها أنه دعا لذلك الرجل بالمغفرة، فقال: {وليديه فاغفر} الشاهد من ذلك: أن قاتل نفسه لا يُحكم عليه بالردة عن الإسلام فيما أعلم، بل هو كمن قتل غيره من المسلمين يُحكم عليه بأنه ارتكب جرماً عظيماً وموبقة من الموبقات وكبيرة من كبائر الذنوب، وإن استحل هذا العمل فهو كافر، أما إن فعل وندم على ما فعل قبل أن تخرج روحه، فهذه والله أعلم نوع من التوبة ويرجى لمثله أن يتوب الله عليه، وإن عذبه فمصيره -إن شاء الله- إلى المغفرة.
فيحتمل أن يكون هذا الرجل الذي قتل نفسه في معركة خيبر ليس كافراً، وإنما هو مسلم غلبته الجراح فقتل نفسه، فحكم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه في النار، يعني أنه سيعذب في النار بهذه الخطيئة التي ارتكبها، ولا يلزم من ذلك أن يكون خالداً مخلداً في نار جهنم خلود الكفار والمشركين هذا فيما يتعلق بالرواية الأولى وهي قوله صلى الله عليه وسلم: {إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة وإن الله يعز هذا الدين بالرجل الفاجر}.
الاحتمال الأول: أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة، أن المقصود أن العبد قد يعمل الخير فيسبق عليه ما كتب عليه في القدر، فيتحول إلى المعاصي والعياذ بالله فيختم له بالسوء، وكان السلف يخافون من سوء الخاتمة.
والرجل الذي يعمل الموبقات والخطايا، ثم يفتح الله عليه قبل أن يموت فيعمل الصالحات فيدخل بها الجنة، ويكون المعنى: أن هذا الرجل عمل صالحاً ثم ختم له بأن انتحر والعياذ بالله كما هو واضح في سياق القصة.
الاحتمال الثاني في معنى هذا الحديث: أن يكون الرجل يعمل في الظاهر بالطاعات، وهو في الحقيقة على النقيض من ذلك، أو يعمل في الظاهر بالمعاصي وحقيقته على الضد من ذلك، وأمر الطاعات واضح ومعروف للجميع، أن يكون الرجل كما ذكرنا منافقاً أو مرائياً، يتظاهر بالأعمال الصالحة من أجل الناس، فهذا يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو في الحقيقة من أهل النار.
وقد يقول قائل: كيف يغفر لهذا الرجل مع أنه أنكر قدرة الله عز وجل؟ فأقول: إنه كان جاهلاً، وممن يعذر بجهله كما هو في القصة، فكان ليس قادراً على أن يتعلم، ولا يجد من يعلمه، ويجهل أن الله عز وجل قادر على بعثه وإحيائه بعد موته بعد ما يسحق ويحرق ويذر في يوم شديد الريح، فغفر الله له؛ ليس لأنه عمل أعمالاً بجوارحه، ولكن لأنه عمل عملاً بقلبه، وما هذا العمل الذي عمله بقلبه فاستحق به المغفرة؟ إنه الخوف من الله، وأعمال القلوب.
أيها الإخوة: لا تقل أهمية عن أعمال الجوارح، انظروا -مثلاً- إلى رجلين الأول منهما: رجلٌ مصلٍ، صائم، عابد، مزكٍ، كثير الصدقات، وأعمال البر، ولكن فيه عيباً واحداً هو أنه معجب بعمله، مغتر بما فعل، مغرور بذلك، هذا الأول، عمله فيما يبدو للناس من أحسن الأعمال، ولكن عنده هذه العقدة وهي: الغرور بعمله، والإعجاب والإدلاء على الله بنعمه، وآخر مسرف على نفسه، واقع في المعاصي، ولكنه مسلم مصلٍ وعنده في قلبه شعور شديد بالندم والخطيئة، والخوف من الله، والذم للنفس، والتوبيح لها، فأيهما أقرب إلى الله زلفى -ماذا ترون- الذي يظهر أن الثاني أقرب إلى الله زلفى؛ لأنه مسلم، عَمَلُ قلبه من الخوف والانكسار يقربه إلى الله، أما ذلك الإنسان العامل بالطاعات في الظاهر، فربما يكون هذا العجب والغرور محبطاً لعمله والعياذ بالله ولذلك في الصحيح { أن رجلين من بني إسرائيل أحدهما مسرف على نفسه بالمعاصي، والآخر عابد فكان هذا العابد يقول للمسرف: يا فلان اتق الله ودع ما تصنع وينهاه عن فعله حتى مل منه فقال:(والله لا يغفر الله لفلان) فغفر الله له، وأحبط عمله } غفر الله للعاصي المنكسر القريب من الله المخبت الذي يوبخه ضميره، وأحبط عمل العابد المغتر بما فعل المتألي على الله؛ لأن عملك -أيها الإنسان- مهما كان... افترض أن حياتك مضت في سجود وركوع، كل ما هو عندك فهو من عند الله فسجودك منة، وقدرتك على العبادة وتوفيقك في العبادة هو منة من الله، ولذلك يقول بعض الشعراء:
إذا كان شكري نعمـة الله نعمة عليَّ له في مثلها يجب الشكر |
فكيف أقوم الدهر في بعض حقه وإن طـالت الأيـام واتصل العمر |
إذا كان شكرك للنعمة هو نفسه نعمة؛ لأن الله وفقك للشكر، فبذلك ستجد نفسك في نِِعم تتجدد، وكلما شكرت نعمة كان الشكر نعمة تستحق الشكر، وهكذا تطول الأيام ويتصل العمر وأنت لم تؤد ولا بعض حق الله عليك، ولكن الله تبارك وتعالى يرضي منّا باليسير: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].
عمل القلب: وهو أولها وأوله الإيمان كما ذكرت، والنية الصالحة، والتوجه إلى الله.
وثانيها: عمل اللسان، وهو أن ينطق الإنسان بلسانه بالشهادتين أولاً وهو المعبر لدخول الجنة، ثم أعمال اللسان من الذكر والدعاء والتسبيح وغيره.
وثالثها: هو عمل بقية الجوارح من صلاة وصيام وزكاة وحج وأمرٍ بالمعروف ونهيٍ عن المنكر وغير ذلك، وإذا فقد أحد هذه الأشياء الثلاثة، لم ينفع الباقي، إن فقد أمر منها بالكلية فالباقي لا قيمة له، فإن فُقِد عمل القلب تماماً فالباقي لا قيمة له، وإن فقد عمل اللسان فالباقي لا قيمة له، وإن فقد عمل الجوراح، فالباقي لا قيمة له، فلو أن إنساناً قال لنا- حين نأمره بالصلاة أو غيرها من أعمال الخير- التقوى هاهنا، كما يقول بعض المضللين والجهال: التقوى هاهنا، لا أحتاج أن أعمل صالحاً؛ لأن قلبي نظيف.
نقول له: إن كنت مسلماً فاعلم أن الإسلام ثلاثة أشياء: عمل القلب واللسان والجوارح، التقوى هاهنا، هاهنا أصل التقوى، ولكن التقوى تظهر على الجوارح، ومن المستحيل أن توجد ذرة من تقوى أو إيمان في القلب ولا يظهر لها أثر على جوارح الإنسان، فلا بد من الثلاثة.
وقد صح أن رجلين من اليهود أتيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهما حَبْران من أحبارهما، فقالا: يا محمد -ونقول صلى الله عليه وسلم- إننا نريد أن نسألك عن مسائل لا يعلمها في الدنيا إلا نبي أو رجل أو رجلان، فقال صلى الله عليه وسلم: أينفعكم إن أخبرتكم؟ أصل الأصل الذي نتحدث عنه ليس المهم أن يعلم الإنسان فقط، بل لا بد أن يعتقد وينطق ويعمل، أينفعكم إن أخبرتكم؟ فقالا له: نسمع بآذاننا -أشاروا إلى أنهم لن ينتفعوا بذلك، ولكنهم سيسمعون، فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه المسائل- منها: ما أول طعام أهل الجنة؟ فقال لهم صلى الله عليه وسلم: زيادة كبد الحوت، ثم سألوه سؤالاً آخراً: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ فقال لهم صلى الله عليه وسلم: على الصراط، ثم سألوه: ما الذي يجعل الولد ذكراً أو أنثى؟ وفي بعض الروايات ما الذي يجعل الشبه ينـزع إلى أخواله أو إلى أعمامه، أو إلى أبيه أو إلى أمه؟ فأجابهم صلى الله عليه وسلم بأنه إن غلب ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكراً، أو كان شبهه إلى أبيه، وإن غلب ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى أو جاء شبهه بأمه، فقالا له: -واسمعوا هذا الشاهد من الحديث- صدقت وإنا نشهد إنك لنبي، وقاما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلا يديه ورجليه، وقالا: صدقت وإنك لنبي، فهؤلاء مؤمنون بالله أنه واحد، وأضافوا إلى ذلك الاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لكنهم لم يتبعوه صلى الله عليه وسلم في أعمال الجوارح.
إذاً: نحن لا نهون من شأن الأعمال الظاهرة، ولا نهون من خطر المعاصي وآثارها وأنها بريد الكفر كما كان السلف يقولون، ولا نهون من شأن الأعمال الصالحة، وأنها من أعظم الأسباب لدخول الجنة، ولكننا نقول مع هذا وذاك: إن الأعمال ليست مقصورة على أعمال الجوارح فحسب، بل هي عمل القلب، وعمل اللسان، وعمل الجوارح.
أيها الإخوة: إلى هذا الحد أكتفي وأدعو الله عز وجل أن يوفقني وإياكم لصالح القول والعمل، ويتوب علينا، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
الجواب: أعتقد أن الجواب على هذا السؤال مر أثناء الكلمة، فلا حاجة لإعادته، وخلاصته أن المسلم يعمل العمل الصالح وتكون نيته صالحة وخالصة لوجه الله، وإن وقع في معصية فيجب عليه أن يتوب منها وجوباً ويقلع عنها، أما إن عمل صالحاً وخالط ذلك شرك أو رياء، فكما ذكرت أن هذه الأشياء إذا استولت على العمل بالكلية فهي محبطة له، وفي ذلك تفصيل لعله يكون في وقت آخر غير هذا الوقت.
الجواب: بالنسبة للرياء، لا شك أن أمره مخيف، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخافه على أمته، ولكن في بعض الأحيان تكون مداخل الشيطان فيها من اللطف والخفاء بحيث تنطلي على كثير من الناس، فقد يبدأ الإنسان بعمل صالح، فيوسوس له الشيطان أنَّ عمله هذا ليس لوجه الله، وإنما هو رياء وسمعة، ولا يزال به حتى يترك هذا العمل، ولا ينشط إليه مرة أخرى، فأقول: إن الإنسان إذا بدأ العمل بنية صالحة، ثم طرأ عليه الرياء، فيجب عليه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا يسمح للرياء أن يستقر في قلبه، ويدافعه ما استطاع، ولا يكثر من التفكير بالرياء والناس، ويجاهد نفسه في ذلك، ويستمر على هذه الأعمال؛ لأن الشيطان قد يشكك الإنسان في نيته -وأن يكون قصد الرياء- طمعاً بأن يترك الإنسان الأعمال الصالحة، فكما أن العمل من أجل العباد لا يجوز، فكذلك ترك العمل خوف الرياء لا يجوز، بل يجب على الإنسان أن يعمل، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا يسمح للرياء أن يستقر في قلبه والله أعلم.
الجواب: هذا السؤال أجاب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم حين سأله أبو ذر رضي الله عنه عن الرجل يعمل العمل الصالح فيمدحه الناس فيعجبه ذلك، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {تلك عاجل بشرى المؤمن} فإذا كان دافعك إلى العمل وجه الله والدار الآخرة وابتغاء ما عند الله، ثم حصل أن نشر هذا الأمر بدون إرادة منك ولا قصد ولم يكن قصدك أن يتحدث الناس عنك؛ فإن هذا لا يكون رياء، وإن لم يعجب الإنسان بحديث الناس عنه، وتمنى أنهم لم يعلموا، فلا شك عندي أن هذه هي الصورة الأكمل وعلى الإنسان أن يحرص على ألا يعلم الناس أعماله، ولا يتحدثوا بها، فإن تحدثوا بها كره ذلك، ولكن لو لم يكره ذلك، وكان قصده ابتغاء وجه الله، فالله أعلم أن هذا لا يضر بعد انتهاء العمل.
الجواب: هذا أيها الإخوة سؤال فقهي اختلف فيه العلماء من الصحابة فمن بعدهم، فكان من الصحابة من يرى وجوب زكاة الحلي، وكان منهم من لا يرى ذلك، ولاختلاف الصحابة اختلف من بعدهم من التابعين إلى علمائنا في هذا العصر، ولكن الذي أعلمه والله أعلم بالصواب أن الأقرب للمرأة أن تزكي حليها؛ لأن هذا أسعد بالأدلة من جهة، ولأنه أحوط من جهة أخرى، ولأنه أقرب إلى غرض الإسلام الذي لا يرمي إلى تباهي النساء بالحلي وكثرة الذهب وغيرها من ألوان الحلي، فالأقرب هو أنه ينبغي للمرأة أن تزكي حليها إذا بلغ نصاباً.
الجواب: بالنسبة لقص الشعر هو أيضاً قضية فقهية، وأجيب بما أعلم، والعلم عند الله تعالى، أولاً: ورد في صحيح مسلم أن أمهات المؤمنين -رضوان الله عليهن- كن يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفرة، يعني يأخذن من جوانب رؤوسهن شيئاً حتى يقل الشعر ويكون كالوفرة، فيستدل بعض العلماء بهذا الحديث على جواز قص الشعر، هذا جانب، الجانب الآخر: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة جداً تفوق الحصر، النهي عن التشبه باليهود، والنصارى في كل ما هو من خصائصهم، فأقول: إن كان قص الشعر إعجاباً بمن تعلمه المرأة وتراه من أولئك النسوة الغربيات اللائي يقصصن شعورهن، فلا شك أن هذا العمل يكون داخلاً في باب التشبه فيكون محرماً، لا لذاته ولكن لما لابسه من قضية التشبه، والأمة المسلمة لا بد أن تكون أمة عزيزة مستقلة تؤثر ولا تتأثر، لم يخلقنا الله تعالى لنتطفل على موائد الآخرين، ونأخذ ما عندهم، بل خلقنا من أجل أن ندعوهم ونهديهم ونقودهم فالمصيبة كل المصيبة أن نتحول إلى مجرد إمعات ومقلدين لغيرنا، فأقول: إن قص الشعر إن كان بقصد التشبه بالمشركين، أو أصلاً إنما جاء إلى هذه المرأة عن طريق رؤيتها لأولئك النسوة الغربيات اللاتي يقصصن شعورهن أو يزلن معظمها، فهذا يدخله التشبه، ولا يجوز، وإن كان الأمر الآخر فما سمعتم.
الجواب: بالنسبة لقضية الترغيب في الزواج لم تأت من قبل المشايخ جزاهم الله خيراً، بل هم تبع فيها لإمام الجميع محمد صلى الله عليه وسلم، الذي قال فيما رواه ابن مسعود رضي الله عنه: {يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} رواه مسلم، أما بالنسبة لقضية التفريق بين الناس فأقول: نعم، وأحمد الله من قلبي أن يوجد في فتيات المسلمين من تميز بين الصالح والطالح؛ لأن المرأة لا شك أنها بعد الزواج في الموقف الأضعف، والزوج هو سيدها وقيمها وولي أمرها، فإذا كان زوجها منحرفاً عن الجادة، أو متلبساً بالمعاصي والمنكرات، فهي إما أن توافقه فيما هو فيه، وإما أن تتحول حياتها معه إلى جحيم لا يطاق، فأنصح أختي المسلمة، بل أخواتي المسلمات بأن يتوجهن إلى الله تبارك وتعالى ويتوكلن عليه، ويعلمن أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، فما من امرأة مسلمة ترفض رجلاً لأنها ترى عليه قصوراً واضحاً في دينه، إلا وييسر الله عز وجل لها من ترغب فيه ممن يجمع بين الدين والخلق وسائر الصفات المطلوبة في الرجال.
كما أني بالمناسبة أستغرب أن يكون هذا موقف الفتاة بينما ربما يكون ولي الأمر متساهلاً في ذلك، في حين أن الموقف الطبيعي أن يكون ولي الأمر هو الآخر حريصاً على أن لا يضع هذه الأمانة إلا في موضعها الطبيعي، ليست المرأة مجرد ثقل في البيت تريد أن تضعه في أي مكان، المرأة أمانة في عنقك، وأنت مسئول عنها قطعاً، سواء فهمت هذا أو لم تفهمه، فلا بد أن تبحث لها عن الكفء المناسب، بل لا بد أن تيسر لهؤلاء الأكفاء من أمور النكاح ما يبعد من الفتنة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير} نعم كانت فتنة وفسادٌ كبير، إن وجود أعداد رهيبة من الشباب والفتيات قد تعدوا سن الزواج، إنه أعظم فتنة.
وإني أقول بالمناسبة: إن أعظم خطر يهدد الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، هو أن يأتيها الغزو عن طريق المرأة، فالمرأة هي مربية الأجيال، مربية الأطفال، وهي قيمة البيت؛ فإذا غزيت بيوتنا، وغزيت حصوننا من الداخل، فلندرك حينئذٍ أننا على شفى هلكة، فأقول من واجبنا أيها الإخوة أن نصغي للمنادين الذين يصيحون ليلاً ونهاراً ويطالبون بأن يعي أولياء الأمور هذه القضية، ويحرصوا على تسهيل الأمر ما استطاعوا، ليس في بناتهم وأولادهم فحسب، بل يتقوا الله في هذه الأمة المسلمة التي يوشك أن ينـزل بها من النكبات والمصائب مالا يخطر على بال، إن من يتساهل في هذا الأمر كمن يرى أن البنـزين قد أوقدت جنبه النيران، ثم لا يحرك ساكناً، مع أنه يقطع أن الحريق لا بد أن يشب لا محالة، فقد ركب الله في كل إنسان سواء كان ذكراً أو أنثى الميل إلى الطرف الثاني، وهذه غريزة وحكمة لله؛ ليستمر النسل البشري ويستمر إعمار الأرض، فلماذا نتجاهل هذا الأمر؟!
وإني أقول أيضاً بالمناسبة: من الأشياء التي لاحظتها أن كثيراً من الآباء يمنحون أبناءهم وبناتهم ثقة لا يستحقونها؛ لأني أعرف ابني منذ طفولته ونعومة أظفاره، وأذكره يوم كان بريئاً لا يفكر إلا في أموره القريبة، يكبر وأنسى أنه يكبر، وأنسى أن مشاعر الرجولة أو مشاعر الأنوثة بدأت تتحرك فيه، فلذلك تجد كثيراً من الناس حتى الطيبين يمنحون أبناءهم ثقة كما قلت لا يجب أن تكون، ابنك أو ابنتك وإن كانوا كذلك، إلا أنه يدور في قلوبهم وعقولهم ما يدور في عقول وقلوب الناس، فيجب أن نكون يقظين ومنتبهين، ويجب أن نهتم بالطرف الآخر، يجب أن نعلّم النسوة بأمر الدين، يجب أن نهتم بهن، ونحل مشكلاتهن، ونحرص عليهن، قبل أن يحل بنا ما حل بالأمم الأخرى، وأسأل الله أن يحمي هذه الأمة من ذلك، فإن كان هذا واقعاً لا محالة، فإني أسأل الله أن يقبضنا إليه غير مفتونين..!
الجواب: يمكن ذلك بأسباب:
أولاً: كثرة التفكير في عظمة الله سبحانه وتعالى؛ لأنك إذا تصورت أو عرفت شيئاً من عظمة الله، عرفت أن من الغبن كل الغبن أن تقصد بعملك غيره، هذه نقطة.
الأمر الثاني: أن تتذكر ما أعد الله للمؤمنين، وما أعد للكافرين والمنافقين والمرائين، وتحاول أن تحضر هذا في قلبك.
الأمر الثالث: أن تتذكر نعم الله عليك، وتديم التفكير والنظر فيها، لتعلم أن كل ما تعلمه لا يساوي شيئاً بالنسبة إلى نعمه سبحانه وتعالى.
وأخيراً: فإنه لا بد من الجهاد، وأقول: الجهاد قال الله تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] فمن جاهد فليبشر بالهداية، وهذا وعد من الله، والله لا يخلف الميعاد، وقد قرأت عليكم الآية، فمن جاهد في طلب الهداية لا بد أن تأتيه الهداية، لكن لا يمكن أن تجاهد اليوم، وتأتيك الهداية غداً، جاهد ومعنى الجهاد أن تجاهد وتصابر وترابط ولا تيأس والله عز وجل قريب مجيب.
الجواب: أما استعراض الإنسان عمله أمام غيره، ففي نظري أن الأصل ألا يفعل الإنسان ذلك، بل يحرص على عمل السر؛ لأن الإنسان قد يقول العمل، وقصده أن يقتدي به الآخرون، ثم يصير الأمر إلى أن يغريه الشيطان، فيدخل في باب الرياء أو العجب أو الغرور ولكن في حالات نادرة جداً قد يوجد ذلك، وأضرب لها مثلاً بما ثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال يوم من الأيام: {من رجل زار مريضاً؟ فقال أبو بكر أنا، من أطعم مسكيناً؟ قال
الجواب: أقول إننا يجب أن نكرم نعم الله التي أنعم الله بها علينا خشية زوالها
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم |
فالذي أرى أن الأولى والأجدر بكل فرد منّا، أن يحرص أصلاً على بيارة خاصة للطعام، وهذا الذي أرى أنه جدير بكل مسلم، أما التساهل في ذلك فلا ينبغي.
الجواب: أما الدعاء بطول العمر، كغيره من الأدعية، فإني أرى أن الإنسان إن دعا بطول العمر فليدع معه بصلاح العمل، فكم من إنسان طال عمره فتمنى الموت! والشاعر يقول:
وحسب المنايا أن يكن أمانيا |
فطول العمر قد يكون وبالاً على الإنسان في دنياه وأخراه، فالدعاء بطول العمر مجرداً لا يصلح، وإنما إن دعوت بغيره فحسن، وإن دعوت بطول العمر فادعُ معه بصلاح العمل، فقل: جعلك الله ممن طال عمره وحسن عمله، فهذا -فيما أرى- لا بأس به.
أما جلسة الاستراحة وهل هي مخالفة للإمام: قد يسأل بعض الناس ما هي؟ فأقول هي أن يجلس الإنسان إذا كان في وتر من صلاته بعد أن يقوم من السجود قبل أن يقوم للركعة، أي إذا كان في صلاة الظهر مثلاً، فصلى الركعة الأولى وأراد أن يقوم إلى الركعة الثانية جلس قليلاً كما يجلس بين السجدتين ثم قام، وإذا كان في الثالثة وأراد أن يقوم للرابعة جلس قليلاً ثم قام، فهذه سماها بعض الفقهاء جلسة الاستراحة، وهي ثابتة في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق مالك بن الحويرث، وثابتة من طريق وائل بن حجر وأبي حميد الساعدي وغيرهم، وقد اختلف العلماء فيها، فمن العلماء من قال أنها مشروعة على الإطلاق في جميع الأحوال، وبهذا يفتي شيخنا عبدالعزيز بن باز-حفظه الله- ومن العلماء من قال إنها مكروهة، وهذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد، ومن العلماء من قال بالتفصيل فقال:إما أن يشرع أن تفعل في حال دون حال، يعني أن تفعل في بعض الأحيان وبعض الأحيان تترك، وإما أن تفعل إذا احتيج إليها وتترك مع عدم الحاجة، فيفعلها الشيخ الكبير المحتاج إليها، ويتركها الشاب الذي لا يحتاج إليها، أما كونها مخالفة للإمام، فمن رأى أن جلسة الاستراحة سنة، وفعلها خلف الإمام، فإنه لا ينكر عليه؛ كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية لا ننكر عليه، وإن كان الأولى أن يتابع الإمام إذا كان الإمام لا يجلس للاستراحة، ولكن على العموم فيما يتعلق بفعل السنن، فإنني أنصح إخواني أن يراعوا في تطبيقهم للسنة، الحكمة والموعظة الحسنة، فبعض العوام قد يستنكرون ما يجهلون، والناس أعداء ما جهلوا، فيحتاجون إلى من يعلمهم السنة من العلماء الذين يثقون بدينهم، فإذا عرفوا السنة قبلوها وعملوها ولم ينكروا على من عملها.
أما سرعة الغضب فالرجل الذي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: أوصني، فأوصاه الرسول صلى الله عليه وسلم مراراً يقول له: {لا تغضب} فهذا يقول إني أغضب، فنقول له وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لك أن: لا تغضب، والمعنى أن الإنسان يدافع الغضب في نفسه، ولذلك في الحديث إن كنت قائماً فاقعد، وإن كنت قاعداً فاضطجع، وأمر صلى الله عليه وسلم الغاضب بالوضوء، وأقول كل شيء ممكن أن يتحقق بالممارسة والتمرين، وإنني أعرف كثيراً من الناس عندهم شيء من الغضب والانفعال فوق المعتاد والطبيعي، ولكن بالممارسة والتدريب والحرص والتنبيه على أخطائه صار الإنسان يتهذب قليلاً قليلاً، حتى استطاع أن يزيل كثيراً من هذا الداء، فالعلم بالتعلم والحلم بالتحلم والفقه بالتفقه، فعلى الإنسان أن يختار له صاحباً يبادله الود، ويطلب منه أن ينبهه على أخطائه أولاً بأول، حتى يستطيع أن يتلافى هذه الأخطاء، ثم على الإنسان أن يعلم نفسه ألا يتصرف في حال الغضب، وهذه قضية خطيرة جداً، عود نفسك أنك في حال الغضب تعطل جميع أعمالك، فلا تتصرف وأنت غضبان، وكم من إنسان في حال الغضب يقوم بعمل يهدم أشياء كثيرة يهدم بيته، فيطلق زوجته مثلاً، وربما تكون آخر الطلقات الثلاث ثم يأتي يبكي ويتمسح، ويقول: (طلقت زوجتى) على الإنسان أن ينتبه دائماً بأنه مطالب بألا يتصرف في حال الغضب.
الجواب: أقول إنني حزين لهذا السؤال، نعم لقد كان أسلافنا وأجدادنا يفرحون ويحزنون فعلاً كما نفرح ونحزن، لكن بم كانوا يفرحون ويحزنون؟!
وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جداً |
كان الطفل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يبلغ سن التكليف والرشد، تعلن المعركة فيأتي يتطاول على قدميه حتى يقبله الرسول صلى الله عليه وسلم في الجيش، فإذا رده الرسول صلى الله عليه وسلم رجع يبكي إلى أمه، يقول ردني الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يعتبر أن الفوز هو أن ينجح الفريق الذي يشجع مثلاً، لقد ذهب جماعة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلى p=1000341عامر بن الطفيل
وهو رئيس قبيلة من قبائل المشركين، وكان مع هؤلاء القوم حرام بن ملحان وهو خال أنس بن مالك رضى الله عنه، وكان رئيسهم، فلما وقف حرام بن ملحان -وهذا الحديث في صحيح البخاري، ولذلك أرجو أن تلقوا أسماعكم له- لما وقف حرام بن ملحان أمام هذا الرجل يدعوه إلى الله عز وجل ويذكره بالآخرة، ويبين له بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ووجوب الإيمان به، أشار هذا الطاغية إلى رجل من أصحابه أن اقتل هذا الرجل، وقد كان العرب في الجاهلية لا يقتلون الرسول المبعوث من قبيلة أخرى، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكم} فكان من الأعراف المرعية أن الرسل لا تقتل، لكن لما خاضوا المعركة مع الإسلام نسوا جميع أعرافهم وتقاليدهم وعاداتهم، فجاء رجل يقال له جبار بن سلمى كان مشركاً من جماعة عامر بن الطفيل، فجاء بخنجر، فسدده إلى بطن حرام بن ملحان رضي الله عنه ففار الدم من بطنه، أمام هذا الموقف الذي يؤمن فيه الكافر، ويعي فيه الشاعر، ما تلعثم هذا الصحابي ولا تردد، بل قال كلمة خلدها التاريخ، وضع يديه - أيها الإخوة- هكذا بجوار بعضهما ثم استقبل الدم النازل منه بقوة وحرارة، وصبه على رأسه، وقال: فزت ورب الكعبة!! الله أكبر، إن هذا لهو الفوز العظيم، ولذلك يروي بعض أهل السير أن هذا الرجل القاتل استغرب: أشد الاستغراب كيف يقول هذا الرجل هذا الكلام رغم أنه الآن يقتل؟! فقد الدنيا، وفقد الزوجة والمال والأولاد، يغادر الدنيا، وهو يقول: فزت ورب الكعبة! وهو لا يمثل هنا، وإنما موقف جاد، فزت ورب الكعبة، فيقول بعض أهل السير إن هذا الرجل الذي طعنه بدأت الكلمة هذه ترن في رأسه طويلاً، حتى جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلم وحسن إسلامه! بسبب هذه الكلمة.أيها الإخوة: الولاء والبراء يجب أن يكون لله، اليوم تجد البيت على نفسه بسبب هذا البلاء الذي دخل علينا، يجب أن ندرك أن من أهم وأعظم خصائص الإيمان أن نوالي في الله ونعادي في الله، أنا أحب المؤمن مهما كان لونه أو بلده أو وظيفته، أو مهما كان مستواه ومنصبه، وأبغض المنافق مهما كان، أما الفاسق فأحبه بقدر إيمانه، وأبغضه بقدر فسقه، أما أن تكون القضايا حباً في الدنيا، وموالاة فيها وبغضاً فيها، فإننا على خطر عظيم، ولذلك أنا قلت لكم قبل قليل: إن هذه الأمة مقبلة ومقدمة على أخطار عظيمة، ما لم ينتبه الغيورون ويجدوا في معالجة الأمر، فإن الأمر كائن لا محالة، ولعلكم تلمسون بوادر خطيرة لمثل هذه القضايا.
الجواب: السؤال عن الصيام الآن، يعني امرأة صائمة، فبعد أذان المغرب جاءتها العادة الشهرية قبل أن تصلى المغرب، فهل صيامها صحيح أم لا؟ قبل هذا أسأل: متى يفطر الصائم؟ من المعلوم أن الصائم يفطر إذا غربت الشمس، والمؤذنون المؤتمنون جزاهم الله خيراً يؤذنون إعلاماً للناس (أن الشمس قد غربت، فأفطروا) إذاً إذا كانت لم تأتها العادة إلا بعد غياب الشمس فإن صومها ذلك صحيح.
الجواب: أما قضية كشف الوجه فلا تجوز وهذا هو الرأي الصحيح الدارج عليه العلماء في هذه البلاد وغيرها، أن كشف المرأة لوجهها لا يجوز، وبناء عليه يجب على المرأة أن تستر وجهها في الصلاة وغيرها، حينما يكون في حضرتها رجال أجانب.
أما قضية الغناء الديني فلا أدري من أين جاءت هذه التسمية، فهذه تسمية متناقضة؛ لأنه ليس هناك شيء اسمه غناء ديني، فأما الأناشيد التي فيها ترغيب أو ترهيب، أو حث أو تشجيع، وليس فيها موسيقى ولا تكسر وتثنٍ في الأصوات، فهذه جائزة، ومع ذلك ينبغي ألا تكون غالبة على الإنسان، فلا يصلح أن يدخل الإنسان البيت وهو يردد النشيد، ويركب السيارة وهو يسمع النشيد، ويأتي إلى المدرسة وهو يردد النشيد، ولذلك بوب الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه فقال (باب من كان الغالب عليه الشعر) وأدخل تحت هذا الباب قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً وصديداً، خير له من أن يمتلئ شعراً } أما إن كان في حدود معقولة، وشعر إسلامي جيد، فهذا جائز وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن من الشعر لحكمة} وكان يطلب صلى الله عليه وسلم من الشريد بن سويد أن ينشده من شعر أمية بن أبي الصلت، وكلما قرأ قافية قال له صلى الله عليه وسلم: هيه؛ يعني زدني.. حتى قرأ عليه مائة بيت، والنصوص في ذلك كثيرة، أما الشعر المصحوب بالموسيقى، فهذا لا يجوز، حتى لو كان -مثلما ذكرت الأخت- شعراً دينياً أو يتحدث عن قضايا دينية، وإن كنت لا أوافق على تسميته بهذا الاسم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر