هذا الاسم الكريم اللامع العظيم الجميل: (الأنبياء) على مدار التاريخ كانوا يبعثون ويجاهدون ويصابرون، وكانوا منارات يهتدي بها الناس في الظلمات، وطالما تحملوا ما تحملوا، ولقوا ما لقوا، وصبروا على الأذى من أقوامهم، لا يرجون جزاءً ولا شكوراً، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، كل همهم أن يعبِّدوا الناس لرب العالمين جل وعلا، كل نبيٍ منهم كان يبعث إلى قومه على حين فترة؛ فيناديهم ليلاً ونهاراً ويخاطبهم سراً وجهاراً، ويتحمل في سبيل دعوته ما يلقى من صدود وأذى وتكذيب؛ ولذلك كتب الله تعالى لهم الذكرى الحسنة في هذه الدنيا، فما من إنسان إلا ويهش لسماع ذكرهم ويفرح بحديثهم ويثني عليهم ويحبهم ويصلي ويسلم عليهم كلما ذكروا، فصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وما أعد الله لهم في الدار الآخرة من المنازل العليا في الدنيا والدرجات في الجنة هو فوق ما يخطر على بال المتأملين.
روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر رضي الله عنه قال: {أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست، فقال: يا قال: آدم عليه السلام، قلت ونبيٌ كان؟ قال: نعم، نبيٌ مكلم، قال: قلت يا رسول الله، كم المرسلون؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر، جماً غفيراً- وفي بعض الطرق والروايات قال: وخمسة عشر- قال: قلت يا رسول الله! أيما أنـزل عليك أعظم؟ قال: آية الكرسي (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]
والإصلاح يعني: أنك سوف تقاوم وتنكر أشياء تعارف الناس عليها وألفوها وأصبحت جزءاً من موروثهم ومن تقاليدهم ومن حياتهم، ومن عاداتهم، فأنت سوف تقاومها وتحاربها وقد تكون أشياءً متأصلة في قلوبهم وأي أمرٍ آصل وأعظم في قلوب الناس من أمر العقائد.
فإذا كان الناس في مجتمعٍ ما نشأوا منذ طفولتهم وولادتهم وتربوا وترعرعوا على عبادة أصنام (طوطم) أو شجر أو حجر أو شخص أو غير ذلك، ويظنونه إلههم ويتعبدون له، فيأتي النبي يفاجئهم بهذا الأمر الذي هو مستقرٌ في قلوبهم: قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء:66-67] فينكر عليهم عبادة غير الله، ويحارب هذا الشرك المتأصل المستقر في قلوبهم.
على سبيل المثال زيد بن عمرو بن نفيل وقد كان موجوداً في مكة كما هو معروف في الجاهلية، وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر: { أن
هجرت اللات والعزى جميعاً كذلك يفعل الجلد الصبور |
فلا عُزّى أطيع ولا ابنتيها ولا صنمي بني عمرو أزور |
ولكن أعبد الرحمن ربي كذلك يفعل الجلد الصبور |
وكان يقف قبالة الكعبة ويستعيذ بالله تعالى ويسأله ويتحنث ويتعبد ويقول:
عذت بما عاذ به إبراهم مستقبل الكعبة وهو قائم |
يقول أنفي لك عانٍ راغم مهما تجشمني فإني جاشم |
وانظر كيف القلب المؤمن، والحي، والموحد، يخاطب الله تعالى ولا يعبد غيره، ويقول: أعوذ بك يا ربي كما عاذ بك إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حين وقف مستقبل القبلة يدعوك، ويسألك ويستعيذ بك، ويقول: أنفي لك راغمٌ في التراب، ذليلٌ بين يديك، ومهما تحملني فأنا أتحمله في سبيلك.
وكان يقول: يا معشر قريش إياكم والربا فإنه يورث الفقر، وكان يأتي إلى الرجل وعنده جارية يريد أن يئدها ويقتلها من بناته، ويقول له: لا تقتلها، أي ذنبٍ فعلت حتى تقتلها؟ إذا كان يشق عليك أن تطعمها وتكسوها فهاتها لي فأنا أطعمها وأكسوها، فيأخذها منه ويطعمها ويكسوها، فإذا كبرت قال لأبيها: إن شئت أخذتها وإن شئت أبقيتها عندي، ولذلك تمدّح ََالشاعر بأنه ينتسب إلى مثل هذا الرجل فقال:
ومنا الذي منع الوائدات وأحياء الوئيد فلم يوءد |
لكن زيد بن عمرو بن نفيل ومجموعة من الحنفاء في مكة لم يكن لهم أي تأثير، لماذا؟ لأنهم كانوا أشبه باليائسين من الإصلاح، ولأنهم يرون أن العالم كله يعج بألوان الشرك والوثنية والانحراف، والقاذورات الأخلاقية، والنظم وغيرها من الأشياء؛ التي يرون أن لا طاقة لهم ولا قبل لهم بها، فكانوا يرضون بصلاح أنفسهم فقط، ويدعون ما وراء ذلك، حتى وإن بدر منهم كلمات أو توجيهات أو مشاركات فهي أشياء جزئية ومحدودة ومعدودة وفي نطاق معين، أما أن يكون عندهم خطة للإصلاح الكامل في كل شئون الحياة، فهذا ما لم يكونوا يستطيعونه، ولهذا بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، وانطماس من السبل، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأيده بهؤلاء الصحاب الكرام، الذين جاهدوا إلى جواره عليه الصلاة والسلام، ورضي الله عنهم وأرضاهم.
وعلى سبيل المثال: كان العرب يفتخرون بالكرم -إكرام الضيف- تفتخر به حتى في جاهليتها، وهناك أجواد كرماء معروفون في الجاهلية، منهم -مثلاً- عبد الله بن جدعان، كان معروفاً بـمكة وكان كريماً يقري الضيفان حتى إنه يبعث أناساً في مشارقمكة ومغاربها ينادون من أراد الطعام فليأت إلى دار عبد الله بن جدعان، ولذلك مدحه أمية بن أبي الصلت فقال:
لـه داعٍ بـمكة مشمعـلٌ وآخر فوق دارتها ينادي |
إلى قطع من الشيزى ملاء لباب البر يُلبَك بالشهاد |
أي أن له دعاة ينادون الناس إلى قطع من ألوان الخشب وغيرها من الأواني التي فيها العسل وألوان الأطعمة الجميلة والبر وغير ذلك، فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم وآمن به من آمن، حاربوهم حتى حاصروهم في شعب أبي طالب ومنعوا عنهم الطعام والشراب، حتى إن الواحد منهم يذهب من أجل أن يقضي حاجته فيجد تحته شيئاً فينظر فإذا هي قطعة من القد -جلد يابس- فيأتي فيطحنه ويسفه ويشرب عليه الماء فيتقوى به أياماً، وحتى كانت قريش تسمع تضاغيهم وتضاغي أطفالهم، وتسمع صياحهم فلا تلين لها قناة، ولا تتحرك في قلوبها دوافع الرحمة.
بل أشد من ذلك، لما ضايقوا الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين بـمكة، فروا بدينهم إلى الحبشة، فلم تقل قريش: هؤلاء قومٌ خرجوا منا فدعوهم وما ذهبوا إليه، لا،بل صاروا يطاردونهم ويلاحقونهم مثل ما تعرفون الآن، فالآن يوجد في العالم جهاز يسمونه جهاز الإنتربول أو البوليس الدولي، هذا مهمته ملاحقة من يسميهم العالم بالمجرمين في أي مكان، لا تحده الحدود ولا القيود ولا السدود.
فهكذا قريش لما ذهب الصحابة إلى الحبشة، لم ترض بمقامهم هناك، بل عزمت أن تبعث إلى الحبشة من يحاول أن يوغر صدر رئيسها وملكها عليهم ليخرجهم من أرضه، فبعثوا عبد الله بن أمية وعمرو بن العاص وغيرهم إلى النجاشي ليقولوا له: إن هؤلاء القوم فيهم وفيهم، وقومهم أبصر بهم فردهم إليهم.
انظر إلى هذه الحرب، وانظر كيف تنكرت قريش لمألوفاتها الجاهلية من إكرام الضيوف، والحرص عليهم. وأين قصائدهم وأشعارهم ومعلقاتهم؟! كل المعلقات السبع وغيرها مليئة بالمدح بالكرم والجود والسخاء، كل ذلك ضاع لما صارت المعركة بين التوحيد والشرك، هذا كله لم يلقه زيد بن عمرو بن نفيل، ولا أمية بن أبي الصلت ولا غيرهم ممن كانوا حنفاء في الجاهلية، لم يلقوا من قريش شيئاً يذكر، وكانت تحترمهم في أحيان كثيرة، لماذا؟ لأنهم لم يعلنوها دعوة صريحة مجلجلة في نوادي قريش وأحيائها، ولم يجمعوا الناس على كلمة التوحيد، ولم يقدموا للناس خطة إصلاحية تبدأ في الحياة من أولها إلى آخرها، كلا؛ وإنما كانوا يعايشون الوضع الفاسد المنحرف الذي كان في الجاهلية، وربما أنكروا بألسنتهم في حدودٍ ضيقة.
وانظر كيف يغالطون أنفسهم، لأنهم جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن كنت تريد ملكاً ملكناك، وإن كنت تريد مالاً أعطيناك حتى تكون أغنانا، وإن كنت تريد الزواج اخترنا لك أجمل فتاة في مكة وزوجناك، فلما انتهوا قرأ عليهم شيئاً من القرآن، ومع ذلك لما رأوا صبره وإصراره قالوا: إن هذا لشيء يراد.
ومن قبل قال فرعون وقومه عن موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ [يونس:78] فـفرعون من أجل أن يضمن نفوس الجماهير أن لا تميل مع موسى ولا تتأثر بدعوته، حاول أن يضع حاجزاً، ما هو هذا الحاجز؟ الحاجز أن فرعون كان يقول لموسى ولاحظ كيف التناقض عند فرعون فهو رجل يقول للناس مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] ويبتز الناس، ويأخذ أموالهم، ويأخذ خيراتهم، ويفرض الضرائب عليهم، ويأخذ من يريد من بناتهم، ويستبد حتى يريدهم أن يعبدوه، ومع ذلك لما دعا موسى ماذا قال؟ -قال: أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ [يونس:78] فيقول للناس: هذان موسى وهارون يريدان أن تكون لهما الكبرياء في الأرض، وأنت ماذا تفعل الآن؟!
لقد مارست ألواناً من فرض الذل على الناس! تقتل أبناءهم وتستحيي نساءهم من أجل الخدمة؛ ومن أجل أن تتمتع بهن متاعاً حيوانياً بهيمياً، ولما قام موسى وهارون يدعوان إلى الله تعالى، ويدعوان الناس إلى الخروج من طغيانك ومن تسلطك ومن بطشك، تقول: وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين!! وليس الغريب أمر فرعون فإن فرعون طاغية أحس بالخطر فأصبح يضرب يمنة ويسرة بلا عقل ولا تفكير، ولكن الغريب أمر تلك الجماهير المضللة التي تصدقه وتطيعه وتتابعه فيما يقول، هؤلاء الجنود الذين قاوموا موسى عليه السلام وحاربوه ومشوا وراءه حتى وصلوا إلى البحر، هؤلاء الجنود أين عقولهم؟! أين تفكيرهم؟! أين إدراكهم؟! أين إنسانيتهم؟! فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ [الزخرف:54].
المهم أن فرعون ومن بعده من أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام كانوا يشككون الناس في نيات الرسل، وفي مقاصدهم، وأنهم لا يقصدون نجاة الناس؛ وإنما يقصدون التسلط على الناس وأن تكون لهم الكبرياء، وأن يصلوا إلى الحكم، هذا الكلام قيل حرفياً عن الرسل عليهم الصلاة والسلام، وذكره الله تعالى في كتابه حتى يعتبر به المعتبرون: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت:43] هذه الكلمات معادة، وهذا شريطٌ مكرر: أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:53].
الذين جاءوا يدعون الناس إلى التوحيد، ويدعونهم مع التوحيد إلى إصلاح حياتهم على وفق شريعة الله تعالى -كان خصومهم يقولون للناس: إن هؤلاء الرسل لا يستطيعون الإصلاح ولا يملكون الخطة الواضحة للإصلاح، وإنهم ينطلقون من بساطة في التفكير، ومن ضعف في العقل ولذلك لا تتبعوهم ولا تطيعوهم.
فمثلاً: قالوا لنوح عليه الصلاة والسلام: قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا [هود:32].
فاعتبروا الدعوة نوعاً من الجدال، وقولهم: فأكثرت جدالنا، يوحي بتبرمهم وضيقهم، وهذا لا يقوله إلا إنسان انقطعت عنه الحجة؛ ولم يعد يملك أسلوباً للرد، ولهذا قالوا: أطلت علينا في الكلام، فإذا كان عندك شيء فهاته سواءً أكان عذاباً أو عقوبة أو زلزلة أو غير ذلك، ائتنا بما تعدنا، أما مسألة الجدال والدعوة فما لنا بها من حاجة.
ومرة أخرى يقولون لنبيٍ آخر: قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ [هود:91] فالله تعالى كان يبعث الرسل في علية أقوامهم: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4] فكان الرسل الذين يبعثهم الله عز وجل أهل فصاحة وبلاغة وبيان، ويعطيهم الله قوة في الحجة، ويمنحهم من ذلك ما يقيم به الحجة على أممهم وأقوامهم، كما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم.
ولهذا لما بعث الله موسى عليه الصلاة والسلام، قال موسى داعياً ومنادياً ربه عز وجل: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:27-32] إلى قول الله عز وجل: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36] فحل الله عقدة لسانه، فكان بيناً فصيحاً بليغاً، وآزره، وأعانه بأخيه هارون عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك كان فرعون يقول: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52] فيعيره بحبسة كانت في لسانه قبل النبوة، مسألة اصطياد -كما يقال- في الماء العكر، فهو يقول: لا يكاد يبين أي: لا توجد عنده فصاحة ولا عنده بلاغة، وهنا يقولون لشعيب: يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ [هود:91] هم يفقهون، ويعرفون، لكن قلوبهم في صدود وفي عمى؛ لا يريدون أصلاً أن يفهموا فيتعمدون الصدود عن الحق والإعراض عنه بكل وسيلة.
ولذلك تجد أن الإنسان الذي يتابع اليوم ما يكتبه أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام، أنهم يقعون في تناقضات ليس لها أول ولا آخر، حتى يسخر منهم الإنسان العادي، وربما كانوا -أحياناً- أذكياء، وربما كانوا عقلاء، وربما كانوا عباقرة، ولكن وقوعهم في هذا التناقض؛ لأنهم يحملون الباطل وسبحان الله!! الأرض والسماوات قامت بالحق، فما من إنسان يدافع عن الباطل إلا ويفضحه الله عز وجل، وما من إنسان يدافع عن الحق إلا ويجعل الله تعالى السداد والصواب على لسانه.
وكذلك حين جاء النبي صلى الله عليه وسلم وبعث في جزيرة العرب، كان في ذروة الفصاحة والبلاغة ومع ذلك لم يستطيعوا أن يقولوا مثل ما قيل من قبل: مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ [هود:91]؛ لأن كلامه مما لا يستطيعون أن يحولوا بين الناس وبينه، ولهذا قالوا: ساحر يفرق بين المرء وزوجه، ويفرق بين المرء وأخيه، ويفرق بين المرء وابنه، وما يزالون بالناس حتى يحاولوا ألا يسمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنهم جاءوا إلى الطفيل، وما زالوا به -وكان رجلاً عاقلاً لبيباً- حتى وضع القطن في أذنيه؛ حتى لا يسمع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم يدركون أن للحق سلطاناً على القلوب، ولذلك يفرضون - وهو ما يسمى بلغة العصر الحاضر- التعتيم الإعلامي على الدعوة، ومحاصرتها، وفرض القيود عليها، وحربها؛ لأنهم يعرفون أن كلمة الحق لها سلطان على القلوب، ولها رواج في النفوس، ولها رنين في الآذان، وما أن يسمع الناس بها حتى تنجلي عنهم الغشاوة وينقشع عنهم الظلام، ولهذا يحاولون أن يحولوا بين الناس دائماً وأبداً وبين كلمة الحق بكافة الوسائل.
انظر كيف التعبير: شرذمة قليلون وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [الشعراء:55-56] فكان فرعون يظن -أو هكذا يريد أن يصور للناس المخدوعين بخطبه الرنانة- أن موسى ومن معه مجرد حفنة من الناس المشاغبين، وأن أمرهم سوف ينتهي بمجرد نـزول قوات الأمن إلى الشوارع، واستخدام القوة ضدهم؛ بذلك سوف ينتهي أمرهم وينحسم، ولهذا قال: وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ [الشعراء:55] أسخطونا وأزعجونا وآذونا، ونحن سوف نجعل حداً ونضع حداً لهذا الأمر: وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [الشعراء:56] لا تظنوا أننا غافلون عنهم فعندنا إمكانيات، وعندنا أجهزة وعندنا قوة، وعندنا وسائل كثيرة، فلا تظنوا أن وسائل الأمن، والمباحث، والاستخبارات العالمية، لا تظنوا أنها وليدة الساعة؛ بل هي موجودة منذ العصر الأول، وما قول فرعون: وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [الشعراء:56] إلا نوعٌ من الإشارة والتهديد والإرهاب بالقوة التي يظن أنها سوف تغني عنه شيئاً أو تنفعه أو تقاوم دعوة الله عز وجل.
ولم يكن فرعون يدري أن المصير الذي ينتظره هو أن يصبح جثة هامدة تلعب بها الأمواج، ثم يلقيه البحر إلى الساحل، هذا إلهكم الذي كنتم تعبدون، وهذا فرعون الذي ملأ الدنيا صراخاً وضجيجاً وتهديداً ووعيداً هاهو جثة هامدة ألقاه الموج في الساحل والله سبحانه وتعالى يقول: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:92].
هذا مصير المستكبرين، هذا مصير الطغاة، هذا مصير أعداء الرسل، أما موسى ومن معه فإن الله تعالى ما زال ينقلهم من نصر إلى نصر حتى كتب الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام، ما هو معروفٌ في التاريخ، هذا نموذج من تشكيك الطغاة بمستقبل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فالمسألة لديه مسألة خوف على والده، ومسألة شفقة وحرص على حمايته من عذاب الله، ومع ذلك يواجه هذا كله بقوله:لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً والملأ من خلف آزر ومن أمامه، يقول بعضهم لبعض ويتواصون بإبراهيم عليه الصلاة والسلام: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [الأنبياء:68] ولم يعلموا أن الله تعالى قال وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ [الأنبياء:70]: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل:51] أما إبراهيم عليه الصلاة والسلام فنجى.
وما زال الحنفاء إلى قيام الساعة يعتبرونه إماماً وقدوةً لهم عليهم الصلاة والسلام، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو خاتم الرسل كان دعوة إبراهيم، كما قال صلى الله عليه وسلم: {أنا دعوة أبي إبراهيم} وجعل الله له لسان صدق في الآخرين؛ حتى المسلم في صلاته يقول: {اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم} وتجد المسلم وهو يحج يصلي خلف مقام إبراهيم ركعتين؛ كما أمر الله سبحانه وتعالى وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً [البقرة:125] وكما فعله النبي صلى الله عليه وسلم فجعل له الله لسان صدق في الآخرين، ونجاه الله تعالى من كيدهم ومكرهم، أما في الآخرة فمعلوم أن العاقبة للمتقين والعاقبة للتقوى، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث سمرة الطويل رؤيته لإبراهيم عليه الصلاة والسلام في الجنة ومن حوله من أطفال المؤمنين.
أما قوله سبحانه: (لِيُثْبِتُوكَ) فالمقصود بها فكرة الحصار، يسمونها في العصر الحاضر فرض الإقامة الجبرية، ومنع النبي صلى الله عليه وسلم من السفر من مكة ومغادرتها، والهجرة إلى أي مكان آخر في الدنيا ونشر دعوته، أو قد يقصدون بها السجن، وإيثاق النبي صلى الله عليه وسلم بالقيود والأغلال بحيث لا يستطيع أن يتحرك. هذا معنى قوله: (لِيُثْبِتُوكَ).
وأما القتل والتصفية الجسدية فأمرها واضح، وأما الإخراج فمعناه فكرة النفي، نفي الرسول صلى الله عليه وسلم من البلاد وطرده منها لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30] هذا تفسير الآية كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه، فيما رواه عنه عبدالرزاق و أحمد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني والخطيب البغدادي وغيرهم.
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد |
وشق له من اسمه كي يجلـه فذو العرش محمود وهذا محمد |
فلم يكن يخطر في بالهم أن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم سوف يكونون قوة تحسب لها قوة الدنيا ألف حساب، بعد مضي مئات السنين على موته عليه الصلاة والسلام.
بل لم يكن يخطر في بالهم أن تموج بلاد الإسلام بمظاهر السخط العارم لمجرد أن شخصاً دعياً أفاكاً نال من شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، كما فعل سلمان رشدي حين أصدر كتاباً في بريطانيا سماه آيات شيطانية، نال فيه من شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أزواجه أمهات المؤمنين ومن أصحابه، فقامت المظاهرات العارمة في شرق البلاد وغربها؛ بل حتى في بلاد الكفر تطالب بمحاكمة هذا الرجل وقتله، وترتب على ذلك آثار سياسية بعيدة المدى.
وهذا يكشف لكم عن ذكاء أولئك الذين يحاربون الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته ودينه من خلال أسلوب المناورة، فهم يمدحون الرسول صلى الله عليه وسلم بألسنتهم، بل قد يقيمون الموالد بالمناسبات المختلفة، بمناسبة المولد وبمناسبة الهجرة، وبمناسبة الإسراء والمعراج إلى غير ذلك من المناسبات الغير شرعية، يقيمونها ويتغنون بمدح الرسول عليه الصلاة والسلام، ويرددون الأناشيد والقصائد الجميلة، ولكنهم بعد ذلك يمزقون شريعته من خلال خططهم الرهيبة؛ أما هذا الرجل المأثوم المأفوك المسكين فاختفى وما زال مختفياً لا يدرى أين هو مختفٍ؟! خوفاً، ورعباً، وهلعاً، وفزعاً حتى أنه أعلن التوبة وأعلن الرجوع عما فعل، فلم ينفعه ذلك، والدائرة التي نشرت الكتاب تعرضت إلى ما تعرضت له، سخط المسلمين لا يتوقف ولا ينتهي لماذا؟ لأنه أعلن.
وهذا لم يكن يحصل حتى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، الذين كانوا مؤيدين بالوحي من السماء، وكيف لا يكون هذا الموضوع جديراً بالكلام عنه، ونحن في فترة من فترات تجديد هذا الدين، الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الفترة نأمل أن تثمر في تمكين الإسلام وأهله في الأرض، وهلاكاً لعدوهم كما قال موسى عليه الصلاة والسلام لما شكوا إليه قال: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف:129].
فنحن نطمع أن تثمر هذه الصحوة المباركة وهذا الإحياء الكبير لدين الله عز وجل في الأرض؛ أن يثمر تمكيناً للإسلام ولأهل الإسلام في أرض الإسلام، وأن يثمر هلاكاً لأعداء الدين في كل مكان، وما أحوج المجددين إلى أن يراجعوا سيرة المصلحين الأوائل، أعني الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لينظروا إلى ماذا دعا أولئك الأنبياء، وما هي حقيقة دعوتهم، وكيف دعوا، وماذا لقوا؟
وإجمالاً فإني أعتقد أن طرق موضوع دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، مما لا يحتاج إلى تعليل، ولا إلى تسويغ فالجميع كلهم يؤمنون بأهمية الحديث عن دعوة الأنبياء والمرسلين والحمد لله رب العالمين.
ولذلك كانت القضية واضحة لا إشكال فيها، وهي: قضية عبادة الله تعالى وترك عبادة غيره، وهذا جزء من اليسر الذي وصف النبي صلى الله عليه وسلم به الدين: {إن هذا الدين يسر} كما في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة، فجزء من اليسر هو اليسر في العقيدة، فأنت تجد عقيدة الإسلام ليس فيها غموض ولا صعوبة ولا تعقيد ولا إشكال، ومن السهل جداً على أي إنسان أن تشرح له كلمة التوحيد في عشر دقائق فينطق بها وقد فهمها ووعاها.
لكن حين تنتقل -مثلاً- إلى دين النصارى تجد أن في عقيدتهم من التعقيد ما يجعل كبار الأذكياء والعباقرة يحارون فيه، ويعجزون عن فهمه، فما بالك بالبسطاء، والسذج من الناس الذين، هم عن فهمه أعجز، بل هم يسلمون بما يقوله لهم القساوسة، ويقولون: اعصب عينيك واعتقد وأنت أعمى، أما في الإسلام فالأمر واضح ليس فيه إشكال ولا تعقيد.
ولذلك القضية كلها اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، أو لا إله إلا الله، أي لا معبود بحقٍ إلا الله عز وجل، وهذا معناه توجه الإنسان بقلبه وبجوارحه كلها وبكل أعماله إلى الله تعالى، وخلع جميع الأوثان والأنداد التي يتأله الإنسان لها ويعبدها من دون الله أو مع الله، وليس بالضرورة أن تكون الآلهة أصناماً وأحجاراً وأشجاراً وطواطم فهذا كان موجوداً في زمن الجاهلية الساذجة المغفلة البسيطة، الذي كان الواحد منهم -كما قيل- يعبد التمرة فإذا جاع أكلها، وكما ذكر أبو رجاء العطاردي وهو من المخضرمين أنه في الجاهلية كان الأعراب يبحث أحدهم في الصحراء عن أربعة أحجار فيضع ثلاثة منها أثافي لقدره ينصب عليها القدر، أما الرابع فهو يضعه في القبلة يصلي إليه، وإذا لم يجد حجراً فإنه يأتي ويحثو حثوه من تراب ثم يحلب عليها الشاة ثم يعبدها.
فالقضية واضحة سهلة يفهمها كل إنسان متعلماً كان أو غير متعلم، عربياً كان أو غير عربي، ويمكن أن نبين للناس أنهم يستطيعون أن يفهموا هذه الحقيقة بكل يسر وسهولة من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يحتاجون إلينا ولا إلى غيرنا في ذلك، إلا بقدر ما توضح لهم معاني الآيات القرآنية، ومعاني الأحاديث النبوية، فالمسألة ليست مسألة تقليد لفلان أو علان، لا.
بل المسألة أن هذا كلام الله تعالى في كتابه، وهذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، وليس بينك وبين كتاب الله تعالى وبين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجز ولا حائل، حتى غير العربي، لو قرأت عليه آيات التوحيد من القرآن وشرحت له معناها، لامتلأ قلبه بها وآمن، ولا داعي أن ندخل الناس في متاهات وفي أمور ليست لهم حاجة إليها، يكفي أن يفهموا التوحيد كما فهمه أتباع الرسل الأوائل عليهم الصلاة والسلام.
ولا يجوز أن يكون ورثة الأنبياء كبعض المعلمين الذين يشعرون الطلاب -أحياناً- بأن الفهم يكون بواسطتهم فحسب، إذا كان المعلم يريد أن يأخذ عنده الطالب درساً خصوصياً؛ يشعره بأن المادة صعبة وأنه ليس من السهل أن تفهمها، ولا بد أن تأخذ عندي دروساً خصوصية في مقابل مادي، فأصحاب المطامع المادية قد يفعلون ذلك.
وكذلك لا يجوز أن يكون ورثة الأنبياء كبعض الساسة الذين يستأثرون هم -فيما زعموا- بفهم الأمور وإدراك مقاصدها وأبعادها، ويستكثرون على غيرهم من الناس -حتى من العقلاء والمثقفين ومن أساتذة الجامعات- يستكثرون على غيرهم أن يشارك في رأي، أو أن يتحدث في قضية، ويقولون: هذا لا يدرك أبعاد الموضوع.
أي موضوع لا يدرك أبعاده؟ وما هي أبعاد هذا الموضوع؟! إذا كان الناس والحمد لله يفهمون دينهم، يفهمون كتاب ربهم، فكيف لا يفهمون أبعاد موضوع من موضوعات الدنيا؟! أو القضايا التي يعايشونها ويسمعونها ويقفون قريباً منها؟! إن حملة التوحيد وورثة الأنبياء ينبغي أن يقدموا الدين، والتوحيد، ويقدموا ما لديهم للناس بصورة واضحة مباشرة، يسهل على الناس فهمها، وتقرب إلى أذهان الناس.
إذاً مسألة توحيد العبادة هي أعظم المسائل التي بذل من أجلها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ودعوا الناس إلى عبادة الله وحده، ونبذ الآلهة المعبودة من دونه، وما أحوج المسلمين اليوم فضلاً عن غير المسلمين من الأمم الكافرة الوثنية والكتابية. ما أحوجهم إلى دعوتهم إلى توحيد العبادة، ونحن نرى أن منهم -أعني من المسلمين- من يعبد غير الله تعالى بقلبه أو بأعماله، فيدعو فلاناً من الموتى ليكشف ضره أو يرجوه لنجاته يوم القيامة، أو يذبح له، أو ينذر لقبره أو يطوف به.
فأصابته غيرة وغضب وأخذ مسدسه وأفرغ رصاصاته في رأس هذا الرجل وأرداه قتيلاً، فتسامع الناس، وقالوا: قتل الولي قتل الولي! من قتله؟ قالوا: قتله فلان: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [الأنبياء:68] فأتوا إليه وقتلوه، قتلوا هذا الشاب انتصاراً لذلك الولي، وبعد فترة بدأت تتكشف الأمور، وبدأ يتبين أن هذا الرجل الذي يدعي الولاية كاذب، وأنه سرق من فلان، وخان فلاناً، وأنه غدر وأنه كذا، ففاحت الروائح النتنة، وكما يقال في المثل: إذا سقط الجمل كثرت سكاكينه، فبدأ كل واحد يذكر فضيحة، ويقول صار له معي كذا، ولكنني ظننت الأمر بخلاف ذلك، وثالث ورابع، فعرف الناس أن هذا الرجل مخادع وبدءوا يترحمون على ذلك الشاب الذي كتب الله نجاتهم من هذا الإنسان على يده، فكيف عبروا عن سخطهم على ذلك المدعي للولاية؟ وكيف عبروا عن تقديرهم لذلك الشاب الذي قتلوه ظلماً؟
لقد جاءوا إلى قبر هذا الولي المدعي فصاروا يرجمونه بسبعة أحجار متتابعات مثل حصى الخذف، كما يرجم الحاج أو يرمي الجمار، ثم إذا انتهوا منه ذهبوا إلى قبر ذلك الشاب الصالح -نرجو أن يكون صالحاً- فصاروا يطوفون به سبعة أشواط متتابعات يكبرون عند كل شوطٍ.
فهذه صورة من صور عبادة غير الله التي توجد في أوساط المسلمين، وقد رأيت بعيني في بلدٍ آسيوي آخر، أن المسلمين وكانوا فقراء جياعاً، ولا يزالون، فكثير منهم لا يستطيعون الحج إلى بيت الله الحرام، فقام رجل في السبعين من عمره وابتكر لهم ديناً جديداً وعبادة جديدة، وقال: ليس هناك حاجة أن تتحملوا هذه المئات بل الألوف من الكيلومترات إلى مكة وأنتم لا تستطيعون؛ فابتكر حجاً للفقراء، فذهب إلى جبلٍ هناك ووضع فيه مكاناً للتعبد يشبه الكعبة، وأمر الناس أن يحجوا إلى ذلك المكان في وقت عيد الأضحى، فكان يتبعه على ذلك ألوف يَصِلُون إلى أكثر من ستين ألفاً فيخطب فيهم خطبة في يوم عرفة، ويأتون بالهدايا والقرابين من الغنم وغيرها فيسرحونها ويسيبونها في تلك الجبال، ولا يتعرض لها أحد، فهم يمارسون ألواناً وطقوساً من العبادات تضاهي ما يمارسه ويعمله المسلمون حين يحجون إلى بيت الله الحرام.
فهذه ألوان من الشرك الظاهر الصارخ الموجود في بلاد المسلمين، والذي قد يصعب على كثير من المنتسبين إلى الإسلام تمييزه أو معرفة أنه شركٌ مخالفٌ لأصل توحيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإذا كان هذا على مستوى الدهماء أو العامة أو السذج، فإننا نجد كثيراً ممن يعتبرون مثقفين ومدركين، ممن استهوتهم بعض المذاهب الفاسدة فعطلت مداركهم وعقولهم أنهم يتعلقون بالبشر ويتألهون لهم، حتى يقول أحدهم وهو معاصر يخاطب علياً رضي الله عنه:
أبا حسنٍ أنت عين الإله وعنوان قدرته السامية |
وأنت المحيط بعلم الغيوب فهل عنك تعزب من خافية |
لك الأمر إن شئت تنجي غداً وإن شئت تسفع بالناصية |
فماذا بقي لله عز وجل؟! إذا كان علي رضي الله عنه هو المحيط بعلم الغيوب، وهو الإله، وهو عنوان القدرة، وأنه لا تخفى عليه خافية، وأن الأمر له من شاء أنجاه ومن شاء أخذه بالناصية وأرداه بنار جهنم؟! نتساءل: ماذا بقي لله تعالى رب العالمين إذاً؟!: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً [نوح:13-14]
وتوحيد الأسماء والصفات يحتاج إلى كشف وإلى حديثٍ وبيان لكثرة الانحراف فيه وكثرة الفرق المخالفة، وقد جاءت الرسل عليهم الصلاة والسلام بتعريف الناس بربهم الحق بأسمائه وبصفاته وبأفعاله جل وعلا، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة}.
ولكن يبقى موضوع توحيد الألوهية هو المركز الذي تدور حوله المعركة الكبرى، وكيف لا يكون الأمر كذلك؟! ونحن نجد أن المعركة مع الأنبياء وأتباعهم كانت حول هذا الركن العظيم؟! لم تكن المعركة خلافاً حول فرعية من فرعيات الفقه أبداً، بل الرسل أنفسهم عليهم الصلاة والسلام قد تعددت شرائعهم؛ لأن الشرائع تختلف من وقتٍ لآخر ومن بلدٍ إلى آخر أو أمة لأخرى، إذ أن الشرائع إنما جاءت لتنظيم حياة الناس فيما يحقق المصلحة العاجلة لهم، وفيما يضمن لهم المصلحة في الدار الآخرة، ولذلك اختلفت شرائع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهم أبناء علات دينهم واحد وهو التوحيد أما شرائعه فهي شتى مختلفة، فلم تكن المعركة قط -وأقولها مرة أخرى- لم تكن قط بين الأنبياء وبين خصومهم معركة على جزئية من الجزئيات؛ لا، ولا كانت معركة على فرعية من الفرعيات؛ لا، ولا كانت معركة على مسألة من المسائل الاجتهادية التي ليس فيها نص والتي فيها مجال للأخذ والرد؛ كلا، وألف كلا.
أما كثيرٌ من المنتسبين إلى العلم وإلى الدعوة فإنهم يثيرون معارك وهمية، ومعارك جانبية، وطواحين في الهواء مع من حولهم من الناس، معركة مع فلان؛ لأنه خالف في فرعية، ومعركة مع علان؛ لأنه خالفه في جزئية، ثم تتوالى الكتب وتتوالى الرسائل والأشرطة، ولا يوجد مانع أحياناً من المناظرات، فإذا لم تُجْدِ المناظرات فإننا نلجأ أحياناً إلى نوعٍ من المباهلة، كل ذلك في قضايا ليست بالتأكيد هي القضايا التي جاء الأنبياء ليقولوها للناس، وليست القضايا التي وضحها الأنبياء ودعو إليها، وليست هي القضايا التي بدأ القرآن وأعاد حولها، وليست هي القضايا التي دندن حولها المصلحون منذ فجر التأريخ إلى اليوم؛ لا؛ وإنما هي قضايا -في الغالب- فرعية، وقضايا تحتمل الخلاف، وقضايا ليس فيها هدىً وظلال، وإنما قد يكون فيها خطأ وصواب، وقد يكون الخطأ هنا أو هنا أو قد يكون جزءاً من الصواب هنا أو جزءاً من الصواب هناك والقضية نسبية.
فليست المشكلة هي أن ينطق الناس بهذه الكلمة فحسب؛ لا، قضية لا إله إلا الله والمعركة التي نتحدث عنها هي معركة صياغة الحياة كلها وفق شريعة الله ونظامه.
ولا إله إلا الله: تقتضي صياغة النظام الاقتصادي حسبما يريد الله تعالى، بعيداً عن أنظمة الشرق الشيوعية وبعيداً عن أنظمة الغرب الربوية الرأسمالية، وإذا كانت أنظمة الشرق الشيوعية قد تهاوت وانهارت وانتهت، فإن أنظمة الغرب الربوية الرأسمالية لا تزال قائمة تضرب بجرانها في بلاد العالم كلها، ولا يزال الواقع يوحي بأن هناك مزيداً من الانغماس في النظام الربوي الغربي المخالف لشريعة الله عز وجل، فلا إله إلا الله تقتضي البعد عن أنظمة الشرق الشيوعية، كما تقتضي البعد عن أنظمة الغرب الرأسمالية.
وتقتضي البعد أيضاً عن الفساد المالي الذي ينخر في بلاد المسلمين، وشعيب عليه السلام دعا الناس إلى التوحيد وفي الوقت نفسه كان يقول لهم: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ [هود:84] فلا يعني أننا سوف نتوقف عن معالجة أمور الواقع حتى ننتهي من تأسيس التوحيد، بل نحن ندعو الناس إلى التوحيد وفي الوقت نفسه نقول لهم: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ [هود:84].
ولا إله إلا الله: تقتضي أن لا تؤخذ الأحكام والتشريعات والنظم والقوانين من غير الكتاب والسنة.
إذ أن هناك في الحياة منهاجان: دين الله، ودين الملك، دين الله: هو عبادة الله وحده، ولهذا قال الله تعالى في قصة يوسف عليه السلام: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف:76] دين الله عز وجل واضح وكلمة: لا إله إلا الله؛ تقتضي إفراد الله تعالى بالعبادة، ومن ذلك أنه لا يملك أن يقال: هذا حلال وهذا حرام، وهذا حق وهذا باطل، وهذا صواب وهذا خطأ، وهذا صحيح، وهذا فاسد إلا الله عز وجل.
ولذلك فإن الحكم بما أنـزل الله هو جزء لا يتجزأ من كلمة لا إله إلا الله، والحكم بغير شريعة الله تعالى هو نقض لهذه الكلمة وهو شرك بالله تعالى؛ لأن الذي حكم بغير شريعة الله رضي أن يكون هذا المشرع أو المقنن إلهاً تؤخذ منه الأحكام والتشريعات، فهو الذي يضع الحدود، وهو الذي يحلل الحلال، وهو الذي يحرم الحرام، والله سبحانه وتعالى يقول: مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً [الكهف:26] وفي قراءة سبعيه وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً [الكهف:26]أي: لا تشرك مع الله تعالى أحداً في الحكم، وقال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21].
فلا يملك أحد حتى العالم الكبير الفحل حين يقول: هذا حلال وهذا حرام؛ إنما هو معبر عن حكم الله ورسوله وترجمان عن الكتاب والسنة، لا يأتي بشيءٍ من قبل نفسه، فمن دونه من باب أولى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الأنبياء:29] كما قال الله عز وجل عن الملائكة، فلا يملك أحد أن يحلل أو يحرم أو يشرع إلا الله تعالى، ومن ادعى ذلك فقد نازع الله تعالى وحارب الله في حكمه وأمره واتخذ نفسه رباً من دون الله، ومن أطاعه في تشريع أو تحليل أو تحريم أو تقنين فقد اتخذه إلهاً من دون الله عز وجل.
والذين يعتبرون الدعوة إلى تحكيم شريعة الله نوعاً من تسييس الدين، أي: جعل الدين مطية -كما يعبرون في صحفهم وإعلامهم الفاسد اليوم- لأغراض سياسية، ويجعلون الداعين إلى ذلك داعين إلى مطامع ومآرب وأغراض ومقاصد ذاتية، هؤلاء الناس إنما يرددون ما يقوله أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام من قبل في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام كما أسلفت.
فالأنبياء منعوا من الخروج من بلادهم، وحوصروا، وكان أعظم هدفٍ لهم هو النصر أو الشهادة، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمنى أن يستشهد في سبيل الله: {وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل} وقال عليه الصلاة والسلام: {والله لوددت أني غدوت مع أصحابي بحصن الجبل} قال ذلك في إحدى المعارك والحديث في مسند أحمد وغيره وسنده صحيح، فلم يكونوا يطمعون في دنيا، ولم يطمحوا إلى منصب، بل كانوا أزهد الناس في المناصب.
ويعلم الله تعالى أن دعاة الإسلام الصادقين -وهذا ما أعرفه عن نفسي وعنهم- أنهم من أزهد الناس فيما يتنافس فيه أهل الدنيا، وفيما تشرئب إليه أعناق الكثيرين ممن يتهمون الدعاة، وكما قال أحد الدعاة المهتدين: (والله لأن أكون موزع بريد في دولة تحكم بالإسلام، خيرٌ وأحب إليَّ من أن أكون حاكماً أو وزيراً في أرض لا تحكم بشريعة الله تعالى).
ولكننا نتدين ونتعبد بأننا نعتبر أن السياسة جزءاً من الدين، وأن اعتقاد انفصال السياسة عن الدين كفرٌ وردة عن شريعة الله تعالى، وأن من مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام التي بعثوا بها: إصلاح الفساد السياسي واستدراكه، والله تعالى يقول وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] الكافرون، الظالمون، ويقول الله سبحانه: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الإسراء:12] ويقول: وَنـزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89] ويقول إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] في كل شئون الحياة، في الاقتصاد، والسياسة، والاجتماع، والإعلام، والإدارة، وفي كل أمرٍ من أمور الحياة.
وفي الفترة المكية نـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم الآيات القرآنية التي تنعي على المشركين تحكيمهم شريعة غير شريعة ربهم، وتعتبر هذا أحد ألوان الشرك التي وقعوا فيها، والتي جاء الرسول لإخراجهم منها، وهذا جزء من معنى لا إله إلا الله، قال الله تعالى:(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى البقرة:256] وكل مسألة في الدنيا لله ولرسوله فيها حكم، وللطاغوت فيها رأيٌ، -كما سبق من قبل- فهذا دين الله وهذا دين الطاغوت، فلا بد من مقارعة رأي الطاغوت الذي يعرض في كثير من الأحيان بترويج إعلاميّ مذهل، وبأساليب متفننة، وبطرائق ماكرة خبيثة، استخدمت أرقى ما توصل إليه الفكر البشري من التقنية، ومعرفة بطبائع النفوس ومداخلها ومنحنياتها ومنعطفاتها، فلا بد من مواجهة هذا الترويج الإعلامي ببيان حكم الشرع الواضح البين الذي ترتاح إليه النفوس وتبرأ به الذمم.
إن كلمة لا إله إلا الله تقتضي تحرير الإنسان من الولاء لغير الله، وتحريره من الولاء للطاغوت، والولاء للمشركين، ولليهود، وللنصارى، والولاء للعلمانيين، وللمنافقين؛ بل ينبغي أن يكون ولاؤه للمؤمنين، وهذا أمر واضح.
إذا كان في قلبك إيمان وحرارة، فأنت إذا سمعت أن هناك معركة في أي مكان في الدنيا، في الجزائر، أو في مصر، أو في الأردن أو في أي مكان، سواءً معركة عسكرية أم معركة سياسية أم معركة إعلامية بين الحق والباطل، فإنك لا تملك قلبك أصلاً إن كنت مؤمناً، لا تملك قلبك من الميل إلى صف المؤمنين، والفرح بانتصارهم، والدعاء لهم، والحزن لما يصيبهم.
فأنت تحب المسلم الموحد وترجو له الانتصار، وتدعو له، وتتعاطف معه، وتتكلم بالدفاع عنه، وترى أن هذا دين تتعبد الله تعالى فيه، لا تفكر ما هي النتائج، ولا تفكر هل هو منصور أو مخذول، لأن المنافقين طريقتهم: إن رأوا الغلبة لهؤلاء أيدوهم وآزروهم، وإن رأوا الغلبة لهؤلاء أيدوهم وآزروهم، ولهذا قال الله تعالى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:141] فهم يلعبون على الحبلين -كما يقال- هنا وهنا.
مثل ما يروى أن رجلاً قام خطيباً فكان أمامه مجموعة من أهل السنة ومجموعة من الشيعة فقالوا له: أيهما أفضل أبو بكر أم علي؟ وهذا رجل يريد أن يرضي كل الأطراف، فقال: الأفضل منهما من كانت ابنته تحته! كلمة غامضة كلٌ يفهمها على ما يريد فخرج أهل السنة فرحين مسرورين، يقولون: إن أبا بكر ابنته زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحت الرسول صلى الله عليه وسلم، وخرج الشيعة كذلك فرحين مسرورين، يقولون: فضَّل علياً لأن ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم تحت علي رضي الله عنه وهي فاطمة.
فأحياناً يقول المنافق كلاماً يرضي هؤلاء، ويقول كلاماً يرضي هؤلاء، فإن انتصر هؤلاء يقول: أنا كنت معكم، وإن انتصر هؤلاء يقول: ألم أكن معكم؟ إنك تجد أن أي قضية تحصل من قضايا الإسلام خاصة في أزمنة الضعف والاضطهاد يبين فيها رؤوس النفاق فيظاهرون المشركين ويظاهرون العلمانيين، ويؤيدونهم وينصرونهم ويستخدمون كل ما أعطاهم الله تعالى في نصرتهم عكس ما عليه الأنبياء: ماذا يقول الأنبياء؟! ماذا يقول موسى عليه السلام؟!: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ [القصص:17] لاحظ قوله: لن أكون ظهيراً لهم، لا أنصرهم ولا أساعدهم.
أما كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام، وهم لا يحققون التوحيد حقيقةً، ولم تقم في نفوسهم معالم البراءة من المشركين والعلمانيين، بل قام في نفوسهم والعياذ بالله النفاق الأكبر الاعتقادي المخرج من الدين، والذي جعلهم يتعاطفون مع المشركين في كل مكان، وينصرونهم على المؤمنين ويفرحون بارتفاع كلمتهم، تجد أنهم قالوا -بلسان حالهم- بما أنعمت عليَّ فسوف أكون ظهيراً للمجرمين وأنصرهم، وأستخدم ما أعطيتني في تأييدهم ومظاهرتهم على المسلمين.
صارت مواعيد عرقوب لهم مثلاً وما مواعيدها إلا الأباطيل |
وحينئذٍ عرفت الشعوب من هم الذين يحملون الحقيقة، ومن هم الذين يتبنون قضاياها، ومن هم الذين يدعون إلى الحق والذين يجب أن يتبعوا، فأقبلت عليهم وانجفلت إليهم، كما حدث في مصر والجزائر وتونس والأردن وجميع بلاد الإسلام بدون استثناء، وحينئذٍ سقطت الشعارات الوهمية.
أين الشعارات؟! أين المالئون بها الدنيا فَكَمْ زوَّروا بها التاريخ والكتبا |
فلا خيول بني حمدان راقصةٌ زهواً ولا المتنبي مالئ حلباً |
وقبر خالد في حمص تلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا |
يا رُبَّ حي رخام القبر مسكنه ورب ميتٍ على أقدامه انتصبا |
يا بن الوليد ألا سيف تؤجره فإن أسيافهم قد أصبحت خشبا |
فلا إله إلا الله ليست مغانم شخصية، ولا مطامع يسعى إلى تحصيلها الدعاة، بل هي ما ضحى الدعاة من أجله، فارقوا حياتهم وقبلوا الحياة في غياهب السجون؛ حرصاً على تحقيقها، ومن قبل لم يكن أحد من رسل الله يدعو لنفسه، قال الله عز وجل: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:80].
لم يقم نبيٌ من الأنبياء قط يدعو الناس إلى أن يعبدوه ويجعلوه رباً من دون الله، كلا، ولا يأمرهم أن يتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً من دون الله، بل هو يأمرهم ويربيهم ويعلمهم طاعة الله تعالى وعبادته ونبذ ما سواه، يربي قلوبهم على أن النفع والضر والمنع والعطاء لا يملكه إلا الله، وأن الآجال بيد الله، وأن الإنسان لا يملك لأخيه الإنسان نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، وأن كلمة الحق لا تباعد الرزق، ولا تقرب الأجل، وأن الله تعالى هو وحده الخافض الرافع القابض الباسط الضار النافع؛ الذي مقاليد الأمور جميعها بيده.
فتمتلئ قلوبهم حباً لله، ورغبة فيما عنده، وشوقاً إليه، وخوفاً منه، ورجاءً فيه، وحينئذٍ يخرج من القلب حب المخلوقين، وتعظيم المخلوقين، والخوف من المخلوقين، فتجد أن الإنسان في قلبه جلال الله تعالى وعظمته وهيبته، فيتكلم في الحق ولا يبالي، ويقول الحق ولا يبالي، ولا يخاف في الله لومة لائم، ويصدع بما يؤمر ويعرض عن المشركين، وينصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، ويدعو إلى الله في كل مكان، ويصبر ولا يقيم لهذه الدنيا وزناً، وإن كان يستمتع بها فيما أحل الله له، فهي كالمطية يستخدمها ولا يخدمها، يركبها إلى ما يكون فيه مرضاة الله تعالى والنجاة في الدار الآخرة.
إن الدعوة هي إلى كتاب ربنا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام، هما توحيدان: توحيد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، والطاعة، وتوحيد النبي صلى الله عليه وسلم بالاتباع له فيما جاء به عن ربه تعالى.
وسترى أن الدول التي تتكلم عن حقوق الإنسان، لا تقيم وزناً للإنسان المسلم بحالٍ من الأحوال بل تستخدم ضده حتى أسلحة الدمار الشامل، وفعلاً استخدمت ضده أسلحة الدمار الشامل، أليس الإفقار مما استخدموه ضد الإنسان المسلم؟ بلى، وقد حاولوا إفقار المسلم حتى ينشغل بلقمة العيش وما زال الأمر كذلك، والمسلمون يموتون جوعاً في أماكن كثيرة من بلاد الدنيا، والله الذي لا إله غيره إن الطفل يتضور جوعاً ثم يموت وأنت تراه بعينك.
واستخدموا سلاح التجهيل، تجهيل المسلمين بحيث يصيرون جهالاً بدينهم، فلا يعملون به ولا يدعون إليه، ولا يصبرون في سبيله، ولا يتبعون دعاته، وكذلك تجهيل المسلمين بدنياهم، فأصبح المسلمون لا يحسنون ديناً ولا دنيا؛ ليظلوا عيالاً على أعداء الإسلام.
ومن أسلحة الدمار الشامل إغراق المسلمين في المرض والبؤس والفناء لتصفيتهم جسدياً والقضاء عليهم.
أما الإنسان الذي يجب أن ترعى حقوقه وتحفظ كرامته فهو فقط الإنسان الأبيض، الإنسان الأوربي، أما الإنسان المسلم فلا قيمة له عندهم.
إن هناك معارك كثيرة يخوضها الدعاة إلى الله تعالى مع الباطل في كل مجالات الحياة، ولكن هناك المعركة الكبرى: وهي المعركة بين الإيمان والكفر، المعركة بين الشرك والتوحيد، وإذا جاز لنا أن نستخدم مصطلحات اللاعبين فإننا نقول: إن المعركة بين التوحيد والشرك وبين الإيمان والكفر هي أم المعارك.
الجواب: أما تعدد الرسل عليهم الصلاة والسلام فإن ذلك لإقامة الحجة على الناس، فكان في بني إسرائيل أنبياء كثيرون؛ ربما وُجِدَ في القرية أو في البلد أو في الأمة أو في الجماعة منهم نبيٌ، ولذلك كانوا كثيرين لكثرة انحراف بني إسرائيل، وكثرة حاجتهم إلى الإصلاح والمتابعة، وكذلك إذا درست شريعة نبي وصار الناس في ضلال؛ فإن الله تعالى يبعث نبياً آخر ورسولاً من بعده يجدد شريعته، أو يدعو الناس إلى الدين.
الجواب: أذربيجان -على ما أعلم- فيها أكثرية شيعية، أما الولايات الأخرى فالأكثرية فيها منسوبون إلى أهل السنة وإن كانت قد أثرت فيهم الأسلحة التي ذكرتها من قبل، وهي: الإفقار والتجهيل، فصار كثير منهم جاهلاً بدين الله لكنهم على استعداد أن يتعلموا.
أما قضية عدد من البلاد فماذا تركت يا أخي بارك الله فيك!
في بلاد الأفغان جرحٌ عميق نازفٌ يستجيش كل ضمير |
وعلى أرض مصر مليون جرحٍ وبكل الدنا نِدَاء مستجير |
ففي كل وادٍ بنو سعد، والجراحات كثيرة، ونحن نتمنى أن تكثر الأصوات التي تدافع عن المسلمين والتي تدعو إلى الإسلام، وأن لا يظل المسلمون مجرد متفرجين أو مجرد مستمعين يستعذبون حديث هذا، ويستطيبون حديث ذاك، أين أنت أيها الأخ السائل وأمثالك ممن يحسون بآلام المسلمين؟! نريد منابر كثيرة تتأبى على الحصر والعد، ولا يسهل القضاء عليها، نريد منابر لا تتوقف أبداً، تدافع عن قضايا المسلمين في كل مكان، والفرص بحمد لله كثيرة ومن يريد أن يقول كلمة الحق يجد ألف وسيلة ووسيلة لقول هذه الكلمة، أما الصوت الواحد أو الأصوات المحدودة فإنها ستظل محدودة، ولن تستطيع أن تغطي إلا رقعةً محدودة من الزمان، ورقعة محدودة من المكان.
الجواب: بلى، هذا مظهر من مظاهر النفاق ولا شك في ذلك، وإلا ما معنى أنك تجد أناساً يرفعون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم -وهذا شيءٍ نعرفه منهم، حتى أنهم في غالبيتهم على معتقدٍ صحيح، وسلفيون وأصحاب أصالة كبيرة، واتجاه سليم- ومع ذلك تجد ممن ينتسب إلى الدين من يحاربهم، ويتمنى القضاء عليهم، وفي مقابلهم يؤيد علمانيين والعياذ بالله يحكمون بالكفر والطاغوت، كيف يجمع هذا مع عقيدة لا إله إلا الله في قلبٍ واحد؟! وقد تكلمت قبل قليل عن قضية الولاء والبراء.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر